حائر
حائر

التشكيك في صيام مريم العذراء

مضمون الشبهة: يشكك بعض المتوهمين في صيام مريم العذراء، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )فكلي واشربي وقري عينا( (مريم: 26)، قائلين: كيف يتفق هذا مع قوله: )فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا( (مريم: 26). ويتساءلون: كيف يستقيم قول مريم إذا مر بها أحد: )إني نذرت للرحمن صوما(، وهي الآكلة الشاربة، فأين هذا الصوم إذن؟!

التشكيك في صيام مريم العذراء 

وجها إبطال الشبهة:

1)  إن الصيام المقصود في كلام مريم، هو صيامها عن التحدث مع قومها؛ إذ حمل الصوم على المعنى اللغوي لا الشرعي.

2)  المراد بقوله سبحانه وتعالى: )فقولي إني نذرت للرحمن صوما( أي: قولي ذلك بالإشارة، فالإشارة تنزل منزلة الكلام.

التفصيل:

أولا. الصوم في الآية هو الصوم عن الكلام، وليس عن الطعام والشراب:

فالمقصود بالصوم في الآية: )فقولي إني نذرت للرحمن صوما( هو الصوم بمعناه اللغوي، وهو الإمساك عن أي فعل أو قول كان، وكل ممسك عن طعام، أو كلام، أو سير فهو صائم[1]. فالله – سبحانه وتعالى – يقول لمريم: إنك إذا رأيت أحدا ستدخلين معه في جدل؛ لأن المسألة التي أنت عليها لن تستطيعي أن تأتي بمبررات لها؛ لأن امرأة تحمل وتلد دون أن يمسها رجل كلام غير مقبول عند الناس، ولن يصدقوه، وسيتكلمون معك بسفاهة وجهل، فعليك بالصمت، وإذا رأيت أحدا من البشر، وسألك عما أنت فيه فقولي: إني نذرت لله صوما عن الكلام، فلن أكلم أحدا[2].

ويؤيد هذا المعنى قولها مؤكدة نذرها: )فلن أكلم اليوم إنسيا (26)( (مريم)، وقد ظهرت براءتها، وأعلنت على لسان وليدها – عليه السلام – فإن كانت هي قد أمسكت عن الكلام بأمر الله – سبحانه وتعالى – فقد أنطق الله ابنها ليبرئها ربها عز وجل.

ثانيا. المراد بقوله سبحانه وتعالى: )فقولي إني نذرت للرحمن صوما( أي: قولي ذلك بالإشارة، فالإشارة تنزل منزلة الكلام:

هناك العديد من الأدلة على قيام الإشارة مقام الكلام؛ فمن ذلك ما سمع في كلام العرب من إطلاق الكلام على الإشارة؛ كقول أحد الشعراء:

إذا كلمتني بالعيون الفواتر

رددت عليها بالدموع البوادر

ومن الأدلة على قيام الإشارة مقام الكلام أيضا، قصة الأمة السوداء التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال – صلى الله عليه وسلم – لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة»[3]. فجعل إشارتها كنطقها في الإيمان الذي هو أصل الديانات؛ وهو الذي يعصم به الدم والمال، وتستحق به الجنة، وينجي من النار. ومن ذلك ما جاء في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: «الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا – ثم عقد إبهامه في الثالثة – فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين»[4]، فهذا الحديث صريح في أنه – صلى الله عليه وسلم – نزل إشارته بأصابعه إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما، وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث: وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل ذلك[5].

يجوز أن هذه الكلمة (فقولي) هي التي تقطع بها مريم الكلام مع القوم، أو يجوز أن تكون الدلالة بالإشارة، والدلالة بالإشارات أقوى الدلالات وأعمها، ولذلك فالأخرس حين يكون في بيئة تفهمه يستطيع أن يتفاهم مع الناس، ويفهم الناس منه ما يريد قوله عن طريق الإشارات[6].

الخلاصة:

  • المراد بالصوم المذكور في قوله سبحانه وتعالى: )إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26)( (مريم) الصوم بمعناه اللغوي، وهو “الإمساك عن أي فعل، أو قول كان، وكل ممسك عن طعام، أو كلام، أو سير فهو صائم”، وليس المقصود الصوم عن الطعام والشراب، وصيام مريم كان عن الكلام مع قومها؛ لعدم قدرتها على إقناعهم، ولأن ذلك أمر سيطول الجدال فيه.
  • المراد بقوله سبحانه وتعالى: )فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا(، أي: قولي ذلك بالإشارة المفهمة، فالإشارة تنزل منزلة الكلام، ومن ذلك ما سمع في كلام العرب من إطلاق الكلام على الإشارة كثيرا، وما ورد في السنة النبوية الشريفة، مما يؤيد هذا المعنى المراد.

(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.Islamiyat.com

[1]. مختار الصحاح، أبو بكر الرازي، تحقيق: محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1415 هـ/ 1995م، مادة: صوم. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1997م، مادة: صوم.

[2]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص426.

[3]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (1227).

[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (2551).

[5]. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1992م، ص275: 278.

[6]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص426.

المقال السابق

ادعاء أن القرآن الكريم يقرر ألوهية المسيح عليه السلام

المقال التالي

الزعم أن القرآن لا يراعي الفوارق الزمنية بين الأنبياء والرسل

المقال التالي

الزعم أن القرآن لا يراعي الفوارق الزمنية بين الأنبياء والرسل

شبهات حول القرآن الكريم

دعوى اضطراب مضامين القرآن الكريم بسبب ولوعه بالموسيقى اللفظية

by admin
أغسطس 17, 2022
0

دعوى اضطراب مضامين القرآن الكريم بسبب ولوعه بالموسيقى اللفظية  وجها إبطال الشبهة: إن القرآن الكريم كتاب معجز أنزله الله -...

Read more
شبهات حول القرآن الكريم

الزعم أن اختلاف القراءات القرآنية يؤدي إلى اختلاف في ألفاظ القرآن الكريم

by admin
أغسطس 17, 2022
0

الزعم أن اختلاف القراءات القرآنية يؤدي إلى اختلاف في ألفاظ القرآن الكريم وجوه إبطال الشبهة: القراءات القرآنية توقيفية من عند...

Read more
شبهات حول القرآن الكريم

الزعم أن القرآن الكريم استعمل “سينين” بدلا من “سيناء” لتكلف السجع

by admin
أغسطس 17, 2022
0

الزعم أن القرآن الكريم استعمل "سينين" بدلا من "سيناء" لتكلف السجع  وجوه إبطال الشبهة: الأصل في الاسم العلم أن يدل...

Read more
شبهات حول القرآن الكريم

التشكيك في إعجاز القرآن الكريم عن الإتيان بمثله

by admin
أغسطس 17, 2022
0

التشكيك في إعجاز القرآن الكريم عن الإتيان بمثله وجوه إبطال الشبهة: القرآن الكريم كتاب الله الذي أعجز البشر أن يأتوا...

Read more

احدى مبادرات مشروع الحصن

No Result
View All Result
  • الرئيسية

احدى مبادرات مشروع الحصن