الاحتجاج بفتنة النساء للقعود عن الجهاد
وجه إبطال الشبهة:
هذه المقولة أراد أصحابها التخلف عن الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء بما قالوا سقطوا في الفتنة الحقيقية.
التفصيل:
هذه المقولة أراد أصحابها التخلف عن الجهاد مع الرسول:
هذه شبهة داحضة ما أراد بها قائلها إلا التخلف عن الجهاد والقعود عن الغزو فرارا وهروبا وجبنا، ومثل هذا المنافق في نفاقه لا يخشى على نفسه إثم الافتتان بالنساء؛ إذ لا يجد من دينه مانعا من التمتع بهن وهو يحبهن، بل شأن ذلك أن يكون مرغبا في هذه الغزوة.
لقد رد الله شبهته وشبهة من وافقه عليها ورددوا معناها بقوله سبحانه وتعالى: )ألا في الفتنة سقطوا( (التوبة: ٤٩).
فبدأ بأداة الافتتاح )ألا( التي تفيد التنبيه والتأمل فيما بعدها، ولتحقيق مضمونه إن كان خبرا لتوجيه السمع والقلب له، وعبر عن افتتانهم بالسقوط في الفتنة للمبالغة، وقدم الظرف )في الفتنة( على عامله )سقطوا( للدلالة على الحصر، والمعنى: ألا فليعلموا أنهم سقطوا وتردوا بهذا القول في هاوية الفتنة بأوسع معناها، لا في شيء آخر من شبهاتها أو مشابهاتها، من حيث يزعمون اتقاء التعرض لشبهة نوع من أنواعها، وهو الإثم بالنظر إلى جمال نساء الروم واشتغال القلب بجمالهن، فتردوا بذلك في شر مما اعتذروا به، فعذرهم أقبح من الذنب.
يقول الشيخ ابن عاشور: “والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة )ألا في الفتنة سقطوا( للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم؛ إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة. فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا، ولكنه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرف في جنسه، أي في الفتنة العظيمة سقطوا، فأي وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم )ولا تفتني( كان ما وقع فيه أشد مما تفصى[1] منه، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلف فقد وقع في أعظم منها بافتضاح أمر نفاقهم، وإن أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعونا مبغوضا للناس. وتقدم بيان )الفتنة( قريبا.
والسقوط مستعمل مجازا في الكون فجأة على وجه الاستعارة: شبه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها، فهم كالساقط في هوة على حين ظن أنه ماش في طريق سهل”[2].
ثم توعدهم الله على الفتنة التي تردوا فيها بقوله عز وجل: )وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49)( (التوبة)، والتعبير يرسم مشهدا كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون؛ وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم، وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فلا يفلتون كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتما، جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير، وتقريرا لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون[3].
الخلاصة:
إن الفتنة الحقيقية في القعود عن الجهاد والتخلف عن مسير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وليست في الخروج للغزو ولا في جمال بنات الأصفر، إنما هي اعتذارات واهية، فهؤلاء قد سقطوا في الفتنة بالفعل حينما تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (التوبة/ 49).
الآية التي ورد فيها الرد على الشبهة: (التوبة/ 49).
[1]. تفصى: تخلص أو تهرب.
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج10، ص221.
[3]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج3، ص1664.