التشكيك في الإعجاز العلمي لقوله تعالى: (في أدنى الأرض)
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد وصف القرآن الكريم منطقة البحر الميت، وهي الأرض التي دارت فيها المعركة بين الفرس والروم بـ ) أدنى الأرض((الروم:3)؛ أي: أخفض ما في الأرض، ويأتي العلم التجريبي في القرن العشرين مؤكدًا هذه الحقيقة؛ إذ أثبتت القياسات ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن منطقة البحر الميت وما حوله أخفض بقاع الأرض على الإطلاق، وهذا ما سجَّلته الأقمار الصناعية ودوَّنته الموسوعة البريطانية؛ ومن ثم فلا حجة للطاعن من الناحية العلمية.
2) لكلمة “أدنى” معانٍ أخرى غير أقرب، مثل: أخفض وأصغر وأقل، فأقرب من معانيها وليس المعنى الوحيد، وما ادَّعاه الطاعن من أن آيات القرآن واللغة ومعاجمها وشروح المفسرين ـ كل أولئك يؤكدون أن معنى أدنى: أقرب وليس معنى آخر، غير صحيح؛ ذاك أن آيات كثيرة في القرآن جاءت تؤكد عكس ذلك، منها قوله: ) قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير((البقرة:٦١)، وفي اللغة: كثيرًا ما ورد في الشعر العربي الطباق بين كلمتي: الأدنى والأعلى، أما من حيث المعاجم فإن عدم الإشارة إلى معنى كلمة في معجم معين لا ينفي وجود هذا المعنى، ومع ذلك فقد جاء في لسان العرب: “والأدنى: السَّفِلُ”، وأخيرًا فإن التفاسير القديمة ليست حجة على القرآن الكريم، بل إننا لا نتصور أن يفسر المفسرون أدنى ـ في ذلك الوقت ـ إلا بمعنى أقرب.
التفصيل:
أولا. منطقة البحر الميِّت أخفض بقاع الأرض:
1) الحقائق العلمية:
ثبت علميًّا ـ بقياسات عديدة ـ أن أكثر أجزاء اليابسة انخفاضًا هو غور البحر الميت، ويقع البحر الميت في أكثر أجزاء الغور انخفاضًا؛ حيث يصل مستوى منسوب سطح الماء فيه إلى حوالي أربع مئة متر تحت مستوى سطح البحر، ويصل منسوب قاعه في أعمق أجزائه إلى قرابة ثمانمائة متر تحت مستوى سطح البحر، وهو بحيرة داخلية؛ بمعنى أن قاعها يعتبر في الحقيقة جزءًا من اليابسة.
صورة حقيقية من الفضاء لغور البحر الميت ومستوى سطح الماء فيه ينخفض حوالي 400م تحت مستوى سطح الماء في كل من البحرين الأبيض: المتوسط والأحمر
وغور البحر الميت هو جزء من خسف أرضي عظيم، يمتد من منطقة البحيرات في شرق أفريقيا إلى بحيرة طبريا، فالحدود الجنوبية لتركيا مرورًا بالبحر الأحمر فخليج العقبة، ويرتبط بالخسف العميق في قاع كل من المحيط الهندي، وخليج العرب وخليج عدن.
ويبلغ طول أغوار وادي عربة ـ البحر الميت ـ الأردن حوالي ست مئة كيلو متر، ممتدة من خليج العقبة في الجنوب إلى بحيرة طبريا في الشمال، ويتراوح عرضها بين العشرة والعشرين كيلو مترًا، ويعتبر منسوب سطح الأرض فيها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضًا؛ حيث يصل منسوب سطح الماء في البحر الميت إلى حوالي 400م تحت المستوى المتوسط لمنسوب المياه في البحرين المجاورين: الأحمر والأبيض المتوسط، وهو أخفض منسوب أرضي على سطح اليابسة كما يتضح من الأرقام الآتية:
منسوب سطح الأرض في وادي عربة
=355 : 400م تحت مستوى سطح البحر
منسوب أعمق نقاط قاع البحر الميت
=794م تحت مستوى سطح البحر
منسوب سطح الماء في البحر الميت
=400م تحت مستوى سطح البحر
مستوى سطح الأرض في غور الأردن
=212 : 400م تحت مستوى سطح البحر
منسوب سطح الماء في بحيرة طبريا
=209م تحت مستوى سطح البحر
منسوب قاع بحيرة طبريا
=252م تحت مستوى سطح البحر
منسوب سطح الأرض في قاع منخفض القطارة في شمال صحراء مصر الغربية
=133م تحت مستوى سطح البحر
منسوب سطح الأرض في قاع وادي الموت/كاليفورنيا
=86م تحت مستوى سطح البحر
منسوب سطح الأرض في قاع منخفض الفيوم/ مصر
=45م تحت مستوى سطح البحر
جدول مناسيب أخفض البقاع على اليابسة
ويتراوح عمق الماء في الحوض الجنوبي من البحر الميت بين الستة والعشرة أمتار، ويُعتقد أنه كان جافًّا إلى عهد غير بعيد من تاريخه، وكان عامرًا بالسكان، وأن منطقة الأغوار كلها من وادي عربة في الجنوب إلى بحيرة طبريا في الشمال كانت كذلك عامرة بالسكان منذ القدم([1]).
خريطة توضح موقع البحر الميت زمن وقوع الحرب الفارسية الرومانية
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
بعد المسح الجيولوجي لكوكب الأرض اكتشف العلماء أن أخفض منطقة على سطح الأرض هي منطقة البحر الميت، وأن مياه البحر الميت تنخفض عن مياه جميع بحار العالم حوالي 400م، وعندما هزمت الروم في هذه المنطقة وقت نزول القرآن الكريم، نزل قول الله تعالى: )غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3)((الروم).
ويأبى الطاعنون أن يعترفوا بإعجاز الآية العلمي؛ بحجة أن القول بأن شواطئ البحر الميت هي أخفض منطقة على سطح الأرض ـ قول لا يستند إلى دليل علمي.
ومن الواضح أن قول الطاعن هو الذي بُني على أساس غير علمي؛ فالوادي الواقع شمال البحر الميت هو أخفض نقطة فعلًا على سطح الأرض، وهذا الأمر قد ثبت علميًّا ولا نقاش عليه، ويمكن التأكد من ذلك بكل سهولة بواسطة البرنامج (worldwind) من وكالة الفضاء الأمريكية (NASA)، وهذا البرنامج يشبه (Google earth) ولكنه يعطي معلومات أدق عن ارتفاع سطح الأرض عندما تكون النقطة أخفض من سطح البحر([2]).
صورة حقيقية من الفضاء تُظهر موقع البحر الميت في الأردن
وقد ذكرت الموسوعة البريطانية ما نصه:
Lowest point on earth” quickly showed that shoreline of the Dead Sea, on the border of Israel and Jordan in the Middle East, is the lowest land area on Earth the altitude of the Dead Sea shoreline is approximately 1.300 feet (400 meters) below sea level.
وهذا ترجمته: “البحر الميت، بقعة مائية مالحة مغلقة بين إسرائيل والأردن، وأخفض جسم مائي على الأرض، فانخفاضه يصل إلى نحو 1300 قدم، حوالي 400م تحت سطح البحر”([3]).
يقول الشيخ الزنداني: التقيت مع واحد من أساتذة علوم الجيولوجيا في أمريكا اسمه البروفيسور “بالما”، وهو من كبار علماء الجيولوجيا في أمريكا، جاء في زيارة ومعه نموذج للكرة الأرضية بها تفاصيل للارتفاعات والانخفاضات وأعماق البحار، فلما جلس قلت له: عندنا آية في القرآن تقول بأن منطقة بيت المقدس ـ حيث دارت المعركة بين الفرس والروم ـ هي أخفض منطقة في العالم، فقال: لا.. توجد مناطق كثيرة أخفض من هذه المنطقة، وأخذ يذكر لنا مناطق في أوربا ومناطق في أمريكا، فقلت له: أنا متأكد مما أقول، فقال: إذًا الأمر بسيط، هذا هو المجسَّم يبين لنا أخفض منطقة، فأدار الكرة الأرضية المجسمة بيده، وألقى نظرة على المنطقة المحددة، وهي قرب بيت المقدس، فإذا به يرى سهمًا مكتوبًا عليه أخفض منطقة على وجه الأرض، فتحوَّل سريعًا وقال: هذا كلام صحيح([4]).
وخلاصة القول: إن منطقة أغوار البحر الميت تحوي أخفض أجزاء اليابسة على الإطلاق، والمنطقة كانت محتلة من قبل الروم البيزنطيين في عصر البعثة النبوية الخاتمة، وكان الصراع بين الإمبراطوريتين الكبيرتين في هذا الزمن على أشده، ولا بُدَّ أن كثيرًا من معاركهما الحاسمة قد وقعت في أرض الأغوار، ووَصْف القرآن الكريم لأرض تلك المعركة الفاصلة التي تغلَّب فيها الفرس على الروم في أول الأمر بأدنى الأرض ـ وصفٌ معجزٌ للغاية؛ لأن أحدًا من الناس لم يكن يدرك هذه الحقيقة في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده، وورودها بهذا الوضوح في مطلع سورة الروم يضيف بعدًا آخر إلى الإعجاز الإنبائي الذي استُهِلت به هذه السورة المباركة، ألا وهو الإعجاز العلمي، فبالإضافة إلى ما جاء بتلك الآيات من إعجاز شمل الإخبار بالغيب ـ من انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم ـ وحدَّد لوقوعه بضع سنين، فوقع كما وصفته، فإن وصف أرض المعركة بالتعبير القرآني )أدنى الأرض( (الروم:3)يضيف إعجازًا علميًّا جديدًا، يؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق وأن النبي الخاتم الذي تلقاه كان موصولًا بالوحي، ومعلمًا من قبل خالق السماوات والأرض([5]).
ومن ثم فإن ما ادَّعاه الطاعن غير صحيح؛ فقد جاء العلم التجريبي مؤكدًا أن منطقة أغوار البحر الميت وما حولها من أغوار هي أخفض أجزاء اليابسة على الإطلاق.
ثانيًا. كلمة “أدنى” كما هي بمعنى أقرب، فهي كذلك بمعنى أخفض:
ثمة اعتراضات أخرى يوجهها المشككون إلى الآية، فإلى جانب ما أثاروه في الوجه الأول نجدهم يقولون: إن كلمة “أدنى” هي اسم تفضيل على وزن أفعل، وهي مشتقة من الفعل “دنا” الذي معناه اقترب، وقد وردت في القرآن بهذا المعنى أيضًا في سورة النجم: )ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) ((النجم)؛ أي: ثم اقترب جبريل من محمد وزاد في القرب منه، فكان منه على مقدار قوسين أو أقل؛ ومن ثم فإن كلمة أدنى لا معنى لها سوى أقرب، وإن القول بأن معناها أخفض هو محض افتراء وتلفيق وخداع، فلا يوجد في اللغة ما يدل على مثل هذا الكلام.
كما أن المفسرين جميعهم اتفقوا على أن “أدنى” معناها أقرب وليس أخفض، قال القرطبي: “وأدنى معناه أقرب”، وقال الشيخ محمد على الصابوني: “أي: هزم جيش الروم في أقرب أرضهم إلى فارس”، فهل نكذب كلام المفسرين المعتمدين لدى المسلمين ونصدق دعاة الإعجاز العلمي؟
وإذًا فكلمة أدنى يمكن تعويضها بأقرب؛ أي: غلبت الروم في أقرب الأرض إلى فارس أو إلى الجزيرة العربية، فلماذا يحاول آخرون إيهامنا بأنها تفيد غير ذلك؟
وليس من شك في أن الاعتراضات السابقة اعترضات واهية ـ وإن بدت في الظاهر غير ذلك ـ وجميعها مردود عليه:
فمن ناحية أولى: ذكر المشككون أن آيات القرآن تشهد بأن كلمة (أدنى) لا معنى لها سوى أقرب، واستدلوا بقوله تعالى: ) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) ((النجم). وبالفعل فإن من معاني كلمة “أدنى” في القرآن الكريم أقرب، ولكن هذا ليس المعنى الوحيد كما أراد المشككون إيهامنا، ولنأخذ بعض الأمثلة من القرآن الكريم لبيان المعاني المتعددة للكلمة:
فقد عبَّر القرآن بالأدنى تارة عن الأقرب، فيقابل بالأبعد أو الأقصى من مثل قوله تعالى: )إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى((الأنفال:42).
وتارة ثانية تأتي بمعنى الأقل في مقابل الأكثر، من مثل قوله تعالى:)ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم( (المجادلة:7).
وتارة ثالثة يعبِّر بها عن الأرذل أو الأحقر، فيقابل بالذي هو خير أو أعلى وأرفع وأنفع، وذلك من مثل قول الله تعالى: ) قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير( (البقرة:61).
وتارة رابعة يعبر بها عن (الدنيا) في مقابلة الآخرة، وذلك من مثل قوله تعالى: )منكممن يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة((آل عمران:152).
فهل معنى “أدنى” في الآيات السابقة هو أقرب؟ بالطبع لا.. ولكنه جاء بمعنى أصغر تارةً وأقل تارةً أخرى، وهذا بلا شك يختلف عن معنى كلمة أقرب.
ويسلم الطاعن للكلام السابق قائلًا: ولنفترض جدلًا أن لكلمة أدنى معاني أخرى غير أقرب، فإنه لا يوجد في القرآن ما يفيد أن معناها الانخفاض أبدًا.
وهذا الزعم باطل أيضًا، فهذا المعنى موجود ومفهوم لكل من يفهم العربية ويتحدثها، ومن يتدبر آيات القرآن بتمعُّن يجد هذا المعنى؛ فقد عُبِّر بالأدنى عن معنى الخفض في مثل قوله تعالى: )يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين( (الأحزاب: 59).
ونلاحظ دقة الوصف هنا، فقد قال عز وجل: “يدنين” ولم يقل: “يُسدلن” مثلًا؛ ذلك لأن يسدلن لا تفيد التغطية من أعلى إلى أسفل فقط ولكن تفيد التغطية عامة.
ومن ناحية ثانية: يقول الطاعن: إنه لا يوجد في لغة العرب ما يفيد أن كلمة “أدنى” معناها أخفض، وردًّا على ذلك نقول: إن كلمة “أدنى” بمعنى أخفض ـ والانخفاض ضد العلو ـ وردت في الشعر العربي، يقول أبو عدي النمري (شاعر جاهلي) :
تهامية الأدنى حجازية الذرا كأن عليها من عُمان شقيقها
فعلى الرغم من أن الشاعر في معرض الحديث عن النسب، القريب منه والبعيد، إلا أنه يختار للتعبير عن ذلك كلمتين متضادتين معنويًّا من وجهة نظره، وهما: الأدنى ـ الذرا، وإذا كان الذرا أكثر الأماكن عُلوًّا، فإن الأدنى أكثر الأماكن انخفاضًا.
وأيضًا في قول ابن قيم الجوزية:
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فإن تفعل رجعت بذلة وهوان
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحـ ـرم ذا وذا يا ذلة الحرمان
فنحن نلاحظ في البيتين السابقين الطباق بين كلمتي: الأدنى والأعلى؛ فقد وردا على أنهما متضادتين من حيث المعنى.
ومن ناحية ثالثة: يضيف الطاعن إلى الاعتراضات السابقة قوله: إن كلمة أدنى لم تأت بمعنى أخفض في أيٍّ من المعاجم اللغوية والقواميس العربية، مثل: مختار الصحاح، ومعجم البلدان، ولسان العرب، وغيرها، وهذا القول أيضًا مردود من وجوه:
- إن كلمة “أدنى” جاءت في كثير من آيات القرآن وكلام العرب على أنها بمعنى أقل وأصغر، وإن كانت كثير من المعاجم لم تشر إلى ذلك، فإن عدم الإشارة إلى معنى كلمة في معجم معين لا ينفي وجود هذا المعنى.
- إن معاجم اللغة ـ لمن يتأملها ـ بُنيت على أساس تراكمي؛ إذ أَخَذَ كل معجم مادته ممن سبقه في هذا المضمار، وقلما زاد الأخير على سابقيه شيئًا، إلى درجة يصعب معها اكتشاف الفروق بين معجم وآخر في تناول معاني الكلمة الواحدة.
وهذا ما نلحظه عند الرجوع إلى مادة “دنا” أو “دنو” في المعاجم اللغوية؛ إذ نجد أنفسنا أمام معانٍ معينة، وكلام معاد، وشواهد مكررة، تناقلها أصحاب المعاجم الواحد عن الآخر؛ فقد أجمعت المعاجم اللغوية على أن كلمة “دنا” بمعنى اقترب، أما إن جاءت بالهمز “دنأ” فهي من الدناءة؛ أي: الخسة والوضاعة.
وإذا كان معنى كلمة “دنا” مقتصرًا ـ من الناحية اللغوية ـ على ما ذكرناه، فماذا نقول إذًا في قوله تعالى: )ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم (7)((المجادلة)، وقوله تعالى:)إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار( (المزمل: ٢٠).
نلاحظ أن كلمة “أدنى” في الآيتين السابقتين جاءت بمعنى أقل، ولا يستقيم المعنى إذا نحن أوَّلناها على أنها أقرب نزولًا عند معطيات المعاجم اللغوية.
- إذا وجدنا في لغة العرب وفي القرآن الكريم ما يفيد بمعان أخرى لكلمة “أدنى”، مثل: أقل أو أصغر وأخفض، فما أهمية المعاجم في البحث أصلًا، هل نترك الأصول ونبحث في القواميس والترجمات؟!
- هل نحن ملزمون بأن نقتصر في فهم القرآن على ضوء المعاجم؟ ولو كان هذا الأمر صحيحًا إذًا لأمكن تفسير القرآن كاملًا، ولم تعد هناك حاجة إلى مفسرين ومجتهدين.
- ومع كل ما سبق ـ وهذا هو الأهم ـ فإن عبارة عدم وجود معنى أخفض لكلمة “أدنى” في معاجم اللغة ـ عبارة ينقصها كثير من الدقة والصحة، فعلى سبيل المثال لدنيا في:
o القاموس المحيط في معنى كلمة “دنا”: “تقول العرب الأدنيان وهما واديان”.
o لسان العرب في معنى كلمة “دنا”: “ويقال: دنا وأدنى ودَنَّى إذا قرُب، قال: وأدنى إذا عاش عيْشًا ضيقًا بعد سعة، والأدنى: السَّفِلُ”.
o معجم الغنى، د. عبد الغني أبو العزم: “أدنى ـ ج: أدنون، مؤ: دُنيا ـ ج: دُنىً. (د ن و).
خذ منه أدنى قدر من المال: أقل، أبسط شيء.
طاف ابن بطوطة العالم من أدناه إلى أقصاه: من أقرب مكان إلى ما هو أبعد
أنا الموقِّع أدناه: أسفله.
أدنى من حبل الوريد: قريب جدًّا، وشيك.
الحد الأدنى: أصغر كمية.
بلدان الشرق الأدنى (جغ): منطقة تضم البلدان المطلة على الحوض الشرقي من البحر المتوسط”.
ومن ناحية أخيرة: فإن ما ذكره الطاعن من اتفاق المفسرين جميعهم على أن أدنى معناها أقرب وليس أخفض ـ مردود كذلك؛ ذاك أن تفسير أدنى بمعنى أقرب في التفاسير القديمة ليس حجة على القرآن الكريم؛ بل إننا لا نتصور أن يفسروا أدنى في ذلك الوقت إلا بمعنى أقرب، فلم يكن في زمن المفسرين وكالة ناسا الفضائية ولا كان هناك تقدم علمي مذهل كما هو الآن.
نعم، يحدثنا القرآن الكريم في عصر لم يكن باستطاعة أحد أن يقيس أخفض نقطة على سطح اليابسة، وهؤلاء الذين يعترضون على الإعجاز العلمي للقرآن، إنما يعترضون لأنه يخاطبهم بلغةٍ قويةٍ وهي لغة العلم، ولذلك فإنهم يَلجئون إلى الكتب القديمة حيث كان متعذرًا وقتها فهم هذه الآيات كما نفهمها الآن في ضوء المعارف الحديثة.
ومن ثم فإننا نقول لهؤلاء: لماذا تلزموننا بفهم القرآن كما فهمه المفسرون قبل مئات السنين، ولا تلزمون أنفسكم بفهم الكتاب المقدس كما فهمه القساوسة قبل عشرات السنين فقط، عندما حدَّدوا عمر الإنسان على الأرض بسبعة آلاف سنة ثم ثبت يقينًا أن عمره ملايين السنين.
لذا فإن الرجوع إلى التفاسير القديمة لإثبات أن القرآن الكريم لم يحمل إعجازًا علميًّا في معانيه ـ هو عجز عن مجاراة فكر الآخر، فهؤلاء المفسرون من أين لهم أن يعرفوا أن سواحل البحر الميت هي أخفض منطقة على وجه الأرض حتى يفسروا أدنى بمعنى أخفض وليس أقرب([6]).
فعلى الذين قالوا إن معنى)أدنى الأرض( (الروم:3)، هو أقرب الأرض من بلاد فارس، أو من بلاد العرب أن يعيدوا النظر في ذلك؛ لأن حدود الإمبراطوريتين البائدتين كانت متلاحمة مع بعضها من جهة، ومع بلاد العرب من جهة أخرى، وعليه فلا يعقل أن يكون المقصود بتعبير أدنى الأرض في هذه الآية هو القرب من بلاد فارس أو بلاد العرب فقط، فإلى جانب ذلك هي أيضًا أكثر أجزاء اليابسة انخفاضًا([7]).
ولنا أن نتدبَّر قول الله تعالى عن المسجد الأقصى، وهو مسجد يقع في مدينة القدس التي لا تبعد سوى عشرين كيلو مترًا عن منطقة البحر الميت حيث دارت المعركة، يقول تعالى: )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى((الإسراء: ١)، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن: كيف يصف الله تعالى منطقة البحر الميت بأنها أقرب الأرض، ثم يعود ويصف المسجد الموجود هناك بأنه المسجد الأقصى؛ أي: الأبعد.
فالمنطقة التي وقعت فيها المعركة وهي التي سمَّاها القرآن بـ )أدنى الأرض( (الروم:3)، تبعد عن مكة أكثر من ألف ومئتي كيلو متر، فكيف تكون هذه الأرض هي الأقرب وهي تقع على هذه المسافة الكبيرة؟ وكيف يكون المسجد الأقصى هو الأبعد وهو يقع على المسافة نفسها من مكة المكرمة حيث نزلت هذه الآيات؟ وأخيرًا: لو أن الله تعالى يقصد كلمة أقرب، فلماذا لم يستعمل هذه الكلمة؟ ومن ثم فإن كلمة “أدنى” هي المقصودة، وهي الكلمة التي تعطي المعنى الدقيق والمطلوب.
إن القرآن لو كان خاضعًا لتفسير واحد وانتهى الأمر لما كان صالحًا لكل زمان ومكان، ولكن القرآن يتميز بأن البدوي في الصحراء كان لا يجد مشكلة في فهمه والتعامل مع كلماته ومعانيه، وعالم اللغة يفهم منه أشياء قد لا يفهمها غيره، وعالم الذرة يفهمه أيضًا ولا يجد مشكلة في تدبره مهما تطور العلم، وعالم الفلك قد يرى فيه حقائق لم يرها أحد من قبله، وهكذا فهو كتاب شامل كامل لجميع البشر والعصور([8]).
فهل بعد ذلك كله لايزال يعتقد هؤلاء الطاعنون أن معنى أخفض لُفِّق إلى كلمة أدنى؟ ولو أن هناك تلفيقًا للمعنى فالعرب كلهم مشتركون إذًا في هذا التلفيق، وليس دعاة الإعجاز العلمي وحدهم كما يسميهم الطاعنون، فهذا الذي يمضي إقرارًا ويكتب إمضاءه تحت كلمة الموَّقع أدناه، مشترك في هذا التلفيق! وهذا المذيع الذي يطالعنا كل مساء في الفقرة الاقتصادية قائلًا: انخفض سعر صرف الين الياباني إلى أدنى مستوى له أمام الدولار في بداية التعاملات الآسيوية ـ مثلًا ـ مشترك في التلفيق! فليحاكموا هؤلاء كلهم فقد اشتركوا في الخداع والتلفيق.
3) وجه الإعجاز:
هناك وجهان للإعجاز في هذه الآيات الكريمة أولهما: إخبار القرآن الكريم بانتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم الساحقة، بعد بضع سنوات، والبضع هو رقم بين الثلاثة والتسعة كما يقول علماء اللغة العربية، وقد تحقَّق ما وعد به القرآن الكريم بعد سبع سنوات؛ حيث وقعت معركة أخرى بين الفرس والروم سنة 627م وانتصر فيها الروم وتزامن ذلك مع انتصار المسلمين على مشركي قريش في غزوة بدر الكبرى، وهذا النصر بدا مستحيلًا في أعين العرب المشركين، إلى درجة دفعت بهم إلى السخرية من هذه الآيات القرآنية وغامروا بدفع رهان للمسلمين إن تحقق ذلك النصر المزعوم، وخاب ظنهم وتحققت معجزة القرآن الكريم عندما أخبر الناس مسبقًا بانتصار الرومانيين.
الوجه الثاني للإعجاز في هذه الآيات: أنها قررت حقيقة جغرافية لم تكن معروفة لأحد في ذلك الوقت؛ إذ أخبرت أن الروم خسروا المعركة مع الفرس في أدنى منطقة من الأرض، وكلمة أدنى عند العرب تأتي بمعانٍ متعددة، منها: أقرب وأخفض، فهي من جهة أقرب منطقة لشبه الجزيرة العربية، ومن جهة أخرى هي أخفض منطقة على سطح الأرض؛ إذ إنها تنخفض عن مستوى سطح البحر بحوالي 400 م، وهي أخفض نقطة سجَّلتها الأقمار الصناعية على اليابسة، كما ذكرت ذلك الموسوعة البريطانية، والحقيقة التاريخية تشهد أن المعركة وقعت في أكثر مناطق العالم انخفاضًا في حوض البحر الميت، والتي لم تكن لتقاس في غياب تقنيات القياس الحديثة، لذلك كان من المستحيل أن يعرف أي شخص في ذلك الوقت أن هذه المنطقة هي أكثر المناطق انخفاضًا في العالم، أليس هذا دليلًا على أن القرآن وحي من عند الله، قال تعالى:)وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها((النمل: ٩٣) ([9]).
(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق. منتدى: الفرقان للحوار www.elforkan.com.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص285: 287.
[2].)في أدنى الأرض( (الروم:3).. اعتراضات والرد عليها، مقال منشور بمنتدى: الفرقان للحوارwww.elforkan.com.
[3]. أخفض منطقة على سطح الأرض، مقال منشور بموقع: مكنون الإعجاز العلمي www.maknoon.org.
[4]. أنه الحق، عبد المجيد الزنداني، دار وحي القلم، دمشق، ط1، 2004م، ص93: 95.
[5]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص289.
[6]. انظر: )في أدنى الأرض( (الروم:3).. اعترضات والرد عليها، مقال منشور بمنتدى: الفرقان للحوارwww.elforkan.com.
[7]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص290.
[8]. أدنى الأرض، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[9]. أخفض منطقة على سطح الأرض، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.