الاحتجاج بالقدر على الإشراك بالله وعدم الهداية
وجوه إبطال الشبهة:
1) بعث الله الرسل وأمرهم بأن يأمروا الناس بعبادة الله وحده، وليس على الرسل إلا البلاغ المبين، وبذلك أعذرهم الله عز وجل.
2) لا حجة لهم في مشيئة الله الشرعية ولا الكونية، فإن الله لا يرضى لعباده الكفر.
3) ليس للمشركين علم يستندون إليه في دعواهم، بل هو العناد والجحود.
التفصيل:
أولا. انتفاء العذر بإرسال الرسل:
اعتذر المشركون عن شركهم محتجين بالقدر: )وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء( (النحل: ٣٥)، أي: من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم مما لم ينزل به سلطانا، فرد الله عليهم شبهتهم وأنكر عليهم أشد الإنكار، ونهاهم عنه آكد النهي، إذ بعث في كل أمة – أي قرن وطائفة – رسولا، والرسل كلهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه، قال سبحانه وتعالى: )فهل على الرسل إلا البلاغ المبين (35) ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة( (النحل)، فلم يزل – عز وجل – يرسل الرسل إلى الناس بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم من لدن قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض حتى ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء).
وقال أيضا: )واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (45)( الزخرف)، فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: )لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء( (النحل: ٣٥). ثم إنه – عز وجل – قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل؛ فلهذا قال: )فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (36)( (النحل)، أي: اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف: )دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها (10)( (محمد)، فقال: )ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير (18)( (الملك) ثم أخبر الله – عز وجل – رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم كقوله سبحانه وتعالى: )ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا( (المائدة: ٤١).
واحتجاج المشركين بمشيئة الله – عز وجل – وقدره على الإشراك به هو نظير قوله سبحانه وتعالى: )وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها( (الأعراف: ٢٨).
ثانيا. الله – عز وجل – لا يرضى لعباده الكفر:
مشيئة الله – عز وجل – الشرعية عنهم منتفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدرا فلا حجة لهم فيها؛ لأن الله – عز وجل – خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة، قال سبحانه وتعالى: )إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر( (الزمر:٧).
فالله – سبحانه وتعالى – قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم وما هم عاملوه وما هم إليه صائرون، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومه، فاستحقوا المدح والذم والثواب والعقاب بما قاموا به من الأفعال والصفات المطابقة للعلم السابق، ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعلموها، فأرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه إعذارا إليهم وإقامة للحجة عليهم؛ لئلا يقولوا كيف تعاقبنا على علمك فينا وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا فلما أظهر علمه فيهم بأفعالهم جعل العقاب في معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار[1].
والمقصود أن إرادة الله – سبحانه وتعالى – تنقسم إلى إرادة كونية فتكون هي المشيئة كما في قوله سبحانه وتعالى: )ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد( (البقرة)، فما وجد من الكفر والفسوق والعصيان تعلقت به مشيئته وما تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني، والقسم الثاني من الإرادة: إرادة دينية، فتكون هي المحبة وهي شرعه على ألسنة رسله كما في قوله عز وجل: )ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم( (الزمر: ٧)، وقوله عز وجل: )وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205)( (البقرة)[2].
وبهذا يتبين لهؤلاء المحتجين بالقدر على كفرهم بأن فعالهم تقع تحت المشيئة أو الإرادة الكونية القدرية، وأن الله – عز وجل – وإن كان هو الخالق لأفعالهم – لأن أفعالهم ممكنة والله قادر على كل ممكن – فهو الذي جعلهم قادرين بقدرته ومشيئته، ولكنه لا يرضى أفعالهم ولا يحبها، فليس كل شيء خلقه الله – عز وجل – رضيه وأحبه، فالله – عز وجل – شاء وجود الكفر والشرك والذنوب والمعاصي، ولكنه أبغضها وكرهها ونهى عباده عنها[3].
ثالثا. لا برهان للمشركين ولا علم يستندون إليه في دعواهم:
لذا فهي شبهة داحضة منشؤها الجحود والجهل؛ لأن هؤلاء المشركين أعرضوا عن الآيات الواضحة وعما جاء به الرسل من قبل بالتوحيد، وما حدث من عقاب أليم لمن كذبوا دعوتهم، وأصروا على جحودهم وعنادهم حتى ذاقوا العذاب، ولم يكن لهؤلاء علم يعتمدون عليه في شركهم بالله، بل هم متبعون للظن والخرص، ولذا قال سبحانه وتعالى: )قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (149)( (الأنعام).
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين الذين بنوا قواعد دينهم على أساس الخرص، الذي هو أضعف الظن، بعد تعجيزك إياهم عن الإتيان بأدنى دليل أو قول يرتقي إلى أدنى درجة العلم – قل لهم: إن لم يكن عندكم علم ما في أمر دينكم، فلله وحده أعلى درجات العلم بما بعثني به من محجة دينه القويم، وهو الحجة البالغة لما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
وحاصل هذه الحجة: أنهم يحتجون على النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن ما هم عليه لو لم يكن يرضي الله تعالى لصرفهم عنه، ولما يسره لهم، يقولون ذلك في معرض إفحام الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإبطال حكمه عليهم بالضلالة، وهذه شبهة أهل العقول الآفنة الذين لا يفرقون بين تصرف الله تعالى بالخلق والتقدير وحفظ قوانين الوجود، وهو التصرف الذي نسميه نحن بالمشيئة وبالإرادة، وبين تصرفه بالأمر وبالنهي، وهو الذي نسميه نحن بالرضى وبالمحبة؛ فالأول تصرف التكوين، والثاني تصرف التكليف، فهم يحسبون أن تمكنهم من وضع قواعد الشرك ومن التحريم والتحليل ما هو إلا بأن خلق الله فيهم التمكن من ذلك، فيحسبون أنه حين لم يمسك عنان أفعالهم كان قد رضي بما فعلوه، وأنه لو كان لا يرضى لما عجز عن سلب تمكنهم.
ولو كان الأمر كما يتوهمون لكان الباطل والحق شيئا واحدا.. فإنهم حين يقولون: لو شاء الله ما أشركنا غافلون عن أن يقال لهم من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم: لو شاء الله ما قلت لكم إن فعلكم ضلال، فيكون الله على حسب شبهتهم قد شاء الشيء ونقيضه؛ إذ شاء أنهم يشركون وشاء أن يقول لهم الرسول لا تشركوا… وبهذا ظهر تخليط أهل الضلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله؛ فلذلك رد عليهم… بأن هذه المشيئة التي تعللوا بها مشيئة خفية، لا تتوصل إلى الاطلاع عليها عقول البشر؛ فلذلك نعى عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها فقال: )كذلك كذب الذين من قبلهم( (الأنعام: ١٤٨)، فشبه بتكذيبهم تكذيب الذين من قبلهم؛[4] أي كفعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم، والمقصود فعلوا كفعلهم، فكانت عاقبتهم ما علمتم، فلو كان فعلهم مرضيا لما أهلكهم الله، فهلا استدلوا بهلاكهم على أن الله غير راض بفعلهم، فإن دلالة الانتقام أظهر من دلالة الإمهال؛ لأن دلالة الانتقام وجودية ودلالة الإمهال عدمية..”[5].
الخلاصة:
- المقصد الأسمى من بعث الله – عز وجل – الرسل إلى الخلق هو تعريفهم بالله عز وجل، وإعلامهم بأنه هو المستحق للعبادة، فالله – عز وجل – لا يرضى لعباده الكفر والشرك.
- احتجاج المشركين بالقدر على شركهم يتنافى مع مشيئة الله الشرعية الدالة على النهي عن الشرك على ألسنة الرسل.
- المشيئة الكونية تدل على علم الله الأزلي ولا تدل على أمر الله ورضاه بالمعصية والكفر، فالله – عز وجل – يقول: )ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم( (الزمر: ٧).
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (النحل/ 35، الأنعام/ 148، الزخرف/ 20).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (النحل/ 35: 37، الأنعام/ 148، 149، الزخرف/ 20، الزمر/ 7).
[1]. عقيدة أهل السنة والجماعة، د. أحمد فريد، مكتبة فياض، مصر، 2005م، ص203.
[2]. عقيدة أهل السنة والجماعة، د. أحمد فريد، مكتبة فياض، مصر، 2005م، ص215.
[3]. القضاء والقدر، د. عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص82.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج5، ج8، ص147، 148 بتصرف.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج14، ص148 بتصرف.