الزعم أن إيمان المسلمين موروث تقليدي
وجوه إبطال الشبهة:
1) الإيمان يعني التصديق فكيف يكون تقليديا موروثا وحقيقته تسليم وانقياد؟
2) الأصل أن الإنسان مفطور على الإيمان، أما الكفر فهو طمس لهذه الفطرة، وعليه فإيمان المسلمين فطري لا موروث، وشتان ما بين الأمرين، وهذا ما تضافرت على إثباته الأدلة الفلسفية والشرعية الصحيحة، والعقلية الصريحة.
3) أثر الإيمان في الحياة يبرهن على أن وراثة الحق خير من وراثة الباطل، وانظر إلى أوربا لما أخذت ببعض القيم الحياتية والأخلاقية كيف صلح حالها واستقام أمرها، ولما تركت العمل بمجموعة هذه القيم انتكست شئونها وفسد نظامها الأخلاقي والروحي.
التفصيل:
أولا. الإيمان يعني التصديق وحقيقته تسليم وانقياد:
الإيمان لغة: التصديق الجازم، سواء تبع ذلك عمل أم لا، ومحله القلب. آمن به إيمانا أي: وثق فيه وصدقه [1].
وهذا يعني أن المسلمين إذا قالوا: آمنا بالله – مثلا – كان معنى قولهم:
“صدقنا بوجود الله وألوهيته، ووحدانيته”، وكذلك آمنا بالإسلام، أي: صدقنا كل ما جاء به الإسلام، ولم يرد عن العرب أن جعلوا الدليل شرطا لصحة هذا التصديق، ونصوص الإسلام – القرآن والسنة – لا تفهم إلا وفق قواعد اللغة العربية. وصدق من قال: “ويفهم القرآن الكريم وفقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف، أو تعسف”. والتكلف: إضافة معنى للفظ لا يحتمله، ولم يذكره العرب، والتعسف: هو صرف اللفظ عن أحد معانيه.
الإيمان اصطلاحا[2]: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وها هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول هذا المعنى حينما يسئل عن الإيمان في حديث سيدنا جبريل – عليه السلام – المشهور حينما سأله عن الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره»[3].
أي تصدق بوجود الله، وتصدق أنه رب هذا الكون، أي خالقه ومالكه ومدبر أمره، وتصدق بوجود الملائكة وتستحيي منهم وتقتدي بهم، وتصدق كذلك أن الله أنزل كتبا مقدسة، وتصدق أيضا بأنه أرسل رسلا إلى الناس ليدلوهم عليه، وتصدق باليوم الآخر، أي البعث والحساب، وتصدق أن القدر يسير بأمر الله، فلا تحزن لمكروه ولا تفرح بنعمة، بل تشكر الله عليها.
ويقول ربنا سبحانه وتعالى: )إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2)( (الأنفال). والآية تتكلم عن الإيمان من الناحية العملية. ويقول – سبحانه وتعالى – أيضا: )إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15)( (الحجرات).
ويأتي الإيمان كذلك بمعنى الإسلام مصداقا لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – مجيبا السائل الذي سأل: «فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان…»[4].
ويتضح لنا مما تقدم أن الدليل ليس شرطا من شروط صحة الإيمان، وتلك رحمة امتن الله – عز وجل – بها على عباده، فربنا – عز وجل – يعلم أنه لن يكون بمقدور كل الناس استنباط أدلة على إيمانهم، فهذا الفلاح، وهذا العامل، وهذا من ليس له حظ من العلم، لماذا يحرمون من الإيمان؟ هل ترون أن الإسلام إن فعل ذلك يكون منصفا؟ إن تلك الأصناف التي ذكرناها هي جموع الناس الغفيرة، والإسلام جاء لكل الناس: للغني والفقير، للعالم ولمن لم يتعلم، لمن يستطيع استنباط دليل ومن لا يستطيع.
وصدق ربنا – عز وجل – إذ يقول: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، وإذا كانت طبيعة الإيمان وعدم اشتراط الدليل فيه رحمة من تلك الرحمات. فإن الواقع يثبت أدلة الإيمان، والشرع يحض عليها؛ لأن الدليل يزيد الإيمان ويعمقه؛ لذلك أمر الإسلام أتباعه أن يتفكروا في خلق السماوات والأرض وما فيهما، قال سبحانه وتعالى:)أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنـات وحـب الحصيـد (9) والنخـل باسقـات لهـا طلـع نضيـد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11)( (ق)، بل إن الحق – عز وجل – تكفل بإبراز هذه الأدلة وسوق تلك البراهين للناس أجمعين، فقال سبحانه وتعالى: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)( (فصلت).
والعقل يندهش حينما يرى كيفية سوق الله – عز وجل – الأدلة والبراهين على هذا الإيمان، كل على حسب عقله وثقافته، فكم جلسنا مع أناس بسطاء لا حظ لهم من علم أو ثقافة يذكرون لنا أدلة على إيمانهم، أدلة بسيطة لكن الإيمان بها عميق وراسخ، وكثيرا ما نسمع على لسان هؤلاء كلمة “سبحان الله” إذا نزل مطر أو هب ريح أو حدث أي أمر من الأمور المعتادة.
إن الله يسوق الأدلة على الإيمان لكل الناس: العالم وغير العالم، الغني والفقير، القوي والضعيف، من يعمل عقله ومن لا يعمله، إن ذلك من رحمة الله – عز وجل – بخلقه. إله ما أرحمه، وإيمان ما أيسره وأعمقه!!
حقيقة الإيمان:
وحقيقة الإيمان هي التسليم والانقياد، فهؤلاء الذين يدعون أن إيمان المسلمين اليوم لا حقيقة له لأنه موروث، كان من الواجب عليهم أن يعلموا حقيقة الإيمان أولا قبل حكمهم هذا الذي أطلقوه على المسلمين من بطلان إيمانهم. “فالإيمان هو الحيثية الجامعة للإنسان على أن يسلم زمامه إلى من آمن به”، إذن الإيمان في الغيبيات وفي الاعتقادات[5].
والحيثية الجامعة تعني الأهداف أو الغايات التي ترفع المسلم إلى إسلام زمامه لله – عز وجل – وهي في جملتها إدراك صحة إيمانه هذا بإسلام أمره كله إلى الله تعالى، والمتتبع لحال المسلمين الآن يجد أكثرهم مسلمي أمرهم لله تعالى إيمانا وعقيدة، وإن خالفت بعض أعمالهم هذا، وهم بذلك لا يخرجون عن ربقة الإيمان، بل يحيدون عن بلوغ قمته، فمثلا حينما نسمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»[6].
فهل معنى هذا أن يخرج من لا يصل حبه لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهذه الدرجة من ربقة الإيمان؟ كلا، بل الأمر – كما فسره علماؤنا – أن إيمانه لم يكتمل، وكماله مشروط بمحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذه الدرجة من الحب. وحينما نسمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول في حديث آخر: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»[7]. أو حتى يقول ما هو أشد من ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لايؤمن”، قيل: من يا رسول الله؟ قال: “الذي لا يأمن جاره بوائقه»[8]. فهل معنى الحديثين السابقين انتفاء الإيمان عمن فعل ذلك؟ بالطبع كلا. بل إن الأمر يتعلق بكمال الإيمان، لا وجوده أو عدم وجوده.
ثانيا. الإنسان مفطور على الإيمان، أما الكفر فهو طمس لهذه الفطرة:
الإنسان هو الإنسان له كينونته الخاصة التي خلقه الله عليها، لا تتبدل ولا تتغير، وقد غرسها المولى – عز وجل – في طبعه، ومن هذه الفطرة قضية التدين، وقد وضح د. محمد الزحيلي ذلك بقوله: إن التدين فطرة في الإنسان، وهو جزء من كيانه ووجوده، مثل بقية الغرائز التي تتكون منها النفس منذ خلقت البشرية، وحتى تقوم الساعة، كغريزة الجنس، وحب البقاء، والطعام، والشراب، وإن التخلي عن إحدى الغرائز شذوذ وانحراف بالفطرة والإنسان، وهذا الانحراف والشذوذ متوفر في بعض الناس لتأكيد صفة النقص، وأن الكمال لله وحده؛ والإنسان مجموع من الجسد – المخلوق من الطين – والروح، والله قد استخلفه في الأرض وطلب منه أن يتطلع إلى السماء، فإن ظهر الإلحاد أو الكفر أو الانحراف عن الدين، فهذا دليل على جنوح الإنسان إلى الأرض والشهوة، ودليل على بعده عن الروح والسماء، أي هو تغليب لجانب على جانب في حياته، أو هو إعمال لشطر واحد في فطرته وإهمال للشطر الثاني.
جاء في معجم “لاروس” للقرن العشرين: إن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى أشدها همجية وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية. وهذا معنى كلمة الفيلسوف اليوناني سقراط: “وكما يشعر الإنسان بحاجته الماسة إلى الهواء والماء والطعام، تشعر روحه أنها في حاجة مبرمة أيضا إلى غذاء معنوي إلهي، وهذا الشعور هو في عرفنا الدين الذي اهتدى إليه أول إنسان”.
ومن الثابت تاريخيا أن فكرة التدين لم تفارق البشرية، ولم تخل منها أمة من الأمم القديمة والحديثة؛ لأنها نزعة أصيلة ملازمة للناس جميعا، لذلك قال بعض العلماء: إن الحضارات المادية في التاريخ كان مبعثها الدين، وإن المجتمع الأوربي الحديث لم يتخل عن الدين، وإن شعار العلمانية[9] الذي رفعته أوربا هو خداع وتضليل، وإن أوربا الحديثة، وأوربا المعاصرة، مجتمعاتها ودولها مجتمعات ودول دينية، وهي مجتمعات ودول أخذت في الاعتبار منذ قيامها وتكوينها حماية الدين والذود عن المسيحية.
والبحث عن أمور الدين – وأهمها وجود الخالق – لم ينقطع لحظة في تاريخ البشرية، وقد يصل الباحث إلى الغاية المطلوبة والهدف الصحيح، وقد يضل عن الطريق ويشغل ببعض الظواهر، ويتوقف عند بعض العقبات ليحط العقل البشري رحاله، ويتخذ عقيدة ضالة ودينا ممزوجا بالخرافات والأساطير، وهنا تسمو الديانات السماوية التي أنزلها الله تعالى وأوحاها إلى أنبيائه ورسله؛ لتبين للناس العقيدة القويمة والدين الحق، ويبقى في السمو والارتقاء الدين السماوي المحفوظ الذي لم يتغير ولم تعبث به الأيدي، ولم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه الإسلام الذي نبحث عنه ونبين وظيفته في الحياة، وحاجة الإنسانية إليه [10].
الأدلة الفلسفية على الغريزة الدينية:
من الأسس الأصلية في المنهج العلمي السليم: أن يعتمد على الاستقراء الذي يدفع إلى الاستنتاج، يفصل القول في ذلك د. محمد الزحيلي فيقول: ويستدل علماء الأديان والاجتماع والفلسفة على كون التدين فطرة بالاستقراء والاستنتاج؛ للكشف عن بواعث التدين الفطرية، وهذه البواعث هي:
- إن نزعة التدين ظهرت من غريزة التطلع إلى الغيب ومحاولة معرفة الحقيقة الرابضة وراءه، وعدم الوقوف عند حدود الواقع الحسي، والعودة إلى التأمل في المسائل الأزلية: لم خلق الإنسان؟ ومن خلقه؟ ولم خلق الكون؟ ومتى؟ ومن خلقه؟ وما مبدأ الإنسان؟ وما غايته وهدفه؟ وإلى أين يسير؟ وما نهاية الكون؟ وما مصير الإنسان؟ وماذا بعد الموت؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تدفع الإنسان إلى الإيمان بالله، وإلى البحث والنظر والسعي والعلم والاكتشاف، وهذا التطلع والتأمل في هذه القضايا الغيبية كانت ولا زالت وستبقى الشغل الشاغل للإنسان؛ لأنه يريد الوصول إلى اليقين أمام مشكلات الكون الكبرى، مهما تقدمت به المدنية وتعددت الاكتشافات، وترقي العلم؛ لأن العلم عاجز قطعا عن الإجابة عن هذه الأسئلة، ومقيد بكشف نواميس الكون دون أن يغير منها شيئا، ومجاله محدد في النواحي المادية التي وضعت تحت حواسه، كما سنرى بعد قليل.
يقول ساتن هيلير: “هذا اللغز العظيم الذي يستحث عقولنا: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاءا؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب أن يقود عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة لا توجد أمة ولا شعب ولا مجتمع، إلا وضع لها حلولا جيدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحولة”.
- العجز في الإنسان وحاجته إلى قوة جبارة تنقذه من المهالك وتعينه وقت الشدة، ويستغيث بها وقت الضيق، فتنجده وتخرجه من المآزق، وتقدم له العون عند الحاجة، وهذا العجز موجود في كل نفس، ويلمسه الإنسان في نفسه، ويسمعه من غيره. سأل رجل الإمام جعفر الصادق عن الله، فقال: ألم تركب البحر؟ قال: بلى. قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟ قال: نعم، قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم. قال: فهل خطر في بالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم. قال: فذلك هو الله.
هذا الشعور النفسي بوجود المنقذ من الهلاك، والمنجي من الهم والغم والحزن والكرب، إما أن يبقى مع الإنسان فيكون مؤمنا، وإما أن يتنكر له، ويجحد هذا الفضل ويعرض عن ربه، فيكون كافرا وملحدا وضالا، وقد صور القرآن الكريم في آيات كثيرة ومواطن مختلفة، هذه النماذج من النفوس، قال صلى الله عليه وسلم: )هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصيـن لـه الديـن لئـن أنجيتنـا مـن هـذه لنكونـن مـن الشاكريــن (22) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23)( (يونس)، وقال صلى الله عليه وسلم: )وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67)( (الإسراء)، وقال سبحانه وتعالى: )وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله( (الزمر: 8)، وقال سبحانه وتعالى: )وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55) ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون (56)((النحل)، وقال سبحانه وتعالى: )قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63)( (الأنعام).
هذه الآيات الكريمة تكشف هذا الإحساس النفسي الباطني عن عجز الإنسان، وتذكر بعض الصور الدقيقة التي لا مهرب منها لكل فرد، من إقراره بالعجز، والتجائه إلى القوة الغيبية الخالقة المبدعة التي تتصرف بالكون؛ لتنقذه من المهالك، ويستنجد بها في أحلك الظروف للنجاة، ويعطي الوعود والعهود بالتوبة والإنابة والطاعة والخضوع، ثم لا يلبث أن ينسى حاله، وينقض وعده، ويتيه في غيه وضلاله إلا من رحم ربك، وأعمل عقله واحترم نفسه، وفكر في ماضيه وحاضره ومستقبله، فهو على العهد باق، وبالعقيدة والإيمان بالله ملتزم.
يقول الأستاذ محمد قطب: “يحس الإنسان بالعجز إزاء الكيان الكوني من حوله، يبدأ العجز من لحظة الميلاد، ويستمر إلى لحظة الموت، ولا ينقطع فيما بين الميلاد والموت، وإن كان يأخذ صورا مختلفة في كل سن، وكل طور من أطوار النمو الجسمي والنفسي… ويظل يكبر ويكبر معه العجز حتى يستوي على أشده، وما يزال يحس بالعجز في أكبر مجالاته، العجز عن تحقيق كل ما يريد تحقيقه، والعجز عن معرفة كل ما يريد معرفته، والعجز عن السيطرة على كل ما يريد السيطرة عليه…”، ثم يقول: “حقا إنه يحقق أشياء كثيرة، ويعرف أشياء كثيرة، ولكن هذا لا ينفيه ولا ينفي عن خاطره شعور العجز، فهو يريد أن يحقق كل شيء، ويعرف كل شيء، ويسيطر على كل شيء.. وأشد ما يقف أمامه عاجزا رغبة الخلود، والرغبة في معرفة الغيب الذي لم يحدث”.
- ومن دوافع الفطرة إلى التدين الإحساس بالخوف، والرهبة أمام هذا الكون العظيم وما يجري فيه، مما يحرك أحاسيس الإنسان ويوقظ مداركه، ويدفع عقله – بالغريزة والفطرة – ليبحث عن خالق الكون، فيأنس به، ويطمئن قلبه عنده، ويهدأ روعه وخوفه، ويأمن جانبه، ويعقد أواصر التقرب له، ثم يقدم الطاعة والعبادة لعظمته، وهذا هو الدين.
وقد لفت القرآن النظر في آيات متعددة إلى هذا الكون العظيم، وما فيه من أجرام ومشاهد ومخلوقات تستحق الوقوف أمامها، ويقف الإنسان عندها مشدوها عاجزا لا يملك حراكا ولا عطاء، بل جاءت بعض الآيات الكريمة تتحدى مظاهر الكون والطبيعة والإنسان على أن تخلق نفسها أو تخلق غيرها أو تملك النفع أو الضرر لنفسها أو لغيرها. قال الله سبحانه وتعالى: )والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (21) إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22)( (النحل). وقال – سبحانه وتعالى – على لسان إبراهيم عليه السلام: )إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42)( (مريم). وقال سبحانه وتعالى: )وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) أأتخذ من دونه آلهة إن يـردن الرحمــن بضـر لا تغـن عنـي شفاعتهـم شيئـا ولا ينقـذون (23)( (يس). وقال سبحانه وتعالى: )ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله( (يونس: 18).
وقال سبحانه وتعالى: )الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3) وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)( (الرعد)، وقال سبحانه وتعالى: )هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13)( (الرعد).
ويقول سبحانه وتعالى: )خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني مـاذا خلـق الذيـن مـن دونـه بـل الظالمـون في ضـلال مبيــن (11)( (لقمان). ويقول سبحانه وتعالى: )أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)( (النحل)، )والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20)( (النحل(، ويقول سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3)( (فاطر). ويقول – سبحانه وتعالى – متحديا البشر في الخلق والإعادة: )قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون (46)( (الأنعام).
ولنتأمل هذه المحاورة مع الكفار في قوله سبحانه وتعالى: )وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون (70) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72)( (القصص)، ويقول سبحانه وتعالى )الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2) واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا (3)( (الفرقان).
والآيات كثيرة في هذا الخصوص، ولا يقف الإنسان أمامها عاجزا فقط، وإنما يصاب بالرهبة والخوف والجمود والحيرة، لولا ثقته بالله وإيمانه به.
وقد يقول قائل: إن هذه الرهبة كانت في القديم، فأثارت نفس الإنسان البدائي، فاندفع إلى التدين ليأمن من خوف الطبيعة، والكون، واليوم لا نحس بذلك، ولا نلمسه في النفس الإنسانية، وبالتالي فلا حاجة للدين اليوم؟!
والجواب على ذلك: أن هذا الإحساس بالرهبة كان ولا يزال وسيبقى؛ لأنه نتيجة حتمية للعجز الذي يتركب منه الإنسان بفطرته وملكاته وإمكانيته، ولكن هذه الرهبة تغيرت بواعثها، ففيالقديم خاف الإنسان من خسوف القمر، وكسوف الشمس، وأصابته الرهبة من الرياح، والأعاصير، والعواصف، ووقف يرتجف من بعض الحيوانات المفترسة والوحوش الكاسرة، وخشي من القحط والجدب وقلة المطر، وجفاف الأنهار.
أما بواعث الرهبة اليوم فلم تقتصر على ما سبق، وإنما تتحقق في نفوس العلماء الذين واصلوا الليل بالنهار، كل في اختصاصه، ثم وصلوا إلى الطريق المسدود، ووقفت الوسائل، وعجز العلم أمام اللغز المحير، وأدرك كل عالم أن وراء ذلك قوة كاملة، وإرادة منظمة، وعظمة مطلقة، مثل تفجير الذرة، ومرض السرطان وبقية الأمراض المستعصية، ومعرفة تركيب العين، والسر في انسجام أعضاء الجسم، ولفظ الأعضاء الأجنبية عند نقل الكلية أو القلب.. والصبغيات في تكوين الجنين، والخلايا في المخ والدماغ، وعصب العين.
ونعود لنسأل: هل استطاعت الإنسانية والعلم أن يضعا حدا للزلازل والأعاصير التي تتحرك في جنوب شرق آسيا مثلا؟ وتزيل مدينة صناعية كاملة من وجه الأرض في الصين، ويذهب ضحيتها الملايين في ثوان معدودة؟ وهل استغنى البشر اليوم عن الأنهار الجارية والأمطار؟ وهل يغيب عن ذهن العاقل أخطار الجفاف وقلة الأمطار التي كانت تهدد أوربا بالأمس، وآسيا وإفريقيا اليوم وتنذرها بأفدح العواقب؟
وإذا استطاع العلم أن يكشف نظام أحد المخلوقات ويعرف كيفية عمله ويدرك سر تكوينه فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيئا، ولا يفقد الفكرة قيمتها؛ لأن هذا الكائن المخلوق يسير على نسق لا يستطيع العلم تغييره ولا تبديله، مثل تكوين الأمطار وهطولها، مع العجز عن تغيير نظامها، وتبديل الأمطار الشتوية إلى صيفية، والموسمية إلى فصلية، ونقل الأمطار والطوفان من آسيا لتخفيف الجفاف في أوربا، أو بالعكس، كما اكتشف العلم تركيب الهواء، أو الماء، ولكن هل غير من تركيبه؟ وهل أوجد شيئا من العدم؟ وبذل البشر ملايين الملايين للوصول إلى القمر والمريخ، ولكن هل غيروا من نظامهما؟ وهل عدلوا من سيرهما ولو مثقال ذرة؟
وإذا كان بعض العابثين لا يشعرون بهذه الرهبة؛ لأنهم يقنعون أنفسهم بما قدمه العلم من تفسير لبعض الظواهر التي كانت تخيف الناس في السابق، مثل تفسير ظاهرة الخسوف، أو الكسوف، أو نزول المطر، أو حدوث البرق والرعد، أو دوران الشمس والقمر، ويقفون عند هذه التفسيرات الظاهرية ثم يضعون القفل على العقل، ويسدون الطريق أمامه في متابعة الحكمة، والغاية، والهدف، والسر في هذه الظواهر، والدقة في حدوثها والمحرك لها، فإن هؤلاء أشبه بالطفل الذي يقترب من النار، ولا يرهب حرها، ويرمي بنفسه على السيارة المسرعة ولا يدرك خطرها، ويعبث بسلك الكهرباء ولا يعقل سعيرها، ويلهو بكتب والده أو أدواته الطبية، والهندسية، وآلاته الحساسة، ولا يعرف قيمتها، أما العالم بكل ذلك فهو المقدر لكل شيء قدره، وهو الذي يحس بالرهبة والخوف أمام عظمة الله – سبحانه وتعالى – في خلقه وكونه، وصدق الله العظيم: )إنما يخشى الله من عباده العلماء( (فاطر: 28).
- ومن الدوافع الفطرية للتدين الموت الذي يردع الأحياء ويهزهم إلى الأعماق، وينبه فيهم القوى المعطلة، والأجهزة المتجمدة، والإحساس المخدر، ويزيل من أمامهم الحجب، ويكشف لهم الطريق، ويذهب الغبش عن العين، فيصحو الإنسان لنفسه، ويتفكر في حياته، ويبحث عن الهدف من الحياة، ويستطلع ما بعد الموت، ويدرك تماما قيمة الحياة الآخرة، وتفاهة الدنيا، وأنها متاع قليل، وأن الكمال الحقيقي الذي يتفق مع تكريم الإنسان وتفضيله على سائر المخلوقات أن تكون نفسه وروحه باقية بعد الموت، ويدرك كذلك أن لها حياة أخرى بعد هذه الحياة يلتقي فيها الأحبة والخلان، وفيها يحاسب كل إنسان على عمله؛ لتتحقق العدالة المطلقة، فيلقى كل إنسان جزاء عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، يقول سفيان الثوري رضي الله عنه: “الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا”.[11]
ونلمس هذه الأحاسيس يوميا في الحياة من الملحدين والفاسقين والغافلين والمقصرين والعابثين، فإذا فاجأهم الموت بعزيز أو بقريب أو بحبيب نطقوا بالحق، وصحوا من النوم أو الغفلة، وصرحوا بالإيمان ولبوا نداء الفطرة، وبحثوا عن التدين، وأسرعوا إلى الطاعة والعبادة، وأنابوا إلى بارئهم، ومنهم من يستمر، ومنهم من ينقلب على عقبيه.
- التأمل في نظام الكون وأجزائه والتفكر في المخلوقات، بدءا من الإنسان وتكوينه وأعضائه وأجهزته، وانتهاء بالنجوم والمجرات وطبقات الأرض، وكلما تقدم العلم وقف العقلاء مبهورين ومبهوتين من عظمة هذا الكون ونظامه الدقيق؛ ليقفوا بكل خشوع وإجلال وتذلل أمام القدرة الخالقة المكونة، وهذا انتقال من المخلوق إلى الخالق، ومن الطبيعة إلى مكونها وبارئها، ومن السبب إلى المسبب، ومن المصنوع إلى الصانع، مما يقتضيه العقل ويسوق إليه الفكر في أدق الأمور وأجلها، وأحقر الأشياء وأعظمها، وهو ما نطق به ذلك الأعرابي بفطرته السليمة، فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على السير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟!
والقرآن الكريم عرض جولات كثيرة جدا مع هذا الباعث الفطري للتدين؛ ليحث العقل على التأمل بالكون، والتدبر في المخلوقات والبحث عن نظامها العجيب؛ ليغرس في نفسه الإيمان والعقيدة، من ذلك:
قوله سبحانه وتعالى: )وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكـم أفـلا تبصـرون (21) وفي السمـاء رزقكـم ومـا توعــدون (22)( (الذاريات).
قوله سبحانه وتعالى: )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20) فذكر إنما أنت مذكر (21)( (الغاشية).
قوله سبحانه وتعالى: )الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم ارجع البصـر كرتيـن ينقلـب إليـك البصـر خاسئا وهـو حسيـر (4)( (الملك).
قوله سبحانه وتعالى: )خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (5) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)( (الزمر).
قوله سبحانه وتعالى: )الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولـم يكن لـه شريـك في الملك وخلـق كـل شيء فقـدره تقديـرا (2)( (الفرقان).
قوله سبحانه وتعالى: )وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36) وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)( (يس).
ونستطيع القول إنه لا توجد سورة في القرآن الكريم – وخاصة السور المكية – إلا وفيها إشارة أو تصريح أو عرض كامل للنظر في الكون والتأمل في نظامه وإبداعه، لتحريك السمع والبصر والحواس والعقل للتفكير في خلق الله تعالى، ثم الوصول إلى الاعتراف والإقرار بالألوهية والربوبية.
هذه البواعث الخمسة: “التطلع إلى الغيب، والعجز، والإحساس بالرهبة والخوف، والموت، والتأمل في نظام الكون” هي التي يستدل بها العلماء على كون التدين فطرة في النفس، وقد عرضناها بأسلوبهم، ثم بينا ما يؤيدها ويدعمها من القرآن الكريم الذي حرص على تحريك الفطرة البشرية، والغرائز الإنسانية لإثبات العقيدة وتنمية الإيمان في النفوس[12].
الأدلة الشرعية على الغريزة الدينية:
ويتابع د. محمد الزحيلي حديثه عن التدين وملازمته للفطرة مع وضوح الأدلة النقلية على ذلك فيقول: “ويمكننا أن نستدل على غريزة التدين في الإنسان، وأنها مفطورة في نفسه وتكوينه بالدليل النقلي الصريح المباشر من كتاب الله تعالى، في الآيات التي تحدثت عن خلق الإنسان وفطرته وجبلته، وما رافق ذلك من وجود الدين في النفس البشرية وذلك على التفصيل الآتي:
قال الله سبحانه وتعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32)( (البقرة)، ثم يقول سبحانه وتعالى: )قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38)( (البقرة).
قال الله سبحانه وتعالى: )قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عـدو فإمـا يأتينكـم منـي هـدى فمـن اتبـع هـداي فـلا يضـل ولا يشقــى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)( (طه).
قال الله سبحانه وتعالى: )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فـإذا سويتـه ونفخـت فيـه مـن روحـي فقعـوا لــه ساجديــن (72)( (ص).
فالآيات السابقة تصرح في مجموعها بأن الإنسان خليفة الله عز وجل في أرضه، وأن الهداية والديانة، والإيمان، أمور رافقته منذ هبوطه إلى الأرض، كما تصرح بطبيعة الإنسان وأصل خلقه وجبلته، وأنه من طين، منفوخ فيه من روح الله تعالى، وأن الجسد لا ينفصل عن الروح، وأن كل محاولة للفصل، أو بذر الشقاق بينهما شذوذ وانحراف في السلوك، وعاهة في التكوين، كما أن كل عنصر له متطلبات، وقد خلقت له ميول للمحافظة عليه؛ فالطعام والشراب والجنس للمحافظة على الجسد، والتدين للمحافظة على الروح.
قال الله سبحانه وتعالى: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا( (الأعراف: 172). فهذه الآية صريحة في وجود التدين في النفس الإنسانية قبل وجودها وظهورها على ظهر البسيطة.
قال الله سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( (الروم: 30). فالنفس أو الفطرة خلقها الله تعالى، وأودع فيها هذا الاتجاه إلى الخالق، والإنسان مهما ابتعد عن منهج الله، وجحد وجوده، وكفر بالدين، فإنه لن يستطيـع أن يغيـر فطرتــه: )لا تبديــل لخلــق الله( (الروم: 30)، بدليل أنه لا يستطيع أن يحجب هذه الفطرة عما يجيش فيها عند الأزمات والأوقات الحرجة وأمام البواعث السابقة للتدين، وبدليل ما يجده الإنسان من الندم على الأفعال الذميمة، ومن وخز الضمير – إن بقي عنده ضمير ولم تفسده المفاتن والشياطين – وهذا ما قصده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[13].
فالإنسان لا غنى له عن التدين؛ لأنه جزء من ذاته ونفسه وفطرته، ولذا يجيب أحد الفلاسفة الفرنسيين على سؤال: لماذا أنا متدين؟ فيقول: لأنني لم أحرك شفتي بهذا السؤال مرة إلا وأراني مسوقا للإجابة عليه بهذا الجواب: وهو: أنا متدين؛ لأنني لا أستطيع أن أكون خلاف ذلك؛ لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي.
ويقول الشيخ محمد عبده عن الشعور الديني: هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة، المنبعث في جميع الأنفس، عالمها وجاهلها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن يعد ضلة عقلية أو نزعة وهمية، وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا النوع.. ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء، شعور بهيج بالأرواح التي تحس هـذا البقـاء الأبـدي، ومـا عسـى أن تكـون عليـه متـى وصلــت”[14].
الفطرة في الإسلام وعلاقتها بالأوليات العقلية:
لا شك أن الفطرة المركوزة في الإنسان، والتي إن استعملت استعمالا سليما، فإنها تهدي على الفور إلى الدين القويم، ترتبط بالأوليات العقلية البسيطة، وعن هذا الارتباط يتحدث د. عبد الرحمن الزنيدي فيقول: قال سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( (الروم: 30). وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء”[15]. ثم قرأ أبو هريرة: )فطرت الله التي فطر الناس عليها(.
ما هذه الفطرة؟ وما الشيء الذي يفطر عليه الإنسان على ضوء هذين النصين؟ وما علاقتها بالمبادئ القبلية الفطرية؟
أما الفطرة: فقد فسرت بتفسيرات كثيرة؛ فقيل: هي الإلهام للإيمان والكفر، وذلك مصداق قوله سبحانه وتعالى: )فألهمها فجورها وتقواها (8)( (الشمس). وهذا عند الذين ينكرون فطرية معرفة الله، ويرون أنها نظرية لا تحصل إلا بالاستدلال والنظر، وقيل: هي المعرفة، أي معرفة الله والإقرار بربوبيته. وقيل: إنها الدين الذي أرسل الله به رسوله، وأعظمه معرفة الله وتوحيده، وهذا مذهب جمهور السلف؛ قالوا: الفطرة: الإسلام، ويؤيد هذا ما جاء في روايات أخرى: «كل مولود يولد على الملة»[16]. و «خلقـت عبـادي حنفـاء كلهــم، وإنهـم أتتهـم الشياطيـن فاجتالتهــم»[17] [18]. قال ابن تيمية: “وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده يجمع أصلين:
أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أحبه، وأمر به.
والثاني: حل الطيبات التي يستعان بها على المقصود، وهو الوسيلة، وضدها تحريم الحلال.
أما علاقة الفطرة بالمبادئ القبلية: فإما أن يقال: إن هذه الفطرة الدينية تمثل جزءا من هذه المبادئ والأفكار الأولية، بل هي أوضح أجزائها؛ فإنها من العلوم اللازمة للخلق التي لم يخل منها بشر قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم، فإذا تصورت كانت علوما ضرورية.
وإما أن يقال إن هذه المبادئ هي قاعدتها التي تقوم عليها بحكم أنها حق، وما تؤدي إليه حق، فالمعرفة الدينية فطرية ضرورية على الحالين، سواء قيل إنها فطرية بنفسها، أو قيل إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس.. فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد.
ولا يعني أن المولى قد فطر الناس على الإسلام أنه يتمثل في عقولهم بالفعل، كما يتمثل لمن قرأ نصوص الكتاب والسنة وفهمها، خصوصا أن لوثات الوثنية والجاهليات تغشيها حتى يخفت نورها، إن قليلا وإن كثيرا. ولكنها مع ذلك تبقى شعورا عاما في نفس الإنسان – البعيد عن هدى الله – حتى يأذن الله له بسبب يجلو هذه اللوثات كالاطلاع على الدين الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – والاهتداء به، فيشعر عندئذ شعورا فعليا بأن هذا هو ما كان يبحث عنه، وتتطلع إليه نفسه، كما صرح بذلك كثير من الذين أسلموا.
وبهذا نعلم أن هذه النزعة الفطرية الدينية أبعد مدى من الغريزة الدينية، التي يتكلم عنها علماء الاجتماع، ويؤكدون اشتراك كل الأجناس البشرية فيها، وأصالتها في النفوس؛ لأن هذه الغريزة لا تتجاوز – حسب قولهم – الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة، والتأمل في المسائل الميتافيزيقية[19] الكبرى، كيف جاء هذا العالم، وما حكمة وجودنا فيه، وما وراءه؟ وغايتها هو الاتجاه إلى الله، ولهذا كان سبيل إرواء هذه الغريزة هو اعتناق الديانات التي تربط بين الإنسان وبين الله وهي الأديان التي تتطور بتطور البشرية، وتتجاوب دائما مع درجة الثقافة العقلية”.
أما الفطرة التي فطر الله الخلق عليها – كما أخبر بذلك الوحي – فإنه لا يمكن الوفاء بحقها إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعقيدته التي يجد فيها العقل البشري الحل الصحيح المقنع لكل تساؤلاته عن مسائل الوجود والكون والحياة، وبشريعته التي يجد فيها الإنسان الحق واستهداف الخير في كل جزئية منها.
ولهذا اعتبر الإسلام اعتناق الأديان الأخرى حتى ذات الأصل السماوي المبدل؛ اليهودية، والنصرانية – انحرافا عن الفطرة “فأبواه يهودانه، أو ينصرانه”، وهذا ما يشهد به الواقع، فإن كثيرا ممن أسلموا وكانوا قبل إسلامهم على أديان أخرى يهودية أو نصرانية، أو غيرها يخبرون أنهم لم يكونوا يجدون في أديانهم السابقة انسجاما مع الفطرة ولا تحقيقا للسعادة، وإنما وجدوا ذلك – فقط – في الإسلام.
ومثال على ذلك: الفنان الإنجليزي الشهير كات ستيفينز أو يوسف إسلام كما سمى نفسه بعد إسلامه؛ فقد نشأ على المسيحية وعرف عقائدها، وسعى لبلوغ الكمال الذي ترسمه المسيحية كما يقول ولكن فطرته لم تجدها الدين المناسب لها فلم تنسجم معها، وكانت تتطلع إلى الدين المرضي وتدفع صاحبها للبحث عنه، يقول عن حاله في هذا الظرف: “وبدأت أفكر بطريقتي لحياة جديدة، أبحث فيها عن السلام والحقيقة، وانتابني شعور هو أن أتجه إلى غاية ما! ولكن لا أدرك كنهها ولا مفهومها، بدأت أفكر، وأبحث عن السعادة التي لم أجدها في الشهرة ولا في القمة ولا في المسيحية، فطرقت باب البوذية[20] والفلسفة الصينية، وصرت قدريا[21] وآمنت بالنجوم، ولكني وجدت ذلك كله هراء، ثم انتقلت إلى الشيوعية، ولكني شعرت أن الشيوعية لا تتفق مع الفطرة، فأيقنت – إذ ذاك – أنه ليست هناك عقيدة تعطيني الإجابة وتوضح لي الحقيقة – ولم أكن أعرف عن الإسلام شيئا بعد – فرجعت إلى معتقدي الأول، وهو ما تعلمته من الكنيسة؛ لأن الكنيسة أفضل من تلك قليلا”.
وبعد أن هداه الله إلى الإسلام عن طريق قراءته ترجمة معاني القرآن الكريم وجد الإجابة التي يطلبها، والحق الذي ينشده يقول: “لقد أجاب القرآن على كل تساؤلاتي وبذلك شعرت بالسعادة، سعادة العثور على الحقيقة، ووجدت في القرآن كيف أن هذه السعادة هي الخالدة”.
وينبغي أن نشير هنا إلى أن الإسلام الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – يتحد فيه الدين الوضعي والعقلي معا، حسب تقسيم كانت، الذي قسم الدين إلى نوعين: وضعي وهو الموحى به الذي يقوم على عقيدة أبلغت لنا، وعقلي وهو القائم على الصدق الكلي الذي تتفق فيه جميع العقول؛ لأنهما جميعا من الله، وما جاء عن الله لا يمكن أن يتناقض.
يقول د. عبد الرحمن الزنيدي معلقا على ما ذكره كانت: بل أرى عكس ما رسم كانت من العلاقة بينهما حيث جعل الأصل هو الدين العقلي، ومن ثم ينبغي ألا يقبل من تعاليم الدين الوضعي إلا ما اتفق مع الأول، أما ما أرى أنه منهج الإسلام، فهو أنه يكفي من العقل اقتناعه بأن هذا الدين موحى من الله، ليصبح – نتيجة هذا الاقتناع – الدين الوضعي المتمثل بالوحي المنزل هو الميزان الحق؛ لأنه مضمون الصدق بتفاصيله، بحكم أنه وحي منزل من علم الله، ومحفوظ من تلاعب البشرية، خلافا للدين العقلي فإنه غير مضمون الصدق وإن كان قائما – أو هكذا يفترض – على أصل مضمون الصدق وهو الفطرة أو المبادئ القبلية، ولهذا أجمع علماء الإسلام على أن المعتبر هو الإسلام والإيمان الشرعيان دون الفطريين[22].
ونخلص من ذلك كله إلى أن الإنسان مفطور على الإيمان والتدين، وهما ضاربان في أعماق نفسه البشرية وإذا كان ذلك كذلك فما الكفر إذن، وهل هو طمس للإيمان؟ ويجيب الأستاذ عبد المجيد الزنداني على ذلك فيقول: الكفر تغطية للحق الواضح، وهو جحود بما جاء به المرسلون الصادقون، فكل كافر يعلم أنه ما خلق نفسه، وأن له خالقا هو مالكه وسيده، ولكن الكافر لا يهتم بمعرفة خالقه، أو تجده قد هام في وثن أصم، أو في أحد الطواغيت، أو طبيعة جامدة بليدة، وقد تجده محتارا في أمره تائها كريشة في مهب الريح، وأي عذر للكافر وقد امتلأت الدنيا برسل الله ورسالاته؟ وأي عذر له يوم يسأل غدا؟ قال سبحانه وتعالى: )ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون (66)( (القصص).
والكافر يعرف أن الله قد أرسل رسلا إلى الناس لهدايتهم وأيدهم بالمعجزات والبينات، التي تثبت صدقهم، وتجد الكافرين إما قد اطلعوا على بينات الرسول: )وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا( (النمل: 14)، تكبرا واستهزاء واتباعا للهوى، أو تجد فريقا منهم قد أعرضوا ولم يكلفوا أنفسهم أن يعرفوا ما أنزل ربهم من هدى فتعاموا، وتناسوا فويل لهؤلاء المتغافلين المتعامين عندما يوجه إليهم غدا هذا السؤال: )حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون (84)( (النمل)، وأي عذر للكافرين وهم يرون أو يسمعون بذلك الموكب الإيماني الكبير الذي يمتد عبر القرون يقوده الأنبياء والمرسلون، وقد التف حولهم وسار خلفهم ملايين الملايين الملايين من الناس أمثالهم: )والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16)( (الشورى).
والكافر يعلم أن كل نعمة يتمتع بها في نفسه كالسمع، والبصر، والعقل، والصحة، والحياة، وكل نعمة ينتفع بها في الأرض، كالنبات، والحيوان، والماء، والهواء، والخيرات المختلفة، والمعادن، وكل نعمة يستفيد منها في السماء، كالشمس والقمر وتقلب الليل والنهار – يعلم الكافر أن كل هذه النعم الظاهرة والباطنة لم يخلقها لنفسه، وأن لها ربا وخالقا أنعم بها عليه، ولكنه يجحد نعمه ويتناسى ويتعامى عن فضل خالقه عليه، ويستخدم نعم ربه في المجاهرة بالكفر والمعصية: )الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33)( (إبراهيم)، وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر: )أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67)( (العنكبوت). فذلك هو الكفر، فهو باطل وتغطية للحق وضلال.
والكافر يسبح في ظلمات الجهالة الكبرى، لا يعرف خالقه الحق! ولا يعلم لماذا خلقه؟! ولا يدري لماذا جاء به إلى هذه الدنيا؟ يستخدم ما سخر له ربه بدون علم بالعمل الذي يريد ربه منه أن يعمله، والذي يغضبه سبحانه منه إن عمله، قد سخرت الدنيا للناس، ولكن الكافر لا يدري ما الحكمة من تسخيرها له؟ يأكل ويشرب، وينام ويستقيظ ويموت كموت البعير، لا يدري لماذا بدأت حياته؟ ولا يدري لماذا انتهت؟ ولا يدري لماذا عاش على الأرض مدة ذلك الأجل المحدود؟ وتجد الكافر يتعاطى الأشياء مجازفة دون إرشاد من الخالق لها، كمن يتعاطى تسيير آلة دون اتباع إرشاد صانعها! فيفسد في الأرض وهو يظن أنه يصلح بإفساده: )وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12)( (البقرة). )لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196)( (آل عمران).
فما أشبه الحضارة الكافرة التي يعيش فيها الناس بدون إيمان، بدون هدف، بدون صلة بالخالق – عز وجل – ما أشبه تلك الحضارة بصانع سفينة ضخمة أنيقة جميلة، قد رتبت فيها أماكن الطعام، وأماكن الرقود، وأماكن اللعب والتسلية، وأخذ صانعها يدعو الناس إلى ركوبها، ويشرح لهم كيف يأكلون ويشربون، وكيف يرقدون، وكيف يلعبون؟ حتى إذا سأله أحد الركاب، وإلى أين تذهب بنا هذه السفينة؟ أجاب: لا أدري!! اركبوا فقط!!
والكافر لا يعرف إلا دنياه، ولا يعرف من دنياه إلا مصالحه ولذائذه، فهي التي توجه عمله، وتحدد علاقاته بغيره من الناس. إن الكافرين يبالغون في تقدير هذه الحياة، وترى الفرد منهم يسرف في عبادة ذاته، وإرضاء شهواته، قد انقطعت الصلة بينه وبين ربه؛ لتكذيبه برسالة الأنبياء، وعقيدة الآخرة، فكان هذا الفرد الكافر هو مصدر الشقاء، فإذا كان تاجرا فهو التاجر المحتكر النهم الذي يحجب السلع أيام رخصها، ويبرزها عند غلائها، ويسبب المجاعات والأزمات، وإذا كان فقيرا فهو الفقير الحاقد، الذي يريد أن ينال ما في أيدي الآخرين بغير تعب، وإذا كان عاملا فهو العامل المطفف الذي يريد أن يأخذ ما له ولا يريد أن يدفع ما عليه، وإذا كان غنيا فهو الغني الشحيح القاسي لا رحمة فيه ولا عطف، وإذا كان واليا فهو الوالي الغاش، الناهب للأموال، وإذا كان سيدا فهو الرجل المستبد المستأثر الذي لا يرى إلا فائدته وراحته، وإذا كان خادما فهو الضعيف الخائن، وإذا كان خازنا فهو السارق المختلس للأموال، وإذا كان وزير دولة أو رئيس وزارة، أو رئيس جمهورية، فهو المادي المستأثر الذي لا يخدم إلا نفسه وحزبه وشيعته، ولا يعرف غير ذلك، وإذا كان زعيما أو قائدا، فهو الأناني الذي يعقد مصلحة مواطنيه ويدوس كرامة البلاد الأخرى، والشعوب الأخرى، وإذا كان مشرعا فهو الذي يسن القوانين الجائرة، والضرائب الفادحة، وإذا كان مكتشفا صنع الغازات المبيدة للشعوب المخربة للبلاد، ولقد أصبحت القنابل الذرية أعظم مشكلة تهدد سلامة العالم كله بين لحظة وأخرى، وإذا كان منقذا فهو المنقذ القاسي منزوع الرحمة.
وقد يخرج أفراد من الكفار عن بعض الصفات السابقة، ولكنها حالات نادرة، ومن هؤلاء الأفراد الفاسدين تكونت المجتمعات الكافرة، فكانت مجتمعات مادية اجتمع فيها: احتكار التاجر، وحقد الفقير، وتطفيف العامل، وشح الغني، وغش الوالي، واستبداد السيد، وخيانة الخادم، وسرقة الخازن، ونفعية الوزراء، وأنانية الزعماء، وإجحاف المشرع، وإسراف المخترع والمكتشف، وقسوة المنقذ، ومن هذه النفسيات المادية تبتعث المشكلات الكبرى في المجتمعات الكافرة، فأصابت الإنسانية بويلاتها.
وترى الكافر يعيش حياة مضطربة لا اطمئنان فيها ولا استقرار، حياة ساخطة ثائرة، ولكن ذلك السخط والقلق لا يدفع عنه شيئا، إنما هو العذاب النفسي الذي تكتوي بناره المجتمعات الكافرة في الدنيا. والكافر – برفضه لعبودية الخالق – سريعا ما يتحول إلى عبد ذليل لمخلوقين مثله، هو إما أن يكون عبدا متذللا لطاغية أو دكتاتور أو زعيم أو وثن، وإما أن يكون عبدا للأهواء أو الخرافات والأوهام السخيفة[23].
أين المسلمون من الفطرة والوراثة؟!
لقد كان حريا بمثيري هذه الشبهة أن يعترفوا بكون إيمان المسلمين فطريا لا موروثا أو تقليديا، وذلك أن الإسلام والإيمان به هو فطرة الناس جميعا التي فطرهم الله عليها، وقول الله سبحانه وتعالى: )فطرت الله التي فطر الناس عليها( (الروم: ٣٠) يوضح هذا المعنى، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه..»[24]. ولم يقل النبي: أو يمسلمانه؛ لأن الإسلام والإيمان به هو فطرة الناس جميعا.
إن خبرا جاء إلى العالمين، أن رسولا بعث منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام بدين هو الإسلام يدعو الناس إلى الإيمان بإله واحد لهذا الكون، ويدعوهم كذلك إلى الإيمان بملائكته، وكتبه، وجميع رسله واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، فصدق المسلمون ذلك وكذب غيرهم، فما دليل المصدقين وما دليل المكذبين؟ فكون الخبر قد جاءنا ممن سبقنا لا عيب فيه، بل العيب كل العيب ألا نمتلك دليلا على تصديقنا أو تكذيبنا.
هب أن رجلا في البحر ماجت به سفينته، وأيقن بالهلاك، أو اختلت به طائرته في الجو، على الفور تجده يتعلق بقوة غيبية، وهو يعلم في قرارة نفسه أنه لا خلاص له مما هو فيه إلا بتلك القوة، وتلك القوة هي قوة الله وقدرته الواحد مالك السماوات والأرض، وتحرك النفس نحوه هو الفطرة. وعليه فإن إيمان المسلمين فطري لا مورث.
ثالثا. أثر الإيمان بالقيم الأخلاقية على الدول الأوربية:
إن أثر هذا الإيمان لم يقف عند المسلمين فقط، بل تعداهم إلى بقية أمم الأرض وشعوبها، وفي ذلك يقول الأستاذ محمد قطب: إن أوربا – في عصورها المظلمة – كانت واقعة في الجهالة العلمية التي حرص عليها حكام شعوبها، كما حرصت عليها الكنيسة؛ ليظل سلطانها الرهيب قائما في قلوب الناس وأرواحهم، وكانت واقعة تحت وطأة الإقطاع[25] ممزقة لا رباط بينها – وإن كانت كلها مسيحية – لأن السيد الإقطاعي يمثل في إقطاعيته السلطان المطلق، فهو السلطة التشريعية[26] والقضائية[27] والتنفيذية[28] في وقت واحد، وواقعة من جهة أخرى تحت سطوة البابوية[29] التي تستعبد أرواح الناس وأفكارهم، وتأكل جهدهم كما تأكل أموالهم بالباطل: )يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34)( (التوبة).
وبينما أوربا في حالتها هذه إذ التقت بالإسلام يحيط بها من كل جانب، التقت به سلما في الأندلس، والشمال الإفريقي، وصقلية، وغيرها، والتقت به حربا عبر الحروب الصليبية التي استغرقت حوالي قرنين من الزمان، ثم كان من نتيجة ذلك تلك الآثار في أوربا:
- أخذت أوربا العلوم الإسلامية كلها، وبصفة خاصة المنهج التجريبي في البحث العلمي وأقامت عليه نهضتها العلمية الحاضرة.
- أخذت معنى “الأمة” التي يربطها رباط واحد وتحكمها شريعة واحدة، ولكنها لم تستطع إقامتها على أساس العقيدة؛ لفساد العقيدة عندهم، وفساد القائمين عليها من الكهنوت[30]، فأقاموها على شكل قوميات، هي الأساس الذي قامت عليه دول الغرب الحالية.
- حاولت إصلاح الفساد العقدي والكنسي في حركات كالفين ومارتن لوثر، وغيرهما، وإن كانت لم تحقق إلا إصلاحات جزئية في داخل الفساد الشامل؛ وذلك لأنها رفضت الإسلام ابتداء، وهو الطريق الوحيد للإصلاح الحقيقي.
- أخذت نظام الجامعات الإسلامية وأنشأت جامعاتها على غراره.
- قامت فيها حركات فروسية تحاول أن تقلد ما وجدوه عند المسلمين من الشهامة والنجدة والأخلاق العالية.
تأثرت أوربا بالنظم المعمارية الإسلامية، وقلدتها في بعض مبانيها عامة “خذ مثالا بسيطا على ذلك إدخال الحمامات في البيوت وتنظيف الأبدان بالاستحمام، ولم تكن أوربا تمارسه حتى التقت بالمسلمين”.
بدأت فكرة “الدساتير” التي تشمل أسسا واضحة للحكم بغير هوى الحكام، وشهواتهم الشخصية، واقتبست أوربا كثيرا من الفقه الإسلامي، ومما يذكر في هذا الصدد أن القانون المدني الفرنسي أخذ معظمه من فقه مالك؛ لأنه كان أقرب المذاهب إليهم في الشمال الإفريقي.
- استفادت أوربا في الكشوف الجغرافية من الخرائط الإسلامية، فبدأت تنساح في الأرض على هدي هذه الخرائط.
وباختصار فإن أوربا أخذت بذور نهضتها الحالية كلها من الإسلام، وإن كانت جمدت أثر الإسلام والمسلمين في حياتها، ورفضت في عصبية جاهلية أن تعتنقه. [31]
ماذا عن تجاهل القيم الحياتية والأخلاقية؟
ها هي الحضارة الغربية وريثة الباطل بشتى صوره تري العالم كله الفرق بين وراثة الحق، ووراثة الباطل، ونترك الكلام لفضيلة الشيخ محمد الغزالي مجيبا على سؤال طرح عليه: ما أثر الإيمان على الأخلاق والسلوك والضمير في ضوء ما يحدث في الدول المتقدمة التي تأخذ بالعقل ونتائج العلوم فقط؟
يقول: لا نستطيع إنكار المدى الكبير الذي بلغته الحضارة الحديثة في اكتشاف أسرار الكون؛ إنها حضارة ذكية العقل واسعة المعرفة، وقد طوعت ما بلغته إلى تقدم صناعي باهر طفر بالإنسانية طفرة قوية في جميع المجالات المدنية والعسكرية.
ولكن هناك إحساسا عاما بأن هذا التقدم المادي لم يواكبه تقدم روحي، وأن إنسان العصر الحديث لا يختلف كثيرا عن إنسان العصر الأول في غرائزه وشهواته! وإذا كانت ثمة فروق، ففيالوسائل، لا في البواعث والغايات، بل لقد قيل في إنسان العصر الحاضر: إن عضلاته أكبر من عقله، والواقع أن الإنسان يتضاعف شره عندما يكون حاد الذكاء حقير الخلق، ولطالما رددنا أن الإسلام عقل يرفض الخرافة، وقلب يكره الرذيلة.
إن الكمال الحقيقي امتداد ونضج في جميع الملكات الإنسانية، وهذا التوازن أساس لا بد منه لقيام مجتمع رشيد، وحضارة يانعة الثمار، مديدة الظلال، فهل الحضارة الحديثة بعد تلك المقررات جديرة بالخلود؟ أو هي أرجح من غيرها في موازنة منصفة؟ الحق أن لا؛ فالرجل الأبيض، قائد هذه الحضارة ورائدها، إنسان طافح الأنانية، يشده إلى منافعه ألف رباط، وقبل أن نشرح شرهه المسعور واستعلاءه على غيره، نذكر أحد مظاهر الحضارة الإسلامية القديمة.
فالعرب الفاتحون قدموا الإسلام للأعاجم، ونقلوهم به من الظلمة إلى النور، وبعد ردح من الزمان، كان هؤلاء العرب يصلون وراء الأتقياء في شتى الأجناس، ويتلقون عنهم العلوم الدينية، دون غضاضة أو كبرياء، فالبخاري هو المحدث الأول، وأبو حنيفة الفقيه الأول، والحسن البصري المربي الأول، وسيبويه اللغوي الأول، ولم يشعر المصريون بأي ضيق من أن يقودهم قطز التركي في معركته الهائلة ضد التتار بعين جالوت، وما خامرهم حرج في أن يقودهم صلاح الدين الكردي ضد الصليبيين في معركة “حطين”.
إن الإسلام محا النعرات الجنسية في أغلب الميادين، وربط الناس بمثلهم العالية وحدها. أما الجنس الأبيض وطلائعه الغازية والمكتشفة، فقد كانوا يعبدون أنفسهم ويقدسون مصالحهم ولا تحكمهم إلا شريعة الغاب.
اكتشف الإنجليز استراليا فماذا صنعوا بسكانها؟ شرعوا يطاردونهم من مكان إلى آخر، حتى حصدوا جمهرتهم، وأخبرني – والكلام للشيخ محمد الغزالي – صديق قادم من أستراليا أن البيض ييسرون أردأ الخمور لهؤلاء السكان الأصليين حتى يقضوا عليهم القضاء الأخير، وتبقى أستراليا للمغيرين المسلحين بالتقدم العلمي والصناعي المجردين من كل رحمة وإيثار.
ولم يكن سكان أمريكا الأصليون أسعد حظا من أستراليا، فقد كانت رؤوسهم تقطع لنيل التيجان المرصعة بالذهب، قد يقال: كان ذلك في الأيام الأولى لاكتشاف العالم الجديد وقد ارتقت البشرية اليوم، وضاقت بما كان يفعله المستعمرون الأولون واستنكرته!
ونجيب بأن الاستهانة بالأجناس الأخرى كانت وما زالت ديدن الرجل الأبيض وعندما أعوزه الانتصار السريع ضد اليابان ألقى قنبلتين مبيدتين على هيروشيما وناجازاكي، فقتل نصف مليون إنسان بين طفل وامرأة وشيخ وشاب، ولا ريب أن عشر هؤلاء الهلكى فقط هو الذي كان يمكن أن يجند في الحرب!
إن الإنسان يتحول إلى وحش كاسر عندما ينسى الله واليوم الآخر، لا سيما إذا كان هو واضع القانون ومطبقه! إن القانون يومئذ يحرس الأقوياء ويجتاح الضعفاء، وقد رأينا كيف يباد الشعب الفلسطيني ويمحي وجوده من فوق الأرض، ويجاء بألوف مؤلفة من اليهود لتحيا على أنقاضه، والقانون الدولي مكمم الفم؛ لأن ملاك القوة يريدون ذلك، وأجهزة الدعاية قديرة على إبطال الحق، وإحقاق الباطل: )ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42) مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل( (إبراهيم) [32].
إن وراثتكم للباطل جعلتكم في دنياكم لا تذوقون طعم سعادة أو هناء، ولسان حالكم ومقالكم يقول ذلك؛ فها هي أعلى نسب انتحار على مستوى العالم عندكم، وها هو الفساد قد انتشر في شتى مناحي حياتكم، لا وزن للإنسان عندكم، أصبحتم كالذئاب الجائعة تعيثون في الأرض فسادا، عبيدا لشهواتكم ونزواتكم، عبيدا للمادة والمصلحة، لا تملكون من الخير إلا شعارات براقة تطلقونها في الآذان إذا أردتم وراء ذلك مآرب.
إن ما يقع على معظم شعوب الأرض الآن من ظلم من هذه الحضارة العاتية المتجردة من كل الأخلاق والفضائل ليوحي لنا بأنها وريثة التتار، والصليبيين، وكل المخربين على مدار التاريخ؛ فالتتار الذين أحرقوا العلم بإحراقهم مكتبة بغداد، وإلقاء مئات الآلاف من الكتب في نهر دجلة، وقتلوا مئات الآلاف من البشر حتى تغير لون نهر الفرات بلون الدم من كثرة إلقاء القتلى فيه – أنتم ورثتهم في سفكهم الدماء، وتخريبهم البلاد، فلا غرو إذن أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها الأخيرة على العراق في 14 محرم، وهو نفس اليوم الذي دخل فيه التتار بغداد.
- وكذلك الصليبيون وتقتيلهم بشراسة في المسلمين دون تفريق بين كبير وصغير، أو رجل وامرأة، أو شيخ وشاب. وهذا ما فعلتموه في المسلمين في فلسطين، والعراق، والشيشان، وكشمير، والبوسنة، والهرسك، وإندونيسيا، ومصر، والجزائر، وشتى بقاع العالم الإسلامي، فيا ورثة الباطل، أي الأمرين أولى: وراثة الحق، أم وراثة الباطل؟ قال سبحانه وتعالى: )هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب (52)( (إبراهيم).
الخلاصة:
- إن للإيمان معنى وحقيقة، وصحة الإيمان أو بطلانه ليسا مرتبطين بوجود دليل عليه وعدم وجوده، مع التسليم التام بأنه يزيد بالأدلة وينقص بعدم وجودها. وهذه صورة من رحمات الإسلام بالناس ومراعاته لكل مستوياتهم الفكرية والعلمية، إله ما أرحمه، ودين ما أيسره!!، فالمؤمن بربه ينجو من جحيم الاختلافات بين المذاهب والطرق البشرية القاصرة الضيقة التي يضعها بشر يزدادون علما كل يوم؛ لأنه يتلقى الهدى من خالق كل شيء، الذي أحاط علما بكل شيء، والذي خلق الناس ومنحهم مقدرة محدودة بها يتعلمون ما جهلوا، ويهتدون إلى ما غاب عنهم.
- إذا اتصف إنسان ما أو شيء ما بصفتين كان من الأولى أن نصفه بالصفة اللاحقة أم السابقة؟ السابقة بالطبع، وفطرة الإيمان ليست سابقة لوراثته فحسب، بل هي أغلب منها؛ لأنها فطرة – أو طبيعة – الناس جميعا؛ فالرجل الذي ماجت به أمواج البحر حتى إذا أيقن بالهلاك نجده يناجي من أعماق قلبه قوة هائلة خفية لا يراها، ولكنه على يقين من وجودها، ويرجو منها النجاة، هذه القوة هي قدرة الله عز وجل، ولجوء المضطرين إليها هو الفطرة، وكل الناس مفطورون على ذلك.
- الفطرة لها معنى، والوراثة لها معنى، وحال المسلمين يبرهن على: أنهم مفطورون على الإيمان لا مجرد ورثة له، وإلا لكانت أعمالهم نسخة مكررة من أعمال أسلافهم، ولكان الأمر وراثة لا فطرة، فالمعرفة الدينية فطرية دينية على الحالين، سواء قيل إنها فطرية بنفسها، أو قيل: إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس،فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد، وهذه الفطرة لا يمكن الوفاء بحقها إلا بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عقيدته التي يجد فيها العقل البشري الحل الصحيح المقنع لكل تساؤلاته عن مسائل الوجود والكون والحياة.
- هب أن إيمان المسلمين موروث فذاك محل فخر واعتزاز؛ لأنه الحق الأوحد على ظهر هذه الأرض، فالعقيدة تنشئ الإنسان الصالح، وهو الإنسان العابد لله بالمعنى الواسع للعبادة، الذي يشمل ــ إلى جانب شعائر التعبد ــ كل عمل، وكل فكر وكل شعور فيه وجه الله ويلتزم فيه بأمر الله، فالإنسان المستعلي على شهوات الأرض. المتحرر لعبوديته الحقة لله من كل عبودية لأحد أو لشيء سواه، المتوازن في سلوكه وفكره وفي شعوره الذي يعمر الأرض بجهده، وهو يتطلع إلى رضوان الله، والتاريخ يثبت ذلك وحقائق العلم تقره، وواقع المسلمين وواقع غيرهم ينطق بشهادة الحق، ويؤكد أن وراثة الحق أولى من وراثة الباطل.
(*) العقيدة في الله، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، مصر، دار النفائس، الأردن، 1426هـ/ 2005م.
[1]. لسان العرب، ابن منظور، دار الفكر، بيروت، 1994م، مادة: أمن. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1997م، مادة: أمن.
[2]. الاصطلاح: ما تعارف عليه أهل الشرع من معنى أو تعريف لهذا اللفظ.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة ) الم (1) غلبت الروم (2) ( (الروم) (4499)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة (102)، وفي مواضع أخرى، واللفظ له.
[4]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الجامع للإمام معمر بن راشد الأرذي، رواية الإمام عبد الرزاق، باب الإيمان والإسلام (20107)، وأحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ (17068)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد (17068).
[5]. دائرة معارف الفقه والعلوم الإسلامية، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ج1، ص64.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإيمان (15)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين (178).
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه (13)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه من الخير (180).
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه (5670)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان تحريم إيذاء الجار (181)، واللفظ للبخاري.
[9]. العلمانية: قيل: إن ترجمتها الصحيحة “اللادينية” أو “الدنيوية”، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيدا عن الدين، ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني: عزل الدين عن الدولة.
[10]. وظيفة الدين في الحياة، د. محمد الزحيلي، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية، ليبيا، ط2، 1999م، ص32 وما بعدها.
[11]. حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1405هـ، ج7، ص52.
[12]. وظيفة الدين في الحياة، د. محمد الزحيلي، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية، ليبيا، ط2، 1999م، ص34 وما بعدها.
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة ) الم (1) غلبت الروم (2) ( (الروم) (4497)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب معنى “كل مولود يولد على الفطرة”، وحكم موت أطفال الكفار (6926)، واللفظ للبخاري.
[14]. وظيفة الدين في الحياة، د. محمد الزحيلي، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية، ليبيا، ط2، 1999م، ص48 وما بعدها.
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض عليه الصبي الإسلام؟ (1292)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب معنى “كل مولود يولد على الفطرة”، وحكم موت أطفال الكفار (6926).
[16]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب القدر، باب كل مولود يولد على الفطرة (2138)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4560).
[17]. اجتالتهم: صرفتهم وساقتهم مائلين عن دينهم.
[18]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرفها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (7386).
[19]. المسائل الميتافيزيقية: المسائل المتعلقة بالغيبيات.
[20]. البوذية: مجموعة الآراء الفلسفية والدينية التي نشأت عن تعاليم بوذا، وأساسها أن حياة الإنسان في الدنيا شر وألم، وأن التخلص منها إنما يتم بالاندماج في الوحدة الشاملة، وهي “النرفانيا”، وسبيل ذلك: الزهد ومحاربة الرغبات والشهوات. وتقول هذه الديانة بالتناسخ، ومبدأ السببية، وتنكر البعث والحساب، وهي من أكثر الديانات شيوعا في آسيا.
[21]. القدرية: هم قوم ينكرون قضاء الله وقدره، ويقولون: إن كل إنسان خالق لفعله بإرادته.
[22]. مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، د. عبد الرحمن الزنيدي، ضمن منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتبة المؤيد، السعودية، ط1، 1424هـ/ 1992م، ص346 وما بعدها.
[23]. توحيد الخالق والإعجاز العلمي في القرآن الكريم، عبد المجيد عزيز الزنداني، دار السلام، القاهرة، ط5، 1427هـ/ 2006م، ص13 وما بعدها.
[24]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ (1292)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب معنى “كل مولد يولد على الفطرة”، وحكم موت أطفال الكفار (6926).
[25]. الإقطاع: نظام يتحكم فيه المالك في الأرض ومن فيها من الناس.
[26]. السلطة التشريعية: مجلس النواب، البرلمان، الهيئة الخاصة من مجموعة الأشخاص المنتخبين رسميا، مهمتهم وضع القوانين أو تعديلها لدولة أو ولاية.
[27]. السلطة القضائية: السلطة الممنوحة للقضاة بأن يقضوا بين الناس فيما يتعلق بالنفس والمال.
[28]. السلطة التنفيذية: الحكومة وهيئة موظفيها التي تباشر إجراء القوانين التي تضعها السلطة التشريعية والسلطة القضائية.
[29]. البابوية: رئاسة الكنيسة الكاثوليكية ممثلة في شخص البابا أسقف روما، وهي نظام قام منذ عصر الإمبراطورية الرومانية وقد مر بعصور مختلفة، وتغير نشاطه وأثره باختلاف الظروف. والبابا عندهم هو أعلى سلطة في أمور العقيدة، ويملك السلطة والعصمة اللتين للكنيسة كلها، وفي اعتقادهم أنه معصوم من الخطأ فيما يصدره في أمور الدين، وهو مشرع قاض، له سلطة مجمع الأساقفة، ويمثل السلطة العليا المباشرة على الكهنة وأتباع مذهبه.
[30]. الكهنوت: جمع كاهن، وهو من ارتقى إلى درجة الكهنوت، وهو عضو يأتي في الرتبة الثانية ما بين الأسقف والشدياق، له الصلاحية في إقامة المناسك.
[31]. انظر: ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص439 وما بعدها.
[32]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، ط2، 2004م، ص195 وما بعدها.