الزعم أن أحاديث الموطأ لا يصح الاحتجاج بها
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن الشروط التي وضعها الإمام مالك لقبول الأحاديث في موطئه تنأى بالموطأ عن أن تكون أحاديثه لا يصح الاحتجاج بها، إذ ظل أربعين سنة ينقحه ويهذبه؛ حتى عرف له القدماء قدره ومكانته بين كتب الحديث.
2) إن جميع الآراء الواردة حول درجة الموطأ في السنة لا يخرج أي منها عن كون الموطأ من أصح كتب الحديث النبوي، فبعضها يجعله مقدما على الصحيحين، وبعضها يجعله في مرتبة واحدة معهما، وبعضها يجعله بعدهما مباشرة من حيث الصحة.
3) إن ما يقصده الإمام مالك بقوله: “لا ينبغي أن نحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب” هو آراؤه واجتهاداته الفقهية التي كان يدلي بها عقب كل حديث يذكره، وليس ما في الموطأ من الأحاديث.
أولا.الشروط الصارمة التي وضعها الإمام مالك لقبول الأحاديث في موطئه، وتهذيبه وتنقيحه له طيلة أربعين سنة:
الإمام مالك هو أول من سلك منهج التحري وتوخي الصحيح وانتقاء الأحاديث وفق معايير وضوابط محددة، حتى أثمر هذا الجهد عن كتاب الموطأ الذي أمضى فيه أربعين عاما، وهو يهذب فيه وينقح إلى أن واستقر فيه على خمسمائة حديث أو أكثر بقليل هي خلاصة الروايات التي اطمأن لها بعد عرضها على الكتاب والسنة الصحيحة، وعمل أهل المدينة. وهذا الذي جعل الإمام الشافعي رحمه الله يقول: “ما في الأرض بعد كتاب الله أكثر صوابا من موطأ الإمام مالك بن أنس”([1]).
وكان منهج مالك أن لا يروي إلا عن الثقات؛ ولذا أثنى عليه الأئمة وامتدحوا صنيعه؛ قال سفيان بن عيينة: “رحم الله مالكا، ما كان أشد انتقاده للرجال!”([2]).
وقال يحيى بن معين: “كل ما روى عنه مالك ثقة إلا عبد الكريم أبا أمية”([3]).
وقال بشر بن عمر الزهراني: “سألت مالكا عن رجل، فقال: رأيته في كتبي؟ قلت: لا، قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي”([4]).
قال محمد بن عبدالله بن عبد الحكم والربيع بن سليمان الشافعي: “سمعنا الشافعي يقول: كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله”([5]).
ومما تقدم يتبين أن مالكا لا يروي إلا عن ثقة عنده، ولم يكتف بذلك، بل كان يشترط الشهرة بطلب العلم والعناية به؛ حتى يعلم الراوي ما يحدث به.
قال مطرف بن عبد الله: أشهد لسمعت مالكا يقول: أدركت ببلدنا هذا مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة يحدثون فما كتبت عن أحد منهم حديثا قط، قلت: لم يا أبا عبد الله؟ قال: لأنهم لم يكونوا يعرفون ما يحدثون([6]).
ويعد موطأ الإمام مالك أول كتاب دون في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وآثار الصحابة، وفتاوى التابعين، توخى فيه واضعه، منهجا فريدا، تبدو معالمه فيما يأتي([7]):
- التزم الإمام مالك بذكر الثقات من الرجال، حتى كان ذكر الرجل في الموطأ يعد حكما عليه بالتوثيق قال ابن معين: “كل من روى عنه مالك فهو ثقة إلا عبد الكريم أبا أمية” كما سبق ذكره.
لقد اشتهر الإمام مالك بنقد الرجال نقد الفاهم الخبير، فقد أثرت عنه كلمات في شروط الرجال – الذين يستحقون أن يروي عنهم – تعد بيانا لشروط الرواة المقبولة روايتهم.
ومن ذلك قوله: لا يؤخذ العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من سفيه معلن بالسفه، ولو كان أروى الناس، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس، وإن كنت لا تتهمه أن يكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة، إذا كان لا يعرف ما يحدث([8]).
فهو لا يكتفي – كما ترى – بالعدالة والضبط، بل لا بد أن يكون الراوي عنده ممن يزن ما ينقل إليه، ويتعرف حاله وحال من ينقل عنه؛ ولذا كان يرفض أحاديث رجال كثيرين من أهل الصلاح، ويعرف لهم فضلهم وتقواهم وصلاحهم، وكان يقول:
“أدركت بهذه البلدة أقواما لو استسقي بهم القطر لسقوا، قد سمعوا العلم والحديث كثيرا، ما حدثت عن أحد منهم شيئا؛ لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد، وهذا الشأن – يعني الحديث والفتيا – يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وصيانة، وإتقان وعلم وفهم، فيعلم ما يخرج من رأسه، وما يصل إليه غدا، فأما رجل بلا إتقان ولا معرفة، فلا ينتفع به، ولا هو حجة، ولا يؤخذ عنه”([9]).
ولهذا لم يرو الإمام مالك عن كثيرين من أهل الصلاح والتقى، إذ لم يكونوا ضابطين؛ ولذا كان يقول: “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت سبعين ممن يقولون: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنده هذه الأساطين، وأشار إلى المسجد، فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أمينا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن”([10]).
من ثم كان الإمام مالك حريصا على أن يكون الرواي الذي يروي عنه عدلا، ليس من أهل الهوى، ضابطا، فاهما لما يروي، لذا كان يتشدد في فحص الرجال على مقتضى هذه الشروط، من ذلك رفضه رواية علماء بلد بأسره، فقد قيل له: “لم لا تحدث عن أهل العراق؟ قال: لأني رأيتهم إذا جاءونا يأخذون الحديث عن غير ثقة، فقلت: إنهم كذلك في بلادهم”([11]).
- حرص الإمام مالك على أن يذكر الأحاديث الصحيحة وفق مذهبه واجتهاده، فجاءت جميع أحاديثه في الموطأ منتقاة، وقد عد أهل الفن بالحديث كل ما فيه من الحديث صحيحا، إلا قليلا، فلقد وصف الحافظ ابن عبد البر الإمام مالكا في روايته وصفا موجزا محكما، فقال: “معلوم أن مالكا كان من أشد الناس تركا لشذوذ العلم، وأشدهم انتقادا للرجال، وأقلهم تكلفا، وأتقنهم حفظا، ولذلك صار إماما([12]).
- حوى موطأ الإمام مالك عددا من الأحاديث المرفوعة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – والموقوفة على الصحابة والتابعين تبلغ حوالي ألف وسبعمائة وعشرين حديثا – جملة المرفوع الصحيح منها حوالي ستمائة حديث قد اشتملت على أعلى شروط الصحة، وأجمع العلماء على قبولها والأخذ بها، وقد دخلت في كتب السنة الصحيحة، وهناك أحاديث لم يتصل سندها، وإنما هي بلاغات أو مراسيل كان الإمام مالك يقول فيها: “بلغني أن ابن عمر، أو أن عمر، أو أن أبا هريرة قال: “ويغفل ذكر السند إلى من ذكر بلاغة عنه، أو كان يذكر السند حتى إذا وصل إلى التابعي رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم – وهو المرسل – ومذهب الإمام مالك تصحيح هذه البلاغات والمراسيل؛ لقربهما من عصر النبوة، ولتميز رواتهما بالأمانة والعدالة والثقة، ولكن العلماء لم يقبلوا هذه البلاغات والمرسيل على إطلاقها، وراحوا يلتمسون لها طرقا متصلة، فتبين لهم أن الإمام مالكا لم يذكر هذه الحلقات وهي موجودة بالفعل، ومن يبحث عنها يجدها، وهذا ما فعله العلامة ابن عبد البر في كتابه “التمهيد” الذي وصل فيه روايات الموطأ([13]).
- لم يقتصر الإمام مالك في الموطأ على ذكر الأحاديث المرفوعة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – سواء كانت متصلة أم منقطعة، بل ضمنه طائفة من الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين، فبلغت الموقوفات حوالي ستمائة وثلاثة عشر، وأقوال التابعين مائتين وخمسة وثلاثين([14]).
- ومن أهم ما يمتاز به موطأ الإمام مالك أنه جمع فيه بين الحديث وفقه الحديث، فنرى الإمام يستنبط ويفرع، وينقل القارئ إلى بيئة السنة والحديث، وينقل طالب العلم إلى معايشة السنة النبوية([15]).
لهذا المنهج الفريد الذي وضعه الإمام مالك في موطأه، والذي جعله يحتل هذه المكانة العالية بين الناس، فقد عرف واشتهر من خلال موطئه الذي مكث فيه أربعين سنة يهذبه وينقحه، ويؤكد هذا ما أخرجه ابن عبد البر في “التمهيد” من قول عمر بن عبد الواحد صاحب الأوزاعي قال: “عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوما، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما! قلما ما تفقهون فيه”([16]).
ولقد ألفه الإمام مالك بإشارة من الخليفة العباسي المنصور، حينماحج وذهب إلى المدينة، فطلب من الإمام مالك أن يضع للناس كتابا في الحديث و الفقه، فقال له: وطئ لنا كتابا في العلم تجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وغرائب ابن مسعود، فألف كتابه هذا وسماه الموطأ([17]).
وذكر السيوطي لهذه التسمية سببا آخر، وهو ما روي من أن مالكا قال: “عرضت كتابي هذا على سبعين فقهيا من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ”([18]).
ومنذ ألف مالك الموطأ والعلماء يضربون أكباد الإبل إلى المدينة يسمعونه منه([19])حتى لقد رواه عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل.
ولقد عني الناس بالموطأ على اختلاف مشاربهم فكان منهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي، ومحمد بن الحسن، وابن وهب، وابن القاسم، ومنهم جهابذة المحدثين؛ كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق بن همام، ومنهم الملوك والأمراء؛ كالرشيد وابنيه الأمين والمأمون، وبذلك اشتهر الموطأ في عصر مؤلفه فانكب الناس جميعا عليه من جميع ديار الإسلام القاصي منهم والداني، ثم لم يأت زمان إلا ازداد الموطأ فيه شهرة على شهرته، واشتدت عناية الناس به، ولا عجب فعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمورهم، ولم يزل العلماء يخرجون أحاديثه، ويذكرون متابعاته وشواهده، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه ويفتشون عن رجاله، كما لم يزل الخلفاء يعرفون قدره([20]).
هذا هو موطأ الإمام مالك وهذه هي مكانته عند صاحبه، وغيره من العلماء في كل زمان ومكان، لم يشك الإمام مالك لحظة في صحة أحاديثه؛ رغم ذلك ظل أربعين سنة ينقحه ويهذبه حتى لم يترك فيه إلا الصحيح.
ثانيا. مكانة الموطأ بين كتب الحديث النبوي:
لقد اختلفت آراء العلماء حول درجة الموطأ في السنة، وتلك الاختلافات لا يخرج رأي منها عن كون الموطأ من أصح كتب الحديث. وقد قام الدكتور السباعي بدراسة مستفيضة حول هذا الأمر، فقال: أما ما درجة الموطأ في السنة فقد اختلفت آراء العلماء حولها:
فقال قوم: بأنه مقدم على الصحيحين؛ لمكانة الإمام مالك رحمه الله ولما عرف عنه من التثبت والتمحيص، وحسبك أنه ألف في أربعين سنة، وممن ذهب إلى هذا الرأي ودافع عنه ابن العربي، وهو رأي جمهور المالكية.
ومنهم من جعله مع الصحيحين في مرتبة واحدة، وإليه يشير كلام الدهلوي في كتاب حجة الله البالغة، حيث تحدث عن طبقات كتب السنة، وجعل في الطبقة الأولى منها، الموطأ والصحيحين.
ومنهم من رأى مرتبته دون مرتبة الصحيحين، وهو رأي جمهور المحدثين، ويعبر عن سر ذلك ابن حجر حيث يقول: “إن كتاب مالك صحيح عنده، وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما”، والمحدثون على عدم الاعتداد بالمرسل والمنقطع وماعدا المتصل، فلا جرم أن كانت مرتبة الموطأ عندهم دون مرتبة الصحيحين.
وقد أجاب أصحاب القولين الأولين عن وجود الأحاديث المرسلة والمنقطعة في الموطأ فقالوا بأنها متصلة السند من طرق أخرى، فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه.
وممن عني بوصل ما في الموطأ من مرسل ومنقطع ومعضل، الحافظ ابن عبد البر، ومما قاله: “وجميع ما فيه من قوله بلغني”، ومن قوله “عن الثقة” عنده مما لم يسنده، واحد وستون حديثا كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث لا تعرف وهي:
- «إني لا أنسى، ولكن أنسى».
- «إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر».
- قول معاذ:«آخر ما أوصاني به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الغرز([21]) أنه قال: حسن خلقك للناس».
- «إذا نشأت بحرية([22]) ثم تشائمت فتلك عين غديقة» أي: كثيرة الماء.
وقد دافع العلماء عن هذه الأحاديث الأربعة بأن معاني هذه الأحاديث صحيحة، واستشهدوا لها بما يعضدها في كتب السنة.
ولكن الشيخ الشنقيطي في كتابه “إضاءة الحالك”نقل عن ابن الصلاح أنه وصل هذه الأحاديث الأربعة، والذي استظهره السيوطي “إطلاق الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء؛ لأن ما فيه من المراسيل مع كونه حجة عنده بلا شرط، وعند من يوافقه من الأئمة في الاحتجاج بالمرسل، فهو أيضا حجة عندنا؛ لأن المرسل – عندنا – حجة إذا اعتضد، وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد وعواضد”.
وأما عن قول ابن حزم بأن في الموطأ أحاديث ضعيفة، ضعفها العلماء، فقد تعقبه اللكنوي بأنها لم تصل إلى حد السقوط والوضع، ولعل ما نقله ابن حزم من توهين العلماء لبعض تلك الأحاديث ناشئ عن حكمهم عليها بالنظر إلى الطرق التي وصلتهم، أما بالنظر لطريق مالك فهي عنده صحيحة، وهو أولى أن يؤخذ رأيه في شيوخه ومن روى عنهم؛ إذ هو أدرى بهم وأعرف([23]).
روى أبو الحسن بن فهر عن علي بن أحمد الخلنجي: سمعت بعض المشايخ يقول: قال مالك: “عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ”، وهذا جعل تسمية الموطأ من المواطأة، أي الموافقة، وهذا مما لم يرو عن أحد غيره.
وروي أن مالكا لما أراد أن يؤلف بقي متفكرا بأي اسم يسمي تأليفه؟ قال: فنمت، فرأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: وطئ للناس هذا العلم، فسمى كتابه الموطأ.
ثم إن مالكا عزم على تصنيف الموطأ، وقرر أن يقوم بجمع كتاب تحتوي أبوابه صحاح الأخبار، وعمل أهل المدينة في أبواب الفقه، ثم إنه صنفه وأتمه وجوده في مدة طويلة، فعمل من كان في المدينة يومئذ من العلماء الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس، وعملوا أمثاله، فقال: إيتوني بما عملوا، فأتى بذلك فنظر فيه وقال: لتعلمن أنه لا يرتفع إلا ما أريد به وجه الله تعالى، قال ابن عبد البر: فكأنما ألقيت تلك الكتب بالآبار، وما سمعت لشيء منها بعد ذلك بذكر، ولهذا لا يذكر الموطأ إلا ذكر معه مالك([24]).
ومن هذا يتبين لنا أن موطأ مالك يضاهي الصحيحين من حيث الصحة والمكانة بين كتب الحديث.
ثالثا. مقصد الإمام مالك في قوله: “لا ينبغي أن نحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب”:
إن الذي ذهب إليه المشككون من أن الإمام مالكا لم يوافق على حمل الناس على الموطأ؛ لأن أحاديثه ليس مقطوعا بصحتها؛ لا يتفق والفهم الصحيح، ونوضح ذلك بالآتي:
على فرض صحة القصة التي نقلها المشككون، والتي كانت بين الخليفة أبي جعفر المنصور والإمام مالك، والتي قال فيها الإمام مالك: “لا ينبغي أن نحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب”([25]).
فعلى فرض صحة ذلك نسأل هؤلاء:
- هل يتصور أن الإمام مالكا الذي هذب موطأه ونقحه في أربعين سنة يأتي بعد ذلك كله ويقول: لا ينبغي أن نحمل الناس على الأحاديث الموجودة فيه خاصة وقد علمنا مدى حرصه على ذكر الأحاديث الصحيحة فقط في موطأه، وأنه كان متشددا في شرطه لقبول تلك الأحاديث؟!
- هل عندكم شك في أن أحاديث الموطأ هي من قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وليست من قول الإمام مالك؟
- فإذا ما كانت أحاديث الموطأ من قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – فهل يتصور أن يصف الإمام مالك – وهو من هو في اللغة – جمعه للأحاديث بأنه “قول”! إلا أن يكون قاصدا بذلك آراءه واجتهاداته الفقهية في موطأه؟
ومن ثم، فالإمام مالك لم يقصد بقوله: “لا ينبغي أن نحمل الناس على قول رجل يخطئ ويصيب” أن الأحاديث التي دونها في موطأه ليس مقطوعا بصحتها، وأنه لا ينبغي أن نحمل الناس على تلك الأحاديث، فذلك لا يتصور، ولم يقل به أحد قط، خاصة وقد بين العلماء مدى حرص الإمام مالك على أن يذكر الأحاديث الصحيحة في موطأه، وأنها قد اشتملت على أعلى شروط الصحة.
وإنما الذي يقصده الإمام مالك هو آراؤه الفقهية التي كان يدلي بها عقب كل حديث يذكره؛ ودليل ذلك ما رواه أبو نعيم في الحلية عن الإمام مالك بن أنس أنه قال: “شاورني هارون الرشيد أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه فقلت: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب”([26]).
وعليه فلا شك أن الأمام مالكا يتحدث عن آرائه واجتهاداته الفقهية الواردة في الموطأ، والتي رفض أن يحمل الناس عليها؛ لأن صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنفسهم قد اختلفت اجتهاداتهم في الفروع، وتفرقوا في البلدان بعد ذلك وكل مصيب في رأيه، فلا نستطيع أن نخطئ أحدا منهم في اجتهاده، أو نلزم الناس برأي أحد منهم؛ لأنه كما قال الإمام مالك: “كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر”.
“وفي هذا وحي للعالم ألا يستبد وألا يغلق باب العلم من بعده، أو يدعي أنه قال قد أغلق به، وفي هذا فسحة ليسر الدين وسماحته، ورخصة عند الحاجة الملحة وتخفيف من الله ورحمة، فالعلماء الذين يستبدون، والعلماء الذين يتجردون من مواريث العلم الإسلامي، هؤلاء جميعا ينفون عنهم صفة العلم ويتجافون عما رسمه لنا أجدادنا من المنهج القويم الذي يوحد ولا يفرق، ويسهل ولا يصعب”([27]).
ومن هذا يتبين لنا أن الإمام مالكا لم يقل على الأحاديث النبوية التي جمعها في الموطأ أن بعضها صحيح وبعضها خطأ، ولكنه قصد أن اجتهاداته الفقهية هي التي تحمل الصحة والخطأ، أما الأحاديث فهي عنده كلها صحيحة؛ إذ إنه ظل ينقح فيه أكثر من أربعين سنة كلما شك في صحة حديث حذفه، حتى بقي الصحيح منه حسب رؤيته هو وشروطه.
الخلاصة:
- الإمام مالك أول من سلك منهج التحري، وتوخي الصحيح من المحدثين؛ وذلك بانتفاء الأحاديث وفق معايير وضوابط محددة، أضف إلى ذلك هذا الجهد الكبير الذي أمضاه في تنقيح كتاب الموطأ الذي بلغ أربعين عاما، فكيف يسوغ لطاعن أن يطعن في أحاديثه بعد ذلك؟!
- يعد موطأ مالك أول كتاب مدون في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وآثار الصحابة، وفتاوى التابعين.
- لقد توخى الإمام مالك في موطأه منهجا فريدا؛ إذ التزم بذكر الثقات من الرجال؛ حتى كان ذكر الرجل في الموطأ حكما عليه بالتوثيق، ولا غرو فقد اشتهر الإمام مالك بنقد الرجال نقد الفاهم الخبير، فكان لا يكتفي بالعدالة والضبط، بل كان لا بد أن يكون الرواي عنده ممن يزن ما ينقل إليه، ويتعرف حاله، وحال من ينقل عنه؛ ولذا كان يرفض أحاديث رجال كثيرين من أهل الصلاح الذين يعرف لهم فضلهم وتقواهم، ولقد بلغ من تحريه أنه كان يشترط الشهرة بطلب العلم والعناية به حتى يعلم الراوي ما يحدث به.
- منذ ألف مالك الموطأ والعلماء يضربون أكباد الإبل إلى المدينة يسمعونه منه، حتى لقد رواه عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل.
- عني الناس بالموطأ على اختلاف مشاربهم، فكان منهم المبرزون من الفقهاء؛ كالشافعي، ومحمد بن الحسن، وابن وهب، وابن القاسم، ومنهم جهابذة المحدثين؛ كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق بن همام، ومنهم الملوك والأمراء؛ كالرشيد وابنيه الأمين والمأمون، وبذلك اشتهر الموطأ في عصر مؤلفه فانكب الناس عليه من جميع ديار الإسلام القاصى منهم والداني.
- لقد اختلفت آراء العلماء حول درجة الموطأ بين كتب الحديث، وتلك الاختلافات لا يخرج رأي منها عن كون الموطأ من أصح كتب الحديث؛ فمنهم من يرى أنه مقدم على الصحيحين، ومنهم من يجعله مع الصحيحين في مرتبة واحدة، ومنهم من رأى مرتبته دون مرتبة الصحيحين، وهو رأي جمهور المحدثين.
- إن الإمام مالك رحمه الله عرض كتابه على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، وكلهم واطأه عليه، لذا سمي الموطأ، كما روي أن الإمام مالك رحمه الله رأى في منامه النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول له “وطئ للناس هذا العلم”.
- إن الذي ذهب إليه المشككون من أن الإمام مالكا لم يوافق على حمل الناس على موطئه؛ لأن أحاديثه ليس مقطوعا بصحتها لا يتفق مع الحقائق ولا الفهم الصحيح؛ لأن الذي يقصده الإمام مالك من قوله – هو آراؤه واجتهاداته الفقهية التي كان يدلي بها عقب كل حديث يذكره في الموطأ.
(*) شبهات وأباطيل منكري السنة، أبو إسلام أحمد عبد الله، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط2، 1426هـ/ 2006م.
[1]. الاستذكار، ابن عبد البر، تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م، (1/ 12).
[2]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (8/ 73).
[3]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، أبو الحجاج يوسف المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (25/ 635).
[4]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (8/ 71، 72).
[5]. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري، مطبعة فضالة ـ المحمدية، المغرب، ط2، 1402هـ/ 1982م، (1/ 63).
[6]. المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، القاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي، تحقيق: محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص 403، 404. الواضح في منهاج المحدثين، د. ياسر الشمالي، دار مكتبة الحامد، عمان، ط2، 2003م، ص 293، 294.
[7]. انظر: من جهود الأمة في حفظ السنة، أحمد حسين محمد إبراهيم، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، 1419هـ/ 1999م، ص 211: 215.
[8]. المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، القاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي، تحقيق: محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص 403.
[9]. ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض، (1/ 31).
[10]. ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض، (1/ 33).
[11]. ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض، (1/ 43).
[12]. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري، مطبعة فضالة ـ المحمدية، المغرب، ط2، 1402هـ/ 1982م، (1/ 65).
[13]. الفكر المنجهي عند المحدثين، همام عبد الرحيم سعيد، ص 113، 114، نقلا عن من جهود الأمة في حفظ السنة، أحمد حسين محمد إبراهيم، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، 1419هـ/ 1999م، ص 214.
[14]. مالك حياته وعصره، محمد أبو زهرة، ص 192، نقلا عن: من جهود الأمة في حفظ السنة، أحمد حسين محمد إبراهيم، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، 1419هـ/ 1999م، ص 214.
[15]. الفكر المنهجي عند المحدثين، همام عبد الرحيم سعيد، ص 118، نقلا عن من جهود الأمة في حفظ السنة، أحمد حسين محمد إبراهيم، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، 1419هـ/ 1999م، ص 215.
[16]. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري، مطبعة فضالة ـ المحمدية، المغرب، ط2، 1402هـ/ 1982م، (1/ 78).
[17]. انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض، (1/ 60).
[18]. موطأ الإمام مالك، مالك بن أنس، تحقيق: تقي الدين الندوي، دار القلم، دمشق، ط1، 1413هـ/ 1991م، (1/ 29).
[19]. انظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري، مطبعة فضالة ـ المحمدية، المغرب، ط2، 1402هـ/ 1982م، (1/ 84).
[20]. انظر: الحديث والمحدثون، محمد أبو زهو، مطبعة مصر، القاهرة، ط1، 1378هـ/ 1958م، ص 252، 253.
[21]. الغرز: هو موضع الركاب من رحل البعير.
[22]. البحرية: السحابة.
[23]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامى، مصطفى السباعى، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص 389، 390 بتصرف.
[24]. الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، عبد الغني الدقر، دار القلم، دمشق، ط3، 1419هـ/ 1998م، ص104، 105.
[25]. مجلة البحوث الإسلامية الرئاسة العامة لإدارات لبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، عدد رقم (31) رجب إلى شوال، 1411هـ، ص 51.
[26]. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، (6/ 332).
[27]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين، رءوف شلبي، دار الطباعة الحديثة، مصر، د. ت، ص 211.