التشكيك في تاريخ ميلاد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأحداث حياته قبل البعثة
وجوه إبطال الشبهة:
1) لم يسجل القرآن تاريخ ميلاد النبي – صلى الله عليه وسلم – وتفاصيل حياته قبل البعثة؛ لأن القرآن ليس سجلا لرصد بيانات الأحوال الشخصية، ثم إن أقدار الرجال تقاس بإنجازاتهم وآثارهم لا بتواريخ ميلادهم، فضلا عن أن الاختلاف في تاريخ ميلاده – صلى الله عليه وسلم – يعد ظاهرة طبيعية في معظم أحداث العالم القديم، وقد وقعت لغيره من الأنبياء كعيسى عليه السلام.
2) ولادة النبي – صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل ثابتة تاريخيا، ومجمع عليها، ولم يكن آنئذ قتال بين الفرس والأحباش، وإنما قضى الفرس على الأحباش عام 575م.
3) حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة معروفة التفاصيل، وقد نقلها الرواة وكتاب السير بطرق صحيحة ومتواترة.
التفصيل:
أولا. القرآن ليس كتاب تاريخ لحياة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا سجلا لرصد الأحوال الشخصية:
لم يسجل القرآن تاريخ ميلاد النبي – صلى الله عليه وسلم – وتفاصيل حياته قبل البعثة؛ لأن القرآن ليس سجلا لرصد بيانات الأحوال الشخصية، كما أن أقدار الرجال لا تقاس بتواريخ ميلادهم، وإنما تقاس بإنجازاتهم وآثارهم، وكذلك فإن هذا الاختلاف في تاريخ الميلاد النبوي ظاهرة طبيعية في ذلك الزمان وقد وقعت لغيره من الأنبياء كعيسى – عليه السلام -.
ويخطئ من يظن أن القرآن لا بد أن يحتوي على كافة المعلومات التاريخية مهما كانت بعيدة عن موضوعه وهدفه، فالقول بأن القرآن الكريم قد أغفل ذكر تاريخ مولد النبي – صلى الله عليه وسلم – وحالة أسرته، وحياته قبل البعثة – اللهم إلا ما ذكره من أنه كان يتيما وأن الله عصمه من الخطأ، وأنه أغناه بعد فقره – قول يدعو إلى العجب؛ لأن القرآن الكريم أنزل إلى الناس باعتبار أنه كتاب جامع لتعاليم الإسلام وجوانبه المتعددة، لا باعتبار أنه كتاب تاريخ لحياة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن الذي حدا بهؤلاء أن يرتكبوا هذا الشطط، هو مضيهم مع عقيدتهم الموروثة، تلك العقيدة التي تزعم أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان مدعيا للنبوة، وأنه لم يكن نبيا يوحى إليه، وأن محمدا كتب القرآن بيده؛ ولهذا يعاب عليه أن يغفل مثل هذه الإشارات عن حياته.
ولو حكم هؤلاء المتوهمون العقل؛ لعلموا أن هذا دليل على أن هذا الكتاب ليس من صنع البشر، ولكنه كلام رب البشر.
وإذا كان هؤلاء يعيبون على القرآن أنه لم يذكر تفاصيل حياة محمد – صلى الله عليه وسلم – ويتخذون هذا ذريعة للتشكيك فيها، فهل ذكرت التوراة تفاصيل حياة موسى – عليه السلام – وتاريخه، غير ما كتبه خلفاؤه بعد وفاته؟ وهل ذكر الإنجيل تفاصيل حياة عيسى – عليه السلام – في كل ما قاله؟ وهل يستطيع أحد هؤلاء أن يأتينا بكتاب ديني واحد يذكر حياة الرسول الذي جاء به بكل تفاصيلها؟!
غاية ما في الأمر: إن اعتبرت هذه الإغفالات عيوبا فهي كذلك بالنسبة لكتاب وضعه صاحبه لبيان تاريخه الشخصي، ولكنها لا تعيب كتابا وضع للناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور إلى يوم الدين[1].
الاختلاف في تاريخ ميلاد النبي – صلى الله عليه وسلم – ظاهرة طبيعية في ذلك الزمان:
ثم إن تاريخ الميلاد – في ذاته – ليس شيئا جليلا بقدر جلالة الميلاد نفسه، لقد ولد الهدى، وأذن الله للنور أن يغمر الدنيا، ولا يضرنا بعد أن يكون الهدى وليد أمس، أو قبل أمس.
ثم إن الاختلاف في أعوام وأشهر الميلاد والوفاة أمر معترف به بين علماء التاريخ، وكان ذلك شأنا لكل الأحداث في العالم القديم، وهذا الاختلاف نجده في سنة ميلاد عيسى – عليه السلام – فبينما يحدده متى في زمن هيردوس الكبير – أي قبل سنة 4 ق. م -، يحدده لوقا في زمن كيرينيوس والي سوريا – أي ليس قبل سنة 6م أو 7 م، أي أن هناك 10 سنوات – تقريبا – فرقا في تحديد زمن الميلاد.
ولنا أن نتساءل:
ماذا تقولون في قول متى: إن يسوع انحدر من سليمان بن داود، وقول لوقا: إنه من ناتان بن داود الأخ الشقيق لسليمان؟
وماذا تقولون في اسم خطيب أم الإله – كما تزعمون – الذي سماه متى: يوسف بن يعقوب، وسماه لوقا: يوسف بن هالي؟
وعليه فكيف يطلب من قوم بيننا وبينهم أكثر من ألف وأربعمائة عام – ولا يعرفون القراءة والكتابة – سجل بالأحداث التاريخية، وإن كان ما أتوا به أقصى ما يطلب منهم؛ إذ إننا – مع كوننا في عصر الحاسوب والسجلات وغيرهما – إذا مضى على تاريخ وفاة شخص منا عشرة أعوام اندثرت آثاره وكأنه لم يكن؟!
إن المؤرخين يعلمون أن العرب كانت تؤرخ للسنين بالأحداث العظيمة، فكانت تؤرخ بموت قصي بن كلاب لجلالته، فلما كان عام الفيل أرخت به لأهميته؛ إذ لو تغلب أبرهة على قريش، وتم له هدم الكعبة؛ لدخلت الديانة المسيحية مكة وأرغمت العرب على اعتناقها، ومن ثم فلا توجد أي غضاضة في أن يختلف المؤرخون في تحديد تاريخ مولده – صلى الله عليه وسلم – بدقة متناهية؛ لأن هذه الدقة المتناهية لا يمكن أن يوصف بها أي حدث في ذلك الوقت من الزمان، وحسبنا أن يكون الاختلاف حول مولده – صلى الله عليه وسلم – لا يتجاوز أياما فحسب، لا في شهور وأعوام كغيره من الحوادث.
ثانيا. ولادة النبي – صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل ثابتة تاريخيا، ولم يكن آنئذ قتال بين الفرس والأحباش، وإنما قضى الفرس على الأحباش سنة 575م:
لا يوجد خلاف بين العلماء والمؤرخين في أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولد عام الفيل الذي وقعت فيه تلك المعجزة الباهرة التي كانت إرهاصا بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم. وقبل الحديث عن إجماع المؤرخين وعلماء السير على أن مولد النبي – صلى الله عليه وسلم – كان في عام الفيل، لا بد أن نشير إلى هذا الحدث العظيم كما روته كتب السيرة، وهذه خلاصته:
لما ملكت الحبشة اليمن وصار الملك إلى أبرهة، بنى كنيسة عظيمة بصنعاء يقال لها “القليس”، وقصد أن يصرف حج العرب إليها ويبطل الكعبة، فلما تحدث العرب بذلك غضب رجل من النسأة[2].
فخرج حتى أتى القليس وتغوط[3] فيها ليلا، ثم خرج فلحق بأرضه، فلما أخبر بذلك أبرهة غضب، وحلف ليسيرن إلى البيت الحرام حتى يهدمه، وسمي هذا العام بـ “عام الفيل”، وأرسل أبرهة أحد أتباعه إلى مكة، وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، فسأل فقيل له: عبد المطلب، فقال له: إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم، وإنما جئت لهدم هذا البيت. فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربا، ولا لنا بذلك طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم، فإن لم يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينك وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه، ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز بالجبال والشعاب تخوفا عليهم من جيش أبرهة، وقد كانوا أكثر من قريش عددا، فلما تهيأ أبرهة لدخول مكة، وهيأ فيله الأعظم “محمودا”، وهو مجمع على هدم البيت، فكانوا كلما وجهوا الفيل إلى مكة برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى سائر الجهات قام يهرول، وبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر، مع كل طائر ثلاثة أحجار، واحد في منقاره واثنان في رجليه فتقذفهم بها، لا تصيب أحدا منهم إلا هلك، وأصيب أبرهة بتساقط أعضائه، ثم قدموا به صنعاء، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه.
ونظرا لأهمية هذا الحادث صار العرب يؤرخون به؛ إذ لو تغلب أبرهة على قريش، وتم له هدم الكعبة لأدخلت الديانة المسيحية مكة، وأرغم العرب على اعتناقها، وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصي بن كلاب لجلالة قصي، فلما كان عام الفيل أرخت به[4].
إجماع الرواة وعلماء السير على ميلاد النبي – صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل:
هناك العديد من الروايات التي تثبت ميلاد النبي – صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل نذكر منها ما يأتي:
- عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: «ولد النبي – صلى الله عليه وسلم – عام الفيل» [5].
- قال ابن إسحاق: وكان مولده – صلى الله عليه وسلم – عام الفيل، وهذا هو المشهور عند الجمهور، وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: وهو الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا، وقال خليفة بن خياط: والمجمع عليه أنه – صلى الله عليه وسلم – ولد عام الفيل[6].
- وعن أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم: يا قباث، أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكبر مني، وأنا أسن منه، ولد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله.
- وعن محمد بن جبير بن مطعم قال: ولد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عام الفيل؛ وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل، وتنبأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على رأس أربعين من الفيل[7].
ومن ثم فلا خلاف حول مولد النبي – صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل، إذ اتفقت السنة المتواترة على ذلك، وقد شهد بذلك غير المسلمين، فقد ذكر مونتجمري وات في كتابه “محمد في مكة” ما نصه: “ولد محمد – صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل عام حملة أبرهة غير الناجحة على مكة، وكان ذلك في حوالي سنة 570م تقريبا” [8].
وليس من قبيل المصادفة أن يولد النبي – صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل، بل إن ميلاده في هذا العام قدر محتوم، وفي هذا العام الذي ولد فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – من الإرهاصات التي تبشر بنبوته ما لا يستطيع أحد أن ينكرها، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – سيأتي إلى هذا العالم بما يصلحه، ويخبر الناس أن ذلك وحي يوحى إليه من الله – عز وجل – ولما كان الإنسان أكثر شيء جدلا، فإنه لن يقبل بسهولة ما يأتيه به النبي – صلى الله عليه وسلم – من الأمور التي من شأنها أن تصلحه، وإنما تأخذه اللجاجة[9] إلى حد أنه يطلب على ذلك دليلا يعرف به صدق هذا النبي في مدعاه، ولن يكون هذا الدليل إلا أمرا خارقا للعادة، متأبيا على النواميس التي من شأنها أن تربط بين الأشياء برباط سببي[10].
وليس في هذا العام من حدث نعلمه سوى ميلاد هذا النبي العظيم – صلى الله عليه وسلم – الذي سيوصف بأنه خاتم النبيين، وستكون دعوته تلك مؤيدة بمثل هذا النوع من خوارق العادات.
ومن ثم فإننا نقول: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد ولد في عام الفيل بيقين، ليكون هذا الحدث تمهيدا لنبوته – صلى الله عليه وسلم – وهو إرهاص قد شهده – على مرأى العين – شيوخ وفتيان وصبيان، وكثير منهم سيعيش ليشهد نبوة هذا النبي العظيم، وما يظهر على يديه من معجزات حسية ومعنوية تؤكد صدق ما ادعاه، فلننظر إلى هذا المولد باعتباره حدثا عظيما في عام متميز، بل في زمان متميز[11].
وعليه فلا مجال للتشكيك أو الطعن في مولد النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا العام، الذي عظمته العرب وسمته عام الفيل، الموافق لعام 570 من ميلاد المسيح عليه السلام. أو عام 571 على ما رجحه العلامتان محمد سليمان المنصور فوري، ومحمود الفلكي باشا[12].
وإلى جانب هذا نجد المدة الفاصلة بين حملة أبرهة على الكعبة، وغزو الفرس لليمن كبيرة؛ إذ لم يقض تماما على الأحباش إلا عام 575م، أي: بعد عام الفيل بخمسة أعوام، فكانت حملة الأحباش على مكة في وقت متقدم عن صدامهم مع الفرس.
وهنا لا بد أن نشير إلى حقيقة هامة تتعلق بتأريخ الأحداث في العالم القديم، إذ قد يختلف تأريخ بعض الأحداث، كأحداث الميلاد والوفاة والحروب، وهذا الاختلاف معترف به بين علماء التأريخ العرب وغيرهم من المؤرخين.
والمتأمل في المدة التي كانت بين عام الفيل الذي كانت فيه حملة أبرهة على الكعبة، وغزو الفرس لليمن، ومساعدة سيف بن ذي يزن في القضاء على الأحباش، يجدها مدة كافية للاستعداد لقتال الفرس ومواجهتهم، فبعد عودة أبرهة مثقلا بجراحه إلى اليمن – بعد الذي أصاب جيشه من الطير الأبابيل في مكة حتى صاروا بين قتيل وجريح – ظل عدة أيام يعاني جراحه، ثم مات من الجراح، وقد تولى الملك بعده ابنه يكسوم، الذي كان يكنى به أبرهة، وبعد موت يكسوم – الذي لم تطل مدة حكمه – تولى الملك أخوه مسروق بن أبرهة، الذي تولى قتله “وهرز” قائد الفرس في غزوه لليمن، وبمقتل مسروق بن أبرهة سقط ملك الأحباش في اليمن.
وعن مدة ملك الأحباش لليمن يقول ابن إسحاق: “وكان ملك الحبشة باليمن – فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأخرجت الحبشة – اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة” [13].
ومن ثم فإن القول بأن المدة بين حملة أبرهة على الكعبة وبين غزو الفرس لليمن غير كافية لحكم أولاد أبرهة الذين قاتلهم الفرس، هو قول لا يفتقد إلى الدليل فحسب، بل إن الأدلة التاريخية الموجودة – والتي سبق ذكرها – خلافه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الملوك هم مثل سائر البشر، ينتهي ملكهم بموتهم، وهذا أمر يتفاوت بين القصر والطول، فلا عجب أن نجد بعضهم قد ظل ملكه عشرات السنين، وبعضهم لم يدم ملكه إلا عدة أشهر، بل لا نبالغ إذا قلنا إن بعض الملوك لم يدم ملكه إلا بضعة أيام، ومن ثم فلا مجال للطعن في كون النبي – صلى الله عليه وسلم – قد ولد في عام الفيل، إذ لم يقض على الحبشة قضاء تاما إلا عام 575م، أي بعد عام الفيل بخمسة أعوام[14]، وهي مدة كافية لحكم أولاد أبرهة.
ثالثا. حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة معروفة التفاصيل، وقد نقلها الرواة وكتاب السير بطرق صحيحة متواترة[15]:
لقد أفاضت كتب السيرة في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته[16]، واعتمدت على سيل من الأخبار الصحيحة المتواترة، ومن ذلك:
أن السيدة آمنة حين وضعته – صلى الله عليه وسلم – خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى بالشام، وقد اهتز لميلاده إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة، وقد ولد – صلى الله عليه وسلم – جاثيا على ركبتيه معتمدا على يديه، رافعا رأسه إلى السماء، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها، وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم.
وكانت أولى من أرضعنه – صلى الله عليه وسلم – هي أمه، ثم أرضعته ثويبة جارية عمه أبي لهب، ثم أرضعته حليمة السعدية – وهي من قبيلة بني سعد – وقد مكث عندها سنتين، ثم عادت به كي تراه أمه، فما إن رأته وملأت عينيها منه حتى احتضنته وقبلته، وسرها ما رأته عليه من علامات الصحة، والنضارة، والنمو، وتوسلت حليمة إلى أمه أن ترجعه معها حتى يكبر، فإنها تخشى عليه وباء مكة، وما زالت بها حتى قبلت، ثم عادت به بعد سنتين، وهي بادية القلق، شديدة التخوف عليه، حتى أحست ذلك منها السيدة آمنة، فسألتها عن سبب ذلك، فأنكرت أن يكون هناك شيء، ثم لم تلبث أن أخبرتها بقصة الملكين اللذين جاءا إليه، وهو في غنم لهم مع أخيه السعدي، فشقا صدره، فطمأنتها أمه أنه لا سبيل للشيطان عليه، وأنه سيكون له شأن، وقالت لها: دعيه عنك، وانطلقي راشدة.
وكانت الشيماء أخته من الرضاعة تقول:
يا ربنا أبق لنا محمدا
حتى أراه يــافـعــا وأمـردا
ثم أراه سيدا مســـودا
واكبت أعاديه معا والحسدا
وأعطه عزا يدوم أبدا
ولما بلغ النبي السادسة من عمره ارتأت أمه أن تذهب به إلى أخوال جده عبد المطلب بالمدينة من بني النجار، ليرى هؤلاء الأخوال الكرام، وليزور قبر أبيه الذي لم يره، وفي طريق العودة بين المدينة ومكة مرضت الأم، ووافتها المنية، ودفنت بقرية “الأبواء”، وجلس الابن يذرف الدمع سخينا على فراق أمه، التي كان يجد في كنفها الحب والحنان، والسلوى والعزاء عن فقد الأب، وهكذا شاء الله – عز وجل – للنبي صلى الله عليه وسلم – ولما يجاوز السادسة – أن يذوق مرارة فقد الأبوين.
وبعد موت أم النبي – صلى الله عليه وسلم – كفله جده عبد المطلب وضمه إليه، ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، ثم بعد وفاة جده كفله عمه أبو طالب، وقد أحب أبو طالب ابن أخيه محمدا حبا شديدا، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه.
وقد اشتغل النبي – صلى الله عليه وسلم – في صباه برعي الغنم، فرعاها لأهله، ورعاها لبعض أهل مكة.
ولما بلغت سنه – صلى الله عليه وسلم – الثانية عشرة خرج عمه أبو طالب في تجارة له إلى الشام، فتعلقت نفس ابن أخيه به، ورغب في مصاحبته، فرق له عمه واستصحبه معه حتى وصل الركب إلى بصرى من بلاد الشام، وكان بها راهب يقال له “بحيرا” عنده علم بالكتب السماوية السابقة، وقد علم منها أنه نبي آخر الزمان وأنه من العرب.
ولما بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – أربع عشرة سنة شهد حرب الفجار، وكانت بين قريش وغيرها من قبائل كنانة وأحلافها، وبين قيس وأحلافها، وقد حضر النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه الحرب مع أعمامه، قيل: كان يرمي معهم، وقيل: كان ينبل لهم.
ولما ناهز النبي – صلى الله عليه وسلم – الخامسة والعشرين من عمره أرسلت إليه السيدة خديجة، فلما جاء إليها قالت له: دعاني إلى طلبك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، فذكر ذلك لعمه أبي طالب، فقال له: إن هذا لرزق ساقه الله إليك، ثم خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – بتجارة خديجة إلى الشام، وباع النبي – صلى الله عليه وسلم – التجارة وابتاع، وعاد بربح وفير.
ولما رأت خديجة ربحها الوفير سرت منه – صلى الله عليه وسلم – وأرسلت إليه تخطبه لنفسها وكانت سنها نحو الأربعين، وهي من أوسط قريش حسبا وأوسعهم مالا، فقام – صلى الله عليه وسلم – مع أعمامه حتى دخل على عمها عمرو بن أسد فخطبها منه بواسطة عمه أبي طالب فزوجها عمها.
وعاش النبي هذه الفترة من حياته قبل النبوة، وهو في طمأنينة وراحة نفسية، بفضل السيدة الودود الولود خديجة – رضي الله عنها -، ورزقه الله منها البنين والبنات، وقد مات ولداه: القاسم، وعبد الله وهما لا يزالان في المهد.
وكانت حياته – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة حياة فاضلة شريفة، لم تعرف له فيها هفوة، ولم تحص عليه فيها زلة، لقد شب رسول الله يحوطه الله – عز وجل – بعنايته، ويحفظه من أقذار الجاهلية؛ لما يريد له من كرامته ورسالته، حتى صار أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزها وتكرما حتى صار معروفا بالأمين[17].
ومن ثم فلم تكن حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – في طفولته وشبابه قبل البعثة غامضة لا يعرفها أحد كما يزعمون.
الخلاصة:
- لم يسجل القرآن تاريخ ميلاد النبي – صلى الله عليه وسلم – وتفاصيل حياته قبل البعثة؛ لأن الله أنزله – أي القرآن – هداية للناس، وتفصيلا لأحكام الإسلام وتعاليمه، ولم ينزله كتاب سيرة ذاتية لمحمد – صلى الله عليه وسلم – ثم إن تسجيل مثل تلك التفاصيل لا فائدة منه كبيرة؛ إذ إن أقدار الرجال لا تقاس بتواريخ ميلادهم، وإنما بإنجازاتهم وآثارهم، ثم إن الاختلاف حول يوم مولد النبي – صلى الله عليه وسلم – اختلاف طبيعي في كافة الأحداث القديمة، وهو أمر وارد عند علماء التاريخ، وقد وقع اختلاف أكبر في تواريخ ميلاد بعض الأنبياء كعيسى – عليه السلام – وغيره.
- ولادة النبي – صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل ثابتة تاريخيا، بل هي من الأمور المجمع عليها بين أصحاب السير، ولم يكن آنئذ قتال بين الفرس والأحباش، بل وقع القتال بعد موت أبرهة، وفي ولاية ابنه الثاني مسروق؛ حيث أخرج الفرس الأحباش من اليمن وقضوا على ملكهم سنة 575م.
- إن الخلاف الحاصل – إن جاز أن نسميه خلافا – إنما هو اختلاف في تحديد السنة الشمسية التي تقابل عام الفيل، هل هي 570م أو 571م، ولا ينبغي أن يتصوره واهم على أنه في وقوع مولد النبي – صلى الله عليه وسلم – في عام الفيل أو لا، فهذا ما لم نسمع أحدا يشكك فيه قبل هؤلاء!!
- حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – معروفة التفاصيل، وقد نقلها الرواة وكتاب السير بطرق صحيحة ومتواترة، بداية من إرهاصات مولده – صلى الله عليه وسلم – وحتى إرهاصات بعثته ونزول الوحي عليه، وهذا الجزء من سيرته – صلى الله عليه وسلم – يحتل دائما مكانا ثابتا في كتب السير كلها، فلا مجال للقول بغموض تفاصيل تلك الفترة من حياته صلى الله عليه وسلم.
(*) مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، مصر، 1415هـ/ 1995م. موجز دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة مستشرقين، مركز الشارقة للإبداع الفكري، الإمارات العربية المتحدة، 1418هـ/ 1988م.
[1]. مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، مصر، 1415هـ/ 1995م، ص70: 73 بتصرف.
[2]. النسأة: من يقومون بتأخير الشهر الحرام عن موعده في الموسم في مكة.
[3]. تغوط: أحدث؛ أي: قضى حاجته.
[4]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص17، 18 بتصرف.
[5]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، باب العين، أحاديث عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف (12432)، والحاكم في مستدركه، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، ذكر أخبار سيد المرسلين وخاتم النبيين (4145)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3152).
[6]. السيرة النبوية، ابن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1983م، ج1، ص201: 203 بتصرف.
[7]. دلائل النبوة، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، علق عليه: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص75: 78 باختصار.
[8]. محمد في مكة، مونتجمري وات، ترجمة: عبد الرحمن الشيخ، حسين عيسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 2002م، ص93.
[9]. اللجاجة: شدة الخصومة.
[10]. ولد الهدى، د. طه حبيشي، مكتب الزهراء، مصر، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص17.
[11]. ولد الهدى، د. طه حبيشي، مكتب الزهراء، مصر، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص20، 21 بتصرف.
[12]. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص54. ويلاحظ هنا أن الخلاف الحاصل إنما هو في السنة الشمسية التي تقابل عام الفيل، لا في وقوع مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام الفيل.
[13]. الروض الأنف، السهيلي، دار الفكر، بيروت، 1409هـ/ 1989م، ج1، ص87 بتصرف.
[14]. انظر: الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص25.
[15]. عن صحة أسانيد السيرة النبوية وقوة طرق نقلها وتميز توثيقها وتفصيل وقائعها وأحداثها، انظر: السيرة النبوية: دروس وعبر، د. مصطفى السباعي، دار الوراق، بيروت، ط1، 1998، ص15 وما بعدها.
[16]. انظر مثلا: السيرة النبوية، ابن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1983م، ج1، ص204 وما بعدها. السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق: الشيخ محمد بيومي، دار المحرم للتراث، مصر، ط1، 1416هـ/ 1995م، ج1، ص101 وما بعدها. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص54 وما بعدها. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص173 وما بعدها. السيرة النبوية، د. محمد عبد القادر أبو فارس،، دار الفرقان، الأردن، ط1، 1418هـ/ 1997م، ص99 وما بعدها. السيرة النبوية: دروس وعبر، د. مصطفى السباعي، دار الوراق، بيروت، ط1، 1998، ص35 وما بعدها.
[17]. انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص173: 235.