الزعم أن الإسلام دين مقتبس من الحنيفية واليهودية والنصرانية ومحرف عنها
وجوه إبطال الشبهة:
1) بشارة الكتب السماوية السابقة بسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – ثابتة، وإن كان أهل هذه الديانات ينكرونها تعاميا وتعصبا.
2) بقايا الحنيفية قبل الإسلام ظلال باهتة لا تصلح أساسا لهذا الصرح الكامل، وكثير من الأحناف صدقوا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
3) الإسلام ليس نسخة من اليهودية أو النصرانية أو من كلتيهما، ومقارنة جوهر هذه الديانات من خلال كتبها المقدسة يثبت ذلك.
4) المصروع لا يملي – بعد إفاقته مباشرة – كلاما واضحا يتضمن أحكاما دقيقة وآدابا جمة، وما في القرآن من وجوه الإعجاز ينفي أن يكون من صنع محمد – صلى الله عليه وسلم – وتأليفه.
التفصيل:
قبل تناول هذه الشبهات بالمناقشة والتفنيد، ربما يلزم أن نذكر بما هو ثابت ومعروف وشائع من أن الكتب السماوية السابقة اعترفت وشهدت وبشرت – خاصة قبل تحريفها – بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – الصادقة ورسالته الخاتمة.
أولا. بشارة الكتب السماوية السابقة بمحمد صلى الله عليه وسلم:
في أسلوب حواري رشيق يتحدث عن هذا الموضوع الداعية الإسلامي الكبير أحمد ديدات – رحمه الله – تحت عنوان “ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد صلى الله عليه وسلم” فيقول: “يدافع المسيحي بالحجة عن النبوءات المذكورة في الكتاب المقدس، ويقول: إن الكتاب المقدس تنبأ بقيام روسيا السوفيتية واليوم الآخر وعن قيام البابا، وإنه هو الوحش 666 المذكور في سفر الرؤيا – آخر أسفار العهد الجديد – وإنه وكيل عيسى على الأرض. وآخر تصريح في تفسير هذه النبوءات أن الوحش 666 هو هنري كيسنجر، كما أن بعض هذه النبوءات يذكر – بحسب تفسيرهم – قيام إسرائيل وتشكيل دولة الصهاينة العنصرية الباغية المغتصبة!!
إننا نسأل المسيحي: إذا كانت هذه النبوءات قد تحدثت عن قيام روسيا السوفيتية وعن البابا وهنري كيسنجر وتأسيس دولة البغي إسرائيل، فلا بد لهذه النبوءات إذا أن تذكر شيئا عن النبي صلى الله عليه وسلم. إننا نسأل: ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد؟ يجيب المسيحي: لا شيء. نعود لنقول له: إن هذا الرجل – محمدا – الذي يؤمن به وبرسالته ملايين وملايين الناس، والذين يؤمنون:
- بولادة عيسى المعجزة.
- بأن عيسى هو المسيح.
- وبأن عيسى – عليه السلام – أحيا الموتى وشفى الأعمى والأكمه والأبرص بإذن الله، لا بد لهذا الكتاب المقدس أن يذكر شيئا عن هذا الرجل العظيم الذي تكلم كلاما حسنا عن عيسى وأمه مريم. يجيب المسيحي قائلا: لا يوجد أي ذكر أو أية نبوءة في الكتاب المقدس عن محمد!
يدعي المسيحي أن هناك مئات بل آلاف النبوءات عن قدوم عيسى المسيح في أسفار العهد القديم (التوراة). إننا لن نتساءل عن هذه النبوءات؛ لأن العالم الإسلامي بأسره قبل بعيسى المسيح دون العودة إلى نبوءات الكتاب المقدس، ونحن نعترف، ونقبل عيسى المسيح بشهادة سيدنا محمد وحده. وهنالك الآن في العالم أكثر من مليار مسلم ممن يحبون ويحترمون ويقدرون نبي الله العظيم ورسوله عيسى المسيح – عليه السلام – دون الحاجة إلى أن يقنعهم المسيحي بجدله الإنجيلي الديالكتيكي.
ولكننا نسأل الآن العالم المسيحي بملايينه أن يذكر لنا نبوءة واحدة من هذه الآلاف التي تذكر عيسى بالاسم؟ إن كلمة (مسيح) ليست اسما بل لقبا، هل توجد نبوءة واحدة تقول بأن اسم المسيح سيكون عيسى؟ وأن اسم أمه سيكون مريم؟ و(والده) المفترض يوسف النجار؟ وأنه سيولد في عهد هيردوس الملك؟ لا. لا توجد هذه التفاصيل. إذا كيف توصل المسيحي إلى أن آلاف هذه النبوءات تشير إلى عيسى؟
يجيبك قائلا: النبوءة هي حدث سيحصل في المستقبل، وعندما يحل هذا الحدث فإننا نتحقق من وقوع ما تم التنبؤ به في الماضي.
إذا إننا نقول لك بأنك تستدل، تستنتج، تستنبط بالمنطق، تجمع (1+1)، (2+2). تعال معنا إذا أيها الأخ المسيحي نطبق هذه القاعدة لنفتش عن النبوءات التي تشير إلى سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – في كتابك المقدس: “أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به “. (التثنية 18: 18).
يجيب المسيحي: تشير هذه النبوءة إلى عيسى المسيح. نقول: ولكن لماذا عيسى؟ فاسمه لم يذكر هنا، يرد قائلا: يصف هذا النص المسيح تماما. انظر كلمة (مثلك) أي مثل موسى، وعيسى مثل موسى، فموسى كان يهوديا وعيسى يهودي. موسى كان نبيا وعيسى نبيا، لذا فعيسى مثل موسى، وهذا ما قاله الله لموسى، نقول: هل يمكنك أن تجد أوصافا أخرى يتوافق فيها موسى وعيسى؟
يجيب المسيحي: لا، لا أعتقد أنه يوجد أكثر من ذلك.
نقول: إذا كان هذا هو المعيار الذي تعتمد عليه في قولك بأن هذه النبوءة: “أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به” تشير إلى عيسى، فإن هذا المعيار ينطبق أيضا على كل الشخصيات التي ذكرها الكتاب المقدس والتي أتت بعد موسى: سليمان، أشعيا، حزقيال، دانيال، هوشع، يوئيل، ملاخي، يوحنا المعمدان؛ لأن هؤلاء كانوا يهودا وأنبياء.
إننا نقول: إن عيسى ليس مثل موسى، وسنبرهن لك على ذلك بالعقل والمنطق، فالمثل هو الشبه أو النظير بأدق الصفات والمميزات:
- عيسى ليس مثل موسى؛ لأن المسيحي يقول: إن عيسى هو الله، بينما موسى ليس هو الله.
- يقول المسيحي: إن عيسى مات لأجل خطايا البشرية، بينما لم يمت موسى لأجل خطايا البشرية.
- يقول المسيحي: إن عيسى ذهب إلى الجحيم ثلاثة أيام، بينما لم يذهب موسى إلى الجحيم، ولو ليوم واحد.
إذا عيسى ليس مثل موسى، ونقول: إن ما ذكرناه إلى الآن هي مسائل إيمانية، وليست حقائق، قد نختلف عليها، تعال إذا نتكلم منطقيا وعقلانيا.
- كان لموسى أم وأب، كما كان لمحمد أم وأب. بينما كان لعيسى أم فقط وبدون أب. وهذا يعني أن عيسى ليس مثل موسى، بل إن محمدا هو مثل موسى.
- ولد كل من موسى ومحمد ولادة طبيعية – أي بثمرة علاقة رجل مع امرأة – بينما خلق عيسى بمعجزة. يقول لنا إنجيل القديس متى: “أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا: لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف، قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس”. (متى 1: 18).
كما يخبرنا القديس لوقا عندما أخبرت مريم عن ابنها المقدس: “فقالت مريم للملاك: «كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا»؟ فأجاب الملاك وقال لها: «الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله»”. (لوقا 1: 34، 35).
إذا كانت ولادة عيسى بمعجزة بينما كانت ولادة كل من موسى ومحمد ولادة طبيعية، لذا فإن عيسى ليس مثل موسى، بل محمد مثل موسى.
- تزوج كل من موسى ومحمد وأنجبا أولادا، بينما لم يتزوج عيسى وبقى عزبا طوال حياته، إذا: عيسى ليس مثل موسى، بل محمد مثل موسى.
- اعتنق اليهود ديانة موسى في حياته، كما اعتنق العرب الإسلام في حياة محمد، ولقد عانى موسى من شعبه كثيرا، ولكنهم في النهاية قبلوه نبيا أرسل إليهم، كما عانى محمد من العرب واضطر إلى الهجرة للمدينة المنورة بعد ثلاث عشرة سنة من الإقامة في مكة، واعتنق العرب الإسلام قبل وفاته وقبلوه نبيا أرسل إليهم، بينما يقول الكتاب المقدس عن المسيح: “إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله”. (يوحنا 11: 1).
وحتى هذا اليوم وبعد ألفي عام، فإن شعبه أو خاصته – اليهود – لم تقبله. إذا عيسى ليس مثل موسى، بل محمد مثل موسى.
- كان موسى ومحمد نبيين ورئيسي دولة – ملكين – والمعنى بكلمة نبي شخص يتنزل عليه وحي سماوي لإرشاد البشرية، والوحي الذي يتنزل عليه ينقله إلى البشر دون إضافة أو نقصان، ورئيس الدولة أو الملك شخص لديه القرار بالحكم بالموت أو الحياة على أتباعه، ولا يهم إذا وضع رئيس الدولة أو الملك تاجا على رأسه أو اكتسى لباس الملك، أو لباس رئيس الدولة، فإن تمتع بالقدرة على إنزال العقوبة القصوى فهو ملك.
امتلك موسى هذه القدرة، ففي قصة الإسرائيلي الذي كان يجمع الحطب يوم السبت، أمر برجمه حتى الموت: “فأخرجه كل الجماعة إلى خارج المحلة ورجموه بحجارة، فمات كما أمر الرب موسى”. (العدد 15: 36).
وهنالك جرائم أخرى مذكورة في الكتاب المقدس أمر موسى فيها بالعقوبة القصوى على اليهود، وتمتع محمد أيضا بالقرار لإصدار الأحكام بالموت على أتباعه.
وهنالك نبوءات في الكتاب المقدس عن أنبياء لم يتمكنوا من تنفيذ الوحي السماوي على البشر، وقد فشل هؤلاء القديسون في إقناع الناس بدعواتهم، كلوط ويونان ودانيال وعزرا ويوحنا المعمدان، لقد بلغوا الرسالة فقط ولم يتمكنوا من تطبيقها، وللأسف فإن سيدنا عيسى ينتمي إلى هذه المجموعة، والكتاب المقدس يؤكد هذه الحقيقة.
عندما أحضر عيسى أمام الحاكم الروماني بيلاطس متهما بقذف الدولة، دفع التهمة الباطلة عنه بحجة مقنعة قائلا: “أجاب يسوع: «مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم، لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود. ولكن الآن ليست مملكتي من هنا»”. (يوحنا 18: 36).
أقنعت هذه الحجة بيلاطس الوثني بأن عيسى لا يتملك قواه الفعلية، ولا يشكل خطرا على حكمه، لقد ادعى عيسى مملكة سماوية فقط، أي بعبارة أخرى ادعى أنه نبي فقط. إذا عيسى ليس مثل موسى، بل محمد مثل موسى.
- لقد أدخل كل من موسى ومحمد تعاليم وقوانين جديدة لأتباعهما وشعبيهما، ولم تقتصر دعوة موسى بوضع الوصايا العشر للإسرائيليين، بل اشتملت أيضا على طقوس وقوانين شاملة لرشاد شعبه، ولقد ظهر محمد في وقت كان العرب فيه في جهل وبربرية عمياء. كان العربي في ذلك الزمن يتزوج زوجة أبيه ويئد[1] بناته أحياء، وكان يتعاطى الخمر ويمارس الزنا، وكانت عبادة الأصنام والمقامرة شغله الشاغل.
ويصف جيبون العرب قبل الإسلام في كتابه “سقوط وتدهور الإمبراطورية الرومانية” قائلا: “يصعب تمييز الصفات الإنسانية عن الصفات البهيمية الحيوانية، يصعب التمييز فيها بين الإنسان والحيوان، لقد كان الإنسان في تلك الفترة بهيمة في صورة إنسان”.
ومما لا شك فيه أن محمدا قد انتشل[2] العرب من هذه البربرية الوضعية، كما يقول توماس كارليل، وجعلهم حملة مشعل النور والمعرفة: “لقد كان ذلك بالنسبة للعرب ولادة من ظلام إلى نور، ولقد ولد بسببه شعب رعاة تائه في صحرائه منذ بدء الخليقة، ترى المنسي ملء سمع العالم، والصغير كبيرا، وأصبحت الجزيرة العربية خلال قرن واحد من الزمان في غرناطة من جهة ودلهي من جهة أخرى – تضيء شجاعة وبهاء، ونور العبقرية يشع على الجزيرة العربية وعلى أجزاء كبيرة من العالم، لقد أعطى محمد شعبه قانونا ونظاما لم يعرفه من قبل.
شك اليهود في أن عيسى قد يكون أفاكا يريد إفساد تعاليمهم، ولقد حاول عيسى جاهدا أن يؤكد لهم بأنه لم يأتهم بدين جديد – لا قوانين جديدة ولا تعاليم جديدة – وهي هي أقواله: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل”. (متى 5: 17، 18).
وبعبارة أخرى، فإنه لم يأت بقوانين جديدة أو تعاليم جديدة، بل أتى لإنجاز الناموس القديم. هذا ما أراد عيسى أن يفهمه لليهود، إلا إذا كان يخدعهم ليقبلوه نبيا – محاولا فرض دين جديد عليهم، ولكن لا يلجأ هذا النبي العظيم إلى هذه الوسيلة لتخريب دين الله. هو نفسه قد أنجز الناموس وأتمه، وتقيد بالوصايا، واحترم السبت، فلم يتهمه أي يهودي يوما ما قائلا: لماذا لم تصم، أو لماذا لم تغسل يديك قبل تناول الخبز، صحيح أن التهم ألصقت بتلاميذه، لكنه هو نفسه لم يرم بأية تهمة مطلقا، ولو لمرة واحدة، وذلك لأنه كيهودي مؤمن احترم تعاليم الأنبياء الذين سبقوه، وبإيجاز فإنه لم يأت بدين جديد ولا تعاليم جديدة كما فعل موسى ومحمد. إذا: عيسى ليس مثل موسى، بل موسى مثل محمد.
- دفن موسى ومحمد في التراب في هذه الأرض، بينما يقول النصارى إن عيسى في السماء، إذا عيسى ليس مثل موسى، بل محمد مثل موسى.
لقد حاولنا حتى الآن التركيز على زاوية واحدة فقط من هذه النبوءة، أي “أقيم لهم نبيا مثلك”، مثلك أنت؛ أي: مثل موسى، ولكن النبوءة تقول أكثر من هذه العبارة: “أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك”.
سنركز الآن على العبارة: “من وسط إخوتهم” يخاطب الله اليهود هنا، موسى وشعبه كمجموعة عرقية، لذا فإخوتهم هم حتما العرب، يخبرنا الكتاب المقدس أن إبراهيم خليل الله كان له زوجتان: سارة وهاجر. وولدت هاجر لإبراهيم ولدا – البكر – يذكر الكتاب المقدس أن اسم إبراهيم كان إبرام، ثم غيره الله إلى إبراهيم: “فولدت هاجر لأبرام ابنا. ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل”. (التكوين 16: 15).
“فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه، وجميع ولدان بيته، وجميع المبتاعين بفضته، كل ذكر من أهل بيت إبراهيم، وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه كما كلمه الله… وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته”. (التكوين 17: 23ـ 25).
كان إسماعيل الابن الوحيد لإبراهيم وذرية إبراهيم عندما جدد الله العهد مع إبراهيم. أعطى الله إبراهيم ولدا آخر من سارة، وكان اسمه إسحاق، وكان أصغر من أخيه إسماعيل. إسماعيل وإسحاق هما ابنا الأب الواحد إبراهيم، فهما أخوان. إذا فأولاد الأخ هم إخوة أبناء الأخ الآخر. أولاد إسحاق هم اليهود، وأولاد إسماعيل هم العرب، فهم إذا إخوة، يؤكد الكتاب المقدس فيقول: “وإنه يكون إنسانا وحشيا، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن”. (التكوين 16: 12). “وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو أشور. أمام جميع إخوته نزل”. (التكوين 25: 18). أولاد إسحاق هم إخوة أولاد إسماعيل، ومحمد من أولاد إسماعيل إخوة بني يعقوب – الإسرائيليين – هذا ما تقوله هذه النبوءة: “أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك… “. (التثنية 18: 18)، تحدد النبوءة بوضوح أن هذا النبي الذي يكون مثل موسى لن يكون من الإسرائيليين، بل من إخوتهم، وكان محمد من إخوتهم. إذا كانت النبوءة تتحدث عن محمد.
ونتابع النبوءة فنقول: “… وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به”. (التثنية 18: 18). فما هو المقصود بهذه العبارة عندما تقول: “اجعل كلامي في فمه”؟ إذا طلبنا إليك أيها القارئ العزيز أن تردد من بعدنا عبارة، فإننا نكون قد جعلنا كلامنا في فمك، أو إذا أردنا أن نعلمك لغة أجنبية، وقلنا لك: ردد من بعدنا، فإننا نضع الكلمات في فمك. وهكذا فإن القرآن الكريم يصدق هذه النبوءة من خلال الوحي الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه السلام، وسنرى فيما يلي كيف جعل الله كلامه في فمه.
يخبرنا التاريخ أن محمدا كان في الأربعين من عمره في كهف على بعد ثلاثة أميال من مكة يدعى “غار حراء”، وفي الليلة السابعة والعشرين من شهر رمضان نزل الملاك جبريل – عليه السلام على محمد فقال له: “اقرأ”، فأجابه محمد: “ما أنا بقارئ”، يعني: أنه لا يعرف القراءة، فطلب إليه جبريل للمرة الثانية، وسمع منه نفس الجواب، وفي المرة الثالثة قال له جبريل: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)( (العلق)، تأكد عندئذ لمحمد أن عليه أن يردد ما قاله جبريل، فردد الكلمات التي وضعت في فمه: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)( (العلق)، هذه هي الآيات الخمس الأولى التي أنزلها الله على محمد، وهي أولى الآيات في سورة العلق.
عاد محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى منزله من الغار، بعد أن تركه الملاك جبريل يرتعد خوفا، وطلب إلى زوجته خديجة أن تضع عليه غطاء، وبعد أن استراح وهدأت نفسه شرح لزوجه ما سمعه ورآه، فشجعته وشدت من عزيمته، قائلة له: لا يريد الله بك شرا. هل هذه اعترافات أفاك أو محتال؟ هل يعترف الأفاك عندما يقابل ملاكا أرسله الله، يخاف يرتعد، يتعرق، ويجري مسرعا إلى منزله؟ لا يمكن لأي إنسان مهما كان متحيزا إلا أن يقر ويعترف بأن هذه الانفعالات والاعترافات لا تصدر إلا عن إنسان صادق أمين.
وخلال الثلاث والعشرين سنة من نبوة محمد “وضعت في فمه” آثار راسخة لا تمحى من قلبه وعقله، ومع استمرار نزول القرآن الكريم وحيا عليه كانت هذه الكلمات التي وضعت في فمه تسجل على جلد الحيوان، وعلى قلوب صحابته، وقد رتبت هذه السور قبل وفاته وجمعت ووضعت على الشكل الذي نرى عليه القرآن الكريم اليوم. كلمات الله – الوحي – وضعت في فمه، كما تقول النبوءة: “… وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به”.
إن تجربة محمد في الغار في الجبل الذي أطلق عليه اسم “جبل النور”، وتجاوبه مع أولى كلمات الوحي – ينطبق أيضا على نبوءة أخرى في سفر إشعياء، والتي تقول: “أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له: «اقرأ هذا». فيقول: «لا أعرف الكتابة». (النبي الأمي) لقد أجاب محمد جبريل بقوله: “ما أنا بقارئ”، وتقول النبوءة: “يدفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة ويقال له: «اقرأ»، فيقول: «لا أعرف القراءة»”. (إشعياء 29: 12).
لم يكن يوجد كتاب مقدس في اللغة العربية في القرن السادس الميلادي في الفترة التي ظهر فيها محمد، إضافة إلى أن محمدا كان أميا لا يعرف القراءة أو الكتابة، لم يتعلم من أي إنسان حرفا، بل علمه خالقه شديد القوى كل شيء: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5)( (النجم).
وقد يجيب المسيحي قائلا: لا بأس بكل ما تقدم من أدلة وبراهين، ولكني كمسيحي أؤمن بأن عيسى المسيح هو الله، وقد خلصنا من الخطيئة. والجواب على هذا بأن الله – عز وجل – لا يقبل هذا الكلام؛ لأنه أمر بتسجيل تحذيره. يعلم الله بأنه سيأتي زمن يترك فيه الناس كلامه ويفسرونه كما يشاءون ويرغبون، لذا فإنه أتبع هذه الفقرة من التثنية: “وأجعل كلامي في فمه”. (التثنية 18: 18)، وحذر الناس قائلا: “ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه”. (التثنية 19: 18).
ألا يخيفك هذا التهديد والوعيد يا أخانا المسيحي؟ معجزة المعجزات! ففي التثنية دليل آخر على تحقيق النبوءة التي تشير إلى النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي سيتكلم كلاما باسم الله: “لكلامي الذي يتكلم به باسمي”، فويل للإنسان الذي لا يسمع ويطيع كلامه – كلام الله – فالله سيطالبه وسيحاسبه.
نسألك أيها الأخ: من قبل محمد تكلم باسمه تعالى؟
وأنت ترى وتسمع الكلام الذي أنزل على محمد – القرآن الكريم – تبدأ كل سورة فيه بالآية الكريمة )بسم الله الرحمن الرحيم(حتى صارت هذه الآية شعار المسلم عند قيامه بأي عمل، فكيف تقبل أيها المسيحي أن تخالف الأمر الذي نزل في كتابك المقدس، وأن تنحرف عن مقولة “باسم الله” لتبدلها بشعار “باسم الآب والابن والروح القدس”؟!
أضف إلى ما سبق أن مجلة “التايم” الأمريكية – الصادرة في 15 تموز 1974 – نقلت أراء مؤرخين وكتبة وقادة عسكريين ورجال أعمال عن الموضوع: من هم أعظم رجال التاريخ؟
قال البعض: هتلر، وقال آخرون: غاندي، بوذا، لنكولن، ومن شابههم.
وضع جول ماسر مان – وهو عالم نفساني أميركي مشهور – معيارا للحكم، وقال: إن على القائد أن ينجز ثلاث وظائف:
- أن يؤمن الخير للذين يقودهم.
- أن يؤمن نظاما اجتماعيا يوفر الأمان لأتباعه.
- أن يقدم لهم مجموعة معينة من العقائد.
سلط هذا البرفيسور هذا المعيار على التاريخ وحلل شخصياته: الإسكندر، بوذا، هتلر، باستور، سالك، قيصر، موسى، عيسى، كونفوشيوس، وغيرهم، ووصل في الختام إلى هذه النتيجة:
- أنجز باستور وسالك الوظيفة الأولى.
- أنجز عيسى وبوذا الوظيفة الثانية.
- أنجز محمد أعظم القادة في كل الأزمنة الوظائف الثلاث مجتمعة، وشاركه موسى بهذا الإنجاز ولو بدرجة أقل.
غابت صورتا عيسى وبوذا من لوحة رجال الإنسانية العظام حسب هذا المعيار الموضوعي الذي وضعه هذا البروفيسور الكبير في جامعة شيكاغو، وكانت النتيجة – وبمحض الصدفة – انتماء موسى ومحمد إلى نفس المجموعة من الرجال العظام، مما أضاف دليلا آخر على الأدلة والبراهين التي سبق الإتيان بها وشرحها وتفصيلها على أن: عيسى ليس مثل موسى، بل محمد مثل موسى: “أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به”[3].
ولو سلم أهل الأديان السابقة بهذه النبوءة الصادقة الواردة في أصولهم – خاصة قبل التحريف – لانحلت المشكلة وآمنوا بالإسلام دينا سماويا ووحيا صحيحا نزل على نبي صادق، لكن إنكارهم ألجأهم مع من تابعهم في مزاعمهم إلى تلك الافتراءات المذكورة سلفا في حق الإسلام ونبيه، وأنه استوحاه من كتبهم وأبدعه من تلقاء نفسه بعد نوبات هيستيريا وصرع كانت تنتابه – كما يزعمون -.
ثانيا. هل اقتبس النبي دينه من الحنفاء؟
الحنفاء أفراد قلائل من العرب دانوا في الجاهلية ببقايا مبادئ الحنفية دين إبراهيم عليه السلام، ساخطين على ما عجت به أحوال المجتمع الجاهلي من عبادات وثنية وضيعة وأحوال متردية دنيئة، لكن أمر هؤلاء الحنفاء – لندرتهم واعتزالهم في الغالب – لم يكن ظاهرا، وحركتهم لم تكن ملحوظة، وفي تفنيد احتمال اقتباس النبي – صلى الله عليه وسلم – منهم يقول د. إبراهيم عوض: “زعم المستشرقون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أخذ منهم: الحنفاء، وهم أفراد من العرب ظهروا قبيل البعثة النبوية، لم يقنعهم ما عليه أقوامهم من عبادة أصنام وتظالم، وغير ذلك من مظاهر التحلل الروحي والفساد الاجتماعي.
وبدلا من أن يرى المستشرقون في ذلك دليلا على أن الجو كان يستدعي ظهور نبي يصلح هذه الحال المائلة في جزيرة العرب وفي العالم معا، إذ كانت الأوضاع في الإمبراطوريات العالمية في ذلك الوقت مثلها في شبه الجزيرة تزداد سوءا – بل إلى أسوأ دائما، نراهم كعهدهم فيما يتعلق بالإسلام ونبيه، يتهمونه – صلى الله عليه وسلم – بالأخذ من هؤلاء الحنفاء.
وفي مناقشتنا لهذا الادعاء نحب أن نضع تحت بصر القارئ الحقائق التالية:
- إن أحدا من الحنفاء لم يدع هذا، ولو حدث أن النبي قد تعلم من أي منهم لانبرى[4] واحد منهم على الأقل – وليكن أمية بن أبي الصلت، الذي لم يشأ أن يؤمن بالنبي – صلى الله عليه وسلم – لأنه كان يطمع أن يكون هو الرسول المختار – وقال: لا تصدقوا محمدا، فإنه دعي كذاب، لقد تعلم منا، وأخذ ما علمناه إياه ولفق منه دينا.
ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، فكيف يحق لأي مستشرق أن يتقدم بهذا الاتهام بعد أكثر من أربعة عشر قرنا، وليس في يديه أي دليل؟ أهذه هي الموضوعية التي يتشدقون[5] دائما بها، بينما يرموننا – نحن المسلمين – بأننا ندافع عن ديننا بالحق والباطل؟!
- ثم إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لو كان قد تعلم من الحنفاء، فمن كان أولى إذن بادعاء النبوة؟ واحد من الأساتذة الأصلاء أم محمد تلميذ هؤلاء الأساتذة الأجلاء؟
ولا يقولن أحد: إنهم كانوا مشغولين فقط بمصايرهم الفردية، فقد كانوا دائما يعيبون على أقوامهم قبح ما يعتقدون ويصنعون، وكان لبعضهم مواعظ في الأسواق والمجامع، ولكن أحدا منهم قط لم يدع النبوة، فما السبب في ذلك ما دام ادعاؤها سهلا إلى حد أن تلميذا من تلاميذهم مثل محمد قد زعم أنه نبي يوحى إليه من السماء”.
- أضف إلى هذا أن من الحنفاء من أسلم وآمن بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أسلم ورقة بن نوفل بعد أن استحكم في النصرانية، كما أسلم أيضا عبيد الله بن جحش بعد الالتباس الذي كان فيه، ثم ظل مسلما إلى أن هاجر إلى الحبشة، وهناك تنصر ومات على النصرانية، ولا يفوتنا أنه لو كان سمع أو شهد أن محمدا قد سرق أفكاره من أحد لما آمن به في البداية أو لفضحه بذلك عند النجاشي ومطارنته[6].
ومن الحنفاء أيضا عثمان بن الحويرث، وقد قدم على قيصر فتنصر وحسنت منزلته لديه (لاحظ أن من تنصر منهم قد تنصر في الغربة). ويذكرون أن قيصر توجه وولاه أمر مكة ولكن أهل مكة رفضوه. وقد مات بالشام مسموما على يد عمرو بن جفنة الملك الغساني، وهو ما يعطينا فكرة عن نواياه ودوافعه.
أما زيد بن عمرو بن نفيل فقد اتبع دين إبراهيم واعتزل الأوثان والميتة والقرابين، ولم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وقد دخل في الإسلام ابنه سعيد بن زيد، وابن عمه عمر بن الخطاب، وابنة عمه (أخت عمر وزوجة سعيد بن زيد نفسه) فلو أن سعيدا هذا أحس أن محمدا قد تعلم من أبيه أو لو أن أباه صارحه بشيء من ذلك لما أسلم البتة، أو لو أن عمر صاحب العين اليقظة والعقل اللماح واللسان الجريء حاكت في قلبه أية ذرة من ريبة حول محمد وأخذه المزعوم عن الحنفاء أو عن ابن عمه بخاصة لمـا دخل في الإسلام أبدا[7].
ويضاف إلى ما سبق أن ما كان باقيا وقتها من مبادئ الحنيفية لم يكن سوى أفكار باهتة، ولمع خافتة لم تنر طريق السائرين عليها بشكل تام فظلوا تائهين هائمين – كما يروى عن كثير منهم – حتى جاء الإسلام، فأين هذا من الصرح العظيم الهائل الكامل؛ عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة؟! ذلك الدين الحنيف الذي أظهره الله على الدين كله رغم أنف الصادين المعاندين.
ثالثا. هل الإسلام دين محرف عن اليهودية والنصرانية؟
بغض النظر عن المزاعم التافهة القائلة بأنه – صلى الله عليه وسلم – قد أخذ عن بحيرا الراهب، الذي لقيه بشكل عابر في رحلة تجارية إلى الشام، وهو – صلى الله عليه وسلم – ما يزال صغيرا، كما تروي المصادر التاريخية. أو عن ورقة بن نوفل الذي صدقه فور علمه بخبر نزول الوحي عليه، عندما أخذته إليه السيدة خديجة – رضي الله عنها – كما تروي المصادر أيضا، ولم يكذبه ولم يزعم أنه تلميذ دعي – بغض النظر عن كل هذه المزاعم الواهية، التي لا تثبت على ساقين، فإن المقارنة العلمية لجوهر هذه الأديان – الذي يستوحي من كتبها المقدسة – توضح بعد الشقة[8] واتساع البون بين مبادئ الإسلام وبين هذه الأديان السابقة المدعى عليه أنه نسخة محرفة منها.
حول هذه المقارنة يحدثنا الأستاذ أحمد عبد الوهاب، قائلا:
- الإله:
يرفض المسلم كل قول ينسب لله تجسيدا أو تشبيها، أو حلولا في أشياء، وما إلى ذلك من أوهام وضلالات، كما يرفض كل حديث يصور الله وقد لحقت به عواطف الإنسان وانفعالاته وضعفه، فكل ذلك باطل الأباطيل.
إن القاعدة الأصلية التي يقوم عليها فكر المسلم في الإله الحق – أنه واحد أحد صمد: )لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص)، وأنه: )ليس كمثله شيء( (الشورى: 11)، وأنه: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار( (الأنعام: 103)، )والله على كل شيء قدير (284)( (البقرة: 284)، )وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27)( (الروم).
وفيما يلي بعض ما يرفضه الفكر الإسلامي مما نجده في الأسفار: خاصا بهذا الموضوع الخطير، بل إنه أخطر موضوعات العقيدة على الإطلاق:
- الراحة بعد خلق السماوات والأرض: يقول سفر التكوين: “وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا”. (التكوين 2: 2، 3).
ولقد صحح الله هذا المفهوم في القرآن فقال: )ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)( (ق)، وفي صيغة استفهام استنكاري نقرأ قول الحق: )أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد (15)( (ق).
- الندم على خلق الإنسان وغيره: “ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه. فقال الرب: «أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم»”. (التكوين 6: 5 – 7).
لكن القرآن يصحح المفاهيم حول عمليات الخلق، فيقول: )وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (39)( (الدخان)، )إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)( (القمر)، )الذي أحسن كل شيء خلقه( (السجدة: 7)، )يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2)( (الرعد)، )عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير (73)( (الأنعام).
- بلبلة ألسنة البشر ليتفرقوا فلا يتقدموا في الحياة[9]: “وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة. وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك. وقال بعضهم لبعض: «هلم نصنع لبنا ونشويه شيا». فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحمر مكان الطين. وقالوا: «هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض». فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب: «هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض». فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة، لذلك دعى اسمها «بابل» لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض. ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض”. (التكوين 11: 1ـ 9).
لكن القرآن يعلم الناس جميعا أن اختلاف ألسنتهم كاختلاف ألوانهم، إنما هو آية دالة على قدرة الله وبديع صنعه: )ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22)( (الروم). ويعلمنا القرآن أن الله يرضى عن تقدم الإنسان في هذه الحياة، إذ يقول: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13)( (الجاثية).
- مصارعة إنسان والعجز عن التغلب عليه: إنها حقا تصدم كل مسلم حين يقرأ هذا العنوان الفرعي في الأسفار: “يعقوب يصارع الله”، تقول هذه الأسطورة: “فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال: «أطلقني، لأنه قد طلع الفجر». فقال: «لا أطلقك إن لم تباركني». فقال له: «ما اسمك؟» فقال: «يعقوب». فقال: «لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت». وسأل يعقوب وقال: «أخبرني باسمك». فقال: «لماذا تسأل عن اسمي»؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان «فنيئيل» قائلا: «لأني نظرت الله وجها لوجه، ونجيت نفسي»”. (التكوين 32: 24 ـ30).
ونجد في القرآن ما يعزينا عن مثل تلك الأوهام ومثيلاتها كثير، حين نقرأ قول الحق: )ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز (74)( (الحج).
- الحلول في الإنسان: تلك عقيدة مستقاة من أساطير الأقدمين، هنودا ومصريين وإغريق وغيرهم، حيث تصوروا أن آلهتهم تحل في الإنسان، بل في الحيوان والطير، ولهذا عبدوا تلك المخلوقات وسجلوا ضلالاتهم هذه على معابدهم وآثارهم، وها هو كاتب إنجيل يوحنا ينفرد – دون غيره من كتبة الأناجيل – بتقرير أن الله قد حل في المسيح، إذ ينسب إليه هذا القول: “ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب في؟ الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال. صدقوني أني في الآب والآب في، وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها”. (يوحنا 14: 10، 11).
وفكرة الحلول هذه التي تسربت إلى الإنجيل الرابع – قد جاءت من رسائل بولس الهلينستي التي كتبت قبله بأكثر من خمسين عاما، فقد كتب يقول عن المسيح: “فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا”. (رسالة بولس إلى أهل كولوسي 2: 9).
إن القول بأن المسيح إله أو ابن إله، وأنه الأقنوم الثاني من الثالوث، أو أن الله قد حل فيه، كل ذلك قد تسرب إلى المسيحية من الديانات البشرية القديمة. لقد وصف القرآن الذين يعتنقون مثل هذه الأفكار بأنهم يحاكون ما كان عليه قدامى الكافرين، وذلك في قوله: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل (30)( (التوبة: 30).
يقول أدولف أدمان في كتابه “ديانة مصر القديمة” عند الحديث عن معتقدات المصريين القدماء: “اعتقد المصري أن روح الإله تسكن الحيوان المقدس في معبده. وقد أعطى هذا الاعتقاد رجال الدين المتفقهين فيه فرصة طيبة لكي يضموا في تعاليمهم هذه الحيوانات المقدسة، فتمتعت العجول والتيوس والبقر والصقور والتماسيح والثعابين بقداسة لا شك فيها. وانتهى الأمر بهم أنهم لم يكتفوا بجعل روح واحدة لكل إله، بل زادوا العدد، فمثلا رع كانت له سبعة أرواح. ولما كان الملك في اعتقادهم ذا صفات إلهية؛ لذلك وجب أن يكون له أرواح كثيرة. ويكفينا أن نختم هذه الكلمة بحقيقة أخرى وهي أن الإله يمكن أن يكون بمثابة روح لإله آخر. فمثلا آمون كان روح شو أو روح أوزوريس، وعندما عانق أوزوريس إله منديس الممثل على شكل التيس – تكون من هذا العناق روح مزدوجة”.
إن الإسلام حازم وواضح تماما في كل ما يتعلق بألوهية المسيح، فالقرآن يقول: )إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59)( (الزخرف)، وقال جل شأنه: )وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95)( (مريم)، وقال سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74)( (المائدة).
إن المسيح ليتبرأ من كل من يحاول الخلط بينه وبين الله، أو ينسب له ألوهية على أي صورة من الصور، فلا يزال قوله الحق في الأناجيل واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار، وغير محتاج إلى شرح المفسرين وتأويل المتفيهقين[10]: “وفيما هو خارج إلى الطريق، ركض واحد وجثا[11] له وسأله: «أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» فقال له يسوع: «لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله»”. (مرقس 10: 17، 18، متى 19: 16، 17، لوقا 18: 18، 19).
لقد أجمعت الأناجيل الثلاثة – التي لا تعرف شيئا عن الزعم بحلول الله في المسيح – على هذه الحقيقة الأساسية التي هي المفتاح لحل الخلافات العقائدية بين المسيحيين أنفسهم، وبينهم وبين المسلمين. لقد كان ما قرره المسيح هنا متفقا تماما مع ما يقرره القرآن في آيات كثيرة من أبرزها: )ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم (60)( (النحل)، )وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27)( (الروم: 27).
- الأنبياء:
إن المسلم ليرفض كل ما ألحق بسير الأنبياء من نقائص ومخاز، فهم عباد الله المصطفون الأخيار، جعلهم الله هداة للبشرية وأسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، فالقرآن يقول فيهم: )أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58)( (مريم)، قال سبحانه وتعالى: )وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (73)( (الأنبياء).
تلك هي عقيدة المسلم في أنبياء الله، ومن ثم فهو ينكر بل يستنكر كل الخطايا والسقطات التي نقرؤها عنهم في الأسفار، ومن أمثلة ذلك ما يقال عن:
- زنا لوط بابنتيه: وكان من ثمرته ابنا الزنا موآب وعمون ومن ذرية أولهما جاء داود: “وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل، وابنتاه معه، لأنه خاف أن يسكن في صوغر. فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: «أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: «إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما. فولدت البكر ابنا ودعت اسمه «موآب»، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم. والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه «بن عمي»، وهو أبو بني عمون إلى اليوم”.
(التكوين 19: 30 – 38).
- خيانة موسى وهارون لله: وكان هذا الاتهام الخطير هو آخر وحي تلقاه موسى قبل موته، فقد كلم الرب موسى في نفس ذلك اليوم قائلا: “وكلم الرب موسى في نفس ذلك اليوم قائلا: «اصعد إلى جبل عباريم هذا، جبل نبو الذي في أرض موآب الذي قبالة أريحا، وانظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ملكا، ومت في الجبل الذي تصعد إليه، وانضم إلى قومك، كما مات هارون أخوك في جبل هور وضم إلى قومه. لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين، إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل”. (التثنية 32: 48 – 51).
لكن القرآن يبرئ موسى وهارون من هذه الخيانة وأمثالها، فيقول: )واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51) وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52) ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53)( (مريم)، وقال سبحانه وتعالى: )ولقد مننا على موسى وهارون (114) ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم (115) ونصرناهم فكانوا هم الغالبين (116) وآتيناهما الكتاب المستبين (117) وهديناهما الصراط المستقيم (118) وتركنا عليهما في الآخرين (119) سلام على موسى وهارون (120) إنا كذلك نجزي المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122)( (الصافات).
- زنا داود بامرأة أوريا الحثي: ثم تآمر عليه وقتله: “وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشي على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: «أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي؟». فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: «إني حبلى». فأرسل داود إلى يوآب يقول: «أرسل إلى أوريا الحثي». فأرسل يوآب أوريا إلى داود. فأتى أوريا إليه، فسأل داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب. وقال داود لأوريا: «انزل إلى بيتك واغسل رجليك». فخرج أوريا من بيت الملك، وخرجت وراءه حصة من عند الملك. ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده، ولم ينزل إلى بيته. فأخبروا داود قائلين: «لم ينزل أوريا إلى بيته». فقال داود لأوريا: «أما جئت من السفر؟ فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟» فقال أوريا لداود: «إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟ وحياتك وحياة نفسك، لا أفعل هذا الأمر». فقال داود لأوريا: «أقم هنا اليوم أيضا، وغدا أطلقك». فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده. ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره. وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده، وإلى بيته لم ينزل. وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول: «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت». وكان في محاصرة يوآب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه. فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب، فسقط بعض الشعب من عبيد داود، ومات أوريا الحثي أيضا. فأرسل يوآب وأخبر داود بجميع أمور الحرب. وأوصى الرسول قائلا: «عندما تفرغ من الكلام مع الملك عن جميع أمور الحرب، فإن اشتعل غضب الملك، وقال لك: لماذا دنوتم من المدينة للقتال؟ أما علمتم أنهم يرمون من على السور؟ من قتل أبيمالك بن يربوشث؟ ألم ترمه امرأة بقطعة رحى من على السور فمات في تاباص؟ لماذا دنوتم من السور؟ فقل: قد مات عبدك أوريا الحثي أيضا». فذهب الرسول ودخل وأخبر داود بكل ما أرسله فيه يوآب. وقال الرسول لداود: «قد تجبر علينا القوم وخرجوا إلينا إلى الحقل فكنا عليهم إلى مدخل الباب. فرمى الرماة عبيدك من على السور، فمات البعض من عبيد الملك، ومات عبدك أوريا الحثي أيضا». فقال داود للرسول: «هكذا تقول ليوآب: لا يسؤ في عينيك هذا الأمر، لأن السيف يأكل هذا وذاك. شدد قتالك على المدينة وأخربها. وشدده». فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأة وولدت له ابنا. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب”. (صموئيل الثاني 11: 2ـ 27).
ويكفي أن نقرأ ما يقوله القرآن في شأن داود حتى نقول كما علمنا القرآن في مواجهة مثل تلك التهم الخطيرة أن نقول: )ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم (16)((النور). فالقرآن يقول في داود: )ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورا (55)( (الإسراء)، )ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير (11) ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13)( (سبأ).
- كفر سليمان في أواخر أيامه: “وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون: موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: «لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم، لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم». فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة. وكانت له سبعمائة من النساء السيدات، وثلاثمائة من السراري، فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين، وملكوم رجس العمونيين. وعمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه. حينئذ بني سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون. وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن. فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين، وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى، فلم يحفظ ما أوصى به الرب”. (الملوك الأول 11: 1 – 9).
لكن القرآن يذكر سليمان بالخير ويبرئه تماما من تهمة الكفر هذه: )ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب (30)( (ص)، وقال تعالى: )واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا( (البقرة: 102).
- أنبياء بني إسرائيل قبل المسيح كانوا لصوصا: إن هذا ما ينسبه إنجيل يوحنا إلى المسيح حين يقول: “فقال لهم يسوع أيضا: «الحق الحق أقول لكم: إني أنا باب الخراف. جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص، ولكن الخراف لم تسمع لهم. أنا هو الباب. إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى. السارق لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويهلك، وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل. أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف”. (يوحنا10: 7 – 11).
وكل ما سبق قليل من كثير مما يصدم المسلم حين يقرأ سير النبيين في الأسفار.
قضية صلب المسيح:
يختلف الإسلام مع النصرانية في قضية أساسية من قضايا الإيمان في عقائد المسيحيين، وهي القول بأن المسيح انتهت حياته بالصلب، وأن ذلك كان ضرورة للتكفير عن خطايا البشر حسب نظرية بولس.
إن القرآن يقرر بوضوح عدم صلب المسيح، وأن الله نجاه من محاولات اليهود قتله، بأن رفعه إليه، وأن الأمر كان فتنة اختلطت فيها حقيقة الأمر على كثير من الناس، فالقرآن يقول: )وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)( (النساء).
ويكفي أن نرجع إلى الأسفار في هذه القضية لنعلم فيها الآتي:
- حين شعر المسيح بالخطر يتهدده وهو في الحديقة كانت صلاته حارة إلى الله كي ينجيه من الموت. فقد: “ثم أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا، وابتدأ يدهش ويكتئب. فقال لهم: «نفسي حزينة جدا حتى الموت! امكثوا هنا واسهروا». ثم تقدم قليلا وخر على الأرض، وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن. وقال: «يا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت»”. (مرقس 14: 33 – 36)، ولوقا 22: 43، 44).
- حين جاءت قوة الظلم وتقدم يهوذا الخائن ليدلهم على سيده: “فقال له يسوع: «يا صاحب، لماذا جئت»؟، حينئذ تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه”. (متى 26: 50).
- وفي المحاكمة “اجتمعت مشيخة الشعب: رؤساء الكهنة والكتبة، وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: «إن كنت أنت المسيح، فقل لنا!». فقال لهم: «إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني»”. (لوقا 22: 66ـ 68).
وهنا وقفة، لنفرض جدلا أنه كان المسيح، فإن هذا يعني أنه كان يرجو إطلاق سراحه، وهذا ينفي ما نقرؤه في رسائل بولس وما اقتبس منها في الأناجيل، مثل القول بأن المسيح: “بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الشرير”، أو أنه “بذل نفسه فدية لأجل الجميع”، ومعنى ذلك أنه لو كان المسيح قد قتل حقا، لكان ذلك رغما عنه. وبهذا تتعاظم خطيئة البشرية التي قتلته ظلما وقهرا. ومن يكفر عن تلك الخطيئة العظمى بعد ذلك؟! وإذا افترضنا أنه ليس المسيح فإن هذا ما يفيده المضمون، خاصة إذا علمنا أن الفقرة التالية لهذا هي قول ذلك الذي يستجوبونه: “منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسا عن يمين قوة الله”. (لوقا 22: 69).
وهذا يقطع بأن الشخص الذي قبضوا عليه وحاكموه وصلبوه، إنما كان شخصا آخر غير المسيح، وأنه رآه بعيني رأسه، وقد صعد إلى السماء ولهذا قال: “منذ الآن”.
- ولقد كانت آخر صرخة للمصلوب هي قوله: «إلوي، إلوي، لما شبقتني»؟ الذي تفسيره: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ (مرقس 15: 34). لكن المسيح قرر في الإنجيل أن الله معه ولن يتركه أبدا. وهذا ما يعتقده كل المؤمنين. فهو يقول: “والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه”. (يوحنا 8: 29).
فمن المؤكد أن الذي أطلق صرخة اليأس تلك على الصليب إنما كان شخصا آخر غير المسيح الذي أكد أن الله معه في كل حين.
- لقد تنبأ المسيح بنجاته من القتل – كما تنبأت المزامير كثيرا وكثيرا – فلا يزال بين أيدينا ما قاله المسيح في تحد لليهود حين حاولوا اصطياده في إحدى المرات: “فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداما ليمسكوه. فقال لهم يسوع: «أنا معكم زمانا يسيرا بعد، ثم أمضى إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا»”. (يوحنا 7: 32: 34)، لا نظن أحدا يشك في وضوح هذا القول الذي يعني أن اليهود حين يطلبون المسيح لقتله فلن يجدوه؛ لأن الله سيحفظه بالرفع، ومن الطبيعي أن يقال: إن السماء مكان يعجز اليهود عن الوصول إليه تعقبا للمسيح.
- هذا وقد اختلفت الأناجيل الأربعة في عناصر قصة الصلب، ويكفي أن نذكر أن العشاء الأخير كان حسب الثلاثة الأولى: متى ومرقص ولوقا هو عشاء الفصح، وأما الإنجيل الرابع فقد جعله قبل الفصح بأيام. وقد ترتب على هذا أن كان يوم الصلب حسب الثلاثة يوم الجمعة، بينما هو حسب إنجيل يوحنا يوم الخميس الذي ذبحت فيه خراف الفصح. (يوحنا 18: 28، ويوحنا 19: 14).
ولما كانت المقبرة التي وضع فيها جسد المصلوب قد وجدتها مريم المجدلية خالية صباح الأحد، فإن هذا يعني أن جسد ذلك المصلوب لم يدفن في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال حسبما هو شائع في الأناجيل. (متى 40: 12، ومتى 23: 17، مرقس 31: 9، لوقا 22: 9).
فالفترة بين يوم الجمعة يوم الصلب ويوم الأحد يوم القيامة، لا تزيد على يوم واحد وليلتين.
وهذا قليل من كثير مما يبرهن على عدم صلب المسيح[12].
وفي السياق نفسه أدلى بدلوه الأستاذ محمد فريد وجدي – رحمه الله – الذي كتب تحت عنوان “المسيحية في الإسلام” يقول: هذا عنوان كتاب أرسله إلينا أحد فضلاء المسلمين، تأليف حضرة الإيغوماتس إبراهيم لوقا راعى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمصر الجديدة، وقد بين المؤلف غرضه من وضعه، فقال في مقدمته: “إن القرآن لم يهاجم المسيحية التي أسسها المسيح، ونشرها رسله القديسون، ولكنه هاجم بدعا خاصة، كانت قد ظهرت عند ظهوره، ونادت بتعاليم لا تقرها المسيحية، فحاربها كما حاربتها المسيحية من قبل ومن بعد، إلى أن قال: وغايتنا التي نتوخاها[13] التوفيق، لا الجدل والتفريق، وإنا لنرجو أن يتقبل إخوتنا المسلمون رسالتنا هذه كرسالة محبة وإخلاص، وفقنا الله جميعا إلى سواء السبيل”.
وقد طلب إلينا مرسل الكتاب أن نبدي رأينا فيما ذكره حضرة القس مؤلف الكتاب من إقرار القرآن على العقائد المسيحية الحقة، وهي في نظره ما عليه النصارى اليوم من تثليث وبنوة… إلخ. وقد وجه حضرة القس الخطاب للمسلمين، فحق علينا أن نبدي له رأينا فيما ذكره.
قال حضرته تحت عنوان “المسيح الإله”: “تعتقد المسيحية أن المسيح هو الله باعتباره الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس للذات الإلهية الواحدة الجوهر والعدد، والإسلام لا ينكر هذه العقيدة ولا يرفض القول بلاهوت المسيح، بل إنه ليؤيده، ويؤيده بأدلة عديدة، وآيات كثيرة وشهادات متنوعة منها:
- أسماؤه الحسنى وألقابه التي ذكرها له القرآن.
- الحقائق الخاصة بحياته في ذاتها.
- شهادة القرآن له بالكمال الأدبي في حياته.
- شهادة القرآن له بقدرته فائقة الطبيعة.
- ما أثبت له من الاختصاصات والوظائف.
- ما شهد له به عن مركزه الممتاز.
نقول: إن هذه دعوى جريئة لم يقل بها أحد من الذين كتبوا عن الإسلام من المسيحيين إلا أن يكونوا من أهل المماحكات اللفظية الذين يترفع عنهم مثل الإيغومانس إبراهيم لوقا، فإذا كان قد مضى على نزول القرآن أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين سنة، وقد قرأه عدد لا يحصى من الناس وفهموا منه أن الإسلام ينفي ألوهية المسيح، وعلم ذلك في كل هذه القرون عدد لا يحصى من أهل الملل الأخرى، وألفت في الجدل حول هذه المسألة كتب لا تدخل تحت حصر، كل هذا لو كان في حقيقته سوء فهم تسلط على عقول الناس، وساقهم إلى الجدال والتماري كل هذه القرون الطويلة – فإن الذي يهتك سر هذا القصور يخلد لنفسه في تاريخ الخلافات الدينية أثرا لا يشتبه لغيره، ولكنه يسجل في الوقت نفسه على العقلية الإنسانية اختلالا تصبح معه غير جديرة بالثقة في نظرها وأحكامها، ويدب الشك إلى كل آثارها الأدبية والعلمية والفلسفية التي تم بناء صروحها في قرون طويلة، توقعا لظهور أفذاذ يكشفون عن حقيقة الغباوات التي قادت العقول للخلافات أحقابا متعاقبة حول مسائل لا خلاف فيها على الإطلاق! اللهم إن هذا محال، وإن كان يوجد ما هو أبعد عن التصديق من المحال فهو منه.
اعتمد حضرة القس فيما أورده من القرآن الكريم، تدليلا على ألوهية عيسى – عليه السلام – على ما جاء فيه من إطلاق لفظتي (كلمة وروح) عليه، ورأى أن ذلك من أدل الأدلة على مشايعته للمسيحيين في القول بنبوة عيسى لله وبألوهيته، فقال: “رأينا فيما سبق كيف أن القرآن أقر بصحة عقيدة المسيحيين في فاديهم بما لقبه من ألقاب لا يجوز أن ينعت بها أحد سوى الله تعالى، فدعاه أولا كلمة الله، وثانيا روحا منه”.
ونحن نعجب كيف يسيغ حضرة القس أن يعتقد أن لفظتي (روح، و كلمة) لا يجوز أن تطلقا إلا على الله تعالى، على حين أن المقرر عند أهل العلم والفلسفة أنهما لا يجوز أن يطلقا عليه؛ لأن كل تعبير لفظي عنه تعالى يفيد التقييد والتحديد.
وهو ما يتنزه عنه ـعز وجل – كل التنزه، هذا ما انتهت إليه الفلسفة، وهذا ما قرره الإسلام قبلها بأكثر من ألف سنة، فقال سبحانه وتعالى: )ليس كمثله شيء( (الشورى: 11)، وقال: )لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار( (الأنعام: 103)، وقال: )يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما (110)( (طه) فلفظة (روح) قليلة على خالق الأرواح ومبدعها، ولفظة (كلمة) أقل من تلك أيضا. وقد أطلق القرآن الكريم لفظة روح على بعض مخلوقاته فسمى جبريل روحا، وسمى القرآن روحا. فقال سبحانه وتعالى: )نزل به روحا الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194)( (الشعراء)، )وكذلك أوحينا إليك من أمرنا( (الشورى: 52)، ولا يجيز المسلمون إطلاقهما على الله تعالى؛ لأن قاعدة التنزيه المطلق عندهم: “أن كل ما خطر ببالك، فالله بخلاف ذلك” وأنى لمخلوق عاجز محدود القوة العقلية، أن يصل إلى معرفة حقيقة الخالق أو أن يطلق عليه ألفاظا وضعت لتعيين الكائنات الجزئية؟
أما لفظة: “كلمة” فلها في القرآن الكريم معنى غير ما يفهمه المسيحيون منها، فهي عندنا لا تحتمل غير معناها اللغوي. وقد أطلقها الله تعالى على عيسى؛ لأنه كما قال الرازي: قد وجد على خلاف السنة المعروفة، فأضيف حدوثه إلى كلمة الله مباشرة وهي “كن” وعلى هذا جرى جميع المفسرين، وقد وردت لفظة كلمة في الكتاب الشريف في مواطن كثيرة جدا من ذلك قوله سبحانه وتعالى: )وتمت كلمة ربك( (هود: 119) و )ولولا كلمة سبقت( (يونس: 19)، و )كلمة طيبة( (إبراهيم: ٢٤)، و )كلمة خبيثة( (إبراهيم: 26)، وقد صرح القرآن الكريم بأن لله كلمات لا تحصى لا كلمة واحدة. فقال سبحانه وتعالى: )ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله( (لقمان: 27).
من الجرأة التي لا يمكن وصفها بوصف أن يدعي مدع أن القرآن يقول بألوهية المسيح، وقد نفاها عنه بعبارات صريحة في عشرات من الآيات بما لا يحتمل أي تأويل. وقد وجه الخطاب إلى النصارى خاصة، ونهاههم عن القول بالتثليث والبنوة والتأليه، فقال سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)( (النساء).
وقال تعالى مبينا للناس الهول الهائل من ادعاء الولد له: )وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90)( (مريم).
لا أتخيل أنه بعد هذه النصوص المحكمة الحاسمة يمكن أن يقول أحد كما قال حضرة القس إبراهيم لوقا: “الإسلام لا ينكر هذه العقيدة، ولا ينكر القول بلاهوت المسيح، بل إنه ليؤيده، ويؤيده بأدلة عديدة، وآيات كثيرة، وشهادات متنوعة.
اللهم إن هذا محال، أقول: محال وأنا مطمئن؛ لأنه لا يتأتى لكائن من كان، مهما بلغ من أساليب المغالطة[14] والسفسطة أن يتقي وقع هذه الآيات الصريحة في نفوس قارئيها، وأن يستخرج منها ما تأباه معاني ألفاظها، ومباني تراكيبها، فلو كان يعلم الكاتب المتحمس ما يجنيه عليه تحمسه لموضوعه من إضعافه وتوهينه، لربأ بنفسه أن يرتكب مثل هذا الشطط في تبيينه.
كل ما استند إليه حضرة القس في تدعيم كلامه، وهون عليه إهمال عشرات الآيات التي وردت في نفي الألوهية والبنوة عن عيسى – ما أطلقه القرآن الكريم على هذا الرسول من روح الله، وأنه كلمته ألقاها إلى مريم، وقد قلنا إن الله تعالى قد أطلق لفظة روح على جبريل.
أما “الكلمة” فقد أريناك مواطن استعمالها في الكتاب الكريم، بما لا يدع شبهة في أن المقصود بها كلمة “كن”، أي كلمة الخلق المباشر عند عدم وجود الأسباب العادية، وكيف يعقل أن ترد في القرآن لفظة “الكلمة” بمعنى الأقنوم الثاني من الأقانيم الثلاثة المؤلفة لذات الخالق، وهو ينهى النصارى في آيات كثيرة عن القول بالتثليث ويعده أمرا إدا[15]، وقد ورد في ذلك قوله: )ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم( (النساء: ١٧١)، وفي آية أخرى قوله: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل( (التوبة: 30)، أي يقولون ما يشاكلون به قول الكافرين السابقين الوثنيين، فقد كان للمصريين القدماء ثالوث مؤلف من: حورس وإيزيس وأوزيريس، وكان للهنود ثالوث مؤلف من براهما وسيفا وفيشنو، ولغيرهم ثالوثات أخرى، وقد أجمعوا على أن أحد أركانها قد نزل إلى الأرض، وتجسد فيها، وعاش بين الناس ليعلمهم ويصلح شأنهم، ومن هنا قرر الفيلسوف فولتير أن المسيحية قد أخذت في هذه العقيدة أخذ البوذية[16] سواء بسواء في تثليثها أو في آدابها وأخلاقها.
وما كنا لنتنزل إلى إيراد مثل هذه الأقوال لولا أن حضرة القس إبراهيم لوقا قد اضطرنا إليه، دفاعا عن كتابنا وذودا عن كرامتنا.
وبعد؛ فإن البحث في ذات الخالق لا يجيزه لنفسه من يعرف ضعف مصادر معرفتنا، ومدى سلطان عقولنا على فهم الحقائق، فالإدراك الذي قصر عن فهم ماهية المادة، وحقيقة الفضاء والزمان، ولم يحط بأكثر أسرار النظام الآلي الذي بين يديه – لا يستطيع ببداهة العقل أن يصل من معرفة ذات الله إلى شيء على الإطلاق، وإن افترض أنه تلقى معرفته بذات الله من طريق الوراثة، وجب عليه أن يرفضها ليخلص من تبعاتها، مكتفيا من الاعتقاد بوجود الله منزها عن صفات المخلوقين، وبأنه يتعالى أن تحيط به عقول الآدميين، وإلا عرض عقيدته لشبهات المجادلين، واضطر لوقف حصة كبيرة من وقته لصد هجمات المهاجمين، والإجابة عن استشكالات المستشكلين، وإن عقيدة تحيط بها كل هذه الصعوبات، وتقوم في وجهها جميع هذه الشبهات، لا يمكن أن تصبح عقيدة عامة لأمة في خاصتها، فضلا عن الإنسانية برمتها[17].
يلوح لي أنه يغيب عن الآباء المسيحيين أن الناس اليوم قد افتتنوا بالفلسفة المادية، إلى حد أن رفضوا العقيدة بالخالق، على ما تعرفه به أرقى فلسفة في الأرض من التوحيد والتنزيه، فهل من مسايرة الحقائق أن يزيد على تلك العقيدة ما يجعلها غير معقولة؟
إن دعاة المسيحيين قد عجزوا عن نشر المسيحية حتى في البلاد الوثنية، على ما يبذلونه من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويفوز عليهم دعاة الإسلام في كل بقعة من بقاع الأرض، فتسارع الملايين إلى الدخول في الإسلام غير مسوقين بأي دافع مادي زاهدين في الهيل[18] والهيلمان[19] الذي يبذله الجانب الآخر.
هذه المقارنات تريك الصعوبة المطلقة في إمكان قبول العقيدة المسيحية على ما هي عليه من القول بالتثليث والتأليه والبنوة، وقد ظهر في إنجلترا وألمانيا، وهولاندا وفي كل بقعة من أوربا مذهب الموحدين تحت اسم (Unitarisme) رفض أهله التثليث وما يتبعه واتخذوا لهم كنائس خاصة وهم يعدون في كل أمة بالملايين، وأكثر ما يوجدون في إنجلترا وأمريكا. ولسنا نشك في أن هؤلاء هم طليعة الإسلام في أوربا ولله عاقبة الأمور[20].
هل يعقل بعد كل ما سبق عن جوهر الأديان السابقة ومضامين كتبها المقدسة المحرفة، أن يقال إن الإسلام قد اشتق منها؟ على ما بينها وبينه من اختلافات جذرية شاسعة؟!
رابعا. الوحي والصرع:
زعم المغرضون أن ما كان يعتري[21] رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند تلقي الوحي، أعراض للهستيريا والصرع! أما ما كان يعتريه فهو – كما وصفته الأحاديث والآثار المروية – تفصد جبينه بالعرق[22] في اليوم شديد البرد، وتربد وجهه[23] واحمراره وإغماض عينيه. فهل هذه أعراض مرض الصرع المعروف؟ وهل يمكن له – إن كان الأمر كما زعموا – أن يبلغ – صلى الله عليه وسلم – فور إفاقته – ما أنزل إليه، أحكاما وتشريعا وأخلاقا في نظام دقيق معجز؟!
لندع الأستاذ محمد فريد وجدي يجيبنا عن هذه التساؤلات؛ إذ كتب تحت عنوان “هل كان محمد يتصنع الوحي”؟ يقول: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – بزعمهم مريضا عصبي المزاج مصابا “بالهستيريا”، فيسمع ما لا حقيقة له ويحسبه حقائق، ويصبغه بصبغة العقائد التي تملأ قلبه، والصور التي تشغل عقله.
لقد ذكرنا شبهة الهستيريا، فلا يصح لنا أن نترك أكثر القراء يتساءلون عن ماهية هذا الداء، وعن كنه[24] الخيالات والضلالات الحسية والمعنوية التي يولدها للمصاب به، وعن مكان هذه الشبهة من سيرة رسول الدين العالمي الأخير.
الهستيريا – كما يصفها الأساتذة الأعلام: كريكيه ولاندوزي وشاركو – داء عصبي عضال[25]، أكثر ما يعتري النساء، وهو وراثي، صفاته المميزة: شذوذ خلقي حاد، وحساسية متطرفة تصل إلى حدود غير معقولة، ثم يزداد المرض حدة فيشعر المصاب به بالاختناق، وبضيق في الصدر عظيم وبخفقان مزعج وارتعاش وباضطرابات خطيرة في الهضم، وقد يصحب هذه الأعراض شلل في بعض الأعضاء، فإذا تابع هذا المرض تقدمه، جاء دور التشنج[26]، فيسبقه بكاء وعويل وكرب عظيم، وهذيان ينتهي بالإغماء، فإن تجاوز هذه الدرجة دخل في دور أشد خطورة من كل ما مر، فيرى المريض أشباحا تهدده أو تسخر منه أو تزعجه ويسمع أصواتا لا وجود لها في حس غيره.
ومن أخص مميزات هذا الدور: شعور المصاب بكرة تأخذ بمخنقه، فلا يزال يضطرب منها حتى تفقده الحس تماما، فيقع في الإغماء وسط حركات مضطربة بيديه ورجليه، وقفز من مكان إلى مكان على صورة تثير الذعر في قلب كل من يراه، فلا يجد لإنقاذه حيلة غير الصبر حتى تزول عنه يسيرا يسيرا لتعاد الكرة عليه بعد حين، فهل كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – هيستيريا تنتابه بهذه الأعراض؟
لو كان كذلك، لوجب وضعه في أقصى درجات هذا المرض؛ لأنه كان يرى شبحا يظنه ملكا، ويسمع صوتا يتخيله وحيا. وهذه الأمور من مميزات الدور الأخير لهذا الداء، حين يتفاقم[27] أمره وتشتد وطأته ويعز[28] شفاؤه، ومتى بلغ المصاب هذا الدور أصبح هدفا لجميع أعراضه، أولها شذوذ الأخلاق والحساسية المتطرفة والخفقان المزعج والبكاء والنشيج والهذيان أي الهلوسة وآخرها التخبط باليدين والرجلين والقفز بالجسم كله من مكان إلى مكان.
فهل نقل عن خاتم المرسلين شيء من هذه الأعراض، على كثرة الذين تتبعوا حياته وتعقبوا أعماله؟
وهل عهد في تاريخ العالم أن مريضا بمثل هذه الداء الذي أعجز الطب قديما وحديثا، يندب نفسه لتطهير أمة برمتها من أرجاس الوثنية، وتوحيد كلمتها وجمع متفرقها، وإيتائها بدستور ينظم شئونها ويسدد خطواتها، وينقلها من طورها المتحجر الذي كانت فيه إلى أطوار متعاقبة تندفع فيها اندفاعا طبيعيا مرتبا على موجب النواميس الاجتماعية، حتى تصل بعد ثمانين سنة إلى درجة دولة لا تغرب الشمس عن أملاكها، هي أكبر دولة عرفها تاريخ البشر إلى اليوم؟
إذا كان محمد – وهو هيستيري مريض في رأيهم – يوفق إلى مثل هذه الأمور الجسام[29]، حتى يغير سطح المعمورة من حال إلى حال، مما لم تأت بمثله أجيال الفاتحين ولا كبار الملوك والسلاطين، بل ولا أولو العزم من المرسلين، فماذا كان صانعا لو كان رسولا حقا، يرى الملك ويسمع منه الوحي؟ ولو كان هذا حال رجل خيالي مريض شاذ الأخلاق، وعرضة لجميع الأعراض التي ذكرناها – الصنف الذي إذا رأيته رحمته واستعذت بالله – فماذا بقي للصادقين الكاملين وللأصحاء العاملين من الذين إذا رأيتهم افتخرت أن تكون واحدا من أشياعهم؟
هل عهد أحد في تاريخ الإنسانية أن المرضى المتهوسين يصلحون لقيادة أنفسهم؟ فضلا عن التصدي لقيادة الأمم والبلوغ بها إلى أوج[30] لم تصل إليه أمة قبلها ولا بعدها؟!
هب أن الهذيان يؤدي بالمصاب بالهستيريا إلى التصدي لمثل هذه الخطة، فهل يكون حاله في الدعوة إليها أمثل من حال المجنون يضحك من يسمعه يهذي بها، ويستدعي غيره ليشاركه في التلهي بما يقول؟ هل بلغت أن العرب الجاهليين ضحكوا من دعوة محمد – صلى الله علي وسلم – واتخذوها هزوا ولعبا، أم قابلوه بالاضطهاد، وصبوا على أتباعه ألوان العذاب، حتى اضطروهم للهجرة إلى الحبشة مرتين، ثم إلى المدينة، وهناك شنوا عليهم الغارات الشعواء[31]، وتألبوا[32] عليهم، ولم يتركوا وسيلة إلا استخدموها لحل جماعتهم، ثم انتهى أمرهم بالخضوع للنبي خضوعا لا حد له؟
لا يستطيع أعداء محمد – مهما تنطعوا[33] في تصيد الشبهات وتدبيرها من مختلف الأعاليل – أن ينالوا من شخصيته الفذة، فإن ما أثمرته من الثمرات – مما لم يتسن مثله لمصلح أو لرسول قبله – تدحض[34] كل فرية[35] تلفق للحط من قدرها، وتبني لصاحبها صرحا من المجد جديدا، وتوحي إلى الذائدين عن كرامته أدلة تجعل ما لفقه خصومه هشيما تذروه الرياح[36].
هذه المفارقة الواضحة والمسافة الشاسعة بين طبيعة شخصية سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما يمثله في حياة البشرية وبين حال مصروع متهوس، يهذي وهو لا يدري – كما زعم المبطلون – هي التي حملت د. محمد المسير على أن يتساءل قائلا: “وإذا كان الواحد منا عندما يهمه شيء ويحرص عليه يشغل باله وفكره حتى لا يكاد يحس بمن حوله، فينادي عليه أقرب الناس منه مكانا فلا يسمع له نداء، فما بمالك بالاتصال بالملأ الأعلى والاستغراق في لقاء الملك الروحاني والتلقي عن الله تعالى؟! ثم إن الناس في كل زمان ومكان يرون المصروع ويعرفون الصرع، فهل من المعقول أن يخدع الصحابة جميعا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويصعب عليهم التفريق بين حال الوحي وحال الصرع؟!
إن فاقد الشيء لا يعطيه، والمصروع لا يشفي مصروعا، ولقد كان الصرعى يأتون إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طلبا للشفاء، «فعن عطاء بن رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: “إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك”، فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف، فادع الله ألا أتكشف، فدعا لها»[37]. فإذا كان الصرعى يأتون رسول الله طلبا للشفاء، فهل يكون الصرع خفيا على الناس يؤمئذ حتى يختلط بالوحي؟! ألا ساء ما يحكمون[38]!
هل بقي مزيد قول في هذا الموضوع؟ لعله من المفيد أن نختم ببحث ناقشت فيه د. هدى عبد الكريم هذه الشبهات مجملة وفندتها[39] في أسلوب علمي رصين، فقالت: “الناظر في مزاعم المستشرقين هذه وفي حال الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وفي كتاب الله تعالى الذي أوحي به إليه، يتبين له بطلان هذه المزاعم من عدة وجوه:
الأول: أن القرآن الكريم نفسه ينفي أن يكون من صنع البشر وتأليفهم، وإنما هو كلام الله المنزل على رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – لهداية الناس وإصلاح حالهم وذلك من عدة نواح:
- من ناحية أسلوبه البليغ المعجز المغاير لأسلوب النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما صدر عنه من الأقوال غير القرآن، فالحديث يختلف اختلافا كبيرا عن القرآن الكريم من جهة الأسلوب، وكل قارئ يفهم العربية يدرك ما بين الأسلوبين من فرق كبير، فلو كان القرآن صادرا عن محمد نتيجة انفعالاته بما يحدث في حياته وما يجري في مخيلته من أفكار لكان أسلوبه هو نفس أسلوب الأحاديث؛ لأنه لا يمكن أن يكون لكاتب واحد مهما بلغ من الذكاء والعبقرية أسلوبان يختلفان هذا الاختلاف الكبير.
وبهذا يتبين لنا بطلان دعوى المستشرقين أن القرآن صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- من ناحية ما تضمنه من إشارات علمية دقيقة ونبوءات غيبية وأخبار القرون الماضية والتشريع العظيم، وغير ذلك من العلوم والمعارف يزخر بها هذا النهر العظيم، كل ذلك ينفي أن يكون القرآن بشريا، وإلا فمن أين لمحمد – صلى الله عليه وسلم – الرجل الأمي هذه الحقائق العلمية التي لم يتوصل إلى معرفتها إلا في العصر الحاضر، ومن أين له معرفة أخبار الأولين من الأنبياء والمرسلين؟!
ومن أين له معرفة دقائق التاريخ وأحوال الأمم السابقة، هل عاصرها واطلع على أخبارها؟! وإن إخبار القرآن الكريم بقصص الأمم السابقة وما حل بهم بدقة وتفصيل يؤكد أنه من عند الله، وليس من عند محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي لم يقرأ كتابا ولم يدرس علما قط. وهذه النبوءات الغيبية الموجودة في القرآن من أين لمحمد – صلى الله عليه وسلم – بها؟! إن الإنسان مهما بلغ من العبقرية والذكاء لا يستطيع أن يكشف حجب الغيب المكنون بعبقريته وذكائه. إن كل ذلك يؤكد أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من عند محمد – صلى الله عليه وسلم – وإنما هو من عند الله الذي أحاط بكل شيء علما.
- إن القرآن الكريم لا يعكس شخصية الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أفراحه وأحزانه، لقد توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة في عام واحد، وحزن عليهما حزنا شديدا حتى سمي ذلك العام بعام الحزن، فهل يوجد في القرآن أي إشارة لكل هذا؟! فلو كان القرآن كما يزعمون نابعا من ذاته لظهرت تلك المشاعر في سور القرآن.
ثم إن القرآن في بعض المواقف كان يخالف رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كان يعاتبه ويلومه على أفعاله كعتابه في موقفه من الرجل الأعمى عبد الله بن أم مكتوم حيث قال سبحانه وتعالى: )عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2)( (عبس)، وكعتابه له في مسألة أسرى بدر حيث قال: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال)، وكعتابه له – صلى الله عليه وسلم – في مسألة الإذن للمنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، حيث قال: )عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)( (التوبة).
فلو كان القرآن الكريم نابعا من ذاته لما ظهر فيه مثل ذلك، والعتاب على تلك التصرفات؛ لأن طبع البشر أن يخفوا أخطاءهم وتقصيرهم ولا يذكروها في مؤلفاتهم، وبهذا يظهر أن القرآن الكريم ليس من صنعه إنما هو خارج عن ذاته صلى الله عليه وسلم.
وليس أدل على أن القرآن ليس من عند محمد – صلى الله عليه وسلم – من اشتداد حاجة الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى شيء منه، فلا يجده إلا بعد فترة من الزمن، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – تمر به بعض المواقف المحرجة يحتاج فيها إلى القرآن لحسم الموقف فلا يجد، مثال ذلك ما حل به – صلى الله عليه وسلم – من الضيق والحرج عندما رماه المنافقون في أهل بيته السيدة عائشة – رضي الله عنها – فلم يستطع – صلى الله عليه وسلم – أن يفعل شيئا حتى جاءه الوحي ببراءة أهله، وقطع بذلك ألسنة المروجين والخائضين، فلو كان القرآن من عنده لأعلن منذ اللحظة الأولى براءتها وحسم الموقف.
الثاني: انتفاء أن يكون الوحي من داخل نفسه صلى الله عليه وسلم:
إن أعراض الوحي الظاهرة على النبي – صلى الله عليه وسلم – التي لا دخل له بها تؤكد أن الوحي خارج عن ذاته صلى الله عليه وسلم، فهذه الأصوات المختلطة التي كانت تسمع عند الوجه الشريف، تنفي أن تكون ظاهرة الوحي تكلفا من قبله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكانت طوع بنانه، يأتي بشيء جديد من الوحي في أي وقت يشاء بهذه الطريقة، والكل يعلم أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يمر بظروف معينة أحوج ما يكون فيها إلى شيء من الوحي فلا يأتيه.
ثم إن هذه الظاهرة كانت تحل به – صلى الله عليه وسلم – فجأة دون سابق إنذار أو استعداد لذلك، فقد يكون جالسا مع أصدقائه أو أعدائه يحادثهم فيأتيه الوحي فجأة ويقطع عليه حديثه، وقد يكون راكبا على دابته أو ماشيا على رجليه فيفاجئه الوحي، ولو كان الوحي من عند نفسه لاستعد لذلك، ولحدد أوقاتا معينة لإظهار ما عنده من الوحي.
إن موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – عند تلقي القرآن عن أمين الوحي جبريل يؤكد أن الوحي خارج عن ذاته الشريفة، وأن القرآن لم يصدر عنه صلى الله عليه وسلم، لقد كان يتلقى القرآن من أمين الوحي على عجل، يحرك لسانه وشفتيه طلبا لحفظه وعدم نسيان شيء منه؛ لتبليغه للناس كاملا كما أنزل، فأمره الله – عز وجل – بترك ذلك؛ لأنه – عز وجل – هو الكفيل بتعليمه وترسيخ ذلك في نفسه، قال سبحانه وتعالى: )ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما (114)( (طه). وقال عز وجل: )لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19)( (القيامة).
فلو كان القرآن الكريم نابعا من تفكيره لجرى على سنته في كلامه العادي؛ لأنه لا يتكلم إلا بعد تفكير عميق وتمحيص دقيق، ولكن هول المفاجأة بالوحي الخارج عن ذاته هي التي تدفعه إلى التعجل والترديد باللسان والشفتين، كما أخبرنا الله – عز وجل – في كتابه الكريم، وكذلك موقفه المليء بالخشية والتقديس للقرآن الكريم، يؤكد أنه ليس من عند نفسه كما يزعم الحاقدون.
الثالث: انتفاء فرية الصرع عن النبي صلى الله عليه وسلم:
إن اتهام المستشرقين للنبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه نسي الليل والنهار، والحلم واليقظة، وأنه كان يهيم بين شعاب الجبال ويخر مغشيا عليه، ما هو إلا نسيج خيال لا أساس له من الصحة، فلم يثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه بلغ به الجهد في خلوته مثلما يصوره هذا هؤلاء، وإن الروايات الصحيحة ترد كل هذه المزاعم والأقاويل الباطلة.
لقد عاش النبي – صلى الله عليه وسلم – طيلة حياته في صحة نفسية وعصبية وعقلية دائمة، لم يطرأ عليه أي خلل في عقله أو أعصابه في يوم من الأيام، بل كان كمال عقله مضرب الأمثال. وليس أدل على انتفاء هذه الفرية وبطلانها من كفاحه المرير في سبيل نشر دعوته، ومن سياسته الحكيمة، وخططه الحربية، وتنظيماته الاجتماعية، فلو كان مصابا بالانهيار العصبي كما يزعمون فهل يقوى على مثل هذا النضال الطويل، وهل يؤثر عنه تلك السياسة البارعة، والتنظيمات الدقيقة؟!
يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب: أمجنون مصروع يبني دولة وينشئ نظاما ويقيم دينا ويعيش في أجيال الناس منذ قام إلى اليوم دون أن يصاب بنكبة أو خلل؟ أمجنون مصروع يثبت لهذه العواصف العاتية المزمجرة، وحيدا في وجه أمة صحراوية النفوس صخرية الطباع، ثم لا يكون منه في حال من الأحوال، تخاذل أو ضعف حتى يحول هذه العواصف إلى أنسام عليلة وريح رخاء؟!
ألا ما أبعد هذا الكمال الإنساني عما يتخبط به الحاقدون من المستشرقين وغيرهم. ولقد شهد بعض المنصفين من المستشرقين على انتفاء هذه الفرية عنه مستدلين بحياته المشرفة، وما أثر عنه من أمور عظيمة على ذلك، يقول ماكس مايرهوف: “أراد بعضهم أن يرى في محمد رجلا مصابا بمرض عصبي، أو بداء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره ليس فيه شيء يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع، والإدارة يناقض هذا القول.
أما ادعاؤهم بأن ما كان يظهر على النبي من أعراض حين كان يتصل بالوحي أنها أعراض صرع فادعاء باطل يدل على جهلهم المستحكم بحقيقة الوحي؛ لأن وحي الله لأنبيائه لا يمكن إخضاعه لقوانين البحث العلمي؛ لأنه فوق العقل، وفوق العلم البشري. وأعراض الصرع تختلف تمام الاختلاف عما كان يعتري النبي – صلى الله عليه وسلم – عند اتصاله بالوحي، فهي أعراض مرضية مصحوبة باصفرار في الوجه وبرودة في الأطراف واصطكاك في الأسنان وغيبوبة كاملة، إذ يحتجب نور العقل ويخيم الجهل، فلا يذكر من يصاب بذلك أي شيء مما حدث له، بل ينسى هذه الفترة من حياته نسيانا تاما.
أما ظاهرة الوحي فتكون مصحوبة بإشراق وارتفاع في درجة الحرارة، وهي مبعث للنور الهادي الذي لا ظلمة فيه، ومصدر للعالم المشرق الذي لا جهل فيه.
ثم إن نزول الوحي لم يقترن بالغيبوبة دائما، إذ كان يأتيه أمين الوحي أحيانا في صورة رجل فيحادثه، ويوحي إليه بما شاء الله أن يوحي به إليه.
يقول د. محمد حسين هيكل في الرد على هذه الفرية: “وتصوير ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحي على هذا النحو خاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ، فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسيانا تاما، ولا يذكر شيئا مما صنع أو حل به خلالها؛ ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطل، هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك مما يصيب النبي العربي أثناء الوحي، بل كان تتنبه حواسه والمدارك في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به، وكان يذكر بدقة – غاية الدقة – ما يتلقاه وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه، ثم إن نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الجسمية، مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه، بل كان كثيرا ما يحدث والنبي في تمام اليقظة العادية. فالصرع يعطل الإدراك الإنساني، وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد أثناءها الشعور والحس، أما الوحي فسمو روحي اختص الله به أنبياءه ليلقي إليهم بحقائق الكون اليقينية العليا كي يبلغوها للناس، وقد يصل العلم إلى إدراك بعض هذه الحقائق ومعرفة سنتها وأسرارها بعد أجيال وقرون، وقد يظل بعضها لا يتناوله العلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وبعد هذا العرض لشبهات المستشرقين نجد أنها ترديد مقيت[40] لشبهات العرب في الجاهلية ألبسوها ثوبا جديدا وعرضوها في حلة من القول المزوق والكلام المنمق مدعين الموضوعية والبحث العلمي وقد بينا بالدليل القاطع زيف تلك الشبهات وبطلانها من الأساس سائلين الله تعالى أن يلهمنا الصواب في القول والعمل[41].
الخلاصة:
- رغم تحريف التوراة والإنجيل إلا أنهما لا يزالان شاهدين على نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وأنه خاتم الأنبياء، يعرف ذلك علماء اليهود والنصارى وإن تغافلوا عن هذه البشارات به صلى الله عليه وسلم.
- الظلال الباهتة والومضات الخافتة المتبقية من مبادئ الحنيفية – قبيل بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم – لا تصلح أن تقيم هيكل ديانة، فضلا عن أن تكون أساسا لهذا الصرح الهائل الكامل “الإسلام”.
- ولو حدث أن أخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – دينه عن أحد من الحنفاء لانبرى واحد منهم على الأقل لتكذيب النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو لم يحدث.
- وليس الإسلام نسخة محرفة أو معدلة عن اليهودية أو النصرانية أو كلتيهما، ومقارنة جوهر هذه الديانات من خلال كتبها المقدسة يثبت ذلك، كما في مسألة توحيد الله وتنزيهه، ومقام الأنبياء ومنزلتهم.
- المصاب بالصرع تنتابه أعراض غريبة مفزعة، وعند إفاقته ينسى كل ما مر به في أثناء نوبة الصرع، أما النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد كان يملي الوحي بما فيه من أحكام دقيقة وآداب جمة فور إفاقته من لحظة الوحي مباشرة. أضف إلى هذا أن ما يتمتع به القرآن الكريم من البلاغة والإعجاز ينفي عنه أن يكون صناعة بشرية.
(*) الإسلام والغرب، روم لاندو، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 1962م.
[1]. يئد: يدفن بنته حية.
[2]. انتشل: أخرج.
[3]. أضواء على المسيحية، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص155: 169 بتصرف. المسلمون في إنجيل متى، د. ممدوح جاد، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص211. آلام المسيح: رؤية نقدية إسلامية، ياسر أنور، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 2004م، ص74.
[4]. انبرى: اعترض أو تصدى.
[5]. يتشدقون: يتكلمون كثيرا دون احتياط أو احتراز.
[6]. المطارنة: جمع مطران، وهو رئيس الكهنة عند النصارى، وهو فوق الأسقف ودون البطريرك.
[7]. مصدر القرآن، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1417هـ/ 1997م، ص129: 136 بتصرف.
[8]. الشقة: البعد، والسفر.
[9]. بلبل الله ألسنة الخلق: فرقها.
[10]. المتفهيقين: المقصود بهم: الثرثارون والمتكلمون بتوسع وبلا احتياط أو احتراز.
[11]. جثا: جلس على ركبتيه.
[12]. الإسلام والأديان الأخرى: نقاط الاتفاق والاختلاف، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1998م، ص49: 60 بتصرف يسير.
[13]. نتوخاها: نقصدها.
[14]. المغالطة: محاولة إيقاع الآخرين في الغلط والخطأ.
[15]. الإد: المنكر العظيم.
[16]. البوذية: ديانة أسسها أحد حكماء الهند (بوذا 564 ـ 483) ق. م، وهي أقرب إلى فلسفة الحياة منها إلى الدين؛ حيث لا تؤمن بإله، وتقوم على التجرد والزهد؛ تخلصا من الشهوات والألم، وطريقا إلى الفناء التام، وتقول بالتناسخ ومبدأ السببية، وتنكر الروحية والحساب، وهي من أكثر الديانات انتشارا في الهند والشرق الأقصى.
[17]. برمتها: بكاملها.
[18]. الهيل: ما انهال من الرمل، والمقصود بها الخير الكثير.
[19]. الهيلمان: الخير أو المال الكثير.
[20]. مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1995م، ص355: 360. وانظر في ذلك أيضا: المناظرة الكبرى مع القس شروش، أحمد ديدات، ترجمة: رمضان الصفناوي، المختار الإسلامي. المسيحية والإسلام والاستشراق، محمد فاروق الزين، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 2003م. الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، ط1، 1993م، فصل: المسيحية من وجهة نظر إسلامية.
[21]. يعتري: يصيب أو يظهر.
[22]. تفصد جبينه بالعرق: تعبير يدل على شدة سيلان العرق دلالة على موقف محرج أو نحوه.
[23]. تربد وجهه: أي احمراره حمرة شديدة، وذلك يحدث عند مواجهة الأمر الجلل.
[24]. الكنه: الحقيقة.
[25]. العضال: الشديد المعجز الذي لا طب له.
[26]. التشنج: تقبض عضلي غير إرادي.
[27]. يتفاقم: يتصاعد ويتزايد.
[28]. يعز: يصعب.
[29]. الجسام: الصعاب.
[30]. الأوج: المكانة أو المنزلة.
[31]. الشعواء: الشديدة.
[32]. تألبوا: تجمعوا.
[33]. تنطعوا: غالوا وتكلفوا.
[34]. تدحض: تبطل.
[35]. الفرية: الشبهة والأكذوبة.
[36]. الإسلام دين الهداية والإصلاح، محمد فريد وجدي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ/ 1991م، ص170: 174 بتصرف.
[37]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى، باب فضل من يصرع من الريح (5328)، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك (6736).
[38]. النبوة المحمدية: دلائلها وخصائصها، د. محمد سيد أحمد المسير، دار الاعتصام، القاهرة،
ط2، 2000م، ص221.
[39]. فندتها: ضعفت أقوالها وأثبتت بطلانها.
[40]. المقيت: البغيض.
[41]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية ورد الشبهات عنها، هدي عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص495: 510.