التشكيك في حكمة بناء الإسلام على خمسة أركان
وجوه إبطال الشبهة:
1) المسلمون لا يمارون في الأحكام التعبدية الثابتة، لإيمانهم بانطوائها على الحكمة، سواء ظهرت لهم أم خفيت عليهم، لأنها شرعت من لدن حكيم عليم.
2) يعتمد الإسلام على خمسة أركان رئيسة هي: الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج, وبجانب هذه الأركان الكبرى توجد مجموعة من الدعائم الأخرى التي لا يتم الإسلام إلا بها ولا غنى عنها في كمال الدين؛ منها ما هو ظاهر للناس، ومنها ما هو خفي لا يعلمه إلا الله.
3) لا هدف لأصحاب هذا الادعاء إلا مجرد الافتراء الكاذب على الإسلام والتشكيك الدائم في تشريعاته وأركانه، فلو زادت هذه الأركان عن خمسة أو قلت لقالوا: لماذا زادت عن الخمسة؟! أو لماذا قلت؟!
التفصيل:
لا شك أن تبييت نية الانتقاد، بل الانتقاص، لدى الناقد يوقعه أحيانا في إثارة تساؤلات هزيلة متهافتة، وافتراض افتراضات عقيمة سقيمة تفضح نواياه وتكشف ستر مراميه، وتظهر بجلاء أنه – في مثل هذه الحالة – لا يكون لغرض الاستفسار بل لمجرد إثارة الغبار، والشبهة التي بين أيدينا نموذج لذلك، ولذلك فإنها تنهار أمام المناقشة العقلية كالتالي:
أولا. المسلمون لا يمارون في الأحكام التعبدية الثابتة:
من بدهيات القول أن المسلمين يؤمنون بأن الإسلام دين سماوي نزل من لدن حكيم عليم على يد رسول أمين، فهم يؤمنون بتعاليمه وأحكامه وتشريعاته جملة وتفصيلا، سواء ظهرت لهم علة هذه الأحكام أم خفيت، وهم يدركون أن الأحكام على الدوام منطوية على الحكمة، لكن قصور عقول البشر حال دون إدراكها أحيانا، المهم أنهم يسلمون بوجودها، أدركوها أم جهلوها.
في هذا المعنى يقول د. القرضاوي: “قد تكون العلة جلية ظاهرة، يدركها كل عاقل بأدنى تأمل. كما في حكمة توريث النساء والصبيان مع الرجال البالغين من تركات موتاهم الأقربين، على خلاف ما كان عليه العرب من قصر الميراث على كل من يقدر على حمل السلاح، ويزود عن حمى القبيلة، فهو وحده الذي يستحق الميراث، وعلى هذا لا يورثون النساء، لأنهن لا شأن لهن في الحرب والدفاع، وكذلك الصبيان الذكور الصغار، فهؤلاء يدافع عنهم ولا يدافعون عن أحد، ولا عن أنفسهم. فجاء القرآن وورث الجميع من آبائهم وآمهاتهم وأزواجهم وغيرهم من العصبيات والأقارب… وكان هذا هو العدل، فإن البنت تمت إلى أبيها وإلى أمها بمثل ما يمت به شقيقها، فلماذا يرث هو وتحرم هي؟ والأب إذا ماتت يرثها، فلماذا لا ترثه؟ والزوج يرث من زوجته، فكيف لا ترث منه؟
ولكن الحكمة أو المقصد الشرعي قد يخفى – إلا على المتأمل – في توريث البنت من أبيها على النصف من شقيقها… فقد يتوقف بعض الناس ويتساءل: لماذا كان نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى، وكل منهما إنسان كامل الأهلية؟ وكلاهما فرع عن أصل واحد، هو الولد المباشر له، ودرجة القرابة واحدة؟! ولكن المتدبر في الأحكام، الذي يربط بعضها ببعض، يتبين له أن تفاوت الأنصبة بين الأبناء والبنات في الميراث من الأبوين، إنما هو نتيجة لتفاوت الواجبات والأعباء المالية المفترضة على كل منهما”[1].
يؤكد هذا المعنى في حسم الشهيد عبد القادر عودة بقوله: “… أما الذين يؤمنون بأن الشريعة من عند الله فليس يصعب عليهم أن يؤمنوا بتوفر الصفات التي ذكرناها في الشريعة، ولو لم يقدم لهم الدليل المادي على ذلك؛ لأن منطقهم يقضي عليهم أن يؤمنوا بتوفر هذه الصفات، فمن كان يؤمن بأن الله خلق السموات والأرض، وسير الشمس والقمر والنجوم، وسخر الجبال والرياح والماء، وأنبت النبات، وصور الأجنة في بطون أمهاتها، وجعل لكل مخلوق خلقه من حيوان ونبات وجماد، نظاما دائمالا يخرج عليه، ولا يحتاج لتغيير ولا تبديل ولا تطور. من كان يؤمن بأن الله وضع قوانين ثابتة تحكم طبائع الأشياء وحركاتها واتصالاتها، وأن هذه القوانين الطبيعية بلغت من الروعة والكمال ما لايستطيع أن يتصوره الإنسان. من كان يؤمن بهذا كله، وبأن الله أتقن كل شئ خلقه، فأولى به أن يؤمن بأن الشريعة بلغت من الروعة والكمال حدا يعجز عن تصوره الإنسان” [2].
فالمسألة تشبه – مع الفارق – مريضا ذهب إلى طبيب خبير موثوق من كفاءته وورعه، فأشار ذلك الطبيب على المريض بضرورة إجراء عملية جراحية، فوافق المريض مطمئنا إلى خبرة الطبيب وحذقه، وأدخل غرفة عمليات. فهل يعقل أو يستساغ من هذا المريض أنه كلما أمسك الطبيب بمشرط أو رفع مقصا؛ لإنجاز جزء من العملية أن يسأله المريض – إن كان في وعيه – عن الحكمة من هذا وعن مدى ثقة الطبيب في سلامة الإقدام على هذه الخطوة أو تلك من خطوات العملية؟!!
والخلاصة أن المسلمين يسلمون بحكمة كون الأركان خمسة، وإن فاتهم إدراك وجه الحكمة في ذلك.
ثانيا. الأركان الخمسة عمد الإسلام:
فهي ركائزه، لكنه يشمل – بالإضافة إليها – تعاليم في جانب المعاملات والأخلاق وغيرها، يقول الأستاذ سعيد حوى عن حديث «بني الإسلام على خمس»[3]: “فقد ذكر هذا الحديث أن بناء الإسلام يقوم على هذه الأركان الخمسة، فإذن هذه الخمسة هي ركائز الإسلام، وليست كل الإسلام، وإن كان الأساس عادة من جنس البناء.
عندما يقول القائل: إن هذا البيت بني على دعائم أربع يعني أن هناك دعائم وفوق هذه الدعائم بناء. وعندما يفهم إنسان من هذا الكلام أنه لا يوجد إلا الدعائم يكون مخطئا، كذلك الذي يتصور أن الإسلام كله هو أركانه هذه الخمسة يكون مخطئا جدا، ويكفي لكي يعرف خطأه أن يفتح القرآن؛ ليراه قد ذكر غير هذه الأشياء الخمسة؛ فذكر أخلاقا وذكر اقتصادا وذكر اجتماعا و ذكر سياسة وذكر سلما وذكر حربا وذكر خيرا وذكر شرا، ويكفي كذلك ليعرف خطأه أن يفتح كتاب فقه؛ ليرى فيه عبادات ومعاملات وقضاء وجهادا وإرثا وزواجا، ويكفي كذلك ليعرف خطأه أن يفتح كتاب حديث جامع كصحيح البخاري؛ ليرى غير العقائد والعبادات أحكام بيع وشراء وأحكام عقود وأحكام سياسة واجتماع وأخلاق؛ إذن هذه الخمسة أركان الإسلام التي يقوم عليها بناؤه وليست كل الإسلام، إذن فالإسلام أساس وبناء: الأساس هو الأركان، والبناء هو أحكام الإسلام في قضايا البشر” [4].
ثالثا. ترى لو كانت أربعة أوستة أكان السؤال ينتفي؟!
يثير الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – هذا التساؤل، ثم يجيب عنه بالنفي متهكما فيقول: “والسؤال الدائر يسقط من تلقاء نفسه، مثل: لماذا كان اسم فلان زيدا ولم يكن عمرا، إنه سؤال يتسلسل إلى ما لانهاية فلا معنى له. ومع ذلك فهناك إجابة مقنعة في هذه القضية قدمها الشيخ الكبير د. عبد الله دراز تدور على هذه العبادات خاصة هي شارات الإسلام ومعالمه التي تميزه عن غيره، وأن غيرها قد يقوم به يهود أو نصارى أو ماديون؛ كمكارم الأخلاق مثلا!! وقد تكون هناك عبادات إسلامية محضة لكنها دون هذه الأركان في الدلالة والقيمة.
ويكمل الشيخ الغزالي تفنيد الشيخ دراز لهذه الشبهة قائلا: وننقل ما قاله الرجل الذكي – يقصد الشيخ عبد الله دراز – فبعد أن تحدث عن الإيمان وأنه عصب الحياة في الدين ومصدر الطاقة الكامنة في أعماله كلها تساءل عن الصلاة والزكاة والصيام والحج، لم ذكرت دون شعب الإسلام الأخرى؟ فقال: لأنها أعظم المظاهر وأوضح العناوين على الإيمان بهذا الدين من حيث هو دين سماوي، لما فيها من الاستسلام لأمر الله؛ لمجرد أنه أمره، دون قصد إلى مصلحة عاجلة من المصالح العامة أو الخاصة، أما ما عداها من الأعمال فليست لها هذه المنزلة في الدلالة على الانتماء إلى الإسلام.
ذلك أن الفروع الدينية منها ما هو باطن، لا اطلاع لنا عليه؛ كالإخلاص والتوكل والرضا ومحبة الخير للغير وسائر ما يبحث عنه علم الأخلاق، وهذا القسم لا يصلح شعارا ولا علامة ظاهرة للمسلمين فضلا عن أن يكون أساسا لشتى العبادات والمعاملات، أما الأعمال الظاهرة في الشريعة فأنواع؛ منها ما يرجع إلى المصالح التي تقتضيها الفطرة، كوسائل الحفاظ على الشخص أو النوع من النظافة والستر وطلب الرزق وابتغاء النسل من طريق شريف، وكالجهاد دفاعا عن النفس أو العرض أو الحق كيف كان.
ومنها ما يرجع إلى المصالح التي تدركها العقول، وتهدي إليها التجارب؛ كقوانين المعاملات وآداب الاجتماع من الصدق والوفاء بالعهد والإقساط في الحكم، وبذل العون للمحتاجين والدعوة للخير والضرب على أيدي المفسدين، وهذان النوعان لا يعد الاستمساك بهما دليلا على إسلام صاحبهما؛ فقد يستمسك بهما من هو على دين باطل ومن لا دين له أصلا؛ استجابة منه لدواعي الفطرة والعقل، دون نظر إلى توجيه سماوي.
بقي قسم العبادات، وأعني بها الأمور التعبيرية التي لها رسوم وأوضاع دينية خاصة، لا تهدى إليها الغرائز ولا العقول؛ كالصلاة المحدودة بأوقاتها وأعدادها وهيئاتها، وكالزكاة المعدودة بأنواعها وأنصبتها ومقاديرها ومواقيتها، وكالصيام المحدود بزمانه وكيفيته، وكالحج، والأضاحي، والكفارات، ونظام التوارث، والعقوبات المقدرة المعروفة بالحدود، ونحو ذلك من الأمور التي لاحظ للاجتهاد في وضعها ولا في تبديلها وتغييرها مهما تغيرت الأحوال والعصور.
فهذه الأمور جديرة بأن تسمى رموزا دينية وشعائر إسلامية، لأنها لا يتعاون فيها مع باعث الدين باعث آخر من غرائز النفس ولا هدايات العقول؛ ولذلك لا يشارك المسلمين فيها أهل دين آخر بصورتها المرسومة في الإسلام. لكن منها ما ليس بواجب قطعي عينا؛ كالأضاحي، ومنها ما لم يقصد وضعه ابتداء، بل علق على وقوع شيء من المخالفة لتعاليم الدين؛ كالحدود والكفارات.
على أن الحدود ونظام المواريث – وإن كانا تعبديين – إلا أنهما من الأمور الموضوعة لإقامة مصالح الدنيا بالقصد الأول، وقد يأخذ بهما من ليس على هذا الدين؛ لما فيهما من المناسبة للعقول. فلم يبق من فروع الدين ما يصلح أن يكون أساسا لشعائر الدين سوى الأركان الأربعة المذكورة في الحديث – مع الشهادتين – لأنها شعائر ظاهرة خاصة بهذا الدين وحده، واجبة وجوبا عينيا، مقصودة للشارع قصدا أوليا، موضوعة لإقامة مصالح الدين أولا وبالذات، ومصالح الدنيا ثانيا وبالعرض؛ فلذلك كانت لها الصدارة على سائر الفروع” [5].
الخلاصة:
يؤمن المسلم بدينه جملة ويتعبد الله بشعائره ويأتمر بأوامره دون أن يسأل بالضرورة عن المقصد والحكمة وراء هذا أو ذاك، فسواء أدرك الحكمة أم جهلها، في الحالتين هو مؤمن مصدق مسلم.
الأركان الخمسة هي أساس بناء هذا الدين كعمد الخيمة، وأبرز معالم هذا الدين وشعبه كأجهزة الجسم الرئيسية، يبني عليها ما عداها. وهذه العمد الخمسة هي خصيصة هذا الدين مميزة له عن سواه، وهي واجبة وجوبا عينيا.
لئن كانت الأركان أربعا أو ستا أو أكثر أو أقل، ما كانت الافتراءات لتنتهي، ولا كانت المماحكة ستنقطع، بل سيتسلسل الأمر إلى ما لانهاية، ما دام الانتقاد والانتقاص هو الغرض والنية المبيتة من وراء الادعاء.
(*) مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط 2، 2004م.
[1]. دراسة في فقه مقاصد الشريعة، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص21، 22.
[2]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ص18، 19.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم (8)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس” (122).
[4]. الإسلام، سعيد حوى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص7 وما بعدها.
[5]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط 2، 2004م، ص18 وما بعدها.