الزعم أن الإسلام خرافة في عقول أتباعه، ولا أثر له في إصلاح النظم الحياتية
وجوه إبطال الشبهة:
1) حاجة الإنسان إلى الدين أساسية وأصيلة، تتصل بجوهر الحياة وسر الوجود وما وراءه.
2) الإسلام منظومة إصلاحية شاملة لكل جوانب الحياة، وليس محله القلوب والضمائر فقط، وذلك بشهادة الواقع والتاريخ والمنصفين على اختلاف عقائدهم وأديانهم.
3) محاولة إخضاع التراث الإسلامي لمناهج الفكر الغربي غرضها تحريفه بما يوافق الحياة العصرية المستمدة من الإلحاد الغربي؛ وغايتها تغريب المسلمين عن قيمهم، ومحو الدين من حياتهم.
4) الإسلام رسالة ربانية، هدفها إصلاح الكون، وتحرير الإنسان، وإقامة العدل والمساواة، ورفع الظلم، ولا تنطبق عليه مقولة “الدين أفيون الشعوب” كبعض الأديان والمذاهب والأيديولوجيات الأخرى.
التفصيل:
أولا. وظيفة الدين في الحياة وحاجة الإنسان إليه:
إن حاجة الإنسان إلى الدين ضرورية وملحة وليست ثانوية ولا هامشية، وهي كما يقول د. يوسف القرضاوي: ” حاجة أساسية تتصل بجوهر الحياة وسر الوجود، وأعمق أعماق الإنسان”، ويرجع د. القرضاوي وجه الحاجة إلى الدين في حياة الإنسان إلى عدة أسباب، منها:[1]
- حاجة العقل إلى معرفة الحقائق الكبرى في الوجود:
إن حاجة الإنسان إلى عقيدة دينية تنبثق – أول ما تنبثق – من حاجته إلى معرفة نفسه ومعرفة الوجود الكبير من حوله، أي إلى معرفة الجواب عن الأسئلة التي شغلت بها فلسفات البشر ولم تقل فيها ما يشفي.
فالإنسان منذ نشأته تلح عليه أسئلة يحتاج إلى الجواب عنها: من أين؟ وإلى أين؟ ولم؟! ومهما تشغله مطالب العيش عن هذا التساؤل، فإنه لا بد واقف يوما ليسأل نفسه هذه الأسئلة الخالدة:
من أين جئت وجاء هذا الكون العريض من حولي؟ هل وجدت وحدي أو هناك خالق أوجدني؟ ومن هو؟ وما صلتي به؟ وكذلك هذا العالم الكبير بأرضه وسمائه، وحيوانه ونباته وجماده وأفلاكه، هل وجد وحده أو أوجده خالق مدبر؟
ثم ماذا بعد هذه الحياة.. وبعد الموت؟ إلى أين المسير بعد هذه الرحلة القصيرة على ظهر هذا الكوكب الأرضي؟ أتكون قصة الحياة مجرد “أرحام تدفع، وأرض تبلع” ولا شيء بعد ذلك؟!
ثم لماذا وجد الإنسان؟ ولماذا أعطي العقل والإرادة، وتميز عن سائر الحيوان؟ أهناك غاية من وجوده؟ أم وجد لمجرد أن يأكل كما تأكل الأنعام ثم ينفق (يموت) كما تنفق الدواب؟ وإن كانت هناك غاية من وجوده في الدنيا فما هي؟ وكيف يعرفها؟
أسئلة تلح على الإنسان في كل عصر، وتتطلب الجواب الذي يشفي الغليل ويطمئن به القلب، ولا سبيل إلى الجواب الشافي إلا باللجوء إلى الدين.. إلى العقيدة الدينية الصافية، الدين هو الذي يعرف الإنسان – أول ما يعرفه – أنه لم يخرج من العدم إلى الوجود مصادفة، ولا قام في هذا الكون وحده، وإنما هو مخلوق لخالق عظيم، هو ربه الذي خلقه فسواه فعدله، ونفخ فيه من روحه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وأمده بنعمه الغامرة، منذ كان جنينا في بطن أمه: )ألم نخلقكم من ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم القادرون (23)( (المرسلات).
وهذا الكون الكبير من حوله ليس غريبا عنه ولا عدوا له؛ إنه مخلوق مثله لله لا يسير جزافا ولا يمشي اعتباطا، كل شيء فيه بقدر، وكل أمر فيه بحساب وميزان، إنه نعمة من الله للإنسان ورحمة، ينعم بخيراته، ويستفيد من بركاته، ويتأمل في آياته، فيستدل به على ربه: )الذي خلق فسوى (2) والذي قدر فهدى (3)( (الأعلى)، )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190)( (آل عمران).
- حاجة الفطرة البشرية:
ما ذكرناه من حاجة الإنسان إلى الدين يتصل بحاجاته العقلية، ولكن هناك حاجة الوجدان والشعور أيضا، فالإنسان ليس عقلا فقط كالعقول الإلكترونية، إنما هو عقل ووجدان وروح، هكذا تكونت فطرته، ونطقت جبلته.
فالإنسان بفطرته لا يقنعه علم ولا ثقافة، ولا يشبع نهمته فن ولا أدب، ولا يملأ فراغ نفسه زينة أو متعة، ويظل قلق النفس، جوعان الروح، ظمآن الفطرة، وشاعرا بالفراغ والنقص، حتى يجد العقيدة في الله، فيطمئن بعد قلق، ويسكن بعد اضطراب، ويأمن بعد خوف، ويحس بأنه وجد نفسه.
ويتساءل الفيلسوف “أوجست سياتيه” في كتابه “فلسفة الأديان” قائلا: “لماذا أنا متدين؟ إني لم أحرك شفتي بهذا السؤال مرة، إلا وأراني مسوقا للإجابة عنه بهذا الجواب، وهو: أنا متدين لأني لا أستطيع خلاف ذلك؛ لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي، يقول لي: ذلك له أثر من آثار الوراثة، أو التربية، أو المزاج، فأقول لهم: قد اعترضت على نفسي كثيرا بهذا الاعتراض نفسه، ولكني وجدته يقهقر المسألة ولا يحلها”.
ولا عجب أن وجدنا هذه العقيدة عند كل الأمم: بدائية ومتحضرة، وفي كل القارات: شرقية وغربية، وفي كل العصور: قديمة وحديثة، وإن كان الأكثرون قد انحرفوا بها عن الصراط المستقيم.
ويقرر المؤرخ الإغريقي “بلوتارك” أنه: “قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد”.
ولهذا جعل القرآن الدين – بمعنى العقيدة – هو الفطرة البشرية نفسها: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)( (الروم).
- حاجة الإنسان إلى الصحة النفسية والقوة الروحية:
وثمة حاجة أخرى إلى الدين، حاجة تقتضيها حياة الإنسان، وآماله فيها، وآلامه بها، حاجة الإنسان إلى ركن شديد يأوي إليه، وإلى سناد متين يعتمد عليه إذا ألمت به الشدائد، وحلت بساحته الكوارث، ففقد ما يحب، أو واجه ما يكره، أو خاب ما يرجو، أو وقع به ما يخاف، هنا تأتي العقيدة الدينية، فتمنحه القوة عند الضعف، والأمل في ساعة اليأس، والرجاء في لحظة الخوف، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس.
إن العقيدة في الله، وفي عدله ورحمته، وفي العوض والجزاء عنده في دار الخلود، تهب الإنسان الصحة النفسية والقوة الروحية؛ فتشع في كيانه البهجة، ويغمر روحه التفاؤل، وتتسع في عينه دائرة الوجود، وينظر إلى الحياة بمنظار مشرق، ويهون عليه ما يلقى وما يكابد في حياته القصيرة الفانية، ويجد من العزاء والرجاء والسكينة ما لا يقوم مقامه ولا يغني عنه علم ولا فلسفة، ولا مال ولا ولد، ولا ملك المشرق والمغرب.
ورضي الله عن عمر إذ قال: “ما ابتليت ببلية إلا كان لله علي فيها أربع نعم: إذ لم تكن في ديني، إذ لم أحرم الرضا، إذ لم تكن أعظم، إذ رجوت ثواب الله عليها”[2].
أما الذي يعيش في دنياه بغير إيمان، يرجع إليه في أموره كلها – وبخاصة إذا ادلهمت[3] الخطوب، وتتابعت الكروب، والتبست على الناس المسالك والدروب – يستفتيه فيفتيه، ويسأله فيجيبه، ويستعينه فيعينه، ويمنحه المدد الذي لا يغلب، والعون الذي لا ينقطع – الذي يعيش بغير هذا الإيمان يعيش مضطرب النفس، متحير الفكر، مبلبل الاتجاه، ممزق الكيان.
إن التمزق الجسمي البشع مثل للتمزق النفسي الذي يعانيه من يحيا بغير دين، ولعل الثاني أقسى من الأول، وأنكى في نظر العارفين المتعمقين؛ لأنه تمزق لا ينتهي أثره في لحظات، بل هو عذاب يطول مداه، ويلازم من نكب به طول الحياة.
ولهذا نرى الذين يعيشون بغير عقيدة راسخة يتعرضون أكثر من غيرهم للقلق النفسي، والتوتر العصبي، والاضطراب الذهني، وهم ينهارون بسرعة إذا صدمتهم نكبات الحياة، فإما انتحروا انتحارا سريعا، وإما عاشوا مرضى النفوس، أمواتا كالأحياء! على نحو ما قال الشاعر العربي قديما:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء!
إنما الميت من يعيش كئيبا
كاسفا باله قليل الرجاء!
وهذا ما يقرره علماء النفس وأطباء العلاج النفسي في العصر الحديث، وهو ما سجله المفكرون والنقاد في العالم كله:
مثل قول المؤرخ الفيلسوف “أرنولد توينبي”: “الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئا”.
وقول د. “كارل بانج” في كتابه “الإنسان العصري يبحث عن نفسه”: “إن كل المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية من كل أنحاء العالم، كان سبب مرضهم هو نقص إيمانهم، وتزعزع عقائدهم، ولم ينالوا الشفاء إلا بعد أن استعادوا إيمانهم”.
وقول “وليم جيمس” (فيلسوف المنفعة والذرائع): “إن أعظم علاج للقلق – ولا شك – هو الإيمان”.
وقول د. “بريال”: “إن المرء المتدين حقا لا يعاني قط مرضا نفسيا”.
وقول “ديل كارنيجي” في كتابه “دع القلق وابدأ الحياة”: “إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين، كفيلان بأن يقهرا القلق والتوتر العصبي، وأن يشفيا من هذه الأمراض”.
وقد أفاض د. “هنري لنك” في كتابه “العودة إلى الإيمان” في بيان ذلك والتدليل عليه بما لمسه وجربه من وقائع وفيرة خلال عمله في العلاج النفسي.
- حاجة المجتمع إلى بواعث وضوابط أخلاقية:
وهناك حاجة أخرى إلى الدين: حاجة اجتماعية، إنها حاجة المجتمع إلى بواعث وضوابط: بواعث تدفع أفراده إلى عمل الخير وأداء الواجب، وإن لم يوجد من البشر من يراقبهم أو يكافئهم، وضوابط تحكم علاقاتهم، وتلزم كل واحد منهم أن يقف عند حده، ولا يعتدي على حق غيره أو يفرط في خير مجتمعه، من أجل شهوات نفسه، أو منفعته المادية العاجلة.
ولا يقال: إن القوانين واللوائح كافية لإيجاد هذه الضوابط وتلك البواعث، فإن القوانين لا تخلق باعثا، ولا تكفي ضابطا، فإن الإفلات منها ممكن، والاحتيال عليها ميسور، ولهذا كان لا بد من بواعث وضوابط أخلاقية تعمل من داخل النفس الإنسانية لا من خارجها، لا بد من هذا الباعث الداخلي، ومن هذا الوازع الذاتي، لا بد من “الضمير” أو “الوجدان” أو “القلب” – سمه ما شئت – فهو القوة التي إذا صلحت صلح عمل الإنسان كله، وإذا فسدت فسد كله.
ولقد عرف الناس بالمشاهدة والتجربة واستقراء التاريخ – أن العقيدة الدينية لا يغني غناءها شيء في تربية الضمير، وتزكية الأخلاق، وتكوين البواعث التي تحفز على الخير، والضوابط التي تردع عن الشر، حتى قال بعض قضاة العصر في بريطانيا – وقد هاله ما رأى من جرائم موبقة، رغم تقدم العلم، واتساع الثقافة، ودقة القوانين -: “بدون أخلاق لا يوجد قانون، وبدون إيمان لا توجد أخلاق”.
ولا غرو أن اعترف بعض الملاحدة أنفسهم بأن الحياة لا تستقيم بدون دين، وبدون عقيدة في الله وفي الجزاء في الدار الآخرة، حتى قال “فولتير”:
“لو لم يكن الله موجودا لوجب علينا أن نخلقه”أي نخترع للناس إلها، يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويلتمسون رضاءه فيعملون الصالحات، ويجتنبون السيئات. ويقول مرة أخرى: “لم تشككون في وجود الله، ولولاه لخانتني زوجتي، وسرقني خادمي”! وقال بلوتارخ: “إن مدينة بلا أرض تقوم عليها، أسهل من قيام دولة بلا إله”[4].
ثم يخلص د. القرضاوي إلى أن تجارب الواقع وتجارب التاريخ كلها تنطق بأصالة الإيمان في الحياة، وضرورته للإنسان، فهو ضروري للفرد ليطمئن ويزكو، وهو ضروري للمجتمع ليستقر ويتماسك ويرقى، ثم يوضح زيف دعوى من يرى أنه بالإمكان الاستغناء عن الدين بالعلم الحديث حينا، أو المذاهب الفكرية الأيديولوجية الحديثة حينا آخر، فيقول: وكلا التصورين خطأ، فقد بين الواقع الناطق أنه لا شيء يغني عن الدين ويقوم بديلا عنه في أداء رسالته الضخمة في حياة الإنسان، فمجال العلم غير مجال الدين.
إن العلم الحديث محدود الوسع، محدود القدرة، محدود المجال، ففي وسع العلم أن يمنح الإنسان الوسائل والآلات، ولكن ليس في وسعه ولا من اختصاصه أن يمنحه الأهداف والغايات، وما أتعس الإنسان إذا تكدست لديه الوسائل دون أن يعرف لنفسه هدفا ولا لحياته قيمة، إلا أهداف السباع في العدوان، أو أهداف البهائم في الأكل والسفاح، أما هدف رفيع يليق بمواهب الإنسان، وخصائص الإنسان، وكرامة الإنسان، فلا.
إن الدين وحده هو الذي يمنح الإنسان أهدافا عليا للحياة، وغايات كبرى للوجود، ويجعل له فيه مهمة ورسالة، ولحياته قيمة واعتبارا، كما يمنحه القيم الخلقية والمثل العليا التي تحبسه عن الشر، وتحفزه على الخير، لغير منفعة مادية عاجلة[5].
وتحت عنوان “وظيفة الدين في الحياة، وحاجة الناس إليه” كتب د. محمد الزحيلي بحثا مركزا ذكر في مقدمته أنه استخرجه من استقراء النصوص الشرعية، والمبادئ الإسلامية، والقواعد الكلية، والأحكام الفقهية، وأنه قد ظهر له بالدليل والبرهان والمنطق والعقل والواقع والتجربة، عظمة الوظيفة التي يؤديها الدين في الحياة بما يتناسب مع الفطرة البشرية، والتصور السليم عن الكون وخالقه، مما يقطع بحاجة الناس إليه على المستوى الفردي والجماعي.
ثم قال بعد ذلك: “وتتوالى الأيام والسنون، وتتعاقب الحوادث والأحداث لتزيد الأمر وضوحا في وظيفة الدين في الحياة، وتقدم الدليل بعد الدليل على حاجة الناس إليه، وأن العلم والحضارة والتقدم لا يحلون محل الدين؛ لأن العلم سلاح ذو حدين. وقد يستعمل للتدمير والفتك والإبادة، إذا لم يلجمه الدين والأخلاق والقيم والرقابة الإلهية، ولذلك تتعالى الصيحات للعودة إلى الدين، والالتجاء إليه، والتفيؤ بظلاله، والاستئناس بقيمه وأحكامه، واستنشاق عبيره وعطره ليهتدي الضال، ويئوب الفاسق، ويستيقظ الغافل، ويستقر التائه، وينعم الجميع بما يحققه من سعادة في الدنيا، وينتسبون إلى روضة الإسلام الفيحاء.
كما برزت الحركات الفكرية والسياسية، والاجتماعية المعاصرة، تستعين بالدين، وتطالب بتطبيقه؛ ليمارس وظيفته، ويحل المشاكل والمآسي والصعوبات، وقد رأينا آلاف الأفراد، والعديد من المجتمعات تلوذ في السنوات العشر الأخيرة بالدين، وتلجأ إلى حماه؛ لتنوع الأدلة والبراهين على وظيفة الدين في الحياة وحاجة الناس إليه” [6].
ثانيا. الإسلام منظومة إصلاحية شاملة لكل جوانب الحياة، وليس محله القلوب فقط:
يمتاز الدين الإسلامي عن غيره من القوانين الوضعية والأيديولوجيات الإصلاحية البشرية، بل وعن جميع الأديان السماوية بأنه تناول علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمجتمعه؛ لأنه للدنيا والآخرة؛ ولأنه دين ودولة؛ ولأنه للبشر جميعا؛ ولأنه الدين الخالد إلى يوم القيامة.
كما يمتاز الإسلام – فيما يمتاز به – بمسايرته لواقع الحياة، وصلاحيته لكل عصر، وتوافقه مع كل جيل، وفي أصوله التشريعية القوى الكاملة التي تمد كل البشر بتشريعات حية نامية متطورة تكفل للناس في مختلف بيئاتهم وعصورهم العدالة والاطمئنان والحياة الكريمة الطيبة.
وقد استطاع الإسلام بتشريعاته ونظمه الحضارية أن يقدم الدليل على صلاحيته وقدرته عندما أتيح له أن يطبق في دنيا الواقع، فكانت مدة تطبيقه فترة فاضلة توافرت فيها العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وارتفعت فيها المثل العليا منارة تضيء لأجيال الإنسانية المقبلة طريق الخير والمجد.
لقد نعم الناس بالحياة السعيدة، وتفرغوا لحمل رسالة تحرير العالم كله من أغلال الظلم، وكابوس الجهل وظلمات الضلال.
وإن واقع الأمم الأخرى التي تعمل بأنظمة مغايرة لهذا الدين – ليشهد للإسلام وتشريعاته بالكمال والسمو؛ إذ تضطر هذه الأمم أن تنزل عن بعض ما في تشريعها ونظامها، وأن تستعير من الإسلام أمورا عديدة. أما الإسلام فلا يستعير شيئا من القوانين الوضعية أو المناهج والأيديولوجيات الأخرى[7].
ويوضح لنا الأستاذ محمد قطب عناصر الثورة الإصلاحية التي حققها الإسلام في جميع مناحي الحياة في عدة نقاط؛ إذ يقول:
فالإسلام أول نظام واقعي طبق في واقع البشر حاول أن يقيم “ملكوت الله” في واقع الأرض، ولا يرجئه إلى ما بعد هذه الحياة، في حين أن المسيحية الكنسية في أوربا تخلت عن هذه المهمة منذ أول لحظة، وأرجأت “ملكوت الرب” إلى يوم آخر، وأقامت في واقعها “ملكوت القانون الروماني”، الذي أباح استرقاق الأمم والشعوب، وأباح الإقطاع، ثم أباح الرأسمالية،[8] وسمح لطاغوت الجاهلية أن يركب الناس في صور مختلفة خلال ألفين من السنين!
وهذا وحده – على الرغم من كل ما وقع من انحرافات المسلمين – حدث ضخم في تاريخ البشرية، ينبغي تسجيله في التأريخ العلمي الذي يبحث عن الحق ولا يعنيه إلا وقائع التاريخ.
والإسلام – لأنه حاول إقامة ملكوت الله في واقع الأرض – هو الذي حرر الإنسان – من حيث هو إنسان – من كل عبودية تحد من إنسانيته، وذلك بإخلاص العبودية لله وحده بغير شريك، وإزالة كل طاغوت في الأرض يستعبد الناس، سواء كان الطاغوت صنما يعبد في عالم المحسوسات، أو وثنا يؤله في عالم المعنويات، أو كان فردا، أو قبيلة، أو جماعة، أو طائفة، أو أمة تطغى على الناس، أو كان عرفا، أو تقليدا مستمدا من باطل الناس في الأرض، أو كان قوة مادية، أو اقتصادية، وحرره مبتدئا لا مضطرا، ولا واقعا تحت حتمية من الحتميات الزائفة التي يؤلهها التفسير المادي للتاريخ! وكان ذلك قبل أن تفيق أوربا من ظلماتها، وتثور ثوراتها، وتحقق حرياتها المشوبة بالعوج والانحراف في أكثر من جانب، وكان هذا التحرير – بإخلاص العبودية لله وحده، الجدير وحده بالعبادة – هو المعنى الحقيقي لعقيدة التوحيد، التي تمثلت في الإسلام أصفى ما تكون، وتحققت في واقع الأرض أمكن ما يكون التحقيق، رغم كل ما وقع من انحرافات خلال القرون.
والإسلام هو الذي حرر المرأة – لأول مرة في تاريخ البشرية – تحريرا نفسيا ووجدانيا وعمليا، وعاملها على أنها إنسان، في حين ظلت أوربا حتى بدايات القرن العشرين تحرمها حق الملك والتصرف في ملكها بالبيع، والشراء، والرهن، والإجارة إلا بوصاية وصي، ثم أطلقتها – حين أطلقتها – على طريقة الحيوان لا على مستوى الإنسان، ولا بغية ترقية الإنسانية ورفعها إلى آفاقها العليا، ولكن بغية الهبوط بها إلى حمأة الشهوات.
والإسلام هو الذي حول مجرى العلم من التأملات النظرية إلى المنهج التجريبي، وكان فوق ذلك – لأنه يحاول تحقيق ملكوت الله في واقع الأرض – يستخدم العلم في سبيل الخير، ولا يستخدمه لنشر الإلحاد، ولا لإفساد الأخلاق، ولا لإحداث الدمار في الأرض.
والإسلام هو القوة السياسية الوحيدة في تاريخ البشرية التي فتحت البلاد دون أن تستعبد العباد، فكفلت للناس حرية العقيدة، وحرية العبادة، وحرية الضرب في فجاج الأرض ما داموا لا يؤذون المسلمين ولا يقومون بالإفساد في الأرض، ولم تحجب عن البلاد المفتوحة شيئا مما تملكه من العلم أو الخير؛ اعتزازا بعنجهية الغلبة والسلطان.
والإسلام هو الذي قرر أصول المعاملات الدولية في معاهداته التي أبرمها غيره ثم حافظ عليها؛ بينما البشرية ما تزال لا تحافظ على العهد، ولا تفي بالوعد، بل تتبارى في إظهار براعتها في نقض المواثيق والتفلت منها عند أول بادرة تلوح لها، وتحت أي تعلة تخترعها لتسويغ بربريتها. وهذا كله غير الحضارة الشاملة التي حققها الإسلام في واقع الأرض، والتي تشهد بحيوية هذا الدين في كل اتجاه.
وخلال ذلك كانت تقع الانحرافات، ويقع الهبوط، ويقع الشر، ولكن دون أن يلغي هذا حقائق التاريخ البارزة أو يلغي دلالتها، وإلا فإن هذه الانحرافات كلها – وأكثر منها – تقع – ووقعت بالفعل – في تاريخ كل جماعة من البشر، دون أن يكون في مقابلها هذا المستوى من النظافة والرفعة وسمو الآفاق، الذي لم يتحقق، أو لم يتحقق بدرجته تلك كما تحقق في أمة الإسلام[9].
النظام الاقتصادي في ظل الإسلام:
كتب المفكر الألماني المسلم مراد هوفمان يقول: “لما كان الإسلام توطئة، أو إرشادا إلى الحياة القويمة في كافة المجالات، كان كذلك في تبيينه للعلاقات التجارية، والتعامل بين القوى المنتجة التي تشمل العمل نفسه، والأرض المستغلة أو المستثمرة، ورأس المال”.
باختصار، فإن الإسلام بين مواصفات الاقتصاد السليم، بيد أن القرآن في هذا الصدد لم يذكر سوى بعض الأسس، كما هو شأنه في نظرية الدولة الإسلامية، فترى القرآن يفصل القول في المسلم المقتصد، لا في النظام الاقتصادي، الذي ينبغي للمسلم الأخذ به، وكما أن الإسلام يلح على مراعاة الجوانب الأخلاقية في نظام المجتمع أجمع؛ فإنه يبرز ضرورة مراعاة أو التزام تلك القيم الأخلاقية في مجال الاقتصاد والمعاملات التجارية، فتراه يهتم بالدرجة الأولى بالقيم الأخلاقية الاقتصادية لدى المؤمنين، سواء كانوا منتجين أو موزعين أو مستهلكين.
وبالرغم من قلة الأسس المذكورة في القرآن بشأن الأنظمة الاقتصادية؛ فإنها كافية لإقامة أهم الإطارات والشروط الاقتصادية، التي يجب توافرها في كل نظام اقتصادي إسلامي، أو كل نظام اقتصادي يصف نفسه بأنه إسلامي وهي:
- ينطلق القرآن من احترام الملكية الخاصة للمتاع، أي للأشياء من: عقار وأملاك وبضاعة وممتلكات أخرى، ويدخل في ذلك – بشكل أساسي – وسائل الإنتاج، وهذا النوع من الملكية الخاصة لا يعد ملكية مطلقة، كما هي من وجهة نظر القانون الروماني، بل يفهم ذلك على أنه استغلال اجتماعي مشروع، فالملكية المطلقة في الإسلام هي لله وحده.
هذه الصيغة من الملكية لها الأولوية والتفضيل على ملكية الدولة والأوقاف الخاصة، وليس من حق فرد أو أفراد ملكية الثروات الطبيعية المشتركة في عموم النفع مثل: الهواء، والماء، والمرعى، والكلأ، والغابات، والثروات المعدنية، لكن الدولة من حقها منح الرخص للأشخاص والهيئات لاستغلالها.
- المسلم ملزم بأن يسعى لكسب نفقات معيشته سعيا شريفا، بإسهامه في العمل المنتج، ويشمل هذا التجارة المستهدفة للربح، في إطار الأسعار الحرة التي تسمح بها السوق غير الاحتكارية، فالمضاربات والربح الذي يحققه بعض السماسرة وأمثالهم دون بذل جهد أو عمل حقيقي، كل ذلك حرام في الإسلام، وينسحب هذا على المضاربات في: البورصات، والأسواق المالية، والصفقات الآجلة، وكذلك أرباح رأس المال.
- على الدولة – أي الحاكم – أن تراقب الالتزام بقواعد التسعيرة؛ وذلك لتمنع الاحتكار، والغش في الكيل والميزان، وكافة أنواع الجرائم الاقتصادية، وأن تشرع القوانين اللازمة لتحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة في مجال الضرائب والجمارك.
ويمكن الاستئناس هنا بهدي القرآن الكريم في تشريعه قوانين الميراث والزكاة، على أن زكاة المال ليست ضريبة تصاعدية صارمة في القرآن الذي حرم الاحتكار والترف المسرف، ولا يحسبن أحد أن من أهداف الإسلام السياسية الاجتماعية – المساواة بين الناس في الأموال والكسوب أو الدخول.
- ينبغي على المسلم أن يتقي الشح والإسراف، فهو مطالب بالاعتدال كذلك بصفته مستهلكا، لكنه لا ينبغي أن يكون زاهدا، أي: معتزلا للدنيا عازفا عنها تماما، فالإسلام لا يرضى له أن ينسى نصيبه من الدنيا.
وتبدو حكمة الإسلام العظيمة في ضمانه للمرونة اللازمة لإقامة الأنظمة الاقتصادية الحقيقية السديدة بعد وضعه للأسس والشروط، أو الأطر العامة التي تحوي هيكل الاقتصاد، لا سيما أن تاريخ الاقتصاد العالمي يثبت أخطاء نظريات الاقتصاد المختلفة ويؤكد فشلها، وهي النظريات التي حسب الناس حين الأخذ بها أول الأمر أنها نظريات سديدة، وذلك يرجع إلى أسباب، منها: التغير المستمر في وضع الشكل الاقتصادي الذي يؤدي بدوره إلى التباين في الآراء والنظريات الاقتصادية، وينسحب ذلك على تاريخ نظريات الاقتصاد الشعبي، وما حفلت به تلك النظريات من أخطاء، وما باءت به من فشل، وذلك ابتداء من آدم سميث، ثم مرورا بدافيد ريكاردو، وتوماس مالتوس، وكارل ماركس، وجون مايزد كاينيس حتى باول أ. صمويل سون.
والواقع أن علم الاقتصاد الإسلامي الحديث بدأ في التخطيط والتصميم لإقامة نظام اقتصادي إسلامي مميز، بهمة كبيرة وحماس مشكور، لكن النجاح المرتقب لم يتحقق إلا بصورة ضئيلة جدا، ويرى المسلم ذلك النظام الاقتصادي الإسلامي المنشود بديلا عن النظام الرأسمالي الاقتصادي الغربي، الذي يؤله السيادة المزعومة للأفراد، وبديلا عن النظام الشرقي الاشتراكي، نظام الخطط القصيرة والطويلة المدى، الذي يتخذ مجموعة الدولة صنما معبودا.. ولقد صوب بعض المؤيدين لنظام الاقتصاد الإسلامي سهام النقد إلى النظامين (الرأسمالي والاشتراكي)؛ إذ أشار إلى أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي جمع بين الفرد والدولة في علاقة متزنة متساوقة[10] أو منسجمة، وأن الإسلام تمكن قبل ألف وأربعمائة عام في المدينة المنورة من تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية والاقتصادية، أقصى مما كان يطمح إليه ماركس أو يحلم به.. ولقد أوضح إفلاس النظام الاقتصادي الشيوعي – بما لا يدع مجالا للشك – أن حقائق الاقتصاد ليست مسرحا للدجل والشعوذة”[11].
إن من يضع الاقتصاد في مقابل الدين ويفصل بينهما ويدعي استغناء البشر بأحدهما عن الآخر، كمن يقول: إن الدم هو المهم لجسم الإنسان، وليس الدورة الدموية، فهل يمكن أن يستغني الجسم عن هذه الشبكة؟ فمن يحمل الدم والغذاء وخلافه ليوصله إلى أجزائه المختلفة؟ ولو أردنا أن نضرب مثالا تفصيليا على اهتمام الدين بحياة البشر الاقتصادية؛ فلنتعرف مثلا على كيفية معالجته لظاهرة الفقر.
يقول الأستاذ محمد فريد وجدي – رحمه الله -: “لقد أوجد – أي الإسلام – نظاما اقتصاديا استوعب جميع المبادئ العمرانية المخففة من خطر الفقر والمنجية من آثاره، فأجبر الأغنياء على دفع صدقة عن أموالهم، والصدقة في عرفه هي الزكاة، والزكاة ضريبة إجبارية على كل ذي مال، تجيء منه باعتبار أنها أموال حكومية لأغراض اجتماعية، فهي غير الصدقة التي تثبط الهمم، وتغري بالكسل، وقد جعل الإسلام أمر التصرف في هذه الأموال للحكومة، فهي التي تعمل بما تمليه عليها الحاجة الوقتية والحالة الاجتماعية، ومثل هذا الأخذ من الأغنياء، قد لجأت إليه الأمم الغربية قاطبة اليوم باسم “الضرائب” على رءوس الأموال، وعلى الدخل وعلى المواريث، والغرض منها كلها تدارك حاجات الفقراء، وقد بزهم الإسلام جميعا، وسبقهم بثلاثة عشر قرنا بتقرير نظام الزكاة، وقد قصد من ذلك إحداث رد فعل إزاء تضخم الأغنياء.
أما قول “ميشليه”: إن الأغنياء في كل مجتمع كانوا يزدادون غنى والفقراء فقرا؛ فهذه الحركة الاندفاعية المستمرة من الأغنياء لا بد لها من حركة عكسية مستمرة مثلها؛ ليحفظ التوازن من تعاكسهما. فما قرره الإسلام من الزكاة يمنع من تركز المال في أيدي رجال معدودين، وحرمان الكافة منه حرمانا مطلقا.
ولم يهمل الإسلام إزاء هذا الحل بقية الأصول العمرانية المخففة للفقر، فدعا إلى الهجرة، فقال تعالى: )ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما (100)( (النساء)، وعنى عناية خاصة بالحث على التعاون، فقال تعالى: )ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2)( (المائدة).
فالإسلام قد مزج الأصول المخففة للفقر، وجعل من مجموعها نظاما آليا محكما يعمل في المجتمع عمل الأداة المنظمة للحركة الاقتصادية، فمنع – بفرض الزكاة – تركز المال كله في أيد معدودة، وسن بالحث على الهجرة انتقال العدد الزائد من المجتمع إلى البلاد الأخرى تخفيفا للضغط عليه، وجعل من حثه على التعاون هيئة تصلح للتوفيق بين العمل ورأس المال.
وقد حث الإسلام بجانب هذا على الصدقة الاختيارية، فحاكى في ذلك جميع الأديان ومذاهب الأخلاق، فهو لم يبتكر هذه الفضيلة، ولكنه أيدها وحض عليها، وأبى أن تكون هذه الصدقة سببا في تكاسل بعض طبقات المجتمع، والدليل على ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا هاجر إليه أفراد من جهات بعيدة – ولم يجدوا لهم مرتزقا، والأمة في أول تكونها – أمرهم أن يقيموا بالمسجد، فما زالوا يتكاثرون حتى بلغ عددهم أربعمائة، فكانوا إذا طرأ قتال خرجوا معه، فإذا عادوا أووا إلى المسجد وكان الناس يتولونهم بالنفقة، فلما تولى عمر الخلافة، واتسعت مملكة العرب صرفهم من المسجد قائلا: لقد احتفظ النبي – صلى الله عليه وسلم – بكم في عهد لم تكونوا تجدون فيه مرتزقا، ولكن اليوم قد اتسعت في وجوهكم أبوابه، فامضوا لشأنكم واعملوا مع العاملين.
أليس كل ما تقدم يثبت أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان أكبر بناة الأمم وأعظم صاغة الشعوب؛ إذ فكر – وهو يقيم صرحه الاجتماعي الضخم – في مسألة للطبقات الاجتماعية، فجاء بنظام اقتصادي – يقصد جاءت رسالته – هو عينه الذي اهتدت إليه الأمم في القرن العشرين؛ لتتقي به انحلال وحدتها وتداعي أركانها”[12].
ولعل من أبرز تجليات الاهتمام بترسيخ أركان الاقتصاد الإسلامي في الوقت الراهن – ظاهرة إنشاء عدد من البنوك الإسلامية، وهي تجربة تطبيقية حية لمبادئ هذا الاقتصاد وفلسفته، وعنها يقول د. يوسف القرضاوي: “تجربة المصارف الإسلامية تجربة تستحق التنويه والتشجيع والتأييد ولا شك، فقد نقلتنا من الميدان النظري إلى الميدان التطبيقي، وبعد أن كان يقال: إنه يستحيل أن يقام اقتصاد إسلامي بلا بنوك، ويستحيل أن تقوم بنوك بلا فوائد – والفوائد هي الربا – أصبح الناس يشهدون بأعينهم قيام هذه المؤسسات المالية والمصرفية على غير الربا.
لقد مضى وقت على المسلمين في هذا العصر، حاول بعضهم – تحت تأثير الهزيمة النفسية أمام حضارة الغرب وأنظمته – أن يلوي أعناق النصوص الإسلامية ليبيح الربا، ويجوزه بأسانيد شرعية مفتعلة. ثم جاء عصر انتصر فيه الاتجاه الأصيل بأن الربا حرام حرام حرام، ولا بد من إيجاد بديل للمؤسسات الربوية، ثم جاء عصر إيجاد البدائل على الورق، ثم انتقلت من الورق إلى حيز الواقع، وقام أول بنك إسلامي في دبي منذ نحو تسع سنوات، تلته بنوك أخرى في عدد من البلدان الإسلامية، وقد استطاعت هذه المصارف الإسلامية أن تعيد للمسلمين ثقتهم بينهم وبين أنفسهم، وأن تفتح لهم أبوابا للاستثمار كانت مهملة، مثل المشاركة والمضاربة والمرابحة، وهيأت للكثير من أصحاب المشروعات أن يجدوا التمويل اللازم لمشروعاتهم بطريقة بعيدة عما حرم الله، ولا ندعي – كما لا تدعي المصارف الإسلامية نفسها – أنها وصلت إلى درجة الكمال، فهي لا تزال في أول الطريق، وهي لا تملك إلا مساحة ضئيلة جدا مما تملكه البنوك الربوية، وهي دائمة العمل على تطوير نفسها وتحسين أدائها”[13].
هل ما زلنا بحاجة إلى التدليل على أن تعاليم الإسلام التفتت بوضوح للجانب الاقتصادي، وأنه من الخطأ وضع الاقتصاد والدين في حالة مقابلة ومقارنة، هي أصلا مقارنة في غير محلها، والزعم أن دور الاقتصاد يلغي دور الدين وينسخه ويغني عنه زعم باطل لا أساس له من الصحة؛ ينقضه الواقع ويكذبه التاريخ؟!.
العدالة الاجتماعية في ظل الإسلام:
جاء الإسلام لإيجاد مجتمع فاضل تتعاون فيه كل القوى، بحيث لا يطغى فريق على فريق، وأول مظهر للمجتمع الفاضل في الإسلام، هو وجود رأي عام فاضل يتعاون على الخير ودفع الشر، فإن المجتمع في مظهره العام يكون بيئة صالحة لان تترعرع في ظلها الفضيلة وتختفي من نورها الرذيلة.
وإن الرأي العام له رقابة نفسية تجعل كل شرير ينطوي على نفسه فلا يظهر، وكل خير يجد الشجاعة في إعلان خيره فيظهره، وإنه لا يهذب الآحاد إلا الرأي العام الفاضل، ولا يفسد الجماعة إلا الرأي العام الفاسد الذي يتقاعد عن نصرة الفضيلة، ويترك الرذائل رافعة رأسها.
ولأجل تكوين رأي عام فاضل حث الإسلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأوجب الإرشاد العام ليمتنع الضال عن شروره، ويسير الخير في طريقه، وذلك بإرشاد الفضلاء، فتكون الجماعة في فضيلة ظاهرة تتعاون على الخير، ولا تتعاون على شر قط[14].
والمجتمع في الإسلام مجتمع معنوي،أي أن العلاقات الاجتماعية فيه تبنى على الروابط الأدبية من تواد وتراحم، لا على أساس من العلاقات المادية فقط، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».[15] ولا شك أن العلاقات المعنوية التي تقوم على المودة والرحمة هي التي يقوم عليها بنيان الجماعات الإنسانية، وهي الروابط التي تربط آحاد الناس ببعضهم، ومثل المجتمع المادي الذي يبني على الاقتصاد، أو على الاجتماع في مكان كمثل الأحجار المتراصة التي يجاور بعضها بعضا من غير ارتباط وثيق بين أجزائها، وإنه مهما يكن فيه من تنسيق هندسي، لا يمكن أن يكون متلاحما متصلا، وأنه ينهار لأقل عاصفة تثور، ولا يستمر مجتمع إلا إذا كان مهندس البناء قواما عليه يتتبع ثغراته، فيسارع بسد ما يظهر منها بعمل مادي أيضا قد تكون قوة غالبة على الإرادات الإنسانية الحرة.
أما المجتمع المعنوي، فإنه يقوم على أساس من العلاقات الروحية الرابطة بين أجزائه، وهو متماسك غير قابل لأن تتداعى لبناته؛ لأنه مترابط الأجزاء بما لا يقبل الانقطاع ما دام يغذى بالروح والدين، وقد يكون غير منسق اقتصاديا، أو هندسيا، ولكنه قوي متين، والاعوجاج الهندسي لا يكون دليل الضعف دائما، بل قد يكون الاعوجاج الذي يبدو بادي الرأي من أسباب قوة الجسد، وقد يكون التنسيق المصطنع الذي يعنى بالمظهر دون المخبر دليل الضعف، وليس بدليل القوة.
ولذلك كان كل نظام وضعه الإسلام بالقرآن أو السنة النبوية، الأساس فيه يقوم على التوجيه الديني الذي يغذي نفوس الآحاد لتجتمع، ونفوس الجماعات لتأتلف، ونفوس الحكام ليعدلوا في دولتهم وليعدلوا مع غيرهم، وليعاملوهم بالمثل في دائرة التقوى والفضيلة، وليكونوا في كل تصرفاتهم ملاحظين المعاني الإنسانية في كل إنسان من غير نظر إلى اختلاف الأجناس والشعوب والقبائل والألوان.
ويقول سيد قطب: “وحينما حاول الإسلام أن يحقق العدالة الاجتماعية كاملة، ارتفع بها عن أن تكون عدالة اقتصادية محدودة، وأن يكون التكليف وحده هو الذي يكفلها، فجعلها عدالة إنسانية شاملة، وأقامها على ركنين قويين: الضمير البشري من داخل النفس، والتكليف القانوني من محيط المجتمع، وزاوج بين هذه القوة وتلك؛ مثيرا في الوجدان الإنساني أعمق انفعالاته، غير غافل عن ضعف الإنسان وحاجته إلى الوازع الخارجي، كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن”[16].
ويحدد الشيخ سيد قطب – رحمه الله – الأسس التي أقام عليها الإسلام العدالة الاجتماعية وهي:
- التحرر الوجداني المطلق.
- المساواة الإنسانية الكاملة.
- التكافل الاجتماعي الوثيق[17].
ويوضح الشيخ سيد قطب مفهوم العدالة في النظر الإسلامي بأنها: “مساواة إنسانية ينظر فيها إلى تعادل جميع القيم، بما فيها القيمة الاقتصادية البحتة، وهي على وجه الدقة تكافؤ في الفرص، وترك المواهب بعد ذلك تعمل في الحدود التي لا تتعارض مع الأهداف العليا للحياة.
ثم يقول: وهكذا يبدو أن هناك قيما أخرى غير القيم الاقتصادية، يحسب الإسلام حسابها، ويجعلها هي القيم الحقيقية، ويجعل منها وسيلة للتعادل في المجتمع حين تتفاوت الأرزاق المالية بين الناس بأسباب التفاوت المعقولة القائمة على الجهد والموهبة، لا على الوسائل المنكرة التي يحرمها الإسلام تحريما” [18].
ويؤكد الشيخ أبو زهرة على هذه المعاني للعدالة الاجتماعية في الإسلام فيقول:
“العدالة الاجتماعية معناها: تمكين كل ذي قوة من أن يعمل بمقدار طاقته، بحيث تهيأ الفرص المناسبة لكي تظهر كل القوى، وتوضع كل قوة في مرتبتها، وأن توجد الكفالة للعاجزين عن العمل؛ لكي يعيشوا وينالوا حظهم من الحياة، وليكونوا قوة في الجماعة إن كانوا صغارا، وليأمنوا الجوع والعري إن كانوا كبارا لا يرجى أن يزول سبب عجزهم، وذلك بأن يهيأ لكل من لا يجد أسباب العيش المسكن المناسب، والكساء المناسب، والغذاء الذي يدفع المخمصة والجوع.
فموجب العدالة الاجتماعية ليس التسوية المطلقة بين الناس، إنما موجبها أن يتساوى الناس في تهيئة الفرص، فيتوافر التعليم المثمر لكل الناس حتى تظهر القوى، ويوسد إلى كل إنسان ما يصلح له من عمل، ووضع كل امرئ في العمل المناسب هو التنظيم الجماعي السليم الذي يتوافر فيه إنتاج كل القوى من غير أن تهمل قوة، أو تعمل فيها دون طاقتها، أو فيما فوق طاقتها فيفسد الأمر”[19].
وتحت عنوان “الفردية والاجتماعية في الإسلام” يوضح الشيخ الإمام محمد أبو زهرة أن في العالم الآن نظامين بارزين، والناس من بعد ذلك يتقاربون إلى أحدهما أو يتباعدون:
أول هذين النظامين: يتجه إلى ملاحظة الفردية وإعطاء الحرية للآحاد؛ ليواجهوا نشاطهم أفرادا وجماعات في حرية منطلقة في حدود المجتمع.
والنظام الثاني: يقوم على رعاية المجتمع أولا وبالذات، وأن الأفراد يرغمون في بناء المجتمع، فلا حرية لهم إلا ما يعطيها المجتمع إياهم.
ثم يبين أن الإسلام لا يأخذ بأي النظامين جملة وتفصيلا، فهو لا يمحو حرية الإنتاج الفردي، ولا يمكن تلك الحرية من كل شيء، فهو وإن أعطى الأفراد حقوقا تجعل لهم حرية الإنتاج، إلا أنه قيد هذه الحقوق بألا يكون ثمة ضرر بالمجموع، فما من حق في الإسلام إلا وهو مقيد بعدم الإضرار بغيره، والحرية الشخصية بكل ضروبها حق ممنوح، ولكنها مقيدة بعدم الإضرار، فإذا كان الضرر أو توقع الضرر قيد الحق تقييدا قضائيا، ومنع صاحبه من استعماله إلا في الحدود القانونية، أو سلب ذلك الحق.
وإن الإسلام لم يسلك سبيل التقييد القانوني فقط أو القضائي فقط كما يعبر فقهاء المسلمين؛ بل إنه قيد الأمر بقيود دينية، أي جعل العبد مسئولا أمام الله – عز وجل – إذا استخدم الحقوق التي منحه الله – عز وجل – إياها استخداما يؤدي إلى الإضرار بغيره من الناس، فوق أن لولي الأمر العادل أن يتدخل قانونا في كل ما يرى فيه ضررا يمس الجمهور.
وتتجه الشريعة الإسلامية في كل أحكامها إلى تحقيق الأهداف التي تؤدي إلى تكافل اجتماعي سليم قائم على الائتلاف والتهذيب الديني والعدالة التي لا تكون فيها قوة تتغلب على الأخرى، وإننا نبتدئ بالعبادات التي هي – في ظاهرها – علاقة العبد بربه، ولكن هي – في معناها – تربية الضمير الاجتماعي الذي يجعل الآحاد مندمجين في الجماعات التي يعيشون فيها بقوة روحية تحكم ميولهم وإرادتهم وتوجه عقولهم؛ فيتحقق التكافل الاجتماعي نفسيا قبل أن تتدخل القوانين التي لها مسوغها من الإسلام.
وإن التكافل الاجتماعي المنبعث من النفس ابتداء أجدى على المجتمع من تكافل بقوة القانون من غير اعتماد على الإيمان والضمير الديني؛ لأن ما يبنى على القانون قد يوجد في النفس ما يسوغ مخالفته، أما ما يعتمد على الضمير الديني أولا، ثم على القانون ثانيا، فإن المؤمن يطيعه على أنه أمر من الله الذي يعلم السر وأخفى، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وإن ذلك لا يسوغ له الهروب من الأحكام المقررة بحكم قانوي[20].
إن الإسلام جعل أساس التكافل الاجتماعي مراعاة كل مؤمن لحق غيره مراعاة تامة، وهذبت العبادات النفوس المؤمنة؛ ليتقدموا بقلوبهم طيبة مخلصة لكل نفع لأنفسهم ولجماعتهم، وإن المجتمع لا يمسخ الفرد ويمحو إرادته، ولكنه يجعل إرادته للخير الجماعي بقوة التدين والضمير، فإن لم يكن ذلك، فقوة السلطان وحماية الجماعة من أضرار الفردية؛ ولذلك كانت حقوق الآحاد مقيدة دائما بحق الجماعة، فإن لم يتقيد الفرد بحكم الدين، قيد بحكم السلطان، وكان لولي الأمر أن يسن من النظم ما يكفل الرعاية الاجتماعية السليمة، فيقوموا بحق المجتمع مجبرين ما داموا لم يقوموا به مختارين بحكم الدين، وإنه لهذا كفل الإسلام الحرية الفردية للآحاد على ألا يتجاوزوا في حريتهم الحد المعقول؛ لأن كل حق كما قلنا مقيد بعدم الإضرار بالغير.
وإن الحرية معنى اجتماعي، لا يتصور وجوده إلا في مجتمع متكافل يأخذ الآحاد منه ويعطون، وإذا كانت كذلك فلا بد أن تكون في حدود يرسمها المجتمع الفاضل من غير إرهاق نفسي، وإن الذين يفهمون الحرية انطلاقا هم عبيد الأهواء الذين لا يراعون حق المجتمع، ولا حق أنفسهم عليهم[21].
وإن كل ما في الإسلام من مبادئ، سواء أكانت مبادئ تتعلق بالعقيدة، أم كانت مبادئ تتعلق بالأخلاق، أو التنظيم الإنساني، يتفق تمام الاتفاق مع العقل، حتى إن أعرابيا سئل: لماذا آمنت بمحمد؟ فقال: ما رأيت محمدا يقول في أمر: افعل والعقل يقول: لا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر: لا تفعل والعقل يقول: افعل.
وإن النظم التي سنها الإسلام لا تزال برونقها وصفائها أعدل من كل ما اهتدى إليه العقل البشري من نظم، سواء أكان ذلك في نظام الحكم، أم في نظام المعاملات المالية، أم في نظام الأسرة، أم كان في الزواجر الاجتماعية من حدود وقصاص وتعزير.
أما القانون الروماني الذي يعده علماء القانون في أوربا أعظم تراث قانوني وصل إليهم عن سلفهم، فلو وزن بما جاء به محمد عن ربه لكانت الموازنة منتهية بأن نظم الإسلام هي القوانين العادلة حقا وصدقا، ويكفي أن يعلم الباحث أن قانون الرومان يجعل المرأة أمة، والإسلام يجعلها حرة في بيت أبيها، وحرة في بيت الزوجية، ويعطيها من الحقوق مثل ما عليها من واجب، فيقول تعالى: )ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (228)( (البقرة)، أما القانون الروماني فيفتح باب الرق على مصراعيه، ويجعل الرق يكون حيث يخرج الرجل غير الروماني من بلده، فإذا لقيه أي روماني استرقه، ولا يجعل للرقيق أي حق من الحقوق الاجتماعية، بل الإنسانية[22].
الحرية السياسية في الإسلام[23]:
صان الإسلام الحرية السياسية بأمور ثلاثة هي:
- أنه جعل أمر المسلمين شورى فيما بينهم، وهذا يجعلهم شركاء في الحكم يتحملون مغبة اختيارهم، فيستمتعون بحسن الاختيار ويذوقون سوءه إن كان، وعليهم أن يعالجوا آثار سوء الاختيار بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- أنه ليس في الإسلام ذات مصونة لا تمس، بل الجميع أمام الشرع سواء وكل يخطئ ويصيب، حتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان فيما يعمله برأيه من غير وحي يوحى به إليه يخطئ ويصيب، وينبه إلى خطئه إن كان الأمر يتعلق بمبدأ من مبادئ الإسلام، وإن اضطهاد الآراء منشؤه أن يعتقد الحاكم في نفسه النزاهة عن الخطأ، أو يزين له من حوله من المنافقين ذلك، أو يجعلوا ذلك أساسا من أسس العلاقة بينه وبين الناس، وحينئذ يكون التضييق على الأفكار وعلى الآراء.
- ما أوجبه الإسلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك الواجب سهل على الناس إبداء آرائهم، ولقد أباح الإسلام للناس أن يبدوا آراءهم في أعمال الحاكمين، من غير فتنة ولا تحريض على الفساد، ولقد كان بعض الناس يتطاولون على مقام النبي – صلى الله عليه وسلم – ويعترضون على ما يقوم به من أعمال ومع ما انطوت نفوسهم عليه من مرض النفاق، ما كان يلومهم على قولهم؛ حتى لا يتخذه بعض الأمراء من بعده مسوغا لمنع الناس من إبداء آرائهم، فكان يتحمل – صلى الله عليه وسلم – ذلك ويأخذهم بالرفق؛ خشية أن يفتح الباب لمن يجيء بعده، ولقد سجل القرآن ذلك فقال: )ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (58)( (التوبة).
ثالثا. محاولة إخضاع التراث الإسلامي لمناهج الفكر الغربي الغرض منها تحريفه بما يوافق الحياة العصرية المستمدة من الإلحاد الغربي، وتغريب المسلمين عن قيمهم:
لقد كان أكبر هم الاستعمار أن يطور المسلمين حتى يتقبلوا حضارته الغازية ومفاهيمه المادية، فإن عجز عن تطوير المسلمين، حاول أن يطور الإسلام نفسه حتى يرحب بكل جديد، ويبارك كل تغيير، ويسوغ كل محظور، وهذا أخطر وأدهى.
لا بد من تطوير الإسلام حتى يكون دين سلام لا دين جهاد، ومعنى السلام في نظر هؤلاء: أن يقبل الإسلام المعايشة مع الغاصبين لأرضه، المعتدين على حرماته، وبذلك يطمئن السادة الصهيونيون والمستعمرون والملحدون على مصالحهم وسرقاتهم ومكاسبهم العدوانية!
ولا بد من تطوير الإسلام في المجال الاقتصادي حتى يقبل الربا الذي يمثل حجر الأساس في الاقتصاد الغربي، ولا بد أن يتطور الإسلام في الجانب الاجتماعي حتى يقبل مساواة المرأة بالرجل في كل شيء، وتسقط – كما قالوا – بقية الأغلال القديمة عن عنقها، فلا يوجد أي مسوغ اليوم لقوامة الرجال على النساء، بعد أن تعلمت المرأة كما تعلم الرجل، وأصبحت تعمل في ميادين الحياة كما يعمل، بل لا داعي لأن يرث الذكر مثل حظ الأنثيين، فقد كان هذا التفاوت؛ لأن المرأة لم يكن لها استقلال اقتصادي كما في عصرنا!
ولا بد للإسلام المتطور أن يحرم الطلاق وتعدد الزوجات، ويبيح التبرج والاختلاط بين الجنسين، ويسمح للخاطب أن يصحب مخطوبته في المتنزهات و السينما والخلوات! ويجيز للمرأة أن تعمل في كل المجالات، ولو في حانة أو ملهى أو مرقص، أو غير ذلك مما يحرمه الإسلام، ولا بد لإسلام القرن العشرين أن يبيح الخمر والرقص واللهو والسهر الأحمر، ويبارك فتح الخمارات والمراقص والملاهي؛ من أجل تشجيع السياحة، وتثبيت معنى “الحرية الشخصية” التي لا تقوم حياة ديمقراطية إلا بها، حرية الفسوق لا حرية الحقوق.
إن هذا الذي يسميه هؤلاء تطورا، إنما هو انحراف عن الصراط السوي، وسقوط في مهاوي الردى، وهبوط بالإنسان يحاربه الإسلام، ونحن نعجب لهؤلاء الذين يريدون أن يطوروا الإسلام، ويطوعوه لمقتضيات العصر، ونقول لهم: لماذا تطالبون الإسلام أن يتطور، ولا تطالبون التطور أن يسلم؟! لماذا تريدون أن تطوعوا الإسلام لمقتضيات العصر، ولا تطوعوا العصر لمقتضيات الإسلام؟!
إلا أن فكرة تطوير الدين نفسه فكرة خطرة على الحياة وعلى الإنسان، مهما تحسن الظن بدعاتها؛ لأن الدين هو المقياس الذي يرجع إليه الناس حين يختلفون ويلجئون إليه عندما يضطربون، والمقياس لا بد أن يثبت على حاله، وإلا اضطربت الأحكام، واختلفت التقديرات.
ولهذا فإن فكرة “تطور الدين” فكرة فاسدة ضالة تنتهي بالكفر، فالدين وظيفته إصلاح الحياة والمجتمع ورده إلى الصراط المستقيم.
وفكرة التطور هذه فكرة استعمارية أرادها الاستعمار القديم والحديث، الشرقي والغربي، إنه يريد لكل شعب مسلم تفسيره “الوطني” [24] أو “القومي”[25] للإسلام، وبذلك توجد إسلاميات متفرقة ضعيفة سهلة، يسهل هدمها وابتلاعها، بدل إسلام واحد قوي تعسر مقاومته، فيوجد إسلام عربي، وإسلام إفريقي، وإسلام هندي، وإسلام أندونيسي… إلخ، وهكذا يفقد الإسلام وحدته، وتفقد أمته وحدتها الفكرية والتشريعية والاجتماعية، وتصبح أمما شتى كما أراد الاستعمار، لا أمة واحدة كما أمر الله[26].
ويوضح د. يوسف القرضاوي أن الكلام السابق لا يعني أن الإسلام يعادي التطور الذي هو بمعنى التقدم الحقيقي في مجالات الحياة المختلفة؛ ولكن التطور ليس دائما إلى الأفضل، وليس كل تطور ينتج خيرا، كما أن جوهر الأشياء لا يتطور.. وعليه فلا يستطيع أحد أن ينكر التطور المحكوم بقيم الإسلام ومبادئه وأحكامه الثابتة[27]، إنما التطور المذموم هو الذي يفرغ الإسلام من قيمه ومبادئه وأحكامه، كما يريده أعداء الإسلام من المستعمرين والمستشرقين وغيرهم، مما يوافق مخططاتهم الخبيثة وتآمرهم ضد الإسلام والمسلمين.
رابعا. قد تنطبق مقولة “الدين أفيون الشعوب” على بعض الأديان والمذاهب والأيديولوجيات، ولكنها لا تنطبق على الإسلام:
لقد ارتفع الظلم وزال عن جماعة المسلمين – وهو ما كان محيقا بهم خلال الفترة المكية – بعد هجرتهم إلى المدينة واستقرارهم بها؛ حيث صارت لهم بها قوة وسلطة، وصار الأعداء يرهبونهم، فلم لم يتحول هؤلاء المظلومون – سابقا – عن الدين الذي اعتنقوه تحت الضغط والظلم والقهر على حد زعم هؤلاء المفترين؟!
وحين كاتب النبي – صلى الله عليه وسلم – ملوك الأرض وزعماءها يدعوهم إلى الإسلام، معروف أن عددا منهم قد رد ردا حسنا وآمن، فمن أجبر ذوي السلطة والجاه هؤلاء على الإيمان بهذا الدين؟! وحين اكتسح الإعصار المغولي مشرق العالم الإسلامي، ودمر حواضره واستذل أهله وتصارعت الأديان المختلفة (بوذية، ومسيحية، وإسلام) على اجتذاب هؤلاء الهمج إليها، وفاز في النهاية الإسلام، فأي ظلم وقهر حاق بهؤلاء الغزاة القاهرين لأهل الإسلام وقتها كي يدفعهم لاعتناق هذا الدين؟!
وحين ظهرت في العصر الحديث الدراسات الاستشراقية، وتجرد بعض المستشرقين من الهوى والغرض، وأنصفوا إنصافا حدا بهم في النهاية إلى اعتناق الإسلام، وصاروا من المنافحين عنه مثل: محمد أسد، وموريس بوكاي، ورجاء جارودي، ومراد هوفمان. فمن قهر هؤلاء الأكابر وهذه النخبة على اعتناق هذا الدين؟! وحين تذكر التقارير أن الإسلام – مع ضعف حال أهله ووهن قواهم، وتكالب الأعداء عليهم في الوقت الراهن – يزحف زحفا ذاتيا – ببساطة عقيدته ووضوح تعاليمه – ويتفوق في صراعه مع المنصرين على اجتذاب قبائل إفريقيا الوثنية، مع ضعف إمكانات دعمه وضخامة إمكانات المنصرين وتعدد وسائلهم لإغراء هؤلاء الوثنيين. فأين الظلم والقهر المزعومان هنا؟!
ويفند د. القرضاوي مقولة “الدين أفيون الشعوب” موضحا أنها لا تنطبق على الإسلام؛ لأنه جاء ليحارب الظلم والفساد، يقول: “أما دعوى الماركسيين: أن “الدين أفيون الشعوب” يفعل في عقولها ما تفعله المخدرات بالأفراد، ويشغلهم عن حقوقهم المسلوبة، بأماني الآخرة، ويخضعهم لإرادة الظلمة والطغاة، فيطيعونهم وهم راضون – فهي دعوى مردودة؛ ذلك أن الدين الصحيح لا يخدر الشعب، ولا يلهيه عن المطالبة بحقه في الدنيا، استغراقا بطلب النعيم في الآخرة! الدين الصحيح لا يقر الظلم، ولا يرضى بالفساد والانحراف، فإن صح هذا الادعاء في شأن بعض الأديان، فلا يصح بحال في شأن الإسلام.
الإسلام في الحقيقة ثورة إنسانية كبرى، ثورة لتحرير الإنسان – كل إنسان – من العبودية والخضوع لغير خالقه.. ثورة في عالم الفكر والضمير والشعور، وثورة في عالم الواقع والتطبيق، وكان عنوان هذه الثورة هي هذه الكلمة العظيمة، كلمة التوحيد: “لا إله إلا الله” فكل مدع أو متعاط للألوهية في الأرض – بالقول أو بالفعل – هو مزور لا وجود له، ولا يستحق البقاء. وكل الذين زعموا لأنفسهم، أو زعم لهم بعض الناس – أنهم أرباب مع الله، أو من دون الله – يجب أن يسقطوا إلى الأبد، ويتواروا عن مسرح الحياة.
الناس إذن سواسية، لا يجوز أن يستعبد بعضهم بعضا، أو يطغى بعضهم على بعض، فإذا ظلم بعض الناس وطغى وأفسد، كان على الناس أن يعترضوا طريقه، ويأخذوا على يديه، وإلا كانوا شركاء في الإثم واستحقاق العقوبة العادلة من الله.
يقول الله – عز وجل – في القرآن الكريم: )ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113)( (هود)، ويقول: )واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25)( (الأنفال).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه».[28] ويوجب على كل من رأى منكرا – أي ظلما أو فسادا أو انحرافا – أن يعمل على تغييره بكل ما يستطع من قوة: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[29].
والتغيير بالقلب – الذي هو أدنى الدرجات وأضعف الإيمان – ليس أمرا سلبيا تافها، إنها جمرة الغضب والكراهية للفساد والمنكر، تتوهج وتتقد في الجوانح حتى تجد الفرصة للتغيير بالقول أو الفعل، باللسان أو اليد، وأدنى ثمراته العاجلة النفور من الظلمة والمفسدين والمقاطعة لهم، فلا يؤاكلهم ولا يشاربهم، ولا يجالسهم ولا يصاحبهم.
وقد عد النبي – صلى الله عليه وسلم – مقاومة الظلم والفساد الداخلي – كمقاومة الغزو والعدوان الخارجي – جهادا في سبيل الله، بل حين سئل: أي الجهاد أفضل؟ قال:«كلمة حق – وفي رواية: عدل – عند سلطان جائر». [30] فاعتبر ذلك أفضل الجهاد وأعلاه.
فهذا دين يحرض على مقاومة الظلم حتى الموت، ويعد الميت في سبيل ذلك شهيدا في سبيل الله، بل في طليعة الشهداء المرموقين، بجوار حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، كما قال صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله».[31] ولهذا يبرأ الإسلام من كل من يرضى لنفسه بالذل والمهانة، ويصبر على القيد يوضع في رجله، أو الغل يوضع في عنقه دون أن يقاوم الظلم، أو يحاول التخلص منه ولو بالهجرة إلى أرض الله الفسيحة، يقول القرآن: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97)( (النساء).
ويرد الرسول – صلى الله عليه وسلم – منطق الاستسلام الجبري أو السلبي لأحداث الحياة ووقائع الدهر باسم الإيمان بالقدر، ويعتبر ذلك ضربا من العجز المذموم في دين الله؛ فقد ورد عنه – صلى الله عليه وسلم – قوله: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز». [32] وجاء في أدعيته – صلى الله عليه وسلم – التي علمها لبعض أصحابه: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن،[33] والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين[34] وغلبة الرجال».[35] ففي هذا الدعاء استعاذة بالله تعالى من كل مظاهر العنف التي تعتري الإنسان فتغلبه وتقهره وتذله.
فهل يقال في مثل هذا الدين الذي يدعو إلى الثورة على الباطل والضعف والعجز والعبودية، ويحرض على نصرة الحق والقوة والحرية: إنه أفيون الشعب، يخدر المرء ويمنيه بنعيم الجنة، ليسكت عن مظالم حياته الدنيا؟!
لعل ماركس كان معذورا حين قال ما قال؛ لأنه لم يعرف الإسلام، ولم يعرف موقفه من الظلم والبغي والفساد، مع أن المنهج العلمي كان يلزمه ألا يصدر حكمه عاما شاملا إلا بعد استقراء كامل، ودراسة تامة لكل الأديان، أو للأديان الكبرى على الأقل، وأثرها في الأمم على مدار التاريخ، فإن لم يستطع كان عليه أن يحكم على الدين الذي عرفه لا على غيره. هذا هو مقتضى الأمانة العلمية، والمنهج العلمي[36].
أما دعوى نسبية القيم وعدم ثباتها، فالقصد منها تمييعها ثم تضييعها، وإطلاق العنان للإنسان ليتصرف على مقتضى مصلحته ولذته وشهوته، دون اعتبار للآخرين، على الطريقة الحيوانية.
فمن قال: إن فضائل كالعفة والحياء والصدق والأمانة والوفاء والشهادة والنجدة والمروءة والكرم وإتقان العمل تتغير بتغير الظروف، فمن يمنع إنسانا أن يكون صادقا في البدو وفي الحضر، وفي القرية والمدينة، وفي البيت والعمل؟! بالطبع ليس للظروف دخل في هذا، بقدر ما هي طبيعة هذا الإنسان نفسه، ومدى استقامته وتقواه وورعه أو العكس.
وحول نفي الملحدين وجود قيم ثابتة بحكم التطور الذي يغير القيم كلها كلما تغير الوضع المادي والاقتصادي، يقول الأستاذ محمد قطب: “لم يكتف الماديون في تحقير القيم الإنسانية بنفي الأصالة عنها وجعلها مجرد انعكاس لقيم مادية؛ بل مضوا شوطا آخر في تحقيرها فقالوا: إنها ليست ثابتة، إنما هي دائمة التغير كلما تغير الوضع المادي والاقتصادي.
بتعبير آخر: يا أيها المثاليون! إنكم تبحثون عن سراب لا وجود له في الحقيقة، حين تتكلمون عن الحق والعدل والخير والفضيلة والجمال والصدق والأمانة… إلخ، إنها كلمات جوفاء يملؤها كل جيل بما يحلو له، ولكنها هي في ذاتها ليست شيئا ثابتا محددا يمكن التعرف عليه، هنا يذكرنا ماركس بـ “دور كايم” الذي يقول: ” إن العقل الجمعي هو الذي يضع القيم والنظم، والتقاليد والأخلاق، وهو لا يثبت على حال، يحل اليوم ما حرمه بالأمس، ويحرم غدا ما يحله اليوم.
نفس الهدف، ونفس الوسيلة، كل في تخصص من تخصصات العلم! فالعلم الماركسي يقول: إنه كلما تغير الوضع المادي أو الاقتصادي، تغيرت معه جميع القيم والمعايير، تغيرت صورة الملكية من ملكية جماعية في الشيوعية[37] الأولى إلى ملكية فردية، فنشأ الرق ثم الإقطاع ثم الرأسمالية، وكان كل منها في حينه صوابا؛ لأنه هو الاستجابة الطبعية للوضع المادي والاقتصادي، الاستجابة التي لا يمكن أن يوجد غيرها؛ لأنها انعكاس حتمي للأوضاع، ومن ثم فلا ينبغي أن توصف بالخير أو الشر، ولا ينبغي أن ينظر إليها أصلا من زاوية خلقية، ولا بمعيار خلقي ثابت، إنما مقياس كل شيء هو ذاته، ووجود الشيء بالفعل هو مسوغ وجوده، ثم يتغير كل شيء حين يتغير الوضع المادي والاقتصادي، فيصبح الوضع السابق خطأ بعد أن كان صوابا، وتصبح محاربته واجبة بعد أن كانت قبل ذلك محرمة.
وأخلاقيات الإقطاع – مثلا – من: التدين، وسيطرة الأب على الأسرة، والمحافظة على العفة، والغيرة على العرض، وترابط الأسرة، والتعاون الجماعي – كلها أخلاقيات نابعة من الوضع المادي والاقتصادي ومتناسبة معه، ولكنها ليست قيما قائمة بذاتها توصف بأنها خير، ويوصف عكسها بأنه شر، إنما هي فقط صواب في وقتها؛ لأنها هي الاستجابة الطبعية للوضع المادي والاقتصادي، ثم إنها تصبح بعد ذلك خطأ، أو تصبح غير ذات موضوع حين تجيء الرأسمالية، ويتكون المجتمع الصناعي المتطور! بل تصبح رجعية وجمودا وتأخرا ينبغي محاربته والتحرر منه؛ لأنها لم تعد تستجيب للأوضاع الاقتصادية الجديدة، التي هي المعيار الوحيد الذي تقاس إليه الأمور.
ومحاولة القول بأن الدين قيمة ذاتية، فينبغي أن يوجد على الدوام، أو أن العفة قيمة ذاتية ينبغي أن تظل قائمة في كل مجتمع – هي سذاجة وغفلة ومثالية من جهة، ومن جهة أخرى هي مخالفة لما هو كائن، ولما ينبغي أن يكون؛ لأنه لا وجود لمثل هذه القيم في ذاتها إنما تستمد وجودها من الباعث الذي ينشئها وهو الوجود المادي والاقتصادي، وهذا الباعث دائم التغير لم يثبت – ولا يمكن أن يثبت – على حال، فكيف يثبت ما ينشأ عنه من قيم وأخلاقيات ومعايير”؟![38].
فإذا وضعنا هذه الدعاوى على مائدة البحث، وجدنا فيها قليلا من الحق وكثيرا من المغالطات، فأما أهمية العامل الاقتصادي في حياة الناس فأمر لا ينبغي لعاقل أن ينكره. وأما إفراده بالأهمية، وجعله أساس كل شيء، وجعل كل شيء مجرد انعكاس له، والقول بأنه المحرك الوحيد – أو حتى المحرك الأساسي – لحياة البشر، فأمر مبالغ فيه إلى حد الاعتساف الذي يجعل جانب الحق الضئيل يضيع في وسط الأضاليل. يقول الله سبحانه وتعالى: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5)( (النساء)، أي تقوم حياتكم عليها.
والتشريعات التي تنظم تداول المال في القرآن والأحاديث النبوية كثيرة بصورة ملحوظة، توحي بأهمية الحياة الاقتصادية، وأهمية تنظيم العلاقات المتعلقة بالمال، وحين دخل الرسول – صلى الله عليه وسلم – المدينة أمر ببناء المسجد، ثم أمر ببناء السوق، وفي ذلك دلالة واضحة كذلك على أهمية الحياة الاقتصادية في حياة الأمة، وأنها أمر من أمور العبادة كبناء المسجد تماما، ولكن المبالغة في تقدير أهميتها أمر لا يستند إلى حقيقة علمية، ثم هو مفسد للتصور وللسلوك على السواء.
لقد احتاج الماديون – من أجل إعطاء الجانب المادي والاقتصادي أهمية مبالغا فيها – إلى مجموعة من المغالطات والافتراءات التي لا تقوم على أي دليل علمي، أولها: مادية الخلق، وثانيها: مادية الإنسان. فإذا ثبت علميا – كما ثبت اليوم – أن المادة حدثت ولم تكن موجودة من قبل، وأنها ليست أزلية أبدية كما زعم التفسير المادي للتاريخ، فقد انهار الأساس الأول الذي افتري افتراء من أجل إقامة التفسير المادي للقيم الإنسانية. وإذا ثبت علميا – كما هو ثابت منذ قيام شيء اسمه العلم في حياة الإنسان – أن الكائن الحي – كل كائن حي – يسير على نمط مخالف للمادة غير الحية، وإذا ثبت علميا كذلك – كما هو ثابت من أبحاث الداروينية[39] الحديثة ذاتها – أن الإنسان متفرد عن الحيوان حتى في كيانه الحيوي – البيولوجي – البحت، فضلا عن كيانه العقلي، وكيانه الروحي وكل شيء فيه، نقول: إذا ثبت ذلك فقد انهار الأساس الآخر الذي افتري افتراء من أجل الهدف ذاته. وإذا علمنا أن قصة تطور المادية إن هي إلا مهرب – غير علمي – يهرب به الماديون من مواجهة قضية خلق الحياة من الموات، فضلا عما أثبته العلم من أن الموات ذاته مخلوق، وأن الكون المادي قد أنشئ من غير وجود سابق، أي: من العدم.
إذا علمنا ذلك فقد انهارت كل مقومات التفسير المادي للقيم الإنسانية القائمة على أساس أن المادة أزلية أبدية خالقة أو متطورة ينتج من تطورها النبات والحيوان والإنسان، وأن الإنسان هو نتاج المادة فحسب، والتفسير الأصوب فيما يتعلق بالقيم الإنسانية والحياة الإنسانية بأسرها هو أن نرجع فيها إلى “الإنسان”، إلى النفس الإنسانية التي هي محور النشاط كله الذي يقوم به الإنسان.
فإذا رجعنا إلى الإنسان كما نراه في عالم الواقع لا في صورته المفتراة بغير دليل علمي – فسنجد للجانب الاقتصادي مكانا واسعا في حياته، ولكننا سنجد في ساحة نفسه مساحات أخرى واسعة لا يشغلها الاقتصاد، وإنما تشغلها قيم أخرى أصيلة أصالة المادة وأصالة الاقتصاد، وسنجد كذلك ظاهرة أخرى لا تقل عن ذلك أهمية، هي أن الإنسان وحدة متكاملة، متفاعل فيها كل العناصر والمكونات لتعطي في النهاية تعبيرا شاملا هو محصلة العناصر جميعا والمكونات جميعا، وأن أي محاولة لتفسير الإنسان بعنصر واحد من عناصره، أو على ضوء عنصر واحد من عناصره – هي محاولة ساذجة جدا لا تليق بأية نظرية تتعرض لتفسير السلوك البشري.
وسواء كان العنصر الواحد هو الاقتصاد كما قال ماركس، أو الجنس كما قال فرويد، أو العقل الجمعي المسيطر على الأفراد من خارج كيانهم كما قال دور كايم، فكلها أضأل وأكذب من أن تفسر الحياة الإنسانية واسعة الجوانب متعددة ألوان النشاط، ويكفي أن نجمع هذه التفسيرات الثلاثة بعضها إلى جانب بعض ليتضح لنا أن دعوى كل واحد منهم أن تفسيره هو التفسير العلمي الصحيح، هي دعوى كاذبة، وإن اشتملت على شيء من الحق؛ فالاقتصاد جانب مهم، والجنس جانب مهم، وخضوع الفرد للتيارات الجماعية جانب مهم، لكن أيا منها لا يستقل وحده بتوجيه الإنسان ووضع معاييره وقيمه كلها جميعا، وأن التفسير الحق للإنسان ونشاطه وقيمه يشمل هذه الأمور الثلاثة كلها، ويشمل غيرها مما أغفله – عمدا – كل واحد من المفسرين الثلاثة العظام، وأننا – لكي ننشئ تفسيرا حقيقيا للحياة الإنسانية – لا ينبغي أن نغفل شيئا من مكونات الإنسان على الإطلاق، أو أن نفسر شيئا أصيلا في حياة الإنسان من خلال شيء آخر.
ماذا لو فسرنا الجنس – مثلا – من خلال الاقتصاد، فعزونا المشاعر الجنسية إلى عوامل اقتصادية؟! أي تفسير مضحك يكون هذا التفسير؟! كذلك لو فسرنا الاقتصاد من خلال الجنس، فقلنا إن الدافع الجنسي هو السبب في جميع العمليات الاقتصادية التي يقوم بها الإنسان؟! أي تفسير مضحك يكون هذا التفسير؟!
والسبب في كونه مضحكا وساذجا ومرفوضا هو أن كلا من الاقتصاد والجنس عنصر أصيل في كيان الإنسان على ذات الدرجة من الأصالة، فنفي أصالة أيهما وتفسيره من خلال الآخر هو الذي ينشئ تلك السذاجة المضحكة، مع أن هناك ترابطا أو تشابكا لا شك فيه بين الاقتصاد والجنس في حياة الإنسان، ذلك أنهما – مع أصالة كل منهما – يصبان في المجرى الكبير الذي يشكل في النهاية حياة الإنسان، ولكن ترابطهما وتشابكهما في المجرى الكبير لا ينفي أن كلا منهما رافد مستقل ذو سمات قائمة بذاتها، وذو دفعات قائمة بذاتها، كذلك – على نفس المستوى – تكون محاولتنا تفسير الدين والقيم العليا كلها على أسس مادية اقتصادية كما يقول ماركس، أو أسس جنسية كما يقول فرويد، أو أسس من العقل الجمعي المستقل عن كيان الأفراد والمغاير لكيان الأفراد كما يقول دور كايم، هي محاولة ساذجة مضحكة ولو ألف فيها ألف كتاب، ولو قامت الأبواق اليهودية تروج لها من خلال ألوف الأفواه.
إن النفس الإنسانية هي الأصل الذي نرجع إليه لتفسير أحوال الإنسان في الأرض وتفسير ألوان نشاطه المختلفة، وكون هذه “النفس” قابلة للتشكل في أشكال شتى – لا يعني أنه ليس لها كيان محدد، ولا حدود تقف عندها في تشكلها، إنما هذه المرونة في قابليتها للتشكل – هي ذاتها جزء من مقومات الخلافة التي خلق الله الإنسان ليقوم بها في الأرض.
قال تعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة( (البقرة:30)، فقد علم اللطيف الخبير الحكيم المدبر – لا ذلك الخالق الأصم الذي يدعيه الماديون، ولا ذلك الذي يخبط خبطا عشوائيا الذي يدعيه دارون – أن تفاعل هذه النفس البشرية مع الكون المادي سينشئ أشكالا مختلفة من الحياة في الأرض، بحسب درجة علم الإنسان بهذا الكون المادي، ودرجة سيطرته عليه، وقدرته على استخراج طاقاته واستخدامها في عمارة الأرض.
لذلك جعل – بحكمته – هذه النفس قابلة للتشكل لتوائم هذه الأشكال المتغيرة، بينما الحيوان والنبات أقل قدرة بكثير على التشكل؛ لأنه لا يحمل أمانة، ولا يقوم بخلافة ولا عمارة.
أفينقلب هذا التكريم الرباني والتفضيل إلى نقيصة يوصم بها الإنسان في التفسير المادي للتاريخ، فيقال: إنه لا كيان لهذه النفس البشرية، ولا سمات محددة، وإنها تأخذ سمتها وسماتها من الوضع المادي الذي تكون فيه. إن الحمار لا يمكن إلا أن يكون حمارا، مهما أوقعت عليه من الضغوط لتغيير طبيعته! أفيكون الإنسان أقل أصالة من الحمار في عرف التفسير المادي للتاريخ، في الوقت الذي يزعمون فيه أنه أعلى تطور في عالم المادة؟!
إن قضية أصالة الإنسان، ووجود سمات أصيلة فيه تحدد طبيعته الإنسانية، هي قضية فوق الشك، أيا كان المدخل الذي ندخل إليها منه”[40].
الخلاصة:
- النصوص الشرعية والمنطق والعقل والواقع والتجربة، كلها تظهر مدى أهمية الدين في حياة الإنسان وحاجته إليه على المستوى الفردي والجماعي؛ لإحداث التوازن بين المادة والروح والعقل، وتحقيق الوسطية. كما أن الفطرة السليمة تسلم تسليما مطلقا بضرورة وجود الدين في حياة البشر، وقد شهد بذلك علماء الاجتماع وفلاسفة كثيرون من الغرب والشرق.
- الإسلام منظومة شاملة لكافة نواحي الحياة، ولم يقتصر دوره على صلاح القلوب والضمائر فقط، وأكبر دليل على هذا التشريعات التي وضعها الإسلام لسياسة هذا الكون، وتظهر هذه السياسة بصورة واضحة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… إلخ، فلقد وضع الإسلام العديد من القوانين التي تحكم مسيرة الاقتصاد وتضعه في الطريق الصحيح، وكذلك فعل مع النظم الاجتماعية التي قامت في الإسلام على أسس روحية تتكامل فيما بينها؛ لكي تحمي بناء المجتمع من أي ضرر يلحق به، كذلك النظم السياسية التي قامت على مجموعة من الأسس التي لا تتغير بتغير الزمان، منها: أن الشورى هي أساس اختيار الحاكم، وأن الكل سواء أمام الشرع، فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة إسلامية… إلخ. وعلى هذا يقاس نظام الإسلام مع بقية النظم الأخرى.
- المحاولات الغربية التي تدعو إلى تطوير الإسلام ليس هدفها التطوير كما يدعي هؤلاء، وإنما تهدف إلى إخضاع التراث الإسلامي كله لمناهج الفكر الغربي، التي تحاول أن تقتلع الإسلام من جذوره، ووضع الفكر الغربي المنحرف مكانه، وبذلك يسلم لهم كل العالم، ولا توجد أي قوة أخرى تهدد وجودهم المادي النفعي الذي ينكر الدين، ويحاول إبعاده عن الحياة العامة.
- ظهرت في الغرب بعض المقولات الباطلة عن الإسلام، من بينها أن “الدين أفيون الشعوب”، و “الدين تنهدات الجماعات المظلومة، ولو رفع الظلم لزال الدين”، ومثل هذه المقولات دعاوى باطلة لا تقوم على دليل؛ فإن كان الدين تنهدات الجماعات المظلومة، فلماذا آمن بعض الغربيين في العصر الحديث دون وقوع أي ظلم عليهم؟! ولو كان الدين هو أفيون الشعوب، فكيف نفسر حملات الإسلام التي تدعو إلى الثورة على الفساد والظلم وضرورة محاربة الانحراف؟! وكيف نفسر الثورة العلمية التي شهدها العالم الإسلامي خلال فترة صحوة الحضارة الإسلامية؟!
- دعوى “نسبية الأخلاق” دعوى باطلة، الهدف منها تمييع الأخلاق ثم ضياعها بالكلية، وإطلاق العنان للإنسان لكي يتصرف حسب ما تمليه عليه نفسه، دون خضوع لأي ضابط من أي نوع، وخاصة ضابط الدين، وظهرت النتيجة السلبية لهذه الدعوى في الغرب؛ فكثر فيه الانحلال الأخلاقي بصورة فاحشة. أما الإسلام فإنه يضع الأخلاق تحت سلطة الدين، ولا يطلق العنان للإنسان كما فعلت الحضارة الغربية، وترتب على هذا انضباط الواقع الأخلاقي للمسلمين، حتى في أكثر مدد حياتهم تدهورا وبعدا عن الدين.
(*) الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، أبو الأعلى المودودي ، ترجمة: خليل الحامدي ، دار القلم، الكويت، 1980م.
[1]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1424هـ/2003م ، ص42 وما بعدها.
[2]. أخرجه المناوي في فيض القدير (2/ 1506).
[3]. ادلهمت الخطوب:أي كثر ظلامها.
[4]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1424هـ/2003م ، ص42: 48.
[5]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1424هـ/2003م ، ص51.
[6]. وظيفة الدين في الحياة وحاجة الناس إليه، د. محمد الزحيلي ، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، ليبيا، ط2، 1428هـ/ 1999م، ص5، 6.
[7]. الرؤى الإسلامية لحقوق الإنسان، مقال د. علي أحمد طه المسيري ، ضمن أبحاث ووقائع المؤتمر الخامس عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، تحت عنوان “مستقبل الأمة الإسلامية”، القاهرة، 1424هـ/ 2003م، ص823، 824.
[8]. الرأسمالية: نظام اقتصادي تكون فيه رءوس الأموال مملوكة لأصحاب الأموال الموظفة، وغير مملوكة للعمال، ومن أهم خصائصه التنافس الحر لتحقيق أكبر ربح ممكن.
[9]. المستشرقون والإسلام، محمد قطب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ / 1999م، ص69: 71.
[10]. متساوقة:أي متقارية، من تساوق الشيئان، إذا تقاربا أو تسايرا.
[11]. الإسلام كبديل، د. مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، الترجمة العربية، مجلة النور الكويتية، ط1، 1993م، ص151: 154.
[12]. الإسلام دين الهداية والإصلاح، محمد فريد وجدي ، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ/ 1991م، ص224: 226.
[13]. حول الإسلام وقضايا العصر، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1992م، ص154، 155.
[14]. دراسات إسلامية في الأسرة والمجتمع، قسم: التكافل الاجتماعي في الإسلام.