التشكيك في أن فريضة الحج تكفر الذنوب
وجها إبطال الشبهة:
1) الله – عز وجل – يعامل عباده الذين يستجيبون لأوامره وينتهون عن نواهيه بميزان الفضل لا بميزان العدل، فيتجاوز عن الذنوب التي يرتكبونها في حقه، أما الذنوب التي يرتكبونها في حق العباد فلا بد أن تؤدي أولا.
2) إن سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – هي الأصل الثاني من أصول التشريع في الإسلام، فما كان مجملا في القرآن الكريم جاءت السنة الشريفة لتفصيله وبيانه للمسلمين؛ ومن ذلك فضل الحج الصحيح المبرور.
التفصيل:
أولا. الله – عز وجل – هو الذي حدد الجزاء وحدد العمل:
إن كون الحج يخرج الإنسان من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهذا يراد به الذنوب التي بينه وبين ربه، أما الذنوب التي بينه وبين العباد، فلا بد أن تؤدى قبل الحج. ولذلك نجد من دقة التكاليف أن المدين لا يصح أن يحج إلا إذا استأذن صاحب الدين، أو كفيله، فإن كان عنده وفاء للدين في بلده وفي به، وإن لم يكن عنده وفاء أوصى بالوفاء من تركته.
ولا يصح أن نقول: إن الجزاء أكبر من العمل؛ لأن تناسب الصفقات لا يجوز أن يلاحظ إلا بين المتساويين، يعني إلا إن كانت الصفقة معقودة بين متساويين، إنما حين نقيس الصفقة المعقودة بين الله – عز وجل – وبين عباده، فلا يصح أن نقول: الجزاء أكبر من العمل؛ لأن الله هو الذي حدد العمل، وحدد الجزاء؛ ولأن الله – عز وجل – هو الجواد الكريم.
ولنفرض أن إنسانا زرع بستانا جميلا، ثم قدم وردة للملك، فأعطاه ألف دينار، هل نقول إن الملك أعطاه أكثر من ثمن الوردة؟ لا نقول هذا إلا في الصفقات بين المتساويين؛ ولذلك يقولون: إن الملوك إذا وهبوا، لا يسألون عما وهبوه، وقالوا:
ملك الملوك إذا وهب
لا تسألن عن السبب[1]
ولم لا؟ والحج رحلة إلي الله تعالى يتجرد فيها المسلم من كل علائق الدنيا التي لازمته منذ ولادته حتى الملابس. فكان الجزاء أن جرده الله من ذنوبه منذ ولدته أمه؛ لأن الجزاء من جنس العمل؛ ولأن الحج يغير عاداته التي تعودها من التطيب والادهان، وإزالة الشعر، وقلم الأظافر، وستر الرأس، والصيد، وغيرها، يترك الحاج أهله وماله، ويخرج متجردا لله – عز وجل – من كل شيء إلا الرغبة الصادقة في التوبة والإنابة، والذكر، والدعاء، والقنوت، وهذه كلها ذات أثر متعدد في إصلاح الجانب الروحي، وذلك يتضح من الجوانب التالية:
لا شك أن الحاج يمتلئ قلبه رضا إذا أحس أن عمله القليل عليه أجر كبير، وكذلك الحاج عندما يقرأ وعد الله – عز وجل – لمن قصد بيته حاجا أو معتمرا، فإن ذلك يشرح صدره، وهذا ما يجعل كل مسلم علي وجه الأرض تتعلق نياط قلبه بأن يمن الله عليه بحج بيته وزيارة نبيه صلى الله عليه وسلم، تجدها رغبة عارمة ينشأ عليها الصغار، ويتعسف لها الكبار، ويحن إليها الشيوخ، ويتمنون ألا يموتوا قبل أن يمتعوا عيونهم وقلوبهم ببيت الله الحرام، ومكة، ومنى، والمزدلفة، وطيبة: المدينة المنورة [2].
ولم لا؟ والحج هو الركن الخامس في الإسلام، وهو الفريضة التي تستوجب مفارقة المألوفات والعادات؛ استجابة لرب الأرض والسماوات، والحج تلبية لدعوة الله – عز وجل – التي كان أول من أعلنها في الناس إبراهيم الخليل – عليه السلام – حين قال له ربه: )وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28)((الحج).
ولهذا فإن المسلم حين يستعد لتلبية هذه الدعوة بالإحرام الذي يفارق فيه العادات والمألوفات، وبتطهير باطنه بالنية الصادقة، والتوبة النصوح، وتطهير ظاهره بالاغتسال، فإنه يعلن استجابته لأمر ربه استجابة مضاعفة متكررة، ولا يزال ذلك شعاره حتى يفرغ من حجه بهذه الكلمات المأثورة: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”[3]، وبهذا يصبح العبد عبدا لربه حقا، وليس عبدا لهواه وشهواته. فلماذا يحرمه الله – عز وجل – من العطاء الجزيل وهو الكريم؟!
ثم إن الكريم إذا نادى واستجيب لندائه أجزل العطاء لمن استجاب ولبى، فما بالك بالكريم الرحيم الحليم، إذا لبي ألا يكون هو أولى بالجود والكرم والإحسان؟! ثم إن الحجيج يتكلفون المشاق من أجله سبحانه؛ ولذلك فإنه – عز وجل – يعطيهم أجرهم، ويوفيهم حسابهم، وكذلك فإنه لا يعطي على الحج فقط حتى يتعجب هؤلاء القوم، ويشككون، ولكنه جعل الصلاة صلة بين العبد وربه، وجعل الصيام سرا بين العبد وربه، خبأ الله – عز وجل – جزاءه لهم؛ ليكون مفاجأة سارة، وجعل صدقة السر تطفئ غضب الرب، وجعل أجر الحج مغفرة الذنوب.
ثانيا. السنة قسيمة القرآن في التشريع، فما جاء به القرآن مجملا، فإن السنة تبينه وتفصله:
السنة قسيمة القرآن في التشريع، وما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن من عنده، وإنما جاء به من عند الله عز وجل، قال عز وجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، وجاءت السنة؛ لتبين ما في القرآن، وتفسر ما فيه، وإلا لما علمنا أن الصلوات خمس في اليوم والليلة، وأن الصوم بهذه الصورة، وأن أجره خبأه الله لعباده، وقس على ذلك، فما كان من النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا وقد وضح الأمور للناس وعلمهم وأعلمهم أمور دينهم، فقال:«تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، كتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم» [4].
وجعل الله – عز وجل – شرط الإيمان أن نؤمن بكل ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)( (النساء)، وقال عز وجل: )قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)( (آل عمران)، وفي هذا الصدد، فإن الله – عز وجل – قد ذكر في كتابه فوائد جمة للحج؛ فقال عز وجل: )ليشهدوا منافع( (الحج: 2٨)، وقال عز وجل: )واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198)( (البقرة)، وقال عز وجل: )ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199)( (البقرة).
فجاءت السنة لكي تبين تلك المنافع، وهذه الهداية، وتوضح أن الله – عز وجل – يعطي المغفرة أجرا للحج، وبهذه الصورة، فإن الله – عز وجل – قد ذكر ما يدلل على أنه يغفر الذنوب في الحج، لا كما يدعي المدعون من أنه ليس هناك دليل، ثم جاءت السنة النبوية تقرر تلك الحقيقة، وتبين للناس ما أشكل عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [5].
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» [6].
ولم لا؟ والإنسان في الحج تكون لديه فرصة ذهبية لإعادة القلب إلى الصفاء، والنقاء، والاطمئنان بذكر الله عز وجل، وجزاء الذكر أيضا مغفرة الذنوب؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»[7]. ولذلك كان من عطاء الله – عز وجل – للحاج أنه يغفر له الذنوب، وهذا من حكمة العلي القدير عز وجل، فهل من مشكك بعد هذا؟
الخلاصة:
الله – عز وجل – هو الذي حدد الجزاء، وحدد العمل، فلا يصح أن نقول: إن الجزاء أكبر من العمل؛ لأن تناسب الصفقات لا يجوز أن يلاحظ إلا بين المتساويين، يعني إلا إن كانت الصفقة معقودة بين متساويين، إنما حين نقيس الصفقة المعقودة بين الله – عز وجل – وبين عباده، فلا يصح أن نقول: الجزاء أكبر من العمل؛ لأن الله هو الذي حدد العمل.
ثم إن السنة قسيمة القرآن في التشريع، ولتوضح ما أبهم منه، ويجهل من ظن أن القرآن لم يتحدث عن مغفرة الله للحجيج، كما فعلت السنة وصرحت؛ ففي القرآن نقرأ: )أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157)( (البقرة)، ونقرأ قبلها: )إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)( (البقرة)، ونقرأ في الحج: )ليشهدوا منافع لهم( (الحج: ٢٨)، وقد فسرت المنافع بالمغفرة لهم، ثم جاءت السنة كي تؤدي وظيفتها، وتؤكد ما جاء به القرآن؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»[8]. وغير خفي أن السنة النبوية قسيمة القرآن في التشريع؛ وذلك فيما لم يأت القرآن بشيء فيه، أما ما جاء في القرآن فإن السنة توضحه، وتؤكد عليه.
(*) تغييب الإسلام الحق، د. محمود توفيق محمد سعد، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1996م.
[1]. دائرة معارف الفقه والعلوم الإسلامية، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ج4، ص165 بتصرف.
[2]. المقاصد التربوية للعبادات في الروح والأخلاق والعقل والجسد، د. صلاح الدين سلطان، سلطان للنشر، أمريكا، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص37.
[3]. العبادة في الإسلام وأثرها في الفرد والجماعة، د. علي عبد اللطيف منصور، دار الصفوة للطباعة، مصر، ط2، 1993م، ص319.
[4]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب العلم (318)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي (20123)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (40).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها (1683)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب في فضل الحجر والعمرة ويوم عرفة (3355).
[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3669)، والترمذي في سننه، كتاب الصوم، باب ثواب الحج والعمرة (810)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1200).
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح (6042)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته (1380).
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور (1449)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (3357).