التشكيك في الجهود الدعوية لأبي بكر الصديق رضي الله عنه
وجها إبطال الشبهة:
1) مكانة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – في الإسلام عظيمة، وجهده وسبقه معروفان.
2) تتبع جهد أبي بكر – رضي الله عنه – في الدعوة من خلال الروايات الموثوق بها يطلعنا على الصورة الحقيقية له بوصفه أبرز من قامت الدولة الإسلامية في بدايتها على أكتافهم.
التفصيل:
أولا. مكانة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – في الإسلام عظيمة، وجهده وسبقه معروفان:
أبو بكر – رضي الله عنه – سيد الصديقين، وخير الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين، فهو أفضل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأعلمهم وأشرفهم على الإطلاق، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي»([1]). وقال عنه وعن عمر – رضي الله عنهما -:«اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر»([2]). وهذا ما شهد له به عمر رضي الله عنه: «أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول صلى الله عليه وسلم»([3]). وقال «عنه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لما سأله ابنه محمد: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر»([4]).
ولقد كان من مناقب أبي بكر – رضي الله عنه – أن لقبه النبي – صلى الله عليه وسلم – بالعتيق؛ فقد قال له: «أبشر؛ فأنت عتيق الله من النار»([5]). وكان أبو بكر يسمى في الجاهلية “عتيقا” لجمال وجهه.
كذلك لقبه النبي – صلى الله عليه وسلم – بالصديق؛ لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لم يتردد في تصديق النبي حين دعاه إلى الإسلام، وحين أخبر بحدث الإسراء والمعراج، ولازم أبو بكر الصدق والتصديق، فلم تقع منه هنة ([6]) أبدا، ولهذا يقول له أبو محجن الثقفي رضي الله عنه:
وسميت صديقا، وكل مهاجر
سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام، والله شاهد
وكنت جليسا في العريش المشهر
وقد لقبه الله – عزوجل – بـ “الصاحب” في قوله تعالى: )ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله( (التوبة: 40)، ولقبه بـ “الأتقى” في قوله تعالى: )وسيجنبها الأتقى (17)( (الليل).
كما كان أبو بكر – رضي الله عنه – يلقب بـ “الأواه”، فعن إبراهيم النخعي قال: كان أبو بكر يسمى بـ “الأواه”؛ لرأفته ورحمته([7]).
والنصوص الواردة في مناقب أبي بكر – رضي الله عنه – متعددة متواترة، يقول ابن تيمية: “ومن تأمل هذا وجد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرة، وهي خصائص، مثل حديث: “إن الله معنا”، وحديث: “إنه أحب الرجال إلى النبي صلى الله عليه وسلم “، وحديث كتابة العهد إليه بعده، وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداء والصحبة، وتركه له([8])، وهو قوله: «فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟» ([9]) وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضع الرداء في عنقه حتى خلصه أبو بكر، وقال: «أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» ([10]) وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج، وصبره وثباته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وانقياد الأمة له، وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يوم، وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة، وأمثال ذلك”([11]).
ومن أرفع هذه المناقب، وأغلى هذه الأوسمة التي تقلدها أبو بكر – رضي الله عنه – وخص بها، ما ينقله ابن تيمية فيقول: “عن أنس عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أنه قال: «نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما»([12])؟!
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق، فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه، يقول تعالى مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم: )إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا( (التوبة: 40)”([13]).
ويقول: “ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة من وجوه:
- أنه كان أدوم اجتماعا به ليلا ونهارا، كما جاء عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: «لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طرفي النهار»([14]).
فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – في أول الأمر يذهب إلى أبي بكر طرفي النهار، والإسلام إذ ذاك ضعيف، والأعداء كثيرة، وهذا غاية الفضيلة والاختصاص في الصحبة.
- كان أبو بكر – رضي الله عنه – يسمر عند النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين، دون غيره من أصحابه.
- كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا استشار أصحابه، كان أبو بكر – رضي الله عنه – أول من يتكلم في الشورى، وربما تكلم غيره، وربما لم يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه”([15]).
- وفي المواضع التي لا يكون مع النبي – صلى الله عليه وسلم – من أكابر الصحابة إلا واحد، كان يكون هو ذلك الواحد، مثل سفره في الهجرة، ومقامه يوم بدر في العريش، لم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام.
وهذا الاختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من كان جاهلا بأحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – أو كذابا، فذلك يخاطب خطاب مثله، فقوله تعالى في القرآن: )إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا( (التوبة: 40)، لا يختص بمصاحبته في الغار، بل هو صاحبه المطلق، الذي كمل في الصحبة كمالا لم يشركه فيه غيره، فصار مختصا بالأكملية من الصحبة.
فقد تبين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – خصه بكمال الصحبة، ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره”([16]).
ومعلوم أن إنفاق أبي بكر لماله كان دائما، وقد أثنى عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك. يقول ابن تيمية: إن إنفاق أبي بكر – رضي الله عنه – منقول من الحديث الصحيح من وجوه كثيرة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: «ما نفعني مال قط ما نفعني([17]) مال أبي بكر»([18]). وقال: «إن أمن الناس علينا في صحبته وماله أبو بكر» ([19]). وثبت عنه أنه اشترى المعذبين من من ماله: بلالا وعامر بن فهيرة.. اشترى سبعة أنفس([20]).
ويفصل ابن تيمية وجوه هذا الإنفاق، ودوره في خدمة الدعوة الإسلامية فيقول: “وإنفاق أبي بكر في طاعة الله ورسوله هو من المتواتر، الذي تعرفه العامة والخاصة، وكان له مال قبل الإسلام، وكان معظما في قريش محببا مؤلفا، خبيرا بأنساب العرب وأيامهم، وكانوا يأتونه لمقاصد التجارة، ولعلمه وإحسانه؛ ولهذا لما خرج من مكة قال له ابن الدغنة: “مثلك لا يخرج ولا يخرج”، ولم يعلم أحد من قريش وغيرهم عاب أبا بكر بعيب، ولا نقصه ولا استرذله، كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين، ولم يكن له عندهم عيب إلا إيمانه بالله ورسوله.
وفي الصحيحين «أن أبا بكر – رضي الله عنه – لما ابتلي المسلمون خرج مهاجرا إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة – وهو سيد القارة – فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم إليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فجاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة به، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلى ذمتي؛ فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله».
فقد وصفه ابن الدغنة بحضرة أشراف قريش بمثل ما وصفت به خديجة النبي – صلى الله عليه وسلم – لما نزل عليه الوحي، وقال لها: «لقد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق»([21]). فهذه صفة النبي – صلى الله عليه وسلم – أفضل النبيين، وصديقه أفضل الصديقين.
وعن أبي سعيد الخدري قال: «خطب النبي – صلى الله عليه وسلم – الناس فقال: “إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله”، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أبا بكر، لا تبك، إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر»([22]).
وجاء عن أبي هريرة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر»([23]). ومنه أعتق بلالا، وكان يقضي في مال أبي بكر كما يقضي الرجل في مال نفسه”([24]).
ومن أظهر ما يدل على منزلة الصديق عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما نراه في الحديث الذي روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: «كنت جالسا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أما صاحبكم فقد غامر”، فسلم وقال: يا رسول الله، إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال صلى الله عليه وسلم: “يغفر الله لك يا أبا بكر”. ثلاثا.
ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ – يعني: هل أبو بكر هنا – فقالوا: لا، فأتى إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فجعل وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – يتمعر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، أنا كنت أظلم أنا كنت أظلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي»([25])؟
وعن محمد بن سيرين قال: «سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن شاب إلا يسيرا، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحناء والكتم، قال: وجاء أبو بكر بأبيه – أبي قحافة – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأبي بكر: لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه مكرمة لأبي بكر»([26]). و«عن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – أن النبي – صلى اله عليه وسلم – بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: “عائشة”. فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها»([27]).
وتتويجا لكل هذا، فإن أبا بكر – رضي الله عنه – يدعى من أبواب الجنة الثمانية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان، فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، أو قال: وهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر»([28]).
يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – عن أبواب الجنة في نونيته:
ولسوف يدعى المرء من أبوابها
جمعا إذا وفي حلى الإيمان
منهم أبو بكر هو الصديق ذا
ك خليفة المبعوث بالقرآن ([29])
ولا يستطيع المرء أن يعقل مبررا منطقيا للحملات الباغية على الصديق رضي الله عنه، وقد علم فضله، وعرفت سابقته، وسبق ثناء الرسول – صلى الله عليه وسلم – عليه، وثناء أهل البيت أنفسهم الذين يزعم أن أبا بكر ظلمهم، وسلبهم حقوقهم.
عن محمد بن علي أنه قال: أجمع بنو فاطمة على أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن ما يكون من القول، وعنه – رحمه الله – أنه قال لجابر الجعفي: إن قوما بالعراق يزعمون أني أمرتهم بذلك([30])؛ فأخبرهم أني أبرأ إلى الله تعالى منهم، والله بريء منهم، والذي نفس محمد بيده، لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، لا نالتني شفاعة محمد إن لم أكن أستغفر الله لهما، وأترحم عليهما، إن أعداء الله غافلون عنهما. وعن بسام الصيرفي قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر فقال: والله إني لأتولاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما.
وعن زيد بن علي أنه قال: كان أبو بكر إمام الشاكرين، )وسيجزي الله الشاكرين (144)( (آل عمران).
عن عبد الجبار بن العباس الهمداني، أن جعفر بن محمد الصادق أتاهم وهم يريدون أن يرتحلوا من المدينة فقال: إنكم إن شاء الله من صالحي أهل مصركم، فأبلغوا عني من زعم أني إمام معصوم مفترض الطاعة، فأنا منه بريء. ومن زعم أني أبرأ من أبي بكر وعمر، فأنا منه بريء، وعن سالم بن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال له: يا سالم تولهما وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدي، ثم قال جعفر: أيسب الرجل جده؟ أبو بكر جدي، لا نالتني شفاعة محمد – صلى الله عليه وسلم – يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما.
وعن جعفر بن محمد أنه كان يقول: ما أرجو من شفاعة علي شيئا، إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله، لقد ولدني مرتين، وعنه – رحمه الله – أنه سئل عن أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما -، فقال: إنك تسألني عن رجلين قد أكلا من ثمار الجنة، وعنه أيضا أنه قال: برئ الله ممن تبرأ من أبي بكر وعمر”([31]).
فهذا هو مقدار أبي بكر، وذلك هو بلاؤه وسبقه، فهل يشكك في شيء من هذا منصف أو عاقل؟!
ثانيا. جهود أبي بكر الصديق في مجال الدعوة الإسلامية:
إن تتبع جهد أبي بكر في الدعوة من خلال الروايات الموثوق بها يطلعنا على الصورة الحقيقية له بوصفه أحد من قامت الدولة الإسلامية على أكتافهم.
فقد كان أبو بكر – رضي الله عنه – أول من أسلم من الرجال، ومنذ اللحظة الأولى الإسلامية علم ثقل الأمانة التي حملها ووطن نفسه على الصبر والمصابرة.
يقول د. الصلابي: “أسلم الصديق – رضي الله عنه – وحمل أمانة الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الإسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن الايمان لا يكمل حتى يهب المسلم نفسه وما يملك لله رب العالمين، قال تعالى: )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162)( (الأنعام)، وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة، وكثير البركة أينما تحرك، حقق مكاسب عظيمة للإسلام، وقد كان نموذجا حيا في تطبيقه لقول الله تعالى: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125)( (النحل).
كان تحرك الصديق – رضي الله عنه – في الدعوة إلى الله – عزوجل – يوضح صورة من صور الإيمان بهذا الدين والاستجابة لله ورسوله، صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، وقد استمر أبو بكر – رضي الله عنه – في دعوته إلى الله ونشاطه وحماسه لنشر الإسلام إلى أن توفاه الله، وكان دائما يقول: “أينقص الدين وأنا حي”؟ لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز.
وكانت أول ثمار الصديق الدعوية دخول صفوة من خير الخلق في الإسلام وهم: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم، وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى، فأسلموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهم أعزه الله وأيده، وتتابع الناس يدخلون في دين الله على أيديهم أفواجا رجالا ونساء، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد والاثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة، لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام. واهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبد الله وزوجته أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة.
لقد كانت الصفات الحميدة والخلال العظيمة والأخلاق الكريمة التي تجسدت في شخصية الصديق عاملا مؤثرا في الناس عند دعوتهم للإسلام، فقد كان رصيده الخلقي ضخما في قومه وكبيرا في عشيرته، فقد كان رجلا، مؤلفا لقومه، محببا لهم، سهلا، أنسب قريش لقريش، بل كان فرد زمانه في هذا الفن، وكان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال، وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد، وكان رجلا بليغا([32]).
ولم تتوقف جهود أبي بكر الدعوية على الدعوة الفردية بلسانه، بل وقف ماله للدعوة والجهاد في سبيل الله، وقد مر بيان صور من هذا، قال تعالى: )وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتي ماله يتزكى (18) وما لأحد عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20) ولسوف يرضى (21)( (الليل).
قال الإمام القرطبي: “والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي الله عنه “، فأي منقبة أعظم من هذه المنقبة، وأي وسام أغلى من هذا الوسام؟
فعن عبد الله بن الزبير أنه قال: «قال أبو قحافة لأبي بكر: أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا ([33]) يمنعونك ويقومون دونك. فقال أبو بكر: يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لما نزلت هذه الآيات فيه: )فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) وما يغني عنه ماله إذا تردى (11) إن علينا للهدى (12) وإن لنا للآخرة والأولى (13) فأنذرتكم نارا تلظى (14) لا يصلاها إلا الأشقى (15) الذي كذب وتولى (16) وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتي ماله يتزكى (18) وما لأحد عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20) ولسوف يرضى (21)( (الليل)» ([34])، أي: سوف يعطيه في الجنة ما يرضى.
وكان عمر رضي الله عنه، يقول: «أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا». يعني بلالا([35]).
أبو بكر حبا في الله مالا
وأعتق في محبته بلالا
وقد واسى النبي بكل فضل
وأسرع في إجابته بلالا
لو ان البحر يقصده ببعض
لما ترك الإله به بلالا
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر – إن سبقته يوما – فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أبقيت لأهلك”؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أبقيت لأهلك”؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقك إلى شيء أبدا»([36]).
ولقد كان – رضي الله عنه – مجاهدا صادقا، ومناصرا فذا للنبي – صلى الله عليه وسلم – صاحب دعوة، وهذا ما تفصح عنه الروايات التاريخية الصحيحة على ما يفصل بيانه الشيخ محمود المصري حيث يقول:
- موقفه العظيم ليلة الهجرة المباركة: ولا ننسى أبدا موقفه العظيم في ليلة الهجرة المباركة، فلقد اجتمع صناديد([37]) قريش في دار الندوة وقرروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يومئذ بمكة، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – للمسلمين: «إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين»([38]) ([39])، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن ([40])، فقال أبو بكر رضي الله عنه: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: “نعم”، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر»([41]).
ولما تم اتخاذ القرار([42]) بقتل النبي – صلى الله عليه وسلم – نزل إليه جبريل بوحي ربه – عزوجل – فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة قائلا: “لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه”، وذهب النبي – صلى الله عليه وسلم – في الهاجرة إلى أبي بكر – رضي الله عنه – ليبرم معه مراحل الهجرة.
قالت عائشة:«لقل يوم كان يأتي على النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا يأتي فيه بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، فلما أذن له في الخروج إلى المدينة لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهرا، فخبر به أبو بكر فقال: ما جاءنا النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل عليه قال لأبي بكر: “أخرج من عندك”، قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي – يعني عائشة وأسماء -، قال: “أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج”، قال: الصحبة يا رسول الله! قال: “الصحبة”، قال: يا رسول الله، إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما، قال: قد أخذتها بالثمن»([43]).
قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت “ذات النطاقين”.
وأوعز الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في هذه الليلة الرهيبة أن يرتدي برده الذي ينام فيه، وأن يتسجى([44]) به على سريره، وفي هجعة([45]) من الليل وغفلة من الحرس، انسل الرسول – صلى الله عليه وسلم – من بيته إلى دار أبي بكر رضي الله عنه، ثم خرج الرجلان من خوخة([46]) في ظهرها إلى غار ثور، إلى الغار الذي استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة، ومستقبل حضارة كاملة، وتركته في حراسة الصمت والوحشة والانقطاع.
وأمر أبو بكر – رضي الله عنه – ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما، ثم يأتيهما في المساء بأخبار ذلك اليوم، واستعان الصديق – رضي الله عنه – بعامر بن فهيرة؛ ليرعى غنمه في النهار، ثم يريح عليهما في المساء بالغنم؛ فيحلبا ويأكلا.
وانطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطرق، ويفتشون كل مهرب، وراحوا ينقبون جبال مكة وكهوفها، حتى وصلوا قريبا من غار ثور، وأنصت الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم، فأخذ الروع أبا بكر، وهمس يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن رفع أحدهم قدمه لرآنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما»([47])؟! وتدبروا معي كيف حال أبي بكر – رضي الله عنه – مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أثناء الهجرة، وكيف كان خوفه عليه.
وجاء عن ابن مليكة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي – صلى الله عليه وسلم – مرة، وخلفه مرة، فسأله النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك، فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك. ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله، لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه([48])، ووجد في جانبه ثقبا، فشق إزاره وسده به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فدخل رسول الله ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك؛ مخافة أن ينتبه رسول الله، فسقطت دموعه على وجه رسول الله، فقال: “ما لك يا أبا بكر”؟ قال: لدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذهب ما يجده([49]).
هكذا كان أبو بكر – رضي الله عنه – يتمنى أن يفدي الحبيب – صلى الله عليه وسلم – بنفسه وماله وبكل ما يملك… وهذا هو كمال الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أبا بكر خرج مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو لا يريد الجاه ولا الوزارة، وإنما خرج ابتغاء وجه الله، وهو يعلم يقينا أن سيوف المشركين تنتظره بالخارج، وعلى الرغم من ذلك خرج ليفوز بشرف الصحبة. يقول عمر – رضي الله عنه – «ليلة من أبي بكر خير من آل عمر – يقصد ليلة الغار – الدهر كله»([50]).
فالهجرة حدث عظيم لا ينسى أبدا، فهي لم تكن مجرد هروب من بلد إلى بلد آخر، وإنما كانت خطوة لإقامة دولة للمسلمين يمكن فيها لدين الله عزوجل.
فهنيئا لأبي بكر هذا الشرف العظيم الذي ناله بصحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – في هجرته من مكة إلى المدينة.
- موقفه العظيم يوم بدر: لقد شهد أبو بكر – رضي الله عنه – مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المشاهد كلها وثبت معه ثباتا لا نظير له، ففي يوم بدر استشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أصحابه، فتكلم أبو بكر – رضي الله عنه – فأجاد، وكانت المعركة. يقول علي رضي الله عنه:«أشجع الناس أبو بكر؛ إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – عريشا، فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يقوى إليه أحد من المشركين فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه»([51]).
وعن ابن سيرين أن عبد الرحمن بن أبي بكر كان يوم بدر مع المشركين!! فلما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت – أشرفت – إلي يوم بدر، فانصرفت عنك، ولم أقتلك، فقال أبو بكر: “لكنك لو أهدفت لي لم أنصرف عنك”. ففي هذه المعركة التقي الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهم المبادئ ففصلت بينهم السيوف، وفي عصرنا هذا قاتل الشيوعيون مواطنيهم ومزقوا أغلى الأواصر الإنسانية في سبيل ما يعتقدون، فلا عجب إذا رأيت الابن المؤمن يغاضب أباه الملحد، ويخاصمه في ذات الله، والقتال الذي دار بـ “بدر” سجل صورا من هذا النوع الحاد: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابنه عبد الرحمن يقاتله مع أبي جهل، وهذه صورة عالية من الولاء والبراء.
قال تعالى: )قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)( (التوبة)، وقال تعالى: )لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون (22)( (المجادلة).
الصديق – رضي الله عنه – من الذين استجابوا لله وللرسول يوم أحد: قالت عائشة – رضي الله عنها – لعروة في قوله تعالى: )الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172)( (آل عمران)، قالت: يا ابن أختي، كان أبواك منهم – الزبير وأبو بكر – لما أصاب رسول الله ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا قال: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا: كان فيهم أبو بكر والزبير.
- ثباته – رضي الله عنه – في باقي المشاهد: قال ابن القيم: وثبت أبو بكر – رضي الله عنه – ثبوت الجبال يوم أحد حول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدافع. وبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سرية إلى بني فزارة سنة سبع للهجرة بقيادة أبي بكر رضي الله عنه، فوردت الماء، وغنمت، وسبت، وعادت سالمة.
وفي غزوة تبوك ساعة العسرة كانت راية المسلمين بيد أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – ويوم حنين أعجب المسلمون بكثرتهم فلم تغنهم شيئا، وولوا مدبرين، بعد أن كمن لهم أعداء الله في شعاب الوادي، وكان أول من ثبت حول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبو بكر الصديق رضي الله عنه ([52]).
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر ما تعرض له أبو بكر من أذى قريش بسبب الدعوة إلى الله، “فقد جاء عن عائشة – رضي الله عنها – أنه لما اجتمع أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر – رضي الله عنه – على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الظهور، فقال: “يا أبا بكر، إنا قليل”، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر خطيبا ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين([53]) ويحرفهما([54]) لوجهه، ونزا([55]) على بطن أبي بكر، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تميم يتعاودون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تميم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته.. فما تكلم إلا آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه، أكب عليه رسول الله فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي([56]).
وبعد.. فهذا أبو بكر وجهاده وبلاؤه، وهذه تضحياته وجهوده، فرحمه الله ورضي عنه.
الخلاصة:
- لأبي بكر – رضي الله عنه – مكانة عظيمة في الإسلام؛ فسبقه وجهاده معروفان، ومناقبه في الإسلام كثيرة، وخصائصه مرموقة، فهو ثاني اثنين إذ هما في الغار، وهو رفيق الهجرة، وخليفة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة والحج، وأحب الناس إليه، وهو – تتويجا لكل هذا – مدعو يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية.
- إن تتبع جهود أبي بكر في الدعوة – من الروايات الموثوق بها – يطلعنا على الصورة الحقيقية له بوصفه أبرز من قامت على أكتافهم دولة الإسلام الناشئة؛ فقد كان – رضي الله عنه – أول المستجيبين للإسلام من الرجال، وعلى يده أسلم كثير من الرعيل الأول، ثم انتشر الإسلام بعد ذلك على أيديهم جميعا.
- ولم يكتف أبو بكر بهذا الجانب، فكانت له قدم راسخة في الجهاد بالمال والنفس إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى توفي وهو عنه راض.
(*) موجز دائرة المعارف الإسلامية، فريق من المستشرقين، مركز الشارقة للإبداع الفكري، 1418هـ/ 1998م.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه إلى المدينة (3691)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق (6322).
[2]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده باقي مسند الأنصار، حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم (23293)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (3662)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1233).
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : “لو كنت متخذا خليلا” (3467).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : “لو كنت متخذا خليلا” (3468).
[5]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب منه (3679)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة، باب ذكر السبب الذي من أجله سمي أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ عتيقا (6864)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1574).
[6]. الهنة: شر أو فساد.
[7]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص11، 12 بتصرف.
[8]. تركه له: أي طلب تركه له.
[9]. أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب فضائل الصحابة،باب قول النبي لو كنت متخذا خليلا(3416).
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب فضائل الصحابة،باب قول النبي لو كنت متخذا خليلا(3475).
[11]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، خرج أحاديثه وعلق عليه: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج8، ص222 بتصرف.
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم ( 3453)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق (6319)، واللفظ له.
[13]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، خرج أحاديثه وعلق عليه: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص200.
[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه إلى المدينة (3692)، وفي مواضع أخرى.
[15]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، خرج أحاديثه وعلق عليه: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص209 بتصرف يسير.
[16]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، خرج أحاديثه وعلق عليه: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص220، 221 بتصرف يسير.
[17]. ما نفعني: أي مثل ما نفعني.
[18]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (7439)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة، باب ذكر البيان بأن المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما انتفع بمال أحد ما انتفع بمال أبي بكر رضي الله عنه (6858)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (10747).
[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب المساجد،باب الأبواب والغلق للكعبة ولمساجدالمدينة (454)، ومسلم في صحيحه،كتاب فضائل الصحابة،باب فضائل أبي بكر(6320).
[20]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، خرج أحاديثه وعلق عليه: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص286.
[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله (422).
[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب المساجد، باب الخوخة والممر في المسجد (454)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضل أبي بكر الصديق (6320).
[23]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (7439)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة، باب ذكر البيان بأن المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما انتفع بمال أحد انتفع بمال أبي بكر رضوان الله عليهم (6858)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (10747).
[24]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، خرج أحاديثه وعلق عليه: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص289: 292 بتصرف.
[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : “لو كنت متخذا خليلا” (3461).
[26]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12656)، وأبو يعلي في مسنده، مسند محمد بن سيرين عن أنس (2831)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (496).
[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة ذات السلاسل (4100)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق (6328).
[28]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب النبي صلى الله عليه وسلم “لو كنت متخذا خليلا” (3466)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، باب من جمع الصدقة وأعمال البر (2418).
[29]. أصحاب الرسول، محمود المصري، دار التقوى، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ج1، ص58، 59 بتصرف يسير.
[30]. يقصد: النيل من أبي بكر وعمر والطعن فيهما.
[31]. فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2005م، ص255، 256 بتصرف يسير.
[32]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص38، 39 بتصرف يسير.
[33]. الجلد: جمع جلد، وهو الشديد.
[34]. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة، باب سئل عن فضائل أبي بكر الصديق رحمة الله عليهم ورضوانه (66)، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، تفسير سورة ) والليل إذا يغشى (1) ( (الليل) (3942).
[35]. أخرجه البخاري في صيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح مولى أبي بكر (3544).
[36]. حسن: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الزكاة، باب في الرخصة في ذلك “خروج الرجل من ماله” (1680)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (3675)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1472).
[37]. الصناديد: جمع صنديد، وهو الشديد أو السيد المتغلب.
[38]. اللابتين: مثنى اللابة، وهي الأرض ذات الحجارة السود.
[39]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه إلى المدينة (3692)، وفي مواضع أخرى.
[40]. أي: في الصحبة.
[41]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الكفالة، باب جوار أبي بكر في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقده (2175)، وفي موضع آخر.
[42]. القرار: يقصد به قرار المشركين في مكة.
[43]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب إذا أشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع أو مات قبل أن يقبضن (2031).
[44]. يتسجى: يتغطى.
[45]. الهجعة: النومة الخفيفة من أول الليل.
[46]. الخوخة: باب صغير كالنافذة الكبيرة تكون بين بيتين ينصب عليها باب.
[47]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة براءة (التوبة) (4386)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق (6319).
[48]. كسحه: مسحه.
[49]. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ / 1998م، ص164.
[50]. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الفضائل، باب ما ذكر في أبي بكر الصديق رضي الله عنه (31957)، والحاكم في مستدركه، كتاب الهجرة (4268).
[51]. أخرجه البزار في مسنده، مسند علي بن أبي طالب (761)، والهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المناقب، باب جامع في فضله (14333).
[52]. أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، محمود المصري، دار التقوى، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ج1، ص65: 69 بتصرف.
[53]. مخصوفتين: الخصفة هي قطعة مما تخصف النعل، أو هي كل طبقة من النعل.
[54]. يحرف: يميل.
[55]. نزا: وثب.
[56]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص40، 41 بتصرف يسير.