الزعم أن الإسلام دين محلي، وأن المسيحية دين عالمي
وجوه إبطال الشبهة:
1) عالمية الإسلام أمر ثابت بالقرآن والسنة، وقد بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الناس كافة ولم يختص بالعرب.
2) النصرانية هي الديانة المحلية، إذ أرسل عيسى – عليه السلام – لخراف بني إسرائيل الضالة “لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة”. (متى15: 24).
3) تدليس بولس بداية الانحراف والتحول، الذي لم ينته حتى اليوم.
4) أظهر النقد العلمي أن العبارات القليلة التي توهم عالمية النصرانية في الإنجيل لاثقة بها ولا بثبوتها التاريخي.
التفصيل:
هذا قلب لحقائق الأمور وطبيعة الديانتين وواقع التاريخ، وقد بلور مضمون هذه الشبهة د. فرج الله عبد الباري بقوله: “وقد جادل المسلمون أهل الكتاب في مسائل عديدة كان من بينها إنكار أهل الكتاب لعموم رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وقد استدل النصارى بآيات من القرآن الكريم حرفوها عن مواضعها ليستشهدوا بها زورا وبهتانا على أن دعوة الإسلام لا تلزمهم ولا تشملهم؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي؛ ولأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم يتكلم بألسنتهم.
أثار هذا قدماء النصارى وجادلوا بهذه الأباطيل علماء الإسلام كالقرافي وابن تيمية والخزرجي، وتبنى بعض النصارى هذه الشبه وأثاروها مرة أخرى في العصر الحديث، وبينما هم يثيرون الشبه بالنسبة للإسلام تراهم يعملون في غير كلل ولا ملل لنشر النصرانية في أرجاء العالم على اعتبار أنها الديانة العالمية، وهي الدعوة التي يجب أن توجه إلى جميع أفراد الجنس البشري كما يزعمون” [1].
فإلى نقض هذه الشبهة ورد هذا الافتراء من مختلف جوانبه:
أولا. عالمية الإسلام أمر ثابت في القرآن والسنة:
أخرج مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون» [2].
وقال صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».[3] وقال الله – عز وجل – في القرآن الكريم: )قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض( (الأعراف: 158)، وقال سبحانه وتعالى: )وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا( (سبأ: 28).
ومن العجيب أن بعض النصارى يذهبون إلى القول بأن محمدا نبي للعرب خاصة، يقولون هذا ويرددونه ويتشدقون به، مع وفرة النصوص الكريمة في القرآن والسنة التي تؤكد عموم رسالته للعالمين.
بل إن كثيرا من نصوص القرآن الكريم دعوة موجهة إلى أهل الكتاب، من يهود ونصارى وغيرهم من أهل النحل والملل المختلفة في كل البقاع والأصقاع، وهذه دعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ورسله، وجهاده لليهود والنصارى وللمجوس وللمشركين – من العرب ومن غيرهم – شاهد صدق على ما نقول.
وفي القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه ذكر وتنديد بكفر الكافرين من اليهود والنصارى، وأمر بقتال الظالمين والطغاة منهم، ودعوة لهم إلى الدخول في الإسلام دين الله الحق، قال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64) يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68) ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (69) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (70) يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (71) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون (72)( (آل عمران).
وقال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون (99) يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100)( (آل عمران).
وقال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47)( (النساء).
وقال سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)( (النساء).
وقال سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير (17)وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (19)( (المائدة).
وقال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (59)( (المائدة)، وقال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68)( (المائدة) وقال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)( (المائدة).
قد يقول قائل: أليس هناك تناقض بين هذه الآيات وبين آيات أخرى تقول: )لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)( (آل عمران)، )إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2)( (يوسف)، )وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195)( (الشعراء)، )وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46)( (القصص).
ونقول في الإجابة: ليس في القرآن آية واحدة تدل أو تشير إلى أن رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – مختصة بالعرب وحدهم، وإنما فيه إثبات رسالته إليهم، كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش! وليس بين هذين تناقض. وكذلك ليس هناك تناقض بين أن يوجه القرآن الخطاب إلى أهل الكتاب – كما أسلفنا – وبين أن يوجهه إلى بني إسرائيل أو بني آدم، كما في قوله سبحانه وتعالى: )يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47)( (البقرة)، )يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة( (الأعراف: 27)، يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)( (الأعراف)، )يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (35) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (36)( (الأعراف).
فليس التخصيص في توجيه الدعوة الإسلامية إلى العرب أو بني إسرائيل بمناف لعموم الرسالة إلى الثقلين، ولهذا فإن البشرية كلها – بل الجن كذلك – مخاطبون برسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – ومسئولون عن دعوته، وعن مدى استجابتهم واتباعهم لها. وقد ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب».[4] وأولئك البقايا الذين عناهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث، فمن لم يؤمن به فهو كافر من أهل النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» [5].
ثم إنه من المعروف أن بني إسرائيل، كانوا أكثر الأمم أنبياء. بعث إليهم موسى، وبعث إليهم بعده أنبياء كثيرون، حتى قيل: إنهم بلغوا ألف نبي، كلهم يلتزمون بشريعة التوراة، يأمرون بها، ويدعون إليها، ولا يغيرون منها شيئا، ثم جاء المسيح بعد ذلك بشريعة أخرى غير فيها بعض شرع التوراة بأمر الله، فإذا كان إرسال موسى والأنبياء بعده لم يمنع من إرسال المسيح إلى بني إسرائيل، فلماذا يرفضون أن يكون محمد رسولا إلى أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، وهم منذ المسيح لم يأتهم رسول من الله، كما قال سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (19)( (المائدة) [6].
ولا نظن أن منصفا – بعد هذا – يجد مجالا لنفي عالمية الدين الإسلامي والقول بخصوصيته للعرب دون غيرهم من الأمم، كما كانت طبيعة الرسالات قبله، محلية أو قبلية، أو ما شابه ذلك.
ثانيا. النصرانية ديانة محلية:
هذه هي مقولة الحق تشهد على صدقها تعاليم صاحب الرسالة المسيح – عليه السلام – وتطبيقاته وتصرفاته، وتحت عنوان “خصوصية رسالة عيسى – عليه السلام – لبني إسرائيل من خلال نصوص الأناجيل الحالية ” كتب د. فرج الله عبد الباري يقول: “النصوص الدالة على خصوص الدعوة لبني إسرائيل:
- ورد في إنجيل متى: “فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم”. (متى 1: 21). البشارة هنا بعيسى قبل مولده كما ورد في إنجيل متى، وأن يسوع يخلص شعبه من خطاياهم، ولكن وليم إدي يفسر هذا النص بقوله: “يخلص شعبه: أي اليهود أولا، ثم جميع الذين يؤمنون به من كل أمة” [7].
وليس هناك إشارة في النص من قريب أو بعيد، تشير إلى تخليصه لغير شعبه وهم اليهود، وهذا تحكم في تفسير النص بقول شارح النص، وإلا فما دلالة ذلك في النص؟ لا وجود لها، وسوف نرصد ونبين كيف طرأت دعوة عالمية النصرانية على يد بولس.
- ورد في إنجيل متى عن توجيهه لتلاميذه بنشر الدعوة: “هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: «إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات»”. (متى 10: 5 – 7).
في هذا النص تتضح وصية عيسى لتلاميذه: “إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا “. لقد أرسلهم إلى أمتهم اليهود والشعب المختار، والمراد بخراف بني إسرائيل الضالة هم اليهود الذين ضلوا عن مسالك الحق والعبادة الروحية، فكانوا كغنم بلا راع – وهذا التبشير من قبل التلاميذ كان لتنبيه أفكار اليهود وتمهيد الطريق لكل التعاليم المسيحية، كما يقول وليم إدي في تفسيره للنص السابق، ولكن مفسرا آخر لنفس النص يحاول أن يستشف المرحلية في الدعوة من خلال وصية المسيح لتلاميذه التي تأمرهم بألا يدخلوا عند غير اليهود يقول: ” أمر التلاميذ بأن لا يكرزوا بالإنجيل في الزمن الحاضر إلا لليهود فقط” [8].
وليس هناك ما يدل على ما ذهب إليه مفسر العهد الجديد من خلال النص الذي يفسره.
- في نفس إنجيل متى نص آخر يدل دلالة صريحة وواضحة على كون دعوة عيسى ـعليه السلام – خاصة لبني إسرائيل فقط، مهما كانت الدواعي والظروف الموجبة لدعوة غيرهم، يقول متى: “وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: «ارحمني، يا سيد، يا ابن داود! ابنتي مجنونة جدا». فلم يجبها بكلمة. فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: «اصرفها، لأنها تصيح وراءنا!» فأجاب وقال: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة»”. (متى 15: 22 – 24).
وتعليقنا على هذا النص هو أنه بالرغم من صراخ المرأة وحاجتها الشديدة لشفاء ابنتها، إلا أن المسيح بناء على رواية إنجيل متى لم يغير موقفه، ولم يتصرف من تلقاء نفسه؛ لأنه مرسل إلى بني إسرائيل فقط كما أجاب تلاميذه. ونقرأ تفسير ذلك النص في المصادر المسيحية: ” لم يكن من مانع حينئذ لشفاء تلك الابنة سوى عدم إرادته، لم أرسل، أي من الأب، إلا إلى خراف بني إسرائيل”.
ويظهر من هذا أن وظيفة المسيح كانت مختصة باليهود، والله قضى بأن ينادي بالإنجيل لليهود أولا إيمانا للعهد، وشفقة المسيح على اليهود حصرت تبشيره بهم، فلو نادى للأمم لرفض اليهود كلهم ذلك في الحال لشدة تعصبهم، فجواب المسيح لتلاميذه ليس إنكارا قاطعا لطلبتهم، لكنه إظهار لأن إجابة تلك الطلبة خارج عن دائرة رسالته حينئذ. وما كاد – أي هذا القائل بمرحلية الدعوة المسيحية – يعترف بالحق حتى تنكب الطريق وقال في نهاية تفسيره “حينئذ” ليدل على أن دعوة شعب إسرائيل كانت مرحلة مؤقتة تلتها مرحلة أخرى، وهي دعوة المسيح لجميع الأمم بعد ذلك، والنص الذي بين أيدينا لا يساعده في فهمه، ولكن التحكم في النصوص هو الذي يسيطر على هذا المفسر وغيره حتى يخلص إلى عالمية الملة النصرانية التي ما نادى بها المسيح ولا تلاميذه على نحو ما سنرى.
وتقول رواية متى إن المرأة أتت وسجدت له قائلة: يا سيدي أعني، فأجاب وقال: ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب، فقالت: نعم يا سيد، والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها، حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لك ما تريدين، فشفيت ابنتها من تلك الساعة.
وهذه الرواية – إن صحت – لا تعني أنه دعاها إلى الإيمان برسالته، كل ما في الأمر أنه شفى ابنتها، وعلى فرض أنه دعاها إلى رسالته، فلا يعني ذلك عموم دعوته؛ لأن ” المبعوث إلى قومه لم ينه عن دعاء غيرهم إلى الله، وهو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “، لا من باب التكليف بإيصال الدعوة إلى غير من أرسل إليهم.
- ومن النصوص التي تدل على أن عيسى – عليه السلام – جاء لبني إسرائيل وأن دعوة تلاميذه كانت خاصة باليهود، ما ورد في إنجيل متى عن حساب يوم القيامة، وقيام المسيح وتلاميذه بالمحاسبة، كما يعتقد النصارى، يقول: “ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع: «الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني، في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر»”. (متى 19: 27، 28).
بنفس منطق إنجيل متى مع عدم اعتقادنا بمحاسبة المسيح لأحد ولا التلاميذ؛ لأن الذي يتولى الحساب هو الله رب العالمين، نقول: نص متى يشير إلى أن المسيح والتلاميذ عن يمينه يدينون أسباط إسرائيل عشر، الذين يتكون منهم الشعب اليهودي، ولو كانت رسالته للعالم لأدان الناس جميعا. وعلى الرغم من الوضوح في الخصوصية بأسباط إسرائيل الاثنا عشر فإن مفسر إنجيل متى يأتينا بفهم جديد للأسباط، وأنهم ليس المراد بهم في العهد الجديد بني إسرائيل، وإنما كل المؤمنين يقول: “أسباط إسرائيل الاثنى عشر في العهد القديم شعب الله الخاص، ومعناه في العهد الجديد غالبا كل المؤمنين” [9].
وقد اضطر إلى ذلك التفسير المخالف للمتعارف عليه بين الجميع – من أن الأسباط هم بنو إسرائيل – فذكر أن كلمة الأسباط في العهد الجديد “غالبا” تدل على كل المؤمنين – فذكر كلمة “غالبا” ليتسنى له إثبات أن التلاميذ يدينون أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر، الذين معناهم في العهد الجديد كل المؤمنين، هل رأيت تحكما وليا للنصوص مثل ما يقوم به مفسر الإنجيل ليدلل على أن الدعوة عامة وليست خاصة؟ كل هذا لحساب بولس فقط؛ لأنه هو أول من ابتدع عموم دعوة المسيح لغير اليهود مخالفا المسيح – عليه السلام – والتلاميذ في فهمهم للدين الذي تلقوه عن المسيح عليه السلام.
- وإذا تركنا إنجيل متى، فإننا سنجد التصريح بخصوصية رسالة عيسى واضحة من خلال بعض النصوص في إنجيل يوحنا، فقد ورد في يوحنا: “إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله”. (يوحنا 1: 11).
ونحن مع المفسر في أنه جاء إلى بني إسرائيل، وكثير منهم لم يقبلوه، وإن كان بعضهم قد آمنوا برسالته، والتزموا بتعاليمه، وليس معنى أنه لم يقبل من شعبه وإنما قبل من غيرهم أن هذا يجعل رسالته عامة، وإنما قبول غيرهم له ولرسالته لا يخرج دعوته من الخصوصية إلى العمومية، ثم لنا أن نتساءل: في أي وقت قبل غير اليهود دعوة المسيح؟
إن نصوص الأناجيل لا تقدم لنا أي دليل على قيام عيسى – عليه السلام – بدعوة غير اليهود إلى الإيمان به أثناء حياته، ولكن بولس يبني ذلك على رؤياه الخاصة، حتى الذين ناصبوه العداء ووقفوا ضده، حين أخبرهم المسيح أنه سيغادر الدنيا، لم يفهموا أنه يشير إلى الرفيق الأعلى، وإنما فهموا أنه سيغادر مكانهم إلى حيث يعيش اليهود في الشتات خارج فلسطين؛ لأنهم كانوا يفهمون أن رسالته خاصة بهم دون سواهم من الشعوب، فلو فكر في دعوة غيرهم فأول ما تبادر إلى ذهنهم اليهود في الشتات، ورد في يوحنا: “فقال لهم يسوع: «أنا معكم زمانا يسيرا بعد، ثم أمضى إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا». فقال اليهود فيما بينهم: «إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن؟ ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلم اليونانيين؟»”. (يوحنا 7: 33 – 35).
وهنا إشارة إلى أن اليهود لم يفهموا كلامه، أو عوجوه، وقالوا: إن معناه الهرب من البلاد إلى حيث يعيش اليهود متفرقين بين اليونانيين. فإذا كان الأمر على هذه الشاكلة، وأن خصوصية النصرانية ثابتة بنصوص الأناجيل، وممارسات المسيح ـعليه السلام – وتوجيهاته؛ فما الذي حولها عن وجهتها وحرفها عن مسارها؟ الجواب هو ما يلي [10].
ثالثا. تدليس بولس بداية الانحراف والتحول:
ولد بولس في طرسوس لأب يهودي، وكان في مبدأ حياته يضطهد أتباع المسيح، إلى أن زعم أن المسيح ظهر له فرآه عيانا فتحول إلى الإيمان بالمسيح وبشر بالمسيحية في آسيا الصغرى والبلقان، وإيطاليا وإسبانيا، ويعتبر بولس هو مؤسس المسيحية الحقيقي، ويغلب على اعتقاد معتنقيها في كل أقطار الأرض.
تحت عنوان “خصوصية دعوة المسيح” يجمل د. عبد الرحمن جيرة طبيعة هذا التحول الذي تم على يد بولس قائلا: “يؤكد القرآن الكريم خصوصية رسالة المسيح – عليه السلام – ببني إسرائيل، قال سبحانه وتعالى: )ورسولا إلى بني إسرائيل( (آل عمران: 49)، ومن خلال الواقع التاريخي لدعوته – عليه السلام – لا تجد من بين تلاميذه من هو من غير اليهود، ولا يذكر إنجيل من الأناجيل الأربعة أن المسيح دعا غير اليهود، بينما تلاميذ بولس جميعهم باستثناء اثنين أو ثلاثة من غير اليهود.
وتختلف المسيحية التي أنشأها بولس عن تلك التي جاء بها المسيح في جنسها وفكرها، فالمسيح كان إسرائيليا يعيش بين أحضان الكنعانيين – الفلسطينيين – إلا أنه ما رأى أن دعوتهم واجبة عليه، وحتى عندما تدعو الظروف إلى ذلك.
وبعد أن يورد النص السابق عن المرأة الكنعانية التي استغاثت بعيسى ليشفي ابنتها، فكان جوابه: لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة، يقول المؤلف: فهذا نص صريح، ولكن تأمل ماذا فعل بولس؟ لقد ترك فلسطين بما فيها من يهود وكنعانيين، سامريين وعبرانيين، وانطلق إلى الرومان ليعرض عليهم ما لا يمكن تصديقه ولا قبوله في فلسطين”[11].
وقد نعجب – بعد ذلك – من أمر بولس، وتحريفه الديانة النصرانية، وتحويلها عن وجهتها الأصلية، وهي الخصوصية لبني إسرائيل فقط إلى العمومية والعالمية، متسائلين كيف أمكن له ذلك؟ وبأي الوسائل أتمه؟ وأية مسالك سلكها وصولا إلى هدفه؟
إن معظم المصادر – كما يقول د. فرج الله عبد الباري – تشير إلى أن بولس بعد رؤيته المزعومة كان يبذل جهدا غير عادي للتبشير بدعوته، وكان لا يكل ولا يمل من الاتصال باليهود وبغيرهم من اليونانيين والوثنيين، ويرصد لنا شارل جينبير حركة بولس ودعوته بقوله: “كان يرتحل من بلدة إلى أخرى، ولا يقيم بضعة أيام في أي منها إلا حينما يجد جاليات يهودية مهمة، وكان يبدأ الحديث في المعابد فتثير آراؤه غضب اليهود، وعندما يستطيع أن يهدئ من روعهم يحاول إقناع من يأتي إليه من طلاب المعرفة”.
وفي أثناء ذلك كان يكاتب سائر الكنائس التي غرسها بغية تدعيمها، إن الحركة وحدها لا تكفي، ولكن يجب أن يكون مع الحركة والدعوة شيء آخر ما هو؟
لقد رسم بولس خطة ذكية، تمثلت هذه الخطة في مخاطبة كل جماعة بما يناسبها، بمعنى أنه كان لا يصادر فكر أحد من الذين يدعوهم، بل على العكس كان يثبت لهم أن عقائدهم لا تخالف ما يدعو هو إليه، بل أكثر من هذا كان يثبت لهم أن ما يعتقدونه هو نفسه ما جاء به المسيح.
فهل يا ترى من الممكن أن يرفض أحد دعوته؟ ولندلك على صحة ما ذهبنا إليه بأحد النصوص من رسائله الأولى إلى كورنثوس، يقول: “فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود. وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس. وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس مع أني لست بلا ناموس لله، بل تحت ناموس للمسيح لأربح الذين بلا ناموس. صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء. صرت للكل كل شيء، لأخلص على كل حال قوما. وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل، لأكون شريكا فيه”. (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 9: 20ـ 23).
في هذا النص سر النجاح الذي لاقاه بولس: الخداع والكذب والحربائية، ليضلل من يدعوهم من الأمميين ويوهمهم بأن ما هم عليه لا يخالف ما يدعو إليه، وكما يقول جينيبر: “لم يكن غير اليهود في هذا العصر يهتم بدعوة عيسى، ولم يكن غير اليوناني يستطيع أن يمد في أبعاد هذه الدعوة حتى يبلغ بها حدود العالمية، لقد جمع بولس بين اليهودية واليونانية، ثم أضاف إليها ميزة ثالثة غالية هي تمتعه بالجنسية اليونانية، أو بتعبير أدق حصوله على صفة المواطن الروماني.
وكانت تلك الميزة ذات نفع كبير متعدد الجوانب، كانت تحميه من الانزلاق إلى تعصب يهود فلسطين القومي الذي اتصف بضيق الأفق وكراهية الأجنبي، وكانت تدعوه إلى العالمية في التفكير والعمل، ثم كانت هي السبب الذي اتخذه، وهو لا يكاد يشعر، ليرتفع بالأمل الذي ظهر بين طائفة محدودة من اليهود إلى مرتبة الأديان الإنسانية؛ لذلك كله نستطيع وصف بولس بأنه كان ” منشئ المستقبل”.
وقد سلك بولس هذا مسالك شتى لإرضاء الأمميين ونشر دعوته فيما بينهم، ولم تكن دعوى عالمية النصرانية إلا واحدة مما ابتدعه بولس في دين المسيح، ويضاف إليها إقدامه على إلغاء الختان على ثبوته في العهد القديم وإقرار المسيح له، وادعاء صلب المسيح وتأليهه هو طامة من طوام بولس بعيدة الأثر في النصرانية إلى اليوم، فهو المروج الأكبر، والداعي الأكبر إليهما، وبلغ به تلبيسه أنه وقف يحدث اليونانيين أن لهم إلها مجهولا يقيمون له معبدا، وأنه جاء ليدلهم عليه وأن معبودهم هذا الوثني هو المسيح يسوع!
وكذلك سار بولس في كل طائفة يزين لها دعوته بما يجد لديها من عقائد، فتبدلت النصرانية بين يديه كثيرا بحسب عقائد الأقوام الذين يتوجه بدعوته إليهم. ولم تزل آثار صنعه المشئوم قائمة في الديانة النصرانية إلى اليوم.
رابعا. مناقشة ما ورد في إنجيل متى حول عالمية النصرانية:
ورد في متى: “فتقدم يسوع وكلمهم قائلا: «دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»”. (متى 28: 18، 19).
يقول د. وليم إدي: كان إرسال المبشرين بالإنجيل في أول الأمر إلى اليهود فقط، ولكن المسيح أطلقه هنا فأمر بتبشير كل الناس يهودا أو أمما، وهذا مناقض لآراء اليهود كل المناقضة، حتى إن تلاميذ المسيح توقفوا عن طاعة هذا الأمر لتعصبهم اليهودي، فانقضى عليهم سنون وهم متأخرون عن إجرائه، حتى ألزمهم الاضطهاد في أورشليم أن يذهبوا منها ويبشروا الأمم. إن الاعتراف بخصوصية رسالة عيسى – عليه السلام – يكاد يظهر بين ثنايا كلام مفسر نص إنجيل متى.
إذا قلنا إن الدعوة في البداية كانت لليهود، فلنا أن نتساءل: هل نسخ هذا الأمر بأمر آخر للتلاميذ أن يذهبوا ويكرزوا لسائر الأمم؟ والنصارى لا يعترفون بالنسخ، فعلام يحمل الأمر أولا وأخيرا؟ ثم إذا رفض التلاميذ أو عيسى معلمهم فعلام يحمل هذا الرفض؟ وهل ينبغي للرسل أن يمتنعوا عن تنفيذ أمر معلمهم وهو من صميم الطاعة له؟
كل هذه إلزامات لا نجد إجابة لها عند أحد مفسري إنجيل متى في هذا النص وغيره من النصوص، وتقول إنهم رسل مجاراة للنصارى في إطلاق هذا الوصف عليهم، وإن كنا لا نوافقهم عليه، ثم لنا أن نقول إنه على فرض أن التلاميذ رفضوا ثم اضطروا إلى تبشير الأمم بعد الاضطهاد، فهو أمر ضروري طارئ وليس من أصل الرسالة، كما يفهم من كلام وليم إدي وسوف نورد من الأدلة ما يدحض حجة النصارى عموما حول هذه القضية.
وبصرف النظر عن تفسير النص، فإن إنجيل متى نفسه دار حوله أخذ ورد، فإن علماء اللاهوت النصارى وجهوا النقد إلى إنجيل متى نفسه، وعلى وجه الخصوص خاتمته التي ورد فيها النص بعموم رسالة المسيح، ومما ذكروه:
- أن الغموض يحيط بكاتبه وتاريخ تأليفه والمكان الذي كتب فيه، فلا يعرف على وجه التأكيد اسم مؤلفه، وقد ضاعت النسخة الأصلية ووجدت ترجمتها، ولا يعرف أي شيء عن الشخص الذي ترجمها حتى اسمه مجهول، فكيف يعتمد عليه؟ وهل يصدق بأنه كتاب مقدس؟
- ثم تأتي خاتمة إنجيل متى التي يشكك فيها الباحثون ويعتبرونها دخيلة عليه، فهي تنسب للمسيح قوله لتلاميذه “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” ويرجع السبب في ذلك الشك – كما يقول أدولف هرنك – إلى الآتي:
- لم يرد إلا في الأطوار المتأخرة من التعاليم المسيحية ما يتكلم عن المسيح وهو يلقي مواعظ ويعطي تعليمات بعد أن أقيم من بين الأموات، وأن بولس لا يعلم شيئا عن هذا.
- إن صيغة التثليث التي تتكلم عن الآب والابن والروح القدس، غريب ذكرها على لسان المسيح، ولم يكن لها نفوذ في عصر الرسل.
وقد نبه علماء الإسلام إلى تفرد متى بهذه العبارات، يقول يحيى بن نصر في مجادلته للنصارى حول زعمهم عالمية النصرانية: “فمن أين أخذتم هذا الاعتقاد” ومن أتاكم به؟ وفي أي كتاب نزل؟ وأي نبي تنبأ به؟ وأي قول قاله المسيح حتى استدللتم به على هذا المعنى حتى تدعوه فيه؟ وهل بنيتم إلا على قول متى عن المسيح إنه قاله لتلامذته حين أراد أن يفارقهم… إلخ وانفراد متى وحده بهذه الرواية على هذا النحو، ينفي عنها أية قدسية، فمع أنها باطلة أصلا، فإن أحدا من الأناجيل المعتمدة لدى النصارى لم يذكرها، فقد ذكر لوقا ومرقس لفظ “الكرز” وهو التبشير والوعظ للأمم، ولكن لم يذكرا التعميد باسم الآب، والابن والروح القدس.
ومع أن إنجيل يوحنا أشد الأناجيل حرصا على تدوين أقوال المسيح وأعماله وباعتراف علماء النصارى، ومنهم الخمسمائة الذين اشتركوا في دائرة المعارف البريطانية، أنه ألف بعد المسيح بفترة للرد على منكري ألوهيته، فإن هذه الفقرة رغم أهميتها عند النصارى، ليس لها أصل في هذا الإنجيل، علما أنه انفرد عمن سواه بين الأناجيل بذكر أشياء كثيرة أقل أهمية من هذه العبارة ولا تتوقف عليها النجاة. ولقد انبنى على الخلاف الواقع في ألفاظ هذه العبارة خلاف شديد بين طوائف النصارى حتى حكمت كل طائفة على غيرها بالكفر، ما لم يجر التعميد على طريقتها.
ومما يدلل على كذب متى في نسبته هذا القول للمسيح أن التثليث وألوهية المسيح لم يتقررا في عقيدة النصارى إلا في نهاية الربع الأول من القرن الرابع الميلادي بموجب قرارات مجمع نيقية الذي تم عقده في 325م بأمر قسطنطين إمبراطور الدولة الرومانية، أما ألوهية روح القدس فلم تقرر هذه الأخرى إلا في مجمع قسطنطينية 381م، الأمر الذي يقطع بأن هذه الفقرات مصطنعة ألحقت وأضيفت بعد ذلك إلى إنجيل متى خصوصا وأنها تتناقض مع تعاليم المسيح وتلاميذه حال حياته، من أن الدعوة كانت لبني إسرائيل فقط، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن إنجيل متى محرف ومبدل ونسخته الأصلية ليست موجودة، يقول رحمة الله الهندي: إن إنجيل متى كان باللسان العبراني، وفقد بسبب تحريف الفرق المسيحية، والموجود الآن ترجمته، ولا يوجد عندهم سند هذه الترجمة، فلا يعلم باليقين اسم المترجم أيضا إلى هذا الحين.
وحتى على فرض وجود هذه الأمور، معلومية مصدر إنجيل متى وكاتبه ومترجمه، فإن بعض شراح الأناجيل يعتبرون أن هذا الإنجيل كتب لليهود وليس للأمميين، ولذلك استحق أن يكتب في أول العهد الجديد، والدليل على ذلك في رأي “وليم إدي”: إذ يصرح بيسوع مرسلا مخصوصا إلى اليهود، فهذا مفسر من مفسري الإنجيل يقول بأن إنجيل متى يصرح فيه على لسان المسيح بأن عيسى مرسل مخصوص إلى اليهود، وهل نقول بغير ذلك؟ فلم إذن إضافة الفقرات التي تدعو سائر الأمم إليه؟ إن وجود النص المصرح بدعوة جميع الأمم إلى النصرانية دليل على التحريف الذي مارسه النصارى بعد عيسى – عليه السلام – على دعوته وإنجيله الحق الذي أنزله الله عليه – وعلمه إياه، وبشر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – كنبي خاتم بدين ناسخ لما قبله من الأديان ومن بينها النصرانية.
وعلى هذا المنوال يسير الباحث في مناقشته لما ورد في إنجيل مرقس حول عالمية النصرانية إلى أن يقول: وأخيرا فإن الخلاصة أن الباحثين فرغوا منذ أمد بعيد من الإقرار بأن خاتمة مرقس الوارد بها النص الخاص بدعوة الأمم لا وجود لها في أقدم النسخ المنسوبة إلى مرقس، وأنها أضيفت في وقت متأخر باستثناء الفقرات الأولى منها، حتى إن بعض النسخ استباحت أن تضع ملخصا لهذا الجزء المضاف بدلا من نصه، وعلى هذا فتكون الفقرات الأخيرة التي تتحدث عن عموم الدعوة مضافة، ولم تصدر أساسا عن المسيح عليه السلام ” [12].
هذه إذن قصة التحول إلى العالمية – المزعومة – للنصرانية عن خصوصيتها الثابتة لبني إسرائيل، فهل ما يزال هناك مجال للتمادي في هذا الباطل، وبالمقابل إنكار الحق الثابت بعالمية دعوة الإسلام، وختمها ونسخها لرسالات السماء؟!
الخلاصة:
- الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، نص على ذلك نبيها صلى الله عليه وسلم، وشهد به تاريخها، وتظهره أجلى ظهور دراسة عقيدتها وتشريعاتها، وأنها صالحة لهداية الضمير البشري والمجتمع في كل زمان وبيئة.
- الثابت الصحيح بنصوص الإنجيل الواضحة الصريحة وممارسات صاحب الرسالة عيسى – عليه السلام – أن النصرانية ديانة خاصة لقومه بني إسرائيل.
- تحولت النصرانية عن خصوصيتها إلى العالمية على يد بولس الذي حرف كثيرا من عقائدها وأصولها، وجارى كل أمة في باطلها استمالة لها إلى النصرانية، بل أدخل في صلب العقيدة ما يناسب ذوق المدعوين كالقول بالصلب، والتثليث، وتأليه البشر… إلخ.
- نصوص الأناجيل الدالة على العالمية نصوص مضافة ملفقة غير موجودة في النسخ الأصلية، ولم تثبت عن المسيح، كما ذكر نقاد الكتاب المقدس، ولا عن تلامذته الأصلاء، بل إن بعضهم اختلف مع بولس حين دعا إلى عقيدتهم أمما من غير بني إسرائيل.
(*) القدس مدينة واحدة وثلاث عقائد، كارين أرمسترونج، ترجمة: د. فاطمة نصر، و د. محمد عنان، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط1، 1998م.
[1]. نقض دعوى عالمية النصرانية، فرج الله عبد الباري، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط1، 2004م، ص4.
[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب منه (1195).
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التيمم (328)، وفي موضع آخر.
[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي لا يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (7386).
[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد إلى جميع الناس (403).
[6]. مناظرة بين الإسلام والنصرانية، مجموعة باحثين، دار الحديث، القاهرة، ط2، 1412هـ، ص303: 309.
[7]. الكنز الجليل في تفسير الإنجيل، وليم إدي، ج1، ص9.
[8]. تفسير العهد، وليم إدي، دار الثقافة، القاهرة، ص25.
[9]. الكنز الجليل في تفسير الإنجيل، وليم إدي، ج1، ص329.
[10]. نقض دعوى عالمية النصرانية، فرج الله عبد الباري، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط1، 2004م، ص23: 28.
[11]. من يرعى الخراف، د. عبد الرحمن جيرة، دار المحدثين، القاهرة، ط2، 2007م، ص60، 61.
[12]. من يرعى الخراف، د. عبد الرحمن جيرة، دار المحدثين، القاهرة، ط2، 2007م، ص57 وما بعدها.