الزعم أن الإسلام يحل ويحرم ما يشاء، والنصرانية ليست كذلك
وجوه إبطال الشبهة:
1) الأصل وحدة الدين السماوي التوحيدي وتعدد الشرائع حسب الزمان والمكان حتى جاءت الشريعة الخاتمة الخالدة.
2) شهادات الدارسين والباحثين تؤكد تحريف الأديان السابقة على الإسلام مما أوقعها في أخطاء ومتناقضات لا يقبلها عقل وعليه فلا يعترف إلا بالإسلام عقيدة وشرعا لأنه المصدر الأوحد الذي لم يحرف.
3) مزية الإسلام الجوهرية هي الشمولية لشأن الدنيا والآخرة، الروح والمادة، العبادة والقيادة؛ لذلك كثرت تشريعاته من الحلال والحرام وغيرها بخلاف الأديان الأخرى ذات النظرة الجزئية لا الشاملة كالمسيحية التي اهتمت بالجانب الروحاني فقط.
4) الأساس في التحليل والتحريم في الشريعة الإسلامية هو رعاية المصالح ودرء المفاسد: لقوله سبحانه وتعالى: )ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث( (الأعراف: ١٥٧) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» [1].
التفصيل:
إن شريعة الإسلام تنزيل من حكيم حميد، والمحرمات منصوص عليها، وما لم ينص على تحريمه فهو مباح، إلا ما ثبت ضرره البين مما لم يكن موجودا في عهد الوحي، انطلاقا من قاعدة “لا ضرر ولا ضرار”، وقوله سبحانه وتعالى: )ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث( (الأعراف: ١٥٧).
وهذا الذي يرمون به الإسلام متحقق بوضوح في النصرانية، فهم الذين يبيحون ويحرمون ما شاءت أهواؤهم: )اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم( (التوبة: 31). وقال سبحانه وتعالى: )أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله( (الشورى: ٢١).
وقد خرجوا على شريعة التوراة، مع أنها جزء من كتابهم المقدس، بسبب تدخلهم في التحليل والتحريم، ومن ذلك أن الخنزير محرم في التوراة، وأباحه النصارى، وأن تعدد الزوجات مباح في التوراة، وحرمه النصارى، وأن الختان مشروع في التوراة، وغير مشروع عند النصارى.
أولا. وحدة الدين الإلهي – الإسلام – في أصله السماوي:
الإسلام دين الرسل جميعا من لدن آدم – عليه السلام – حتى محمد – صلى الله عليه وسلم – خاتم المرسلين. وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة تأكيدا تاما، فذكر على لسان نوح قوله: )وأمرت أن أكون من المسلمين (72)( (يونس: 72)، وعلى لسان إبراهيم وإسماعيل: )ربنا واجعلنا مسلمين لك( (البقرة: 128)، وفي وصية يعقوب لأولاده: )إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)( (البقرة: 132)، وعن موسى عليه السلام: )فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84)( (يونس). وفي معرض الحديث عن التوراة: )يحكم بها النبيون الذين أسلموا( (المائدة: 44)، وعن يوسف عليه السلام: )توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101)( (يوسف)، وعن سحرة فرعون وقد آمنوا بموسى: )ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين (126)( (الأعراف)، وعن حواري عيسى: )آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52)( (آل عمران)، وعن ملكة سبأ وقد آمنت: )وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (44)( (النمل)، وفي دعاء الرجل الصالح: )وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (15)( (الأحقاف).
وفي الحديث: «الأنبياء إخوة أبناء من علات، وأمهاتهم شتى ودينهم واحد»[2]. قال سبحانه وتعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: 13) [3].
يؤكد هذه الوحدة القائمة على التوحيد الخالص لله الخالق – عز وجل – الأستاذ أحمد عبد الوهاب بقوله: “إن الإسلام دين التوحيد الخالص، ولهذا فإن المسلم يعترف بصحة كل قول أو حديث يؤكد توحيد الله ويدعو إليه.
ومن أمثلة ذلك ما نجده في الأسفار، ويأتي مصداقا لما يقرره القرآن. ففي الوصية الأولى لموسى ولبني إسرائيل: “أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي”. (الخروج 20: 2 – 5).
وفي الوحي إلى إشعياء: “قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب، وليس غيري مخلص. أنا أخبرت وخلصت وأعلمت وليس بينكم غريب. وأنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله. أيضا من اليوم أنا هو، ولا منقذ من يدي. أفعل، ومن يرد”؟. (إشعياء 43: 10 – 13).
وفي أقوال المسيح وتعاليمه: “وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته”. (يوحنا 3: 17). “كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدا بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه”؟ (يوحنا 5: 44).
“فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنا، سأله: «أية وصية هي أول الكل؟» فأجابه يسوع: «إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها هي: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين». فقال له الكاتب: «جيدا يا معلم. بالحق قلت، لأنه الله واحد وليس آخر سواه. ومحبته من كل القلب، ومن كل الفهم، ومن كل النفس، ومن كل القدرة، ومحبة القريب كالنفس، هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح». فلما رآه يسوع أنه أجاب بعقل، قال له: «لست بعيدا عن ملكوت الله»”. (مرقس 12: 28 – 34).
وفي رسائل تلاميذه: “أنت تؤمن أن الله واحد. حسنا تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرون! ولكن هل تريد أن تعلم أيها الإنسان الباطل أن الإيمان بدون أعمال ميت”؟ (رسالة يعقوب 2: 19، 20).
وفي القرآن الكريم: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، )إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما (98)( (طه)، )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)( (الكهف).
والله – عز وجل – ليس كمثله شيء: “ليس مثل الله يا يشورون. يركب السماء في معونتك، والغمام في عظمته”. (التثنية 33: 26). “فبمن تشبهون الله، وأي شبه تعادلون به”. (إشعياء 40: 18). “الله لم يره أحد قط”. (يوحنا 1: 18). “الذي وحده له عدم الموت، ساكنا في نور لا يدني منه، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه”. (رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 6: 16). )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى)، )لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)( (الأنعام)[4].
تعدد الشرائع:
لئن اتحد الدين الإلهي في جوهره التوحيدي لرب العالمين، فقد تعددت الشرائع بتعدد الأمم وتنوع الظروف وتغير الأحوال بتغير الزمان والمكان، وقد اختصت الأقوام السابقة كل بدعوة، حتى أرسل الله خاتم الأنبياء – صلى الله عليه وسلم – بخاتمة الرسالات، وفي هذا الشأن. يقول د. شوكت عليان تحت عنوان “الحكمة من تعدد الديانات”: “خلق الله تعالى الناس ولم يتركهم وشأنهم، بل اختار لهم نظما، وأحكاما تسعدهم في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن الإنسان عاجز عن إدراك المغيبات، ويتأثر تفكيره بمؤثرات من الزمان والمكان والمجتمع، وهو عاجز عن حمل غيره على طاعته لعدم قدرته على القهر الذي يربي الناس على كمال الطاعة، ولهذا جعل تعالى في كل أمة رسولا لها منها وأيده بالمعجزات، وأمده بتعاليم السماء لينشر الخير، ويعالج الشر ويبلغهم الوعد بالثواب، والوعيد بالعقاب: )لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165)( (النساء).
وقد شرع الله تعالى لخلقه ما يناسب حالهم، ويتلاءم مع ظروف حياتهم وقوة إدراك عقولهم، وقوة احتمالهم، لهذا تعددت شرائعه في عباده على لسان رسله – عليهم السلام – ففرض – عز وجل – من التكاليف على كل أمة ما يتناسب مع هذه الظروف المختلفة، حتى المعجزات التي أيد الله بها الرسل، اختلفت لتكون في كل طور آية لله عند كل فريق يؤمنون بها، ويصدقون على أساسها دعاة التوحيد قال سبحانه وتعالى: )لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا( (المائدة: 48).
وقد كانت الرسالات السابقة على الإسلام كلها خاصة بمعنى أن كل رسول كان يختص بدعوته جماعة معينة لا تكلف بها جماعة أخرى، قال ابن عاشور: ولما كان العالم كله مركبا من آحاد الناس، ومملوءا بأفعالهم، وهم يقتربون ويبتعدون من هذه الدرجة بمقدار نفوذ سلطان الدين إلى نفوسهم ومساعيهم، كان إصلاحه غير حاصل إلا بإصلاح أجزائه القابلة للإصلاح، وهو إصلاح نفوس آحاد الناس. ثم يلزم أن يكون صلاح الآحاد متماثلا في أصوله ليمكن التعاشر والتآلف، فإن الاختلاف في أصول الأحوال النفسانية يجر إلى تعذر الائتلاف.
هذه غاية الأديان، وقد سلكت لها مسالك كثيرة، وهي مثل الطرقات العامة، تختلف بالطول والقصر والسعة والضيق، على حسب اختلاف استعداد الأمم ومدى تقبلهم، كي لا يحرج الله تعالى الناس بتحميلهم ما لا قبل لهم بتحمله رحمة منه تعالى. علم – عز وجل – أن في طبع البشر البعد عن إدراك ما لم تتهيأ نفسه لإدراكه، ولو أننا فرضنا استسلامه إلى الأوامر والنواهي فهو لا يلبث أن ينحرف ويحيد عنها بقصد أو غير قصد، فالأديان هي مبدأ إرشاد البشر إلى طريق الصلاح منذ ظهر على الأرض، ولم تزل تسمو به في درج الارتقاء كما يربى الطفل في نشأته.
ثم إن انقسام البشر وتشعبه، وتباعد أقطار إقامته، وصعوبة اختلاط بعضهم ببعض وضعف دواعي تواصلهم، وتعذر أو تعسر أسباب ذلك، وضعف القوى النفسية بسبب العداوة والبغضاء بينهم بتوهم كل فريق أو شخص أن صلاحه بإضرار غيره، وحياته بهلاك غيره، مع ما يضاف إلى ذلك من إغراء الباغين من الزعماء المضللين؛ كل ذلك قد فرق جماعتهم، وباعد بين أخلاقهم وعوائدهم، وبث بينهم العداوة والبغضاء، فحال دون الالتئام والألفة والاتحاد.
فلهذا كانت الأديان السابقة للإسلام تجيء خاصة بعشائر ثم بقبائل، ثم بأمم، والذي نجده منها يناسب حال أمة أو قبيلة، قد لا يناسب حال غيرها. وقد صرحت الأديان السالفة كلها والشرائع السابقة بتخصيص دعوتها بقوم معينين، فموسى – عليه السلام – مثلا، مع اختراقه أمما كثيرة في جهات بني إسرائيل في طرق التيه، قاصدين الأرض المقدسة، لم يدع إلى اتباعه غير قومه السائرين معه، ولما جاء عيسى – عليه السلام – لم يدع إلى اتباع دينه غير بني إسرائيل. وقد تحدث القرآن الكريم عن الأنبياء في إطار الخصوصية لدعواتهم، فقال سبحانه وتعالى: )كذبت قوم نوح المرسلين (105)( (الشعراء)، وقال سبحانه وتعالى: )كذبت قوم لوط المرسلين (160)( (الشعراء).
وعدد المرسلين كثير، وقد كفانا الله مؤونة حصرهم، فقال سبحانه وتعالى: )ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك( (غافر: ٧٨). وسمى الله تعالى منهم في القرآن الكريم خمسة وعشرين أكثرهم في سورة الأنعام، قال سبحانه وتعالى: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83) ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86)( (الأنعام).
وهذه الديانات، وإن تعددت في الفروع والتكاليف والأعمال، فهي قد اتحدت في المصدر الذي صدرت عنه، وهو الله تعالى، واتحدت أيضا في الأصل الذي دعت إليه وهو التوحيد، فالقدر المشترك بين الرسالات جميعا هو تصحيح العقيدة أولا، ثم معالجة الأمراض الخلقية والاجتماعية الموجودة في تلك البيئات، قال سبحانه وتعالى: )ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( (النحل: 36)، وقال: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، وقال: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: 13) [5].
ثانيا. تحريف الديانات السابقة:
مما لا مراء فيه أن الأديان السابقة قد أصابها التحريف والتبديل، مما حرفها عن أداء رسالتها الصحيحة وأوقع في عقيدتها ومسيرتها كثيرا من الأخطاء والأغاليط، وقد حفلت كتبها المقدسة بكثير مما هو بشري ناقص، مما باعد بينها وبين أصلها السماوي، وأفقدها – في نظر كثيرين من نقاد وعلماء الأديان الشرقيين والغربيين – سمة القداسة وصفة السماوية.
لتأكيد هذا نورد شهادات لأحد رجال الدين والقانون وهو د. روبرت كيل تسلر في كتابه “حقيقة الكتاب المقدس” – الذي يقيم التوراة والإنجيل، أو ما يسمى بالعهدين القديم والجديد – يقول: “ووجهة نظرنا هي أن الكتاب المقدس مليء دون شك بالنبضات الإلهية والحقائق الكبرى، ولكنه أيضا كتاب بشري يحتوي على ما لا يحصى من النقص بكل أشكاله[6].
ويعلق مترجم الكتاب على هذا الرأي قائلا: “وهنا أتساءل: ما القيمة العلمية أو الأدبية أو التربوية أو حتى التاريخية لهذا الكتاب، إذا كان يحتوي على ما لا يحصى من النقص البشري؟! ولا أعرف هل يعرف د. روبرت كيل نفسه ما معنى كلمة “كتاب مقدس”؟
فإن معناه أن من أوحى به هو الله، ولا دخل لأي عنصر بشري في محتواه. وعلام الاهتمام بكتاب بشري يجمع في طياته بعضا من الومضات الإلهية، وبه كل هذا النقص والتناقض[7]؟ وبشكل أدق يقول كيل أيضا: “إنه لا توجد صفحة واحدة من صفحات الأناجيل المختلفة لا يحتوي نصها الأصلي على العديد من الاختلافات[8].
وفي موضع ثالث يقول كيل: “وينهى القس شورر كلامه قائلا: إن الهدف من القول بالوحي الكامل للكتاب المقدس، وبالمفهوم الرامي إلى أن يكون الله هو مؤلفه، هو زعم باطل ويتعارض مع المبادئ الأساسية لعقل الإنسان السليم، الأمر الذي تؤكده لنا الاختلافات البينة للنصوص، لذلك لا يمكن أن يتبنى هذا الرأي إلا إنجيليون جاهلون أو من كانت ثقافته ضحلة[9]، وما يزيد دهشتنا أن الكنيسة الكاثوليكية ما زالت تنادي أن الله هو مؤلف الكتاب المقدس. وحتى أشهر آباء الكنيسة – أوجستين – قد صرح بعدم الثقة في الكتاب المقدس لكثرة الأخطاء، لذلك لم يعرف كتاب مثل هذه الأخطاء والتغييرات والتزويرات مثلما عرفه الكتاب المقدس[10].
وينقل عن ثان فيقول: “ويشير يوليشر.. كذلك إلى التغييرات المتعمدة خصوصا في نصوص الأناجيل، حيث يقول: إن الجاهل فقط هو الذي ينكر ذلك. كما أكد كل العلماء في المائة سنة الأخيرة حقيقة وجود العديد من التغييرات المتعمدة التي لحقت بالكتاب المقدس في القرون الأولى الميلادية، ومعظم هؤلاء العلماء الذين أرادوا الكلام عن الكتاب المقدس ونشأته ونصه وقانونيته بصورة جدية من لاهوتي الكنيسة[11].
إذا، فالأديان السماوية، وإن اشتركت في أصلها التوحيدي السماوي، فإن غير الإسلام منها قد حرف وطالت أصوله يد التبديل والتغيير بل التزوير، ولهذا فالإسلام وحده هو من يعد المتحدث الرسمي عن السماء، وأن حلاله وحرامه موافق لتعاليم المولى عز وجل.
ثالثا. مزية الإسلام الكبرى:
بالإضافة لهذا فللإسلام مزية جوهرية هي أنه ليس دين تعاليم روحانية مثالية أخلاقية عقائدية فقط، وإنما هو، كما هو معروف وثابت، دين عقائد وعبادات ومعاملات، ودنيا وآخرة، دين ودولة، عبادة وقيادة، دين عام في الزمان والمكان، صالح لكل عصر ومصر.
ولهذا فقد كثر في شريعته وفقهه التحليل والتحريم لتعرضه بالتنظير والتقييم والتقويم لأحوال الناس المستجدة ومعاشهم المستمر، أما النصرانية فإنها تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كما هو مشهور في أدبياتها، ومن ثم لا صلة لها بالتحليل والتحريم إلا من طرف خفي خافت باهت.
ومن هنا لا يصح القول ولا تجوز المقارنة بين الإسلام والمسيحية، بحيث يقال إن شريعة محمد مخالفة لدين المسيح مضادة له، تحل ما تشاء وتحرم ما تشاء. فالإسلام – كما سبق – يوافق النصرانية وغيرها من الأديان السماوية – في أصلها الصحيح قبل التحريف – في عقيدة التوحيد. أما فيما عدا ذلك فلا موضع للمقارنة إذ لا شريعة، ولا فقه، للدنيا في النصرانية تقارن بشريعة الإسلام المفصلة بهذا الشأن، وكما قيل فإن مملكة المسيحية هي السماء لا الأرض. أما الإسلام فمملكته السماء والأرض والحضر والمدر والوبر والسهل والوعر.
والحق أنه لا مقارنة من الأصل، تصح بين دين حفظ الله كتابه المقدس – القرآن الكريم – حرفا حرفا وبين آخر ذهبت قدسية كتابه، وما قد يكون به من شيء من الشرائع، فقد عبثت به يد التأليف والتلفيق البشري على مر القرون باعتراف رجال كنيسته وعلماء لاهوته!
حول هذه المزية الجوهرية للإسلام، من حيث كونه عقيدة وشريعة، وعبادة ومعاملة، وامتيازه بذلك على سائر الأديان، كما وكيفا، التقت أقلام كبار المفكرين والعلماء تؤكدها وتبلورها. يقول الأستاذ أحمد عبد الوهاب مقارنا بين الإسلام وغيره من الأديان، في هذا الشأن تحت عنوان “الدين والناس والحياة”: “ماذا يريد الإنسان في هذه الحياة؟ إنه يريد – أولا – تحقيق مطالبه الفطرية والغريزية، ثم هو يريد الأمن والسلام والحرية والفرح والمتعة، والحياة المستمرة. إنه – باختصار – يريد السعادة الأبدية، وهو بالطبع لا يريد مضادات السعادة الأبدية من أحزان وآلام وموت وعذاب، إن الإنسان لا يريد الشقاء.
والمؤمنون – كبشر – ليسوا خروجا عن هذه القاعدة، فهم يبحثون عن السعادة، ويسعون جاهدين من أجلها، وإن اختلفت مفاهيمها لديهم – في بعض الأحيان – عن تلك التي يسعى من أجلها غيرهم. وتحدثنا الكتب المقدسة عما يسعد الإنسان ويشقيه، فتعده بالأولى إذا سار مع الله، وتتوعده بالثانية إذا تمرد على المنهج الإلهي، وجعل الشيطان له قرينا.
ونتبين من التوراة مطالب السعادة التي يرجوها الإسرائيليون، وذلك من أقوال الرب التي جاء بها موسى: “إذا سلكتم في فرائضي وحفظتم وصاياي وعملتم بها، أعطي مطركم في حينه، وتعطي الأرض غلتها، وتعطي أشجار الحقل أثمارها، ويلحق دراسكم بالقطاف، ويلحق القطاف بالزرع، فتأكلون خبزكم للشبع وتسكنون في أرضكم آمنين. وأجعل سلاما في الأرض، فتنامون وليس من يزعجكم. وأبيد الوحوش الرديئة من الأرض، ولا يعبر سيف في أرضكم. وتطردون أعداءكم فيسقطون أمامكم بالسيف. يطرد خمسة منكم مئة، ومئة منكم يطردون ربوة، ويسقط أعداؤكم أمامكم بالسيف. وألتفت إليكم وأثمركم وأكثركم وأفي ميثاقي معكم، فتأكلون العتيق المعتق، وتخرجون العتيق من وجه الجديد. وأجعل مسكني في وسطكم، ولا ترذلكم نفسي. وأسير بينكم وأكون لكم إلها وأنتم تكونون لي شعب”. (اللاويين 26: 3 – 12).
كما تحدد لنا التوراة عناصر الشقاء التي يحذرها الإسرائيليون، من قول الرب: “لكن إن لم تسمعوا لي ولم تعملوا كل هذه الوصايا، وإن رفضتم فرائضي وكرهت أنفسكم أحكامي، فما عملتم كل وصاياي، بل نكثتم ميثاقي، فإني أعمل هذه بكم: أسلط عليكم رعبا وسلا وحمى تفني العينين وتتلف النفس. وتزرعون باطلا زرعكم فيأكله أعداؤكم. وأجعل وجهي ضدكم فتنهزمون أمام أعدائكم، ويتسلط عليكم مبغضوكم، وتهربون وليس من يطردكم. وإن كنتم مع ذلك لا تسمعون لي، أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم، فأحطم فخار عزكم، وأصير سماءكم كالحديد، وأرضكم كالنحاس، فتفرغ باطلا قوتكم، وأرضكم لا تعطي غلتها، وأشجار الأرض لا تعطي أثمارها. وإن سلكتم معي بالخلاف، ولم تشاءوا أن تسمعوا لي، أزيد عليكم ضربات سبعة أضعاف حسب خطاياكم. أطلق عليكم وحوش البرية فتعدمكم الأولاد، وتقرض بهائمكم، وتقللكم فتوحش طرقكم. وإن لم تتأدبوا مني بذلك، بل سلكتم معي بالخلاف، فإني أنا أسلك معكم بالخلاف، وأضربكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم. أجلب عليكم سيفا ينتقم نقمة الميثاق، فتجتمعون إلى مدنكم وأرسل في وسطكم الوبأ فتدفعون بيد العدو. بكسري لكم عصا الخبز. تخبز عشر نساء خبزكم في تنور واحد، ويرددن خبزكم بالوزن، فتأكلون ولا تشبعون. وإن كنتم بذلك لا تسمعون لي بل سلكتم معي بالخلاف، فأنا أسلك معكم بالخلاف ساخطا، وأؤدبكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم، فتأكلون لحم بنيكم، ولحم بناتكم تأكلون. وأخرب مرتفعاتكم، وأقطع شمساتكم، وألقي جثثكم على جثث أصنامكم، وترذلكم نفسي. وأصير مدنكم خربة، ومقادسكم موحشة، ولا أشتم رائحة سروركم. وأوحش الأرض فيستوحش منها أعداؤكم الساكنون فيها. وأذريكم بين الأمم، وأجرد وراءكم السيف فتصير أرضكم موحشة، ومدنكم تصير خربة. حينئذ تستوفي الأرض سبوتها كل أيام وحشتها وأنتم في أرض أعدائكم. حينئذ تسبت الأرض وتستوفي سبوتها. كل أيام وحشتها تسبت ما لم تسبته من سبوتكم في سكنكم عليها. والباقون منكم ألقي الجبانة في قلوبهم في أراضي أعدائهم، فيهزمهم صوت ورقة مندفعة، فيهربون كالهرب من السيف، ويسقطون وليس طارد. ويعثر بعضهم ببعض كما من أمام السيف وليس طارد، ولا يكون لكم قيام أمام أعدائكم، فتهلكون بين الشعوب وتأكلكم أرض أعدائكم”. (اللاويين 26: 14 – 38).
ومن هنا نتبين أن السعادة والشقاء في دين الإسرائيليين – وهو ما اصطلح على تسميته باليهودية – إنما هي أمور تتعلق بالحياة الدنيا. فاليهودي لا يرجو إلا نعيم الدنيا، وهو لا يحذر إلا شقاءها.
أما الإنجيل فلا ترجى فيه السعادة إلا في الحياة الآخرة، فلقد قال المسيح في موعظته الشهيرة: “ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال: «طوباكم أيها المساكين، لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن، لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون”. (لوقا 6: 20، 21).
“لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ”. (متى 6: 19، 20).
كذلك لا يحذر الإنسان شقاء إلا شقاء الآخرة: “وإن أعثرتك يدك فاقطعها. خير لك أن تدخل الحياة أقطع من أن تكون لك يدان وتمضي إلى جهنم، إلى النار التي لا تطفأ. حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ. وإن أعثرتك رجلك فاقطعها. خير لك أن تدخل الحياة أعرج من أن تكون لك رجلان وتطرح في جهنم في النار التي لا تطفأ. حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ. وإن أعثرتك عينك فاقلعها. خير لك أن تدخل ملكوت الله أعور من أن تكون لك عينان وتطرح في جهنم النار. حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ”. (مرقس 9: 43 – 48).
ويذكر الإنجيل بوضوح على لسان المسيح، أنه محال الجمع بين نعيمي الدنيا والآخرة، ولذلك كانت حملته شديدة على الأغنياء وأصحاب الممتلكات الدنيوية، إذ اعتبرهم قد استوفوا نعيمهم في الدنيا، ولم يبق للأغلبية الساحقة منهم – إن لم يكونوا جميعهم – سوى عذاب الآخرة: “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين؛ لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال. لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس”؟ (متى 6: 24، 25).
“فنظر يسوع حوله وقال لتلاميذه: «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله»! فتحير التلاميذ من كلامه. فأجاب يسوع أيضا وقال لهم: «يا بني، ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله! مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله»”. (مرقس 10: 23 – 25).
وأما في القرآن، فيستطيع المسلم أن يحصل على السعادة في الدنيا والآخرة: قال تعالى: )فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201)( (البقرة)، قال عز وجل: )قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة( (الأعراف: 32).
ولقد جمع إبراهيم أبو الأنبياء بين خيري الدنيا والآخرة، إذ قال الله فيه: )وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (27)( (العنكبوت).
والإسلام يحث المسلم على السعي من أجل الغنى وكثرة المال، يطلبه بالطرق المشروعة وينفق منه في أعمال الخير المشروعة، فيسعد دنيا وأخرى، ويسعد الآخرين: قال تعالى: )ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة( (النساء: 100)، قال سبحانه وتعالى: )فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى( (النساء: 95)، قال سبحانه وتعالى: )الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274)( (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (75)( (النحل).
وجعل الله طاعته وسيلة للحياة السعيدة بإمكاناتها المتنوعة، فكان قول نوح – وغيره من المرسلين – لمن أرسل إليهم: )فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السماء عليكم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا (12)( (نوح)، وكان قول هود لقومه عاد: )ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52)( (هود).
ولقد استعاذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الفقر وجعله قرينا للكفر، فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر».[12] وقال لسعد بن أبي وقاص: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» [13].
وعلى المسلم أن يقيم علاقات متوازنة بين مطالب الدنيا والآخرة، كل على قدره، فيحصل بذلك على السعادة فيهما، ولذلك سجل القرآن الكريم هذا القول الحكيم: )وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا( (القصص: 77)، ولم يكلف المؤمنون بالله أن يعذبوا أنفسهم في الدنيا على أن يعوضوا عن ذلك في الآخرة، فلهم أن يعملوا لسعادتهم في الدنيا، بجانب عملهم لسعادة الآخرة: )ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96)( (الأعراف).
وحين يتمرد الإنسان على منهج الله فعليه أن يتوقع الشقاء، لا في الآخرة فحسب، بل في الدنيا كذلك: )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)( (الروم)، )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة( (النور: 19) )فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة( (التوبة).
هذا، ولما كانت الحياة الآخرة حياة الأبد، وكانت الحياة الدنيا قصيرة فانية، كان على المؤمن العاقل أن يوجه همه إلى الآخرة، وأن يستخدم الدنيا وسيلة تعينه على تحقيق سعادته في الآخرة. من أجل ذلك كان على المسلم أن يعترف بسعادة الدنيا والآخرة، ولكن عليه أن يؤثر ما في الآخرة على الدنيا، وعليه كذلك أن يعترف بشقاء الدنيا والآخرة، إلا أن ما في الآخرة أشد وأقسى: )فأما من طغى (37) وآثر الحياة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41)( (القصص)، )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)( (الأنعام)، )لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون (127)( (الأنعام)، )إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم (8) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم (9)( (لقمان).
وخلاصة القول في النظر إلى سعادة الإنسان وشقائه، أنها في اليهودية دنيوية بحتة، وهي في المسيحية أخروية فحسب، بينما هي في الإسلام تجمع بين هذا وذاك مع ترجيح ما في الآخرة على ما فيها في الدنيا[14].
وهذا الإسلام هداية كاملة للإنسان والناس، فإن الله – عز وجل – جعله كاملا وشاملا، بحيث لا تبقى قضية من قضايا الوجود إلا وقد بين حكمه فيها إباحة أو حرمة، أو كراهة، أو سنية، أو وجوبا، أو فريضة، سواء في ذلك شئون العقيدة أو العبادة أو السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الحرب أو السلم أو التشريع، إلى آخر ما يتصوره الإنسان من شئون الإنسان. قال الله تعالى واصفا كتابه: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: ٨٩)، وما لا يعرف من الكتاب والسنة صراحة، يعرف استنباطا يعرفه مجتهدو الأمة الإسلامية.
فقد بينت في الكتاب والسنة قضايا العقيدة وقضايا العبادة وقضايا المال وقضايا الاجتماع، وقضايا الحرب والسلم، وقضايا التشريع والقضاء، وقضايا العلم والتعليم والثقافة، وقضايا الحكم والسلطان، وقد عبر عن ذلك فقهاؤنا بقولهم: اعلم أن مدار أمور الدين على الاعتقادات والآداب والعبادات والمعاملات والعقوبات[15].
وقد ثبت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما ترك أمرا يقربنا من الله إلا وأمرنا به، ولا ترك أمرا يبعدنا عن الله إلا نهانا عنه، حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. فالإسلام هو رسالة الحياة كلها، ورسالة الإنسان كله، كما أنه رسالة العالم كله، ورسالة الزمن كله[16].
“إن في الإسلام طائفة من الأصول والتعاليم مقيسة على قابلية النفس الإنسانية، ومؤلفة بحيث تستثير قواها الكامنة فيها، وتوجهها إلى المرامي البعيدة عنها، مزودة بمناعات مناسبة لها، تنتج آثارا يحار في تعليلها العقل[17].
وأخيرا، هذه شهادة لرجل مسيحي غربي هو الكاتب الأيرلندي الشهير “برنارد شو” يقول: “الإسلام هو دين الديمقراطية وحرية الفكر، هو دين العقلاء، وليس فيما أعرف من الأديان نظام اجتماعي صالح كالنظام الذي يقوم على القوانين والتعاليم الإسلامية، الإسلام هو الدين الوحيد الذي يبدو لي أن له طاقة هائلة لملاءمة أوجه الحياة المتغيرة، وهو صالح لكل العصور[18].
لعله اتضح – للعقلاء الموضوعيين – الآن لماذا كثر في الإسلام – دون سواه – التحليل والتحريم، منحازا بذلك عن غيره من الأديان، فلا محل إذا للمغالطة في هذا الشأن.
رابعا. مدار التحليل والتحريم في الشريعة الإسلامية:
هل للشريعة مقاصد وأهداف لما شرعته من أحكام؟ سواء ما أمرت به من فرائض ومندوبات، وما نهت عنه من محرمات ومكروهات، وما جعلت للمكلفين الخيار في أحكامها في فعله وتركه من مباحات.
أم أن الشريعة في أحكامها تعبدية تحكمية، تأمر وتنهي، وتحلل وتحرم، دون أن تقصد إلى شيء وراء أمرها ونهيها، وحظرها وإباحتها؟ وبعبارة أخرى: هل أحكام الشريعة معللة بعلل مفهومة للبشر أم لا؟
ونبادر فنقول: إن الجمهرة العظمى من علماء الأمة من السلف والخلف، متفقون على أن أحكام الشريعة – في جملتها – معللة، وأن لها مقاصد في كل ما شرعته، وأن هذه المقاصد والعلل والحكم معقولة ومفهومة تفصيلا، إلا في بعض الأحكام التعبدية المحضة، والتي كان من الحكمة المعقولة أيضا ألا يعرف تفصيل ما وراءها من أسرار.
ومما لا ريب فيه لأي دارس أن الشريعة الإسلامية أقامت أحكامها على رعاية مصالح المكلفين، ودرء المفاسد عنهم، وتحقيق أقصى الخير لهم.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى ورحمته وجوده وإحسانه أن يتعبد خلقه بما فيه صلاحهم وفلاحهم في العاجلة والآجلة، ولهذا نقرأ في كتاب الله آية الوضوء: )ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)( (المائدة)، وفي الصلاة نقرأ: )إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر( (العنكبوت: 45). وفي الزكاة نقرأ: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها( (التوبة: ١٠٣). وفي الصوم: )لعلكم تتقون (183)( (البقرة)، وفي الحج: )ليشهدوا منافع لهم( (الحج: ٢٨).
فإذا كانت مصالح المكلفين مرعية في ذات العبادات التي اعتبر التعبد هو المقصود الأول منها، فكيف بأمور المعاملات الدنيوية التي تنتظم بها معايشهم وعلاقاتهم أفرادا وأسرا ومجتمعات وأمما؟
ولهذا أكد المحققون من علماء الأمة: أن الشريعة إنما وضعت لإقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد، أو في العاجل والآجل… وبهذا يتبين لنا شمول المصلحة التي قصدت الشريعة إلى إقامتها وحفظها. فهي ليست المصلحة الدنيوية فحسب، كما يدعو خصوم الدين، ولا المصلحة المادية فقط، كما يريد أعداء الروحية، ولا المصلحة الفردية وحدها، كما ينادي عشاق الوجودية وأنصار الرأسمالية ولا مصلحة الجماعة أو البروليتاريا كما يدعو إلى ذلك أتباع الماركسية والمذاهب الجماعية، ولا المصلحة الآتية للجيل الحاضر وحده، كما تتصور بعض النظرات السطحية. إنما المصلحة التي قامت عليها الشريعة في كلياتها وجزئياتها، وراعتها في عامة أحكامها، هي المصلحة التي تسع الدنيا والآخرة، وتشمل المادة والروح، وتوازن بين الفرد والمجتمع وبين الطبقة والأمة، وبين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، والموازنة بالقسط بين هذه المصالح المتقابلة المتضاربة في كثير من الأحيان لا ينهض بها علم بشر، وحكمة بشر، وقدرة بشر.
وإذا كانت الشريعة تقصد إلى رعاية المصالح، فهي بالتالي تقصد إلى إزالة المفاسد ومنعها، حتى إن بعض الذين اعتبروا المصلحة دليلا شرعيا مستقلا استندوا إلى حديث: «لا ضرر ولا ضرار»[19].
ومعنى “لا ضرر ولا ضرار”: أي لا يضر الإنسان نفسه ولا يضار غيره. أو لا يضر غيره ابتداء ولا يضاره جزاء. وإذا ثبت نفي الضرر والضرار لزم أن ترعى المصالح والمنافع وتحفظ.
وقد أخذ العلماء منه أن الأصل في المضار التحريم؛ لأن كلمة “ضرر” جاءت نكرة في سياق النفي فتعم كل ضرر كان. بخلاف المنافع، فالأصل فيها الإباحة لقوله سبحانه وتعالى: )خلق لكم ما في الأرض جميعا( (البقرة: ٢٩).
وحفظ المصالح أو المقاصد الشرعية تكون من جهتين: إيجابية بحفظ ما يثبت قواعدها ويقيم أركانها. وسلبية بدرء الاختلال الواقع أو المتوقع عنها.
ومن ثم كان درء المفاسد لازما لإقامة المصالح، بل هو داخل في مراعاتها من جهة العدم كما قال الشاطبي، وعلى هذا الأساس العريض قامت أوامر الشرع ونواهيه[20].
ولعله قد تأكد مما سبق أن شيئا في الشريعة الإسلامية لم يحل أو يحرم تعسفا أو بلا حكمة، بل إن أحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها تقصد على إقامة المصلحة ودرء المفسدة، وقد كشف لنا العلم الحديث عن علل كثيرة لتحريم لحم الخنزير مثلا، مما ينزه هذه الشريعة عن العبث، ويثبت إلهيتها.
الخلاصة:
- الدين الإلهي واحد في أصله السماوي التوحيدي، أما الشرائع فمتعددة بتعدد الأمم واختلاف الزمان والمكان، وقد تجلت حقيقة هذا الدين الإلهي في صورته النهائية الخاتمة في الإسلام.
- شهد علماء الأديان ونقادها الغربيون أن الأديان السابقة على الإسلام أصابتها يد التحريف والتبديل. ولم يبق بين الأديان دين لم يحرف عقيدة وشريعة غير الإسلام.
- مزية الإسلام الجوهرية أنه دين ودنيا وعبادة ومعاملة، ومن ثم فقد ضبط كل شيء في حياة الناس بمعيار الحلال والحرام، أما الغالب على الأديان الأخرى فهو النظرة الجزئية لا الشاملة، كالجانب الروحاني الغالب على المسيحية مثلا.
- أساس التحليل والتحريم في الشريعة الإسلامية هو إقامة المصالح ورعايتها، ودرء المفاسد والمضار وإزالتها، وقد قال سبحانه وتعالى: )ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث( (الأعراف: ١٥٧).
(*) منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب، الشيخ عبد العزيز والشيخ حمد بن ناصر آل معمر، دار ثقيف للنشر والتأليف، الرياض، ط4، 1409هـ/ 1989م.
[1]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق (2758)، وأحمد في مسنده، ومن مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم (2867)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (250).
[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام (6281).
[3]. الإسلام، سعيد حوى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص3.
[4]. الإسلام والأديان الأخرى: نقاط الاتفاق والاختلاف، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1998م، ص27: 29.
[5]. الثقافة الإسلامية وتحديات العصر، د. شوكت عليان، دار الشواف، ليبيا، ط2، 1996م، ص116: 118.
[6]. حقيقة الكتاب المقدس تحت مجهر علماء اللاهوت، ترجمة وتعليق: علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص13.
[7]. حقيقة الكتاب المقدس تحت مجهر علماء اللاهوت، ترجمة وتعليق: علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص13، 14.
[8]. حقيقة الكتاب المقدس تحت مجهر علماء اللاهوت، ترجمة وتعليق: علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص16.
[9]. الضحلة: القليلة.
[10]. حقيقة الكتاب المقدس تحت مجهر علماء اللاهوت، ترجمة وتعليق: علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص18.
[11]. حقيقة الكتاب المقدس تحت مجهر علماء اللاهوت، ترجمة وتعليق: علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص30.
[12]. صحيح الإسناد: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة رضي الله عنه (20397)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب الأذكار، باب الدعاء عند الكرب (701)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (1347).
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الدعاء بدفع الوباء والوجع (6012)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث (4296).
[14]. الإسلام والأديان الأخرى: نقاط الاتفاق والاختلاف، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1998م، ص71: 77.
[15]. الإسلام، سعيد حوى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص6.
[16]. نحو وحدة فكرية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1991م، ص45.
[17]. من معالم الإسلام، د. محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1994م، ص79.
[18]. الإسلام بعيون مسيحية، لطفي حداد، الدار العربية للعلوم، بيروت، ط1، 2004م، ص209.
[19]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق (2758)، وأحمد في مسنده، ومن مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم (2867)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (250).
[20]. انظر: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1426هـ/ 2005م، ص57: 66.