الزعم أن أبا بكر كان يفتقد كثيرا من الصفات المؤهلة للقيادة
وجوه إبطال الشبهة:
1) لأبي بكر الصديق العديد من الصفات التي كانت تؤهله للقيادة.
2) كان أبو بكر الصديق قائدا محنكا، وعسكريا ملهما.
3) لقد سبق أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – الاستراتيجيات الحديثة بمئات السنين، وهذا يدل على تميزه، وتفوقه في القيادة.
4) إن دعوى عدم صلاحية أبي بكر للخلافة والقيادة وتميز علي عنه في ذلك – دعوى باطلة استندت إلى أدلة ثبت عدم صلاحيتها.
التفصيل:
أولا. لأبي بكر الصديق العديد من الصفات التي تؤهله للقيادة:
لقد تمتع أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – بالعديد من الصفات المميزة التي تؤهله لقيادة المسلمين، سواء أكان في الجاهلية أم الإسلام.
أما الجاهلية فقد كان – رضي الله عنه – فيها من وجهاء قريش وأشرافهم والمقدمين فيهم، وكان من بني تيم، وكانت إليه الأشناق، وهي الديات والمغارم، وكان الصديق من خيارهم في ذلك المجتمع، يستعينون به فيما نابهم، وكانت له بمكة ضيافات ومكارم لا يتجشم[1] مثلها أحد.
وقد اشتهر بعدة أمور منها:
- العلم بالأنساب، فقد كان أبو بكر عالما بالأنساب.
- التجارة، فقد كان تاجرا معروفا، ورحالة لأجل التجارة.
- كان موضع الألفة بين قومه، تميل القلوب إليه، فقد كان قومه يحبونه، ويحبون مجالسته، ويعترفون له بالفضل العظيم، والخلق الكريم، كالإعانة على النوائب وفعل المعروف، وغير ذلك من الأخلاق الكريمة.
- لم يشرب الخمر في الجاهلية قط، وذلك أنه حرمها على نفسه قبل الإسلام، وبعد الإسلام بالطبع.
- لم يسجد لصنم قط، وكان يفتخر بذلك بعد دخوله الإسلام فيقول: ما سجدت لصنم[2].
كانت هذه بعضا من الصفات التي يتحلى بها أبو بكر – رضي الله عنه – قبل إسلامه، وهي بلا شك لا غنى عنها لكل من يتصدى لحمل أمانة قيادة الأمة، وإذا كانت هذه بعضا من الصفات الحميدة التي تحلى بها قبل الإسلام، فبدخوله الإسلام تمتع بميزات كثيرة، وصفات حميدة تزيد عن الصفات التي تخلق بها قبل الإسلام، وقد اكتسبها من معاشرته للنبي صلى الله عليه وسلم، وتلمذته على الكتاب والسنة، ومن هذه الصفات التي شرف بها وشرفت به بعد دخوله الإسلام ما يأتي:
- الصديقية: فقد لقب أبو بكر بـ “الصديق”، وقد مضى هذا الاسم علما عليه، لم ينازعه فيه أحد، وهذه الصديقية منبثقة من الإيمان الذي وقر في قلبه رضي الله عنه، فقد جاء عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم»[3].
ومقام الصديقية الذي منحه أبو بكر من أعلى المقامات في الوجود، بعد مقام الأنبياء، ولقد لقبه إياه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تلقبه به الأمة؛ فقد ورد في البخاري عن قتادة عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – حدث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صعد أحدا، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف[4] بهم فقال: «اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان»[5].
بل نجد في رواية أخرى أن هذه التسمية جاءت من عند الله عزوجل؛ فعن حكيم بن سعد، قال: «سمعت عليا يحلف: لله أنزل اسم أبي بكر من السماء: الصديق»[6].
- الأمانة: فهو الأمين الزاهد في الدنيا والراغب في الآخرة.
ولا شك أن الصديقية هي مفتاح شخصيته، فقد كان يأخذ كل أمر بقوة كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: )خذوا ما آتيناكم بقوة( (البقرة: ٩٣)، ولا يرد إلى قلبه – لحظة – الوهن أو الضعف أو الشك. وحين نعرف هذا المفتاح، نعرف سر عظمة هذه الشخصية التي قدر الله تعالى لها أن تكون الرجل الأول بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجل الأول بعده.
- تمثله الصفات النبوية: فقد تمثل أبو بكر الصديق الصفات النبوية، فوجدنا أن كثيرا من الصفات التي كان يوصف بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوصف بها الصديق رضي الله عنه، ويكفي في التدليل على ذلك، ما ورد في قصة جواره مع ابن الدغنة:
فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طرفي النهار بكرة وعشيا، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر – رضي الله عنه – مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة، وهو سيد – قبيلة – القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك»[7].
أليست هذه الصفات هي الصفات نفسها التي وصفت بها خديجة – رضي الله عنها – رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد عودته إليها يرتجف بعد نزول الوحي عليه، حيث قالت له: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»[8]؟!
وكذلك كان أبو بكر بكاء من خشية الله، سريع الدمعة، كثير الإشفاق من الموقف العظيم يوم القيامة، وكذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم.
- سماحة أبي بكر ونظرته إلى المال: لقد أنفق أبو بكر – رضي الله عنه – ماله، راضيا للدعوة إلى الله تعالى، وفي مساندة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأحاديث التي تناولت هذا الأمر، وأشارت إليه:
- قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر»[9].
- قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله»[10].
- قوله صلى الله عليه وسلم: «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر”، فبكى أبو بكر، وقال: “وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله»[11] [12].
ولا شك أن إنفاق أبي بكر لماله في سبيل الله تعالى، يدل دلالة قاطعة على فضيلته؛ فالمال محك أصيل في كشف معادن الناس؛ إذ التعلق به تعلق شديد يصل إلى حالة الشغف الذي يوصل بعض الناس إلى درجة العشق، وتعس عبد الدنيا، عبد الدرهم والدينار.. فعندما يبذل المرء هذا المال في سبيل الله – عزوجل – لا لدنيا، ولا لفخر، ولا لرياء وسمعة، فلا شك أن تصرفه هذا يدل على خير وفضيلة، وعمق إيمان، وقوة يقين بالله.
- شجاعته وجرأته: لقد كان الصديق – رضي الله عنه – شجاعا مقداما، لايهاب أحدا في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، غير هياب ولا متردد، يقدم على الشأن من الشئون، للدفاع عن الحق، لنصرة دين الله، والدفاع عن رسوله صلى الله عليه وسلم، رابط الجأش، قوي الجنان.
ويكفي للتدليل على شجاعته رضي الله عنه، ما ورد في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد قام خطيبا، وقال: «يا أيها الناس، من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – عريشا فقال لنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئلا يهوي عليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلا: لا يهوي إليه أحد إلا أهوي إليه، فهذا أشجع الناس. قال: ولقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخذته قريش فهذا يحاده، وهذا يقاتله، ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلها واحدا، فوالله مادنا من أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا، ويتلتل[13] هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم رفع علي بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلت[14] لحيته، ثم قال: أنشدكم الله، أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فبكى القوم، فقال علي رضي الله عنه: فوالله لساعة من أبي بكر، خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه»[15] [16].
كانت هذه بعضا من الصفات التي تحلى بها أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – قبل الإسلام وبعده، وغيرها الكثير، ولكننا سنقتصر على ما ذكرناه حتى لا يتضخم الرد، مع العلم أن هذه الصفات تحتاج إلى مجلدات ومجلدات.
ثانيا. كان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – قائدا محنكا، وعسكريا ملهما:
لقد وضع الماوردي في الأحكام السلطانية، الشروط المعتبرة في أهل الإمامة، وجعلها سبعة وهي:
- العدالة على شروطها الجامعة.
- العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.
- سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان؛ ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.
- سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة، وسرعة النهوض.
- الرأي المفضي إلى سياسة الرعية، وتدبير المصالح.
- الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة[17]، وجهاد العدو.
- النسب، وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه، وانعقاد الإجماع عليه، ولا اعتبار بضرار حين شذ فجوزها في جميع الناس[18].
والناظر في هذه الشروط التي وضعها الماوردي يجدها متحققة جميعها في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولعل نجاحاته التي حققها في فترة خلافته خير دليل على ذلك. وسنقف أمام خطته التي وضعها لمواجهة المرتدين في حروب الردة، وهذه الخطة على النحو التالي:
- ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع.
- نظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة، ويبيتون حولها حتى يدفعوا أية غارة قادمة.
- عين على الحرس أمراءهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله ابن مسعود – رضي الله عنهم – جميعا.
- بعث أبو بكر – رضي الله عنه – إلي من كان حوله من القبائل التي ثبتت على الإسلام – من أسلم، وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة، وكعب – يأمرهم بجهاد أهل الردة، فاستجابوا له حتى امتلأت المدينة المنورة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق، ومما يدل على كثرة رجال هذه القبائل، وكبر حجم دعمها للصديق أن جهينة وحدها قدمت إلى الصديق في أربعمائة من رجالها، ومعهم الظهر والخيل، وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لإعانة المسلمين، فوزعها أبو بكر في الناس.
- ومن ابتعد من المرتدين عن المدينة، وأبطأ خطره، حاربه بالكتب يبعث بها إلى الولاة المسلمين في أقاليمهم، كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفعل، يحرضهم على النهوض لقتال المرتدين.
- وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره، كبني عبس وذبيان – فإنه لم ير بدا من محاربتهم على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أن آوى الذراري[19] والعيال إلى الحصون والشعاب؛ محافظة عليهم من غدر المرتدين، واستعد للنزال[20] بنفسه ورجاله[21].
لا شك أن هذه الخطة المحكمة التي وضعها أبو بكر – رضي الله عنه – لقتال المرتدين تؤكد بما لايدع مجالا للشك، أنه كان قائدا محنكا، وبطلا مغوارا، بالإضافة إلى رقته، وحنانه، ولا شك أن هذه الصفات معا، تشكل عناصر القوة في شخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتدل أعظم دلالة على ما توفر فيه من كفاءة في قيادة العمليات، ومن قدرة لتطبيق مبادئ الحرب بصورة رائعة.
ثالثا. لقد سبق أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – الاستراتيجيات الحديثة بمئات السنوات، وهذا يدل على تميزه، وتفوقه في القيادة:
إن التسميات الحديثة لمبادئ الحرب والاستراتيجية هي من نتاج الفكر الحربي المعاصر، ولكن هذه التسميات في حد ذاتها ليست منقطعة الصلة عن جذورها الموغلة في عمق التاريخ وتجاربه؛ فالأشياء تخلق قبل معرفتها، ويتم التعرف عليها بأشكالها وألوانها قبل إطلاق الأسماء عليها، ولذا نقول – بكل ثقة -: إن الصديق – رضي الله عنه – مارس قيادته العسكرية بنجاح رائع اعتمادا منه على “مبادئ الحرب” و “أسس السياسة الاستراتيجية”.
لقد فعل الصديق ذلك كله بمعرفة تامة وإدراك عميق، غير أنه لم يكن يعرف يقينا التسميات الحديثة لمبادئ الحرب والاستراتيجية، وإلا بماذا يمكن تسمية إعطاء الصديق الأفضلية لحروب الردة، والانطلاق منها إلى الفتوح؟
هل هناك تسمية أفضل من “بناء القاعدة الصلبة”، وهو اصطلاح عسكري حديث؟
وهل يمكن تسمية قيادة الخليفة الصديق – رضي الله عنه – لقوات المسلمين في بهمة الليل[22] ومع التحرك بصمت – لا همسا ولا حسا – حتي أصبحوا والعدو على صعيد واحد، ولم يشعر بهم، هل يمكن تسميتها بغير “المباغتة”؟
وما الاسم المناسب لحركة جيوش المسلمين، وقد ضجت بها أرض الجزيرة كلها، من أقصاها إلى أقصاها، وكيف يمكن وصفها وهي تنتقل من هدف إلى هدف ومن منطقة إلى منطقة؟
أليس اسم “حرب الحركة” هو الاسم الأفضل والأمثل؟
وسنقف على بعض تسميات القيادة الحديثة، والتي تعود بجذورها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
- قواعد الضبط والربط: قبل ظهور هذه التسمية في الجيوش الحديثة بأكثر من ثلاثة عشر قرنا كانت وصايا الخليفة الصديق إلى قادته تمثل غاية أسس الانضباط، وقواعد الضبط والربط في أسمى صورها، يقول الصديق في وصيته للقادة المسلمين: “كن والدا لمن معك، واقتصد بالمسلمين، وارفق بهم في السير والمنزل وتفقدهم، واستوص بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول”، وما أعظم العلاقة التي كانت تشد مجاهدي المسلمين بعضهم إلى بعض!
- وحدة القيادة والقاعدة الصلبة: لقد كان أهم ما عمله الصديق هو “إعادة توحيد المسلمين” وتوجيههم في تيار واحد، لا انحراف فيه، ولا حيدة عنه، وقد ضمن بذلك القدرة على العمل تحت قيادة واحدة، أو ما هو معروف باسم مبدأ “وحدة القيادة”، وكان دعم القاعدة الصلبة بالإنسان المسلم، هدف الدولة الإسلامية ووسيلتها في آن واحد، وصمدت القاعدة الصلبة للردة.
- استراتيجية التقرب غير المباشر: لقد كان البحث عن “الحسم في الصراع المسلح” بهدف الحد من ويلات الحرب هو الحافز الأساسي الذي دفع الصديق لتبني ما أصبح معروفا في الأزمنة الحديثة باسم “استراتيجية التقرب غير المباشر”، وذلك للوصول إلى مؤخرات العدو، أو بلوغ العمق الاستراتيجي لمسرح العمليات، ويظهر هذا التوجه واضحا عند الصديق – رضي الله عنه – من خلال دفعه الجيوش إلى عمق بلاد الشام – حمص – وعمق بلاد العراق – أعالي الفرات -، ولقد أصبح لاستراتيجية التقرب غير المباشر في الحروب الحديثة أهداف واحدة وطرائق مميزة، أهمها الوصول إلى عمق مسرح العمليات والاستناد إلى حاجز العمليات، لعزل مسرح العمليات وتدمير التجمعات القتالية الموجودة فيه، والعاملة على أرضه.
غير أن هدف “استراتيجية التقرب غير المباشر” عند الصديق كان في أساسه تطوير الاتصالات مع جماهير سكان البلاد، وتعريفهم بفضائل المسلمين، وما تحمله رسالة الإسلام من خير للإنسانية، واستثارة مشاعر الخير لدى الناس واكتساب الأنصار، مع العمل في الوقت ذاته على إعداد الظروف المناسبة؛ لحسم الصراع المسلح مع كتلة جيوش الأعداء، فكانت “استراتيجية التقرب غير المباشر” تعالج ما يمكن تسميته وفقا للاصطلاحات الحديثة بـ “الحرب النفسية” جنبا إلى جنب مع البحث عن “الحسم في الصراع المسلح”.
كانت هذه بعضا من صور الاستراتيجيات الحديثة التي تمت بصلة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهي إن دلت فإنما تدل على تميزه القيادي والعسكري، فلو تم الأخذ بكل واحد من الأسس الاستراتيجية التي استخدمها الصديق بوضوح تام، كالأخذ بالمبادأة، والمباغتة، وحرب الحركة، والحرب التشتيتية، وتحقيق التوازن في القوى بنقل مسرح العمليات – لكان ذلك وحده كافيا لوضعه على مستوى المفكرين الاستراتيجيين العالميين.
فكيف وقد وضع – أو بالأحرى حدد وأوضح – مجموعة من الأسس الاستراتيجية بصورة متكاملة، يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا بحيث يمكن اعتبارها في حد ذاتها مذهبا عسكريا مستقلا.
ويكفي دليلا على تكامل الفكر الاستراتيجي لدى الخليفة أن المسلمين في عهده لم تنتكس لهم راية، ولم يهزم لهم جمع.
ولقد فصل الصديق القائد بين السياسة الاستراتيجية وبين إدارة العمليات، أو قيادة الأعمال القتالية، وترك لقادته حرية العمل العسكري لإدارة العمليات القتالية بالأساليب التي يرونها مناسبة، وظاهرة الفصل بين ممارسة القيادة الاستراتيجية، وبين قيادة العمليات سبق كبير في مجال “فن الحرب” لم تعرفه إلا الجيوش الحديثة[23].
رابعا. الرد على دعوى عدم صلاحية أبي بكر – رضي الله عنه – للخلافة والقيادة، وتميز علي – رضي الله عنه – عنه في ذلك:
لقد ادعت بعض الفرق عدم أهلية أبي بكر – رضي الله عنه – للخلافة، وأفضلية علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – عليه في ذلك، مستدلين على دعواهم بالعديد من الأدلة التي سنفصلها مع الجواب عنها[24] فيما يأتي بإذن الله:
الدليل الأول: قالوا: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يول أبا بكر – رضي الله عنه – عملا يقيم فيه قوانين الشرع والسياسة، بل قد ولى عليه غيره، فدل ذلك على أنه لا يحسنهما، وإذا لم يحسنهما لم تصح إمامته.
مناقشة هذا القول:
إن قولهم إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يول أبا بكر – رضي الله عنه – شيئا من الأعمال قول باطل؛ بدليل ما جاء عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: «غزوت مع النبي – صلى الله عليه وسلم – سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، مرة علينا أبو بكر، ومرة علينا أسامة»[25].
وقد أمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الناس لما غزوا بني فزارة، وكان أميرا على الحج في السنة التاسعة؛ فقد جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: «بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليا وراء أبي بكر لقراءة سورة براءة»[26]، وكان فيها نبذ لعهود المشركين، وإنما أرسله لأن عادة العرب في أخذ العهد ونبذه ألا ينقض العهود ويحلها إلا رجل من قبيلة المطاع، ولذلك أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – عليا ليبلغ سورة براءة، فبلغها وهو تحت إمرة أبي بكر، بدليل أن عليا أذن مع مؤذني أبي بكر، قال أبو هريرة: «فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان»[27].
وجعل المؤذنين شركاء لعلي في التبليغ صريح في أن عليا – رضي الله عنه – إنما جاء بسبب عادة العرب التي تقدم ذكرها، ولم يأت لعزل أبي بكر كما زعم الشيعة، وإلا لم يسع أبو بكر أن يبقي مؤذنيه يؤذنون مع علي.
ويدل على ذلك أيضا قول علي لما سأله أبو بكر: أمير أو مأمور؟ فقال علي: بل مأمور.
وكان علي يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه، ونادى علي مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر.
الدليل الثاني: وقالوا: كيف يصلح للإمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، ومن يخبر عن نفسه أن الشيطان يدخل في أفعاله بقوله:«إن لي شيطانا يعتريني»، ومن يحذر الناس من نفسه بقوله: «فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني»؛ فقد ذكروا أن أبا بكر صعد المنبر بعد مبايعته بالخلافة وقال: «وليت أمركم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني، فإن لي شيطانا يعتريني، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني…»[28].
ويقال للشيعة: “إن هذه الأقوال من أبي بكر من أكبر فضائله رضي الله عنه، وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا، فلم يكن طالب رئاسة، ولا كان ظالما، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله”.
أما قوله: “إن لي شيطانا يعتريني.. فليس فيه ذم له؛ لأن الشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم، فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الجن، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله! قال: وإياي. إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير»[29].
أما قول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟ فهو كلام جاهل بحقيقة الإمامة؛ فإن الإمام ليس ربا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا؛ فلا بد له من إعانتهم، ولا بد لهم من إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق، إن سلك بهم الطريق اتبعوه، وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه.
الدليل الثالث: وقالوا: لا يصلح للخلافة من يقول: “أقيلوني، أقيلوني، فلست بخيركم وعلي فيكم”. فهذا القول من أبي بكر دليل على عدم صحة خلافته وأن عليا كان أولى بالأمر منه.
ويقال ردا على أصحاب هذا القول: “إن هذا كذب ليس في كتاب من كتب الحديث، ولا له إسناد معلوم، فإنه لم يقل: “وعلي فيكم”، بل الذي ثبت عنه في الصحيح ما جاء عن عمر بن الخطاب يوم السقيفة أن أبا بكر قال: «قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر»[30].
أما قوله: “أقيلوني، أقيلوني”: فإن صحت نسبته إليه فلا مطعن فيه بسبب ذلك؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن صح هذا عن أبي بكر لم تجز معارضته بقول القائل: الإمام لا يجوز له طلب الإقالة، فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، فلم لا يجوز له طلب الإقالة إن كان قال ذلك.
الدليل الرابع: قالوا: إنه ندم عند موته على أمور فعلها، منها قبول الخلافة، وهذا الندم منه يدل على أنه ليس مستحقا لها، وعلى أنه كان ظالما في غصبه للخلافة؛ فقد ذكروا أن أبا بكر رضي الله عنه، قال في مرضه الذي مات فيه: “ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه، وليتني في ظلة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت وزيرا، وليتني كنت سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هل للأنصار في هذا الأمر حق”. وقالوا: وهذا يدل على شكه في صحة بيعة نفسه، وفي استحقاقه للإمامة، ومن كان كذلك فلا يصلح للخلافة.
ويقال لهم: إن هذا الذي نسب إلى أبي بكر لا يثبت منه شيء، ولم يصح في مصدر من المصادر، ولا ذكر له إسناد صحيح. ومعلوم أن من احتج في أية مسألة بشيء من النقل، فلا بد أن يذكر إسنادا تقوم به الحجة، فكيف بمن يطعن في السابقين الأولين بمجرد حكاية لا إسناد لها.
الدليل الخامس: قالوا: والذي يدل على أن بيعة أبي بكر كانت فاسدة، وعلى أنه لا يصلح للإمامة: قول عمر بن الخطاب عنها: «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه»[31].
وقالوا: إن قوله: «فلتة»: أي أنها كانت خطأ وغير صواب، ولم تقع عن رأي صحيح، وقوله: «وقى الله المسلمين شرها»: يدل على أنها كانت ذات شر، وما كان كذلك فالفساد أولى به. واعتبروا هذا القول من عمر ذما لأبي بكر وتخطئة له.
ويقال لهؤلاء: إن قول عمر – رضي الله عنه – عن بيعة أبي بكر: «إنها كانت فلتة» ليس فيه مطعن في أبي بكر رضي الله عنه؛ فإن “فلتة” ليس معناها: زلة، أو خطيئة، بل قد نقل علماء اللغة أن معناها: الفجأة، التي لم تكن بعد استعداد لها، أو: هي آخر ليلة من كل شهر؛ قال ابن حجر: “الفلتة: هي الليلة التي يشك فيها هل هي من رجب أو شعبان، وهل من المحرم أو صفر”.
ومما يدل على أن مقالة عمر هذه ليس فيها مطعن بأبي بكر قوله في نفس الرواية:«وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر».
وإنما غاية ما قصد عمر – رضي الله عنه – أن يقوله: أنها – أي بيعة أبي بكر – بودر إليها من غير تريث أو انتظار، ومن غير روية ومشاورة؛ وذلك لأن “ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – له على سائر الصحابة أمر ظاهر معلوم، فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن المشاورة والانتظار والروية والتريث، وليس غيره مثله؛ فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك”.
وليس معنى قول عمر: “ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها”: أنها كانت ذات شر كما زعموا، بل مراده أن الله – سبحانه وتعالى – وقاهم ما في العجلة من الشر، بدليل قوله: “فلتة”: أي فجأة وعن غير مشاورة، قال ابن حبان: “معنى قوله: “كانت فلتة” أن ابتداءها كان عن غير ملأ كثير، والشيء إذا كان كذلك يقال له: فلتة، فيتوقع فيه ما لعله يحدث من الشر بمخالفة من يخالف في ذلك عادة، فكفى الله المسلمين الشر المتوقع في ذلك عادة، لا أن بيعة أبي بكر كان فيها الشر”.
وقال ابن تيمية: “ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة، ولم نكن قد استعددنا لها ولا تهيأنا، لأن أبا بكر كان متعينا لذلك، فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس، إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها، وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر، فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه. وهو لم يسأل وقاية شرها، بل أخبر أن الله وقى شر الفتنة بالإجماع”.
الدليل السادس: قالوا: إنه تخلف عن جيش أسامة رغم لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمن تخلف عنه، والملعون من مثل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يصلح للخلافة.
المناقشة: إن دعوى أن أبا بكر – رضي الله عنه – كان في جيش أسامة دعوى باطلة يردها ما تواتر من أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – له بالصلاة بالناس، ولو فرض جدلا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – انتدب أبا بكر للخروج بجيش أسامة – لأن مرضه – صلى الله عليه وسلم – كان بعد تعبئة الجيش بيوم واحد – فإنه – صلى الله عليه وسلم – استثناه في اليوم التالي من انتدابه، حيث أمره أن يصلي بالناس كما تواتر ذلك؛ قال الحافظ ابن كثير: “ومن قال إن أبا بكر كان فيهم فقد غلط؛ فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اشتد به المرض وجيش أسامة مخيم بالجرف. وقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أبا بكر أن يصلي بالناس. فكيف يكون في الجيش وهو إمام المسلمين بإذن الرسول من رب العالمين؟!! ولو فرض أنه كان قد انتدب معهم فقد استثناه الشارع من بينهم بالنص عليه للإمامة في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، ثم لما توفي – صلى الله عليه وسلم – استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب، فأذن له في المقام عند الصديق، وأنفذ الصديق بعث أسامة”.
أما الحديث الذي نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من تخلف عن جيش أسامة»: فهو كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقل: «لعن الله من تخلف عنه»، ولا نقل هذا بإسناد ثبت، بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا”.
الدليل السابع: قالوا: ومما يدل على عدم صلاحية أبي بكر للخلافة: جهله بكثير من أحكام الشرع؛ قال الزنجاني: “أبو بكر لم يكن عارفا بالأحكام، فلا يجوز نصبه للإمامة”.
وقد استدلوا على هذه الدعوى بالأدلة الآتية:
- قالوا: إنه أحرق الفجاءة السلمي من أجل غلطة بسيطة منه، مع أنه لا يحرق بالنار إلا رب النار:
ويقال لهم: إن هذا الذي ذكرتموه، هو في حق علي – رضي الله عنه – أظهر منه في حق أبي بكر؛ فقد ثبت أن عليا أوتي بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: «لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تعذبوا بعذاب الله”، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه»[32].
وقد ذكروا أن عليا أحرق بالنار عدة مرات؛ منها مرة أمات فيها سبعين من أهل البصرة خنقا بدخان نار أوقدها بجوارهم في بئر مغطى، ومرة قتل عشرة زعموا فيه الألوهية، وأحرق سوى هؤلاء قوما آخرين، وكل هذا ثابت في كتبهم برواياتهم عند الصدوق والكشي والطوسي وغيرهم.
ولهذا قال ابن تيمية: “إن كان ما فعله أبو بكر منكرا، ففعل علي أنكر منه، وإن كان فعل علي مما لا ينكر مثله على الأئمة، فأبو بكر أولى ألا ينكر عليه”.
- قالوا: إنه قطع يسار السارق مع أن السارق إنما تقطع يده اليمنى.
وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: “إن قول القائل: إن أبا بكر يجهل هذا من أظهر الكذب، ولو قدر أن أبا بكر كان يجيز ذلك لكان ذلك قولا سائغا؛ لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعين اليمين، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيمانهما)، وبذلك مضت السنة، ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه قطع اليسرى؟ وأين الإسناد الثابت بذلك؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف في ذلك قولا، مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه “.
- وقالوا: إنه لم يكن يعرف اللغة؛ حتى إنه سئل عن معنى “الأب”، فلم يعرف معناه. وهذا لم يصح عن الصديق رضي الله عنه، بل روي عنه بإسناد منقطع.
- وقالوا: إن أبا بكر لم يكن يعرف معنى “الكلالة”، حتى قضى فيها برأيه، وقد سئل عنها فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. قالوا: ولا يجوز إدخال الرأي في الأحكام الشرعية.
ويقال لهم: إن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا إذا تكلموا في مسألة باجتهادهم، قال أحدهم: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه.
وهذا القول مروي عن جمع من الصحابة منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وغيرهم من الصحابة الثقات.
وكان الصحابة – رضي الله عنهم – يصيبون في أكثر اجتهاداتهم، ويأتي النص موافقا لهذه الاجتهادات، وهذا ما حصل من أبي بكر رضي الله عنه؛ فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده؛ فإنهم أخذوا بقوله فيه: “هو من لا ولد له ولا والد”.
- وقالوا: إنه قد خفي عليه أكثر أحكام الشريعة، حتى إن الجدة جاءت إليه تطلب ميراثها، فقال لها: “لا أجد لك شيئا”، واضطرب في أحكامه حتى إنه قضى في الجد بسبعين قضية.
ويقال لهم: إن ما ذكرتموه من كون الصديق – رضي الله عنه – قضى في الجد بأكثر من سبعين قضية؛ لا يصح، ولم ينقل عنه ذلك في أي كتاب من كتب أهل السنة والجماعة؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على مزاعم هؤلاء: “وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية فهذا كذب، وليس هو قول أبي بكر، ولا نقل هذا عن أبي بكر، بل نقل هذا عنه يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم”.
أما الجدات: فقد روي «أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تسأله ميراثها. فقال لها: ما أعلم لك في كتاب الله شيئا، ولا أعلم لك في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من شيء حتى أسأل الناس، فسأل، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جعل لها السدس. فقال أبو بكر: من يشهد معك – أو من يعلم معك ـ؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر»[33].
وهذا الحديث – إن صح – يدل على ورعه رضي الله عنه، فإنه لم يفصل في القضية رغم مبلغه من العلم، بل أرجأ فيها حتى يسأل من عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سألهم وجد عند بعضهم علما، فأخذ به.
وليس من شرط الإمام أن يعلم كل صغيرة وكبيرة من أمور الدين، بل قد يغيب عنه شيء من أمر الدين فيستدركه بنفسه بعد أن يجتهد فيه وينظر فيه، أو يستكمله بغيره ممن يعلمه.
- قال سليم بن قيس عن الصديق رضي الله عنه: بلغ من جهله أنه حكم بأن الجنب إذا لم يجد الماء لا يتيمم ولا يصلي ولو سنة.
وهذا من الكذب عليه والبهتان، ولم يورده إلا ابن قيس.
- وقالوا: وبلغ من جهله أنه أهمل حدود الله فترك إقامة الحد على خالد بن الوليد بن المغيرة الذي قتل مالك بن نويرة، وزنى بامرأته، ولم يقتله أبو بكر مع أن عمر أشار عليه بقتله، وقال عن خالد: “إنه زان”. وقالوا: إن مما يدل على أنه ترك إقامة الحد عليه رغم وضوح جرمه: كونه ود عند موته لو أنه حد خالدا على فعلته بمالك بن نويرة وزوجه.
ويقال لهم: أما قتل خالد مالك بن نويرة، فلعبارات صدرت منه ظاهرها الكفر، كقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: “صاحبكم”؛ كأنه لا يعترف بنبوته صلى الله عليه وسلم.
وأما امرأة مالك فإنه روي أنه تزوجها، ولم يثبت دخوله بها. أما دعوى أنه زنى بها ففرية لا أساس لها ولا أصل عند أهل العلم بالأسانيد.
أما ما ذكروه من أن أبا بكر تمنى أن لو كان حد خالدا: فهذا افتراء محض لم يرد بطريق صحيح أو ضعيف، ولم ينقل أحد ذلك عنه، بل الثابت أنه كان في عدم معاقبته خالدا وعزله مستنا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما ترك عزله حين قتل بني جذيمة متأولا.
- قالوا: ومن الأدلة على جهله: قصة مجيء اليهودي إليه وسؤاله عن الله تعالى أين هو؟ أفي السماء أم في الأرض؟ فقد ذكر المفيد “أن بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكررضي الله عنه، فقال: أنت خليفة نبي هذه الأمة؟ فقال له: نعم، فقال: إنا نجد في التوراة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فأخبرني عن الله تعالى أين هو أفي السماء أم في الأرض؟ فقال أبو بكر: هو في السماء على العرش.
فقال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه؟ وأراه على هذا القول في مكان دون مكان؟ فقال أبو بكر؛ هذا كلام الزنادقة، اغرب عني وإلا قتلتك. فولى الحبر متعجبا يستهزئ بالإسلام. فاستقبله علي.
فقال: يا يهودي قد عرفت ما سألت عنه وما أجبت به، وإنا نقول إن الله – عزوجل – أين الأين، فلا أين له، وجل أن يحويه مكان، وهو في كل مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علما بما فيها، ولا يخلو شيء منها من تدبيره…”.
ونقول للرد على هذه الفرية وهذه الأقوال التي نسبوها إلى علي: إنها لا تصح نسبتها إليه، ولا يقولها إلا جاهل، مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتقول على الله بغير علم، وهي أشبه ما تكون بقول الحلولية وأصحاب وحدة الوجود.
ولا شك أن إجابة أبي بكر هي الإجابة التي وافقت الكتاب والسنة؛ فهناك آيات كثيرة في القرآن أخبر الله – سبحانه وتعالى – فيها عن استوائه على العرش صراحة، بحيث لا يفهم المخاطبون منها غير استوائه تعالى على عرشه، وارتفاعه، وعلوه فوق مخلوقاته، فهو – سبحانه وتعالى – فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، ولا يخلو شيء من علمه.
وكتب هؤلاء مليئة بأمثال هذه القصص المكذوبة، والتي قصدوا من وراء ذكرها التدليل على أن عليا أحق بالخلافة لعلمه الجم الغزير، وأن أبا بكر لا يصلح للخلافة لجهله المطبق.
ولا ريب في أن أبا بكر – رضي الله عنه – كان أعلم الصحابة، وأن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يرجعون إليه في كثير من المسائل التي تعرض لهم، فيجيبهم عنها رضي الله عنه، حتى علي رضي الله عنه.
ومما يدل على أن أبا بكر – رضي الله عنه – كان أعلم الصحابة بمراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومقاصده في كلامه: ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: «خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله”. فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ فكان رسول الله هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا»[34].
ونخلص من هذا كله إلى أن الله – عزوجل – منح أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – قبل الإسلام صفات خلقية، لم تجتمع – إذا استثنينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غيره؛ فلم يكن إلا صادقا أمينا، غير شارب لخمر، ولا ساجد لصنم، فلما جاء الإسلام كان أول معتنقيه وأعظم الذابين[35] عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما قدر الله أن يكون أول خليفة للمسلمين – كان أعظم خليفة، وكانت خلافته أعظم خلافة؛ فلم تنته فترة خلافته – ولم تتجاوز السنتين – إلا والإسلام راسخ قوي، والمرتدون عنه مغلوبون مقهورون، والفتوحات الإسلامية واسعة المدى شرقا وغربا. فهل يعقل بعد هذا أن يدعي مدع أنه كان يفتقد كثيرا من الصفات المؤهلة للقيادة؟!
الخلاصة:
- كان أبو بكر – رضي الله عنه – يحمل الكثير من الصفات التي أهلته للقيادة، كوجاهته في الجاهلية واستقامته وفضله آنذاك، ومسارعته إلى تصديق النبي – صلى الله عليه وسلم – والتبكير إلى دخول الإسلام، وأمانته الشديدة، وتمثله صفات النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها كثرة بكائه من خشية الله ورقة قلبه وعمق إيمانه.
- كان أبو بكر – رضي الله عنه – قائدا محنكا، وعسكريا ملهما، ففي خلال سنتين هما كل فترة خلافته، أعاد العرب إلى حظيرة الإسلام، وثبت ملك الإسلام وسلطانه في الجزيرة، وأذن لجيوش الإسلام بالانطلاق إلى خارج الجزيرة؛ لنشر دعوة الإسلام حيث حقق المسلمون في عهده انتصارات كبيرة على كلتا الجبهتين الرومية والفارسية.
- سبق أبو بكر بفكره الحربي الاستراتيجيات العسكرية الحديثة، حيث نستطيع التأصيل لكثير منها بالرجوع إلى سيرة الخليفة الأول، واستقراء ملفه الجهادي العظيم.
- دعوى عدم صلاحية أبي بكر للخلافة، وأن عليا – رضي الله عنه – كان أفضل منه وأحق بها منه، إنما هي دعوى ساقطة لا تستند إلى أية حقيقة ثابتة أو دليل صحيح، إلا ما كان من الحقد الأعمى والكراهية السوداء للصحابة الكرام، وعلى رأسهم الصديق رضي الله عنه.
(*) محمد رسول الله، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/1975م. شبهات وردود: الرد على شبهات أحمد الكاتب حول إمامة أهل البيت ووجود المهدي المنتظر، السيد سامي البدري، نشر المؤلف، ط3، 1421هـ.
[1]. يتجشم: يتكلف الأمر على مشقة، والمقصود من هذا أن مكارمه تفوق مكارم غيره.
[2]. حديث الإفك دروس وعبر، د. عامر حسين السلامي، دار القمة، الإيمان، الإسكندرية، 2005م، ص276، 277 بتصرف يسير.
[3]. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة، باب ومن فضائل عمر بن الخطاب من حديث أبي بكر بن مالك عن مشائخه غير عبد الله (653)، البيهقي في شعب الإيمان، باب ذكر الحديث الذي ورد في شعب الإيمان، باب القول في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهل الإيمان إيمانهم (36).
[4]. رجف: اهتز.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : “لو كنت متخذا خليلا” ( 3472)، وفي موضع آخر.
[6]. أخرجه الطبراني في الكبير، العشرة المبشرين بالجنة، نسبة أبي بكر الصديق واسمه ـ رضي الله عنه ـ أبو بكر عبد الله بن عثمان (14)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة باب وسماه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ صديقا، أنزل اسمه أبي بكر من السماء الصديق (59).
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه إلى المدينة (3692)، وفي موضع آخر.
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله (422).
[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب المساجد، باب الخوخة والممر في المسجد (454)، وفي مواضع أخرى.
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم “لو كنت متخذا خليلا” (3461)، وفي موضع آخر.
[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (7439)، وابن ماجه في سننه، كتاب افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (94)، وصححه الألباني في تخريج مشكلة الفقر (13).
[12]. التربية القيادية، د. منير الغضبان، دار الوفاء، مصر، 1426هـ/ 2005م، ج1، ص53: 45 بتصرف.
[13]. يتلتل: أي يقلق ويحرك بعنف، والمقصود أن أبا بكر تصدى لهم.
[14]. اخصلت: نديت وابتلت.
[15]. أخرجه البخاري في مسنده، مسند علي بن أبي طالب (761)، وأبو نعيم في فضائل الخلفاء الراشدين، باب خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، إنما لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم (237).
[16]. سيرة أبي بكر الصديق، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص43: 45 بتصرف.
[17]. البيضة: الحمى.
[18]. الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1985م، ص6.
[19]. الذراري: جمع ذرية، وهي نسل الإنسان.
[20]. النزال: الحرب.
[21]. سيرة أبي بكر الصديق، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص242: 244 بتصرف يسير.
[22]. بهمة الليل: ظلام الليل الشديد الظلمة، والبهمة من الليالي هي التي لا يطلع فيها القمر.
[23]. فرسان النهار من الصحابة الأخيار، د. سيد بن حسين العفاني، دار ماجد عسيري، السعودية، ط1، 1425هـ/ 2004م، ج2، ص138: 151 بتصرف.
[24]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص548: 584 بتصرف.
[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسامة بن زيد إلى الحرقات (4022)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب عدد غزوات النبي (4800).
[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب الصلاة في الثياب، باب ما يستر العورة (362)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف البيت عريان (3353).
[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب الصلاة في الثياب، باب ما يستر العورة (362)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف البيت عريان (3353).
[28]. أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الجامع للإمام معمر بن راشد الأزدي رواية الإمام عبد الرزاق (20701)، وأبو داود في الزهد، كتاب من كلام أبي بكر رضي الله عنه ، باب وليت أمركم ولست بخيركم، فإني أنا أحسنت فأعينوني (31).
[29]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحرش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (7286).
[30]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت (6442).
[31]. إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب المغازي، باب ما جاء في خلافة أبي بكر وسيرته في الردة (37042)، وأحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (391)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد (391).
[32]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (6524)، وفي موضع آخر.
[33]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث محمد بن مسلمة النصارى رضي الله عنه (18009)، وابن ماجه في سننه، كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة (2724)، وصحيح الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد (18009).
[34]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب المساجد، باب الخوخة والممر في المسجد (454)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق (6320) بلفظ: عبد خيره الله.
[35]. الذابين: المدافعين.