الزعم أن الإسلام يعترف بالشرائع الأخرى على صورها المحرفة ويدعو لاتباعها
وجوه إبطال الشبهة:
2) الإسلام اعترف بالآخر، بينما أنكر الآخرون غيرهم.
3) الديانات السابقة أصابها التحريف، والتبديل، فكيف يطالب الناس باتباعها.
4) الكتب السماوية السابقة – قبل التحريف – بشرت بمحمد – صلى الله عليه وسلم – وأوجبت اتباعه.
5) كانت الحاجة إلى الرسالة الخاتمة العالمية حاجة ضرورية ملحة.
التفصيل:
أولا. الاعتراف بالآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام:
هل هذا الأمر قائم بين هذه الأديان الثلاثة على قدم المساواة؟
وهل يجل كل منها نبي الآخر، ويحترم رسالته، وكتابه المقدس؟! أم أن في الأمر تفاوتا، وتمايزا بينها في هذا الشأن؟
يقول الشيخ محمد الغزالي: يرى اليهود أن موسى نبي الله وأن بني إسرائيل شعبه المختار، وأن عيسى ومحمدا كليهما رجلان دعيان ليست لهما رسالة، وأن أتباعهما قطعان من المضللين لا يقام لأديانهم وزن، ولا يمنحون أية حرمة. والنصارى – في نظرهم – مخدوعون في لقيط حملت به أمه سفاحا، والمسلمون – في نظرهم – مخدوعون في أعرابي جاء من الصحراء لا يعقل شيئا.
والمسيحيون، وإن اعترفوا بموسى وتوراته، إلا أنهم ناقمون على اليهود وافترائهم على عيسى وأمه، ولذلك سنوا في معاملتهم قوانين الإذلال والاستئصال، وكما نقموا على اليهود موقفهم من المسيح، فهم كذلك ناقمون على المسلمين؛ لأنهم يرون الإسلام ديانة ملفقة، جاء بها من عند نفسه رجل كاذب في دعواه النبوة، والدين الذي نسخ ما قبله، وأنكر ما بعده هو المسيحية، التي يجب أن تنفرد وحدها بالحياة والسيادة.
أما المسلمون ففي دينهم قاسم مشترك بين الديانات كلها، فهم يؤمنون بموسى ويوقرونه ويعتبرون التهجم على مكانته كفرا بالإسلام. وهم بذلك يؤمنون بعيسى، ويكرمون مولده وينزهون نسبته، ويرون الطعن في عفاف أمه أو شرف ابنها كفرا بالإسلام.
وهم يضمون إلى إيمانهم بموسى وتوراته، وعيسى وإنجيله، إيمانا جديدا بمحمد وقرآنه، على أساس أن النبوة الأخيرة جاءت تصديقا لما قبلها، ومحوا للفوارق والخلافات التي مزقت شمل العالم أجمع: )وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (64)( (النحل). فالإسلام هو يهودية موسى ونصرانية عيسى معا، وهداية من قبلهما من رسل الله الأكرمين جميعا: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة).
ومن هذا الشرح تجد أن الانكماش والتعصب والاتهام والتهجم ليس من طبيعة الإسلام وأهله، ولكنه طبيعة من يرون أن يؤمنوا بموسى فقط، ويتعبدوا لله بالطعن في عيسى – عليه السلام – ومحمد صلى الله عليه وسلم، أو يريدون الإيمان بعيسى فقط، ويعتبرون من جاء بعده دجالا يحاربه النصارى بالسيف إن كانوا أكثرية، ويحاربونه بالدس والمؤامرات إن كانوا قلة. ومن هذا الشرح ترى لماذا اتسع صدر الإسلام للأديان الأخرى – فهو يعطيها حق الحياة معه، في الوقت الذي ضن فيه المسيحيون بحق الحياة، لا على المسلمين فحسب، بل على المذاهب المسيحية الأخرى.
ومن هذا الشرح تعرف السر في جحود صنيعنا الذي أسديناه[1] طوال أربعة عشر قرنا. إن إخواننا المسلمين الذين أوقعهم سوء الحظ بين جماهير المسيحيين في روسيا ويوغوسلافيا وأسبانيا وجنوب إيطاليا… إلخ؛ قد هلكوا جميعا، أما الأقليات المسيحية في ربوعنا الفسيحة، فقد اعتنت وتكاثرت وعزت، ولكنها مع ذلك لا تستريح لما ترى، ولماذا؟ لأنها لا تقر عينا إلا إذا طمست معالم الإسلام، وارتد عامره بلقعا[2]، إن المسلمين في نظرهم خوارج على المسيحية، وهم قوم يتبعون أميا أساء إلى الكنيسة وكهنوتها. وعندما تطوي قلبك على شعور التنقص والازدراء[3] لامرئ ما فإنك لن تقر له بإحسان، ولن تعترف له بجميل”[4].
ويقول البروفيسور سليمان شاهد مفسر الذي هداه الله للإسلام: “ورد اسم عيسى – عليه السلام – في القرآن والإنجيل، ولكن هناك اختلاف جذري بين دلالة هذا الاسم في الإسلام، وبين دلالته في المسيحية، فالمسلمون يؤمنون أن عيسى – عليه السلام – نبي من أنبياء الله، ويجلونه قدر إجلالهم لإبراهيم – عليه السلام – وموسى – عليه السلام – ومحمد – صلى الله عليه وسلم – وغيرهم من الأنبياء، في حين أن الكنائس المسيحية تؤمن بأن عيسى ابن الرب، ويعبدونه على هذا الأساس.
ورغم أن المسلمين يحترمون جميع الأديان السماوية، إلا أنهم ينكرون إيمان النصارى بألوهية المسيح، وثمة خلاف جد كبير بين ما ذكره القرآن عن عيسى – عليه السلام – وهديه، وبين ما ذكره كتاب العهد الجديد. وأهم نقاط هذا الخلاف هو ما أقره القرآن من أن عيسى – عليه السلام – برئ كل البراءة من ادعاء الألوهية، وأنه لم يصلب، وأنه بشر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – خاتم الأنبياء.
كان عيسى – عليه السلام – نبيا مباركا بعثه الله لكي يثوب[5] ببني إسرائيل إلى عبادة الله الواحد، وكان عبد الله ورسوله، وجيها في الدنيا والآخرة، ولدته مريم العذراء – عليها السلام – في قوله سبحانه وتعالى: )وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43)( (آل عمران)، وكان مولده معجزة إلهية، ويذكر القرآن أن الله اصطفى مريم وطهرها، واصطفاها على نساء العالمين، وأن الملائكة بشروها بعيسى، وأجمل وصف لهذا الحديث هو ما قاله الله – عز وجل – في محكم آياته: )إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49) ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50) إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (51)( (آل عمران).
وعن ميلاد عيسى – عليه السلام – يقول القرآن:)واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21) فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا (23) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (24) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (25) فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26) فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا (28) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33) ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (34)( (مريم).
إن مريم – عليها السلام – اتخذت من دون أهلها حجابا، فظهر لها الروح القدس – أي جبريل – في صورة إنسان يبشرها بغلام، وحملت مريم بمعجزة إلهية، واعتكفت بحملها في مكان قصي[6]، وبعد أن وضعت الغلام أتت به قومها، فاتهموها بالفاحشة، فما كان منها إلا أن أشارت إلى الغلام فتساءلوا منكرين، كيف يكلمون من كان في المهد[7] صبيا؟ ولكن هذا الذي في المهد أجابهم قائلا: )وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33) ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (34)( (مريم).
يجدر بنا أن نذكر هنا أنه على الرغم من أن المسلمين يؤمنون أن عيسى – عليه السلام – قد أوتي الإنجيل؛ فإنهم لا يقرون أن الأناجيل الأربعة الحالية هي ما ورد على لسان عيسى – عليه السلام – بل وحتى الكنيسة نفسها تعترف بأن الأناجيل الأربعة كتبها أربعة من الحواريين، ولكنها لا تزال تؤمن بأنها وحي سماوي، وهذا اعتقاد ينكره المسلمون وربما كانت حجتهم أنه لا يتأتى أن تكون الأناجيل الأربعة وحيا إلهيا وبينها ما بينها من تناقضات خطيرة وحذف وإضافة، فيما يتعلق بسيرة عيسى – عليه السلام – هذا علاوة على أنها لم تدون في عهد المسيح عليه السلام، بل بعده بزمن يتراوح بين خمسة وثلاثين عاما وخمسة وستين عاما، وهي لا تمثل إلا جزءا من تلك الكتب المسماة لأناجيل التي كتبت آنذاك التي أنكرت الكنيسة بعضا منها.
وكان على عيسى – عليه السلام – أيضا أن يبشر الناس بنبي خاتم يأتي من بعده، وهذا مذكور صراحة في قوله سبحانه وتعالى: )وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6)( (الصف) [8].
إذن هذه هي طبيعة موقف الإسلام المقر لما سبقه من ديانات السماء، الموقر لأنبيائها، المتعهد بحفظ جانب أتباعها، وهذا جزاء سنمار[9] من قبل أهلها له ولأتباعه، فأين هو الاعتراف بل الاحترام المتبادل، والإقرار لكل بقيمته وفضله الذي نصت عليه الآية الكريمة محل زعمهم.
ثانيا. تحريف المسيحية:
بما أن المسيحية الموحدة التي جاء بها عيسى – عليه السلام – قد انطمست[10] معالمها، ودرست[11] آثارها، فهل المطلوب الآن من الناس أن يتبعوا منها – أو من غيرها من الأديان كاليهودية – ما هي عليه حالها الآن من طبيعة معروفة تناقض جوهر التوحيد والنبوات؟ وهل يليق هذا بأهل دين – أقصد المسلمين – انبنى جوهر عقيدتهم على التوحيد الخالص وتنزيه الخالق؟!
حول طبيعة المسيحية المعاصرة، ومدى أحقيتها بأن تكون دينا يتبع، يقول الشيخ أحمد ديدات: “إن أصول العقيدة المسيحية تتلخص فيما يسمونه بالأمانة الكبيرة، وهذا نصها: نؤمن بالله الواحد الآب، ضابط الكل مالك كل شيء، مانع ما يرى، وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع بن الله الواحد بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقن وصار إنسانا ومحبل به، وولد من مريم البتول[12]، وصلب أيام بيلاطس الملك، ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجئ تارة أخرى للقضاء بين الأحياء والأموات، ونؤمن بروح القدس المحيي المنبثق من أبيه الذي هو بموقع الأب والابن، يسجد له ويمجد الناطق بالأنبياء وبكنيسة واحدة مقدسة رسولية، وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وتترجى قيامة الموتى، والحياة والدهر العتيد[13] آمين.
لقد قرر هذه العقيدة 318 أسقفا اجتمعوا بمدينة نيقية في عهد قسطنطين عام 325م، وفي عام 381م، زادوا فيها ما يلي: والآب والابن وروح القدس هي ثلاثة أقانيم، وثلاثة وجوه، وثلاثة خواص، توحيد في تثليث في توحيد، كيان واحد بثلاثة أقانيم، إله واحد جوهر واحد طبيعة واحدة.
ويجب أخي القارئ الكريم معرفة أن هذه المجامع التي أنشئت بعد ثلاثمائة سنة من حياة المسيح، ما هي إلا مصنع لإنتاج الآلهة وتحريف الدين ليرضى أهل الغنى والضلال من الملوك الوثنيين، فرضوا الوثنية على الديانة المسيحية، ووصموها بهذه الوثنية الإلحادية الكافرة، ويجب معرفة أن المسيحية الحقة لم تستمر إلا ثلاثمائة سنة بعد رفع نبيهم على عقيدة التوحيد الخالص والحنيفية السمحة، ثم بعد هذه الفترة عقدوا المجمع الأول، وألـهوا المسيح عليه السلام، وفي المجمع الثاني ألـهوا مريم – عليها السلام – وفي المجمع الثاني عشر منحوا الكنيسة حق الغفران والحرمان، ولها أن تمنح ذلك لمن تشاء من رجال الكهنوت والقساوسة، وفي المجمع العشرين قرروا عصمة البابا… إلخ.
لقد جاء في الأمانة الكبرى التي هي الركن الركين والمتين في العقيدة النصرانية أن الآب يعني الله الصانع لما يرى وما لا يرى، وجاء فيها أن الابن يعني عيسى – عليه السلام – خالق كل شيء، فإذا كان الله – خالق كل شيء – فما الذي خلقه عيسى عليه السلام؟ وإذا كان عيسى – عليه السلام – خالق كل شيء فما الذي خلقه الله؟
إنه التناقض العجيب الذي تذهل منه العقول، وكيف يكون عيسى قديما، لا أولية لوجوده مع أنه عندهم هو ابن الله، والابن لا بد من أن يكون أبوه أقدم منه؟ وهل يوجد الابن مع الأب؟ كيف؟!! وإذا كان المسيح – عليه السلام – هو الله بعينه فكيف يكون ابنا، وفي نفس الوقت أبا؟!
وإذا كان المسيح – عليه السلام – غير الله، فلماذا يتحمل خطيئة لم يفعلها هو؟ ألا يعتبر هذا ظلما من الخالق؟ ثم ألم يكن من العدل أن يحيى الله آدم ثم يجعله يصلب ليتحمل هو عقوبة خطيئته؟ ثم أما كان الله قادرا على مغفرة ذنب آدم، دون الحاجة إلى تلك الخرافات المضحكة، ثم ما ذنب البشرية التي دخلت في سجن إبليس قبل صلب المسيح في شيء لم يفعلوه؟ ثم إذا كان الذي صلب هو الله عن طيب خاطر – كما تقولون – فلماذا كان يصيح ويستغيث؟ وهل يكون إلها من يصيح ويستغيث ولا يستطيع تخليص نفسه من أعدائه ومخالفيه؟
ثم لماذا يستحق الصليب هذا التعظيم والعبادة، ولا يستحق الإهانة؛ لأنه كان الأداة في صلب إلهكم كما تزعمون؟ فإن قلتم؛ لأنه لامس جسد المسيح، قلنا لكم صليب لمس جسد المسيح؟ وهل ملايين الصلبان الحديدية التي تصنعونها اليوم لمست جسد المسيح؟ وإذا كانت الأمانة التي هي أصل عقيدتكم، تنص على أن الإله مات ثلاثة أيام، فمن الذي أحياه بعد ذلك؟ وإذا كان المسيح بيده أرزاق العالم، فمن الذي تولى شئون العالم خلال مدة موته؟
إنه يوجد لدينا العديد من الأسئلة لا يجاب عنها إلا بالفرار منها، وإلغاء العقل نهائيا، ولنا سؤال أخير: هل اليهود صلبوا الرب برضاه أم بغير رضاه؟ فإذا كان برضاه فيجب أن تشكروهم؛ لأنهم فعلوا ما يرضي الرب، وإن كانوا صلبوه بغير رضاه فاعبدوهم؛ لأنهم غلبوا الرب وصاروا أقوى منه؛ لأن القوى أحق بالعبادة من الضعيف، كما قال الشاعر:
عجبا للمسيح بين النصارى
وإلى أي والد نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا
إنهم حين غفلة صلبوه
فإذا كان ما يقولون حقا
وصحيحا فأين كان أبوه؟
حين خلى ابنه رهن الأعادي
أتراهم أرضوه أم أغضبوه؟
فإذا كان راضيا بأذاهم
فاشكروهم؛ لأنهم عذبوه
وإذا كان ساخطا فاتركوه
واعبدوهم لأنهم غلبوه
فهل بعد الحق والهدى إلا الضلال، وهل يعقل لنا أن ننادي كما ينادون اليوم بوحدة الأديان، وأن كل الأديان على حق، وأن يتحير الإنسان فيمن منهم على صواب أو على باطل؟ وقد وضح الله – عز وجل – طريق المؤمن ومنهاج السالكين فقال: )وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( (الأنعام: 153)، وجاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: خط لنا رسول رالله – صلى الله عليه وسلم – خطا، ثم قال: “هذا سبيل الله”، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: “هذه سبل متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه”، ثم قرأ: )وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( [14].
فعليك أخي المسلم أن تعرف طرق الحق، وتترك السبل التي تفرق بك عن سبيل الله، إلى طريق الباطل والغي – وبعد أن عرفت أن دينك هو الدين الحق، وأن ما سواه هو الباطل” [15].
إذا كانت المسيحية الحقة رسالة عيسى – عليه السلام – اندثرت معالمها، فمن يتبع المسيحيون اليوم؟! ومن هو واضع مبادئ ديانتهم الحالية ومعالمها التي يدعون الناس عامة والمسلمين خاصة لاتباعها واعتناقها إن لم يكن المسيح عليه السلام؟
بولس مؤسس المسيحية:
تحت عنوان “بولس وعالمية النصرانية، بداية الانحراف” كتب د. فرج الله عبد الباري يقول: “في أثناء تتبعنا لرسالة عيسى – عليه السلام – لاحظنا كيف كانت دعوته منصبة على بني إسرائيل لم تتعداهم إلى غيرهم، وعلى نفس المنهاج سار التلاميذ على نحو ما أوضحنا، ولكن بعد رفع المسيح – عليه السلام – وجد من حمل رسالته إلى الرومان وغير الرومان، أي تجاوزوا بها بني إسرائيل مهدها الأول الذي نشأت فيه، ولكن من الحق أيضا أن دعاتها الأولين لم يخطر ببالهم أن يجعلوها رسالة عامة للبشر جميعا، وها هي حياتهم وسيرتهم تشهد على هذا.
فمن الذي حول تلك الرسالة وخرج بها عن طبيعتها من جهة، وأضاف إليها ما ليس منها من جهة أخرى؟ إنه بولس أو شاول كما يشار إليه أحيانا في الأناجيل وسفر أعمال الرسل، لقد اعتبر مؤسس المسيحية فلا يزال يسود على اعتقاد المؤمنين ويقود عباداتهم في كل أقطار العالم.. كان بولس يهوديا متشددا في يهوديته، ويقف بكل ما أوتي من قوة أمام رسالة المسيح وضد تعاليمه وتلاميذه، وقد أورد سفر أعمال الرسل الأعمال الشريرة التي كان يقوم بها، ولم يكتف بمهاجمتهم في أورشليم، بل لاحقهم في خارجها، وفي كل ذلك يظن أنه يؤدي خدمة الله والناموس، ولكن بعد كل هذه الأعمال سوف نجد له شأنا آخر مع النصرانية، التي حولها من ديانة محلية خاصة لبني إسرائيل كما أرادها الله، وكما أرسل رسوله عيسى – عليه السلام – من أجلهم، إلى ديانة عالمية تشمل الرومان واليونان وغيرهم، ثم كان له شأن آخر حين أدخل عليها ما ليس منها من أفكار وثنية ممثلة في الصلب وتأليه المسيح” [16].
وناقش دور بولس أيضا الشيخ أحمد ديدات، فكتب تحت عنوان “بولس مؤسس المسيحية” يقول: “طبقا لرأي هارت – صاحب كتاب العظماء مائة – فإن شرف تأسيس المسيحية يجب تقسيمه بين المسيح – عليه السلام – والقديس بولس، والأخير كما يعتقد هارت هو المؤسس الحقيقي للمسيحية، ولا أستطيع إخفاء موافقتي لهارت، فمن مجموع الأسفار السبعة والعشرين للعهد الجديد نجد أن القديس بولس قد كتب أكثر من نصفها، وخلافا لبولس فإن السيد المسيح، لم يكتب كلمة واحدة في السبعة والعشرين سفرا.
ولو أنك وجدت ما يسمى بـ “إنجيل الأحرف الحمراء” فستجد أن كل كلمة زعم أن المسيح تفوه بها مكتوبة بالحبر الأحمر، والباقي بالحبر الأسود العادي، ولا تندهش حينما تجد في هذا الذي يسمى الإنجيل (بشارة المسيح) أكثر من 90 % في السبع والعشرين سفرا للعهد الجديد مطبوعة بالحبر الأسود. هذا هو الاعتراف المسيحي النزيه على ما يسمونه الإنجيل، وفي أية مواجهة مع المبشرين المسيحيين ستجدهم يستشهدون من بولس. قال يسوع “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي”. (يوحنا 15: 14). وقال أيضا: “فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا، يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلم، فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات”. (متى 5: 19).
وإذا سألت أي مسيحي كثير المجادلة: هل تحفظ هذه الشريعة والوصايا؟ يجيب: لا.
فإن سألته بعدها: لماذا لا تفعل؟ سيجيبك بلا اختلاف إذا كان من مروجي الكتاب المقدس والناعقين[17] به: الشريعة سمرت على الصليب، وهو يعني بذلك أن الشريعة قد انتهت وألغيت، ويضيف: ونحن الآن نعيش تحت الرحمة والنعمة الإلهية.
وفي كل مرة تستحث المسيحي بما قاله سيده ومعلمه المسيح – عليه السلام – فإنه يواجهك بشيء من الرسالتين الأولى والثانية إلى أهل كورينثوس، والرسالة إلى أهل غلاطية، والرسالة إلى أهل أفسس، والرسالة إلى أهل فيلبي… إلخ. فإذا سألته: من مؤلفها؟ فسيجيبك: بولس، بولس، بولس. ومن هو سيدك؟ سيجيبك: المسيح عليه السلام، ولكنه دائما سيناقض سيده المسيح – عليه السلام – بالقديس بولس، لن تجد مسيحيا متعلما يناقش حقيقة أن المؤسس الحقيقي للمسيحية هو القديس بولس، ولذلك كان على مايكل هارت – ليكون منصفا – أن يصنف المسيح – عليه السلام – في المرتبة الثالثة من كتابه، من حيث التأثير في مجرى التاريخ البشري، وبهذا المقياس جاء سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – أولا [18].
فهل من العقل أن يطلب من المسلم – صاحب الوحي السماوي الصحيح الذي لم يحرف ولم يبدل ولم تمسه يد بشر – أن يتحول عنه إلى هذا الغثاء الذي لفقه هذا المدلس؟ أو أن يقال – على الأقل – إن الطرفين متساويان.
وقد عرض لسخافاتهم في التثليث والصلب وغيرهما الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – فقال في حجاج واضح مستفيض: “ولقد كان يجب لله – عز وجل – لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده، وينزل عن كرسي عظمته، ويباشرهم بنفسه – أن لا يدخل في فرج امرأة، ويقيم في بطنها بين البول والنجو[19] والدم عدة أشهر، وإذ قد فعل ذلك، لا يخرج صبيا صغيرا، يرضع ويبكي، وإذ قد فعل ذلك، لا يأكل مع الناس ويشرب معهم وينام، وإذ قد فعل ذلك، فلا يبول ولا يتغوط، ويمتنع من الخراءة، إذ هي منقصة ابتلي بها الإنسان في هذه الدار لنقصه وحاجته، وهو تعالى المختص بصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال، الذي ما وسعته سماواته ولا أرضه، وكرسيه وسع السموات والأرض، فكيف وسعه فرج امرأة، تعالى الله رب العالمين، وكلكم متفقون على أن المسيح كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينام.
فيا معشر المثلثة وعباد الصليب، أخبرونا من كان الممسك للسموات والأرض حين كان ربها وخالقها مربوطا على خشبة الصليب، وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال، وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلوا من إلهها وفاطرها وقد جري عليه هذا الأمر العظيم؟ أم تقولون استخلف على تدبيرها غيره، وهبط عن عرشه لربط نفسه على خشبة الصليب، وليذوق حر المسامير، وليوجب اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة: ملعون من تعلق بالصليب، أم تقولون كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟ أم تقولون – وهو حقيقة قولكم – لا ندري، ولكن هذا في الكتب، وقد قاله الآباء وهم القدوة والجواب عليهم؟ فنقول لكم وللآباء: معاشر المثلثة عباد الصليب، ما الذي دلكم على إلهية المسيح عليه السلام؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه وسوقه إلى خشبة الصليب، وعلى رأسه تاج من الشوك، وهم يبصقون في وجهه، ويصفعونه، ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع، وشدوا يديه ورجليه بالحبال ضربوا فيها المسامير، وهو يستغيث وتعلق ثم فاضت نفسه، وأودع ضريحه، فما أصحه من استدلال عند أمثالكم ممن هم أضل من الأنعام، وهم عار على جميع الأنام!!
وإن قلتم: إنما استدللنا على كونه إلها بأنه لم يولد من البشر، ولو كان مخلوقا لكان مولودا من البشر، فإن كان هذا الاستدلال صحيحا، فآدم – عليه السلام – إله المسيح – عليه السلام – وهو أحق بأن يكون إلها منه؛ لأنه لا أم له ولا أب، والمسيح – عليه السلام – له أم، وحواء أيضا اجعلوها إلها خامسا؛ لأنها لا أم لها، وهي أعجب من خلق المسيح. والله – عز وجل – قد نوع خلق آدم – عليه السلام – وبنيه إظهارا لقدرته، وأنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم – عليه السلام – لا من ذكر ولا من أنثى.
وإن قلتم: استدللنا على كونه إلها بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله، فاجعلوا موسى إلها آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه، وهو جعل الخشبة حيوانا عظيما ثعبانا، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا، فإن قلتم هذا غير إحياء الموتى فهذا اليسع النبي أتى بإحياء الموتى، وهم يقرون بذلك، وكذلك إيلياء النبي أيضا أحيا صبيا بإذن الله، وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه، وفي كتبكم من ذلك كثير من الأنبياء والحواريين: فهل صار أحد منهم إلها بذلك؟
وإن قلتم: جعلناه إلها للعجائب التي ظهرت على يده، فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيلياء النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها، فلم ينفذها في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سبع سنين. وإن جعلتموه إلها لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس، فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى! وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جدا حتى شبعوا وملأوا أوعيتهم، وسقاهم كلهم من ماء يسير لا يملأ اليد حتى ملأ كل سقاء في العسكر، وهذا منقول عنه بالتواتر.
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها؛ لأنه سمى نفسه ابن الله في غير موضع من الإنجيل كقوله: “لأني ماض إلى أبي”. (يوجنا 14: 12) ونحو ذلك وابن الإله إله، قيل: فاجعلوا أنفسكم كلكم آلهة في غير موضع، إنه سماه “أباه، أباهم” كقوله: “إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم”. (يوحنا 20: 17) وفيه: “ولا تدعوا لكم أبا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماوات”. (متى 23: 9)، وهذا كثير في الإنجيل، وهو يدل على أن الأب عندهم: الرب.
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها؛ لأنه صعد إلى السماء، فهذا أخنوخ وإلياس قد صعدا إلى السماء وهما حيان مكرمان لم تشكهما شوكة، ولا طمع فيهما طامع، والمسلمون مجمعون على أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – صعد إلى السماء وهو عبد محض. وهذه الملائكة تصعد إلى السماء، وهذه أرواح المؤمنين تصعد إلى السماء بعد مفارقتها الأبدان ولا تخرج بذلك عن العبودية، وهل كان الصعود إلى السماء مخرج عن العبودية بوجه من الوجوه؟
وجماع الأمر، أن النبوات المتقدمة، والكتب الإلهية لم تنطق بحرف واحد يقتضي أن يكون ابن البشر إلها تاما، إله حق من إله حق، وأنه غير مصنوع ولا مربوب، بل لم يخصه إلا بما خص به أخوه وأولى الناس به محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – في قوله: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)( (النساء)، وكتب الأنبياء المتقدمة وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك كله يصدق بعضه بعضا. وجميع ما تستدل به المثلثة عباد الصليب على إلهية المسيح من ألفاظ وكلمات في الكتب، فإنها مشتركة بين المسيح وغيره” [20].
فهل يحق لمثل هؤلاء أن يدعو غيرهم لاتباع ما هم عليه من تحريف وضلال؟! أم يجدر بهم هم أن يهتدوا ويؤمنوا بمن بشرت به كتبهم المقدسة، صراحة – قبل تحريفها – وإيماء – بعد التحريف والتحوير؟!
ثالثا. البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم:
البشارة بمجيئه – صلى الله عليه وسلم – ووجوب اتباعه – لا تبعيته هو وأمته لغيره كما يزعمون – أمر ثابت ووارد عن إخوانه من أنبياء الله السابقين في كتبهم مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل( (الأعراف: 157).
في شأن هذه البشارة يقول سليمان مفسر: “يحتوي الكتاب المقدس على نبوءة قوية بمحمد – صلى الله عليه وسلم – ورسالته، وهي نبوءة محددة وجلية[21]، حتى إن كثيرا من الخلص من اليهود والنصارى آمنوا بمحمد – صلى الله عليه وسلم – حين بعث، ولكن عبر قرون من الجدل اللاهوتي الذي سبق وواكب طبع وإعادة تدوين أجزاء من الكتاب المقدس، وتحويل الآراء بها إلى عقائد، عبر تلك القرون طمس وصف محمد صلى الله عليه وسلم، وحين يرفع ركام[22] عمره قرون من العقائد والتأويلات المتعصبة، سيجد الدارس الجاد معالم تتمثل في كثير من النصوص المشهورة التي لم تنل نصيبا من الفهم السليم” [23].
ويقول أيضا: “والواقع أنه لم يكن هناك سوى رجل واحد، رجل بعينه هو الذي اجتمعت فيه كل هذه الصفات، وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والتبشير به في التوراة والإنجيل واضح ولا يمكن إنكاره بالرغم من الأخطاء والمعتقدات الباطلة التي أدخلها طغمة[24] من الكتبة في النصوص المقدسة” [25].
رابعا. الحاجة الماسة إلى الرسالة الخاتمة:
مما سبق عرضه يبدو للعاقل أن الحاجة كانت ملحة – بعد ما أصاب الأديان السابقة من تحريف – لمجئ الرسالة الخاتمة (الإسلام)، وليس لاتباع المسلمين أو غيرهم لهذه الأديان السابقة كما يزعم الزاعمون.
حول هذه الضرورة الملحة لمجيء النبي الخاتم برسالته الجامعة يقول محمد فريد وجدي: “ما هو الدين الذي اتحد جميع الرسل على نشره، وتخليصه من شوائب ما وضعه الواضعون فيه وما شرحه الشارحون له، عند كل الأمم وفي جميع الأجيال؟ هو الإسلام.
هنا يجمل بنا أن نأتي على ترجمة ما كتبناه باللغة الفرنسية لمؤتمر الأديان الذي قيل إنه انعقد فيها سنة 1906م، في موضوع الإسلام، فإنه أبين لما نقصده من الكلام على الإسلام من كل ما كتبناه عنه، وإليك تلك المقالة:
لم أجعل غرضي من مقالي هذا إلا أمرا واحدا، إذا فهم حق الفهم كان أشد في جذب الناس إلى هذا الدين من كل البراهين المفحمة، والحجج الملزمة، ذلك الأمر هو أن الإسلام ليس بدين جديد لأمة معينة، وإنما هو الدين الذي أوحاه الله إلى جميع رسله، فحرفه أتباعهم، ثم أنزل إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – أخيرا لإحداث إصلاح ديني عام لسائر الملل شرقيها وغربيها، بعث الله به رسوله حين تعارف الأمم واتصالها ليكون دينها العام الذي عليه يتم اتحادها، ويصفو لديه تعارفها، ولذلك جعل قاعدته الإيمان بسائر رسل الله، من نعرف أسماءهم ومن لا نعرف أسماءهم، وبجميع كتب الله بأي لغة كانت، فهم هذا الأمر الخطير يفيد المسلم وغير المسلم، فيفيد المسلم؛ لأنه يريه أنه تابع لا لدين من ضمن الأديان المتحاقدة المتعادية، ولكن للدين الأصلي الجامع لسائر الأديان، فهو بهذا الاعتبار يجد في نفسه قيمة لم يحس بها من قبل؛ لأنه يرى نفسه رجلا عاما لا خاصا، متبعا دينا هو في نفسه دين الكل، وجامع أرواح الكل في أكمل شكل وأجمل حال.
فمن كان كذلك فلا يتحامل على الأديان؛ لأنه أمر بأن يؤمن بها كلها، وأن يكون منها بالمركز الوسط، وشعر أنه في مجتمع ميول الأمم وفي نقطة تلاقي مراميها، واتحاد أفئدتها في يوم من الأيام، فلا يهون على نفسه أن يميل عنه إلى نقطة متطرفة ولو سيق إليها بقوة قاهرة.
أما فائدة غير المسلم من هذا الأمر الجلل[26]، فهو لأنه يسهل عليه المخرج من ورطته والخلاص من شكوكه وشبهه، فإنه ما من عاقل من عقلاء الملل الأخرى، إلا وشعر بأن أيدي الخرافات قد امتدت إلى أصول عقائده، فيجد نفسه مضطرا للتأفف[27] منها، راجيا إصلاحها على أي حال كان، فلو علم أن الإسلام إنما جاء بالإصلاح العام لسائر الأديان البشرية؛ لأنه ليس دينا منفرا مثل سائرها، لكان التفاته إليه يشبه الأمر الاضطراري؛ لأنه كلما آلمه أمر مما يكرهه في دينه وظنه محرفا عن أصله، نزع إلى ذلك الدين الإصلاحي مضطرا لا مختارا، ولا يزال يدفع ويندفع حتى يقع في دائرته. لهذا جعلنا غرضنا من هذه الرسالة هذا الأمر الخطير في أظهر أشكاله، تاركين الدلالة على فضائل الإسلام لغيرنا خوفا من ألا يلتفت لهذه النقطة أحد منهم.
هذه النقطة التي حاولت تجليتها في هذه الرسالة، هي أظهر ما في القرآن من خصائص الإسلام، وهي السبب الأكبر في تهالك الأمم على هذا الدين في كل جيل؛ لأن الأمم وإن لم تدرك هذا السر علميا، إلا أنها تحس به وتلمسه في الإسلام، فترى فيه صورة عقائدها الصحيحة منقحة خالصة، مما يثير الشكوك والشبه فتميل إليها بأرواحها، وتنقلب أشد تعصبا لها من أهلها، ولا توجد هذه الخصيصة في أية ديانة من الديانات؛ لأن هذا المركز الوسط ليس لواحد منها، ولم يشرع واحد منها لأن يكون دينا عاما أصلا، فتراها كلها بما طرأ عليها من التحريف على أطراف متناقضة، لا محل للتوفيق بينها بوجه من الوجوه، مثال ذلك البوذي لا يهون عليه أن يكون نصرانيا – ولا حكم للنادر – لأنه لا محل للصلح بين البوذية والنصرانية بوجه ما.
فالنصراني يقول: إن عيسى كلمة الله، وهو الأقنوم الثاني بعد الآب، تجسد وعاش بين الناس وصلب ليفتدي العالم كله من خطيئة ارتكبها آدم في أول الخليقة، ويعتقد البوذي أن الإله فيشنو – وهو أحد أركان التثليث الهندي – قد تجسد مرارا لتخليص العالم من الشرور، وقد تجسد أخيرا في بوذا للمرة التاسعة، فكيف يمكن التوفيق بين صاحبي هاتين العقيدتين، وبأي مرجح يقبل أحدهما عقيدة الآخر، ويترك عقيدته التي جمد عليها طوال عمره؟
ثم لا يمكن أن يكون البوذي يهوديا؛ لأن التوراة موجهة الخطاب إلى بني إسرائيل، ورافعة إياهم على سائر الأمم، وليس في نصوصها ما يسمح بوضع بوذا الذي يجله مئات الملايين من الآسيويين منذ أكثر من ألفي سنة في موضع إجلال واحترام، فيعز على البوذي أن يركب في تسفيه رأي أسلافه كلهم هذا المركب، ثم لا يستطيع النصراني أن يكون بوذيا ولا يهوديا، لعدم وجود محل للصلح في واحد من هذين الدينين بالنسبة له.
ولكن جميعهم يستطيعون أن يسلموا بلا حرج؛ لأن قاعدة دين الإسلام هي الإيمان بسائر الأنبياء ومؤسس الأديان ممن نعلمهم وممن لا نعلمهم، قال تعالى عن الأنبياء: )وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)( (فاطر)، وقال سبحانه وتعالى: )ومنهم من لم نقصص عليك( (غافر: 78)، فيرى البوذي أن الإسلام لا ينكر عليه فضل بوذا باعتباره مؤسس ديانة كبيرة. وفي نصوصه ما يسمح بحسبانه من الرسل العظام، ويرى النصراني أن الإسلام يذكر عيسى – عليه السلام – بالتبجيل والاحترام، ويضعه في مصاف الرسل الكرام، وكذلك يرى اليهود فيما يختص بموسى – عليه السلام – فيسهل على الجميع الاجتماع حول هذا الدين بلا كبير حرج، لا سيما إن أدركوا أنه جمع العقائد كلها بعد تنقيحها. وجعلها كلها دينا واحدا؛ لأنها كذلك كانت في مبدئها: )وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم( (الشورى: 14).
لهذا السبب تهالكت الأمم على الإسلام لرؤيتها فيه صورة عقائدها منقحة مصححة، من هنا رأينا أن تجليتنا هذه النقطة الخطيرة علميا، ونظريا يفيد المسلمين والباحثين في الإسلام أكثر مما لو كتبنا في فضائله سفرا كبيرا.. إن هناك أمرا خطيرا يضع الدين الإسلامي في مستوى يعلو به عن سائر الأديان، ويلفت إليه النظر لفتا خاصا، ويجعله دينا عاما، تميل إليه النفوس لا بقوة البرهان، ومضاء الحجة، وسلامة أصوله من الخلل فقط، ولكن بقوة النواميس الاجتماعية القائدة للإنسانية إلى كمالها، وبتأثير الحركة الفكرية العامة التي تسوقها إلى باحات النور والمدنية.
هذا الأمر الخطير الذي يلفت الأنظار، وينبه الغافلين إلى هذا الدين، هو أن الإسلام كما نص عليه القرآن، ليس بدين جديد، ولكنه الدين الأول الذي أوحاه الله إلى المرسلين الأولين رحمة للعالمين، قال سبحانه وتعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب (14) فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)( (الشورى).
بناء على ما تقدم، فقاعدة الديانة الإسلامية هي قوله سبحانه وتعالى: )وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135) قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138) قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139)( (البقرة).
هذه هي القاعدة التي بني عليها دين الإسلام، وهي أن الإسلام ليس بدين جديد، ولكنه الدين الذي أرسل الله به كل رسول، ثم حرفه المحرفون من بعدهم، وأن الديانة الحقة هي أن يؤمن الإنسان بجميع رسل الله من أولهم إلى آخرهم، لا فرق بين من أرسل لأمته ومن أرسل لغيرها، وأن يؤمن بسائر كتب الله إجمالا، مما أوحاه الله إلى رسله بأي لغة كانت، وفي أي زمان أوحيت.
هذه الديانة العامة فضلا عن أنها لا تثير في أية أمة من الأمم حب الذات ولا الحقد، ستكون في يوم من الأيام الديانة العامة اضطرارا لا اختيارا؛ لأنه لماذا يكون الإنسان يهوديا، ولا يكون بوذيا؟ أو لماذا يكون مسيحيا ولا يكون برهميا؟ وبأي مرجح يعتقد الإنسان أن موسى كان رسولا من الله إلى بني إسرائيل، وقد جاء بكتاب مبين ونور عميم[28] إلى أمته، ولا يعتقد مثل هذه العقيدة في بوذا وزرادشت وبراهما ومحمد، وكل المرسلين الذين تقدموا هؤلاء، وجاءوا إلى أممهم، بكتب هادية إلى الخيرات. ونهجوا لهم سبلا موصولة إلى الكمالات؟
هل يعقل أن الله يرسل موسى إماما ورحمة إلى بضعة آلاف نفس من بني إسرائيل. ويترك مئات الملايين من الصينيين واليابانيين وسائر الآسيويين والإفريقيين والأستراليين وغيرهم بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير؟ يهيمون في الظلمات ويعمهون في الضلالات بلا مرشد ولا رسول كريم؟ هل يتصور أن الله وهو الخالق العادل المنزه عن المحاباة والمصانعة يوحي حقائق الدين إلى بضعة آلاف من الناس، ويترك ملايين الملايين في الظلام البهيم[29] والفساد العميم؟ لا، بل قال سبحانه وتعالى: )وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)( (فاطر)، وقال سبحانه وتعالى: )منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك( (غافر: 78).
من هنا يتضح أن الله أرسل لكل أمة رسولا وكتابا، وجمعهم على دينه قرونا وأحقابا. وها نحن في زمان أخذت فيه الأمم تتعارف لتتبادل الأفكار والعلوم والمرافق الحيوية، وأخذت نواميس الحياة تسوقها سوقا إلى وحدة العقائد، كما وحدتها في المدركات العلمية والعملية، وهنا شعور عام بضرورة وجود دين عام، وكيف يمكن للإنسانية دين عام.
وجميع الأديان التي أمامنا تكلف تلك الأمم بالانخلاع من شخصيتها التي اكتسبتها في عشرات القرون، والتقمص[30] بشخصية جديدة تكفر بسائر أنبيائها وتعدهم كذابين مزورين، وتحتقر جميع مقدسيها وأقدميها، لا جرم أن أمثال هذه الأديان المحرفة لا يستطيع أحدها أن يكون دينا عاما مطلقا، ما دام لم ينظر لمجموع الإنسانية كلها بنظر أحوالها المراعي الحكمة في تكليفها.
على أن في محاولة هذه الأديان خلع من يتمسك بها من كل ما كان يعتقده قليلا، ودفعه للكفر بجميع ما كان فيه يعد جورا وميلا عن الحق الظاهر؛ لأنه ما الذي يرجح للإنسان أن يعتقد بعيسى ويكفر ببوذا مع العلم بأن الاثنين أسسا دينا وجاءا بإصلاح كبير، واتبعهما خلق كثير، وكانا سواء في الصلاح والتقوى، وحب الإنسانية؟ وما الذي يرجح له أن يحترم الأناجيل والقديسين والنصارى، ويحتقر كل ما له علاقة بديانة بوذا مثلا؟
فالعدل كل العدل أن يعتقد الإنسان بكل رسول أرسله الله للأمم، مستدلا على رسالته بآثاره وأعماله وتاريخ حياته، فيؤمن بجميع رسل الله إجمالا، وبجميع كتبه جملة، تاركا التعصب الذميم والانتصار لأحد المرسلين دون الآخرين، جاعلا دينه قوله سبحانه وتعالى: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة).
هذا هو الدين الحق العادل العام الصالح لأن يجمع الشعوب والأمم كافة، ويؤاخي بينهم ويرضيهم جميعا، وينزع من قلوبهم العداوة والبغضاء، والسخائم[31] القديمة الموروثة بسبب كفر بعضهم بأنبياء بعض، واحتقار بعضهم لكتب بعض.
هنا تنجم مشكلة تعوز حلا مقبولا، وهي أن جميع الكتب الدينية التي بأيدي الأمم محرفة مبدلة. وقد تولاها رجال بالشروح، والتأويلات حتى خرجت به الأديان عن أصولها، وصارت كلها متناقضة تسمح للملحد بأن يقول: إذا كانت الأديان – كما تزعمون – وحيا من الله، فلماذا تجدها متناقضة متعاكسة، فإما أنكم حرفتموها عن أصولها، وإما أنكم كذبتم على الله بنسبتها إليه؛ لأنه لا يقال إن الله ينزل على قوم دينا يعلمهم فيه أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، منزه عن الجسم والجسمانيات، لا تحيط به الأفكار ولا الظنون، ثم يوحي إلى آخرين دينا يقرر لهم فيه أن له ثلاثة أقانيم، وأنه أرسل ولده ليفتدي العالم، ثم يوحي إلى أمة أخرى بأنه تجسد في جسد فلان وحل في جسم فلان… إلخ، مما لا يمكن التوفيق بينه بأي وجه من الوجوه.
هذه معضلة لا يحلها إلا أحد أمرين: إما الاعتقاد بأن هذه الأديان محرفة، أو بأنها ليست وحيا من الله، ولكنها من أفكار من وضعها من الأقدمين. أما القول بأنها من موضوعات الأقدمين فلا ينهض به دليل؛ لأن الرجال الفضلاء الكاملين الذين دلت حياتهم على فضل وتقوى وزهد وعبادة، الذين قالوا: نحن رسل الله جئنا بدين الله، يبعد أن يكونوا من الكاذبين؛ لأن التزوير لا يولد فضيلة، ولا ينتج كمالا ولا تقوى.. إذن لم يبق أمامنا إلا الغرض الثاني، وهو أن هذه الأديان حرفت عن أصولها وأن أصلها كلها واحد.
- إن وصلنا إلى هذا الحد قلنا: ها هو رسول كريم، أرسله الله رحمة للعالمين، دلنا بتاريخ حياته من أولها إلى آخرها في زهده وعبادته وتواضعه، وبعده عن زخارف الدنيا على أنه واحد من أولئك المرسلين، جاءنا يقول عن الله سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175)( (النساء).
- جاء هذا الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول عن ربه سبحانه وتعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب (14) فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)( (الشورى).
هذا الرسول الكريم أمرنا بالإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبكتب الله أجمعين، وجعل ذلك قاعدة ديننا وعمدة إيماننا، ثم أمرنا بالخير كله، ونهانا عن الشر كله، وعرفنا سبل الكمال، وأمات فينا نزعة الحقد والتعصب الممقوت[32]، وشرع لنا ناموس الأخلاق، ونهج لنا طريق الكمالات فأي ديانة غير هذه الديانة يمكن اتباعها والعمل بها في هذا العصر، الذي كثرت فيه الشكوك على الأديان، وأصبح فيه علم اللاهوت عدوا لتلك المقالات التي يوردها أصحاب الملل في الله، جهلا وتقليدا لأفكار السابقين” [33].
لا شك أنه الإسلام لا غيره – حقا لا تعصبا – هو الأولى والأجدر، والأحق بالاتباع من تلك الديانات السماوية المحرفة أو الوضعية الناقصة وأولى بالناس – إنصافا لأنفسهم وللحق – أن يتحولوا إليه لا عنه.
الخلاصة:
- طالب الإسلام أتباعه بالاعتراف بالأنبياء السابقين وكتبهم – في أصلها السماوي الصحيح – وأوضح أنه جاء متمما ومجملا لها ومهيمنا عليها، بينما تناكر الآخرون فيما بينهم، فالسابق منهم أنكر اللاحق، وكلهم أنكر رسالة الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
- الديانات السابقة أصابتها يد التحريف والتبديل والتضليل، خاصة في مسألة التوحيد التي هي جوهر الأديان السماوية، فكيف يطالب الناس باتباعها، واعتناق تعاليمها المحرفة المضللة، ففي المسيحية مثلا: هل يتبع الناس المسيحية الحقة التي نزلت على عيسى ودعا إليها، وقد اندثرت معالمها؟ أم يتبعون المسيحية السائدة الآن وهي التي أسسها بولس منحرفا بها عن الأصول الصحيحة؟!!
- بشرت الكتب السماوية السابقة بمحمد – صلى الله عليه وسلم – قبل تحريفها، وأوجبت اتباعه وتصديقه، والتحول إلى ديانته، والاعتقاد بعقيدته، لا البقاء على دياناتهم السابقة كما يزعم الزاعمون.
- كانت الحاجة لرسالة الإسلام العالمية الخاتمة ضرورية وماسة؛ لأجل إصلاح حال البشرية، وهدايتها إلى الطريق السوي بعد التحريف والتضليل، لأنها الديانة التي لم تمسها يد التحريف والتغيير، وهي ديانة الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وهي الوحيدة التي تصلح للبشرية جمعاء؛ لأنها تؤمن بجميع الرسل والرسالات قبلها.
- المفهوم من الآية الكريمة التي احتج بها الزاعمون، أن هذه الجماعات من اليهود والنصارى والصابئة على صواب؛ لأنها آمنت بالله وكتبه ورسله، وأولاهم بالتصديق به هو خاتمهم صاحب الرسالة العامة الخاتمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن كان منهم على هذه الشاكلة من الإيمان والاعتقاد، فهو على صواب وله الأجر من الله، لا من هم على الإيمان المغلوط الفاسد بالتعاليم المحرفة والعقائد الباطلة.
(*) الإسلام والغرب، روم لاندو، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 1962م. الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، أبو الأعلى المودودي، تعريب: خليل أحمد الحامدي، دار القلم، الكويت، ط4، 1400هـ/ 1980م.
[1]. أسديناه: أعطيناه.
[2]. البلقع: المكان الخالي من كل شيء.
[3]. الازدراء: التنقص والاحتقار.
[4]. التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، د. ت، ص65، 66.
[5]. يثوب: يرجع.
[6]. القصي: البعيد.
[7]. المهد: أي طفلا قبل وقت الكلام.
[8]. عيسى رسول الإسلام، سليمان شاهد مفسر، ترجمة: أبو إسلام أحمد عبد الله، بيت الحكمة، ط1، 1993م، ص12: 16.
[9]. جزاء سنمار: وهو مثل يضرب لمن يعمل عملا ثم يبخس حقه، أو يعاقب بدلا من الإحسان إليه.
[10]. أنطمست: زالت ومحيت.
[11]. درست: زالت ومحيت.
[12]. البتول: العذراء المنقطعة عن الزواج إلى الله.
[13]. العتيد: المهيأ والحاضر.
[14]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (4142)، وحسنه الألباني في المشكاة (166).
[15]. مكتبة ديدات، المجموعة الثانية، أحمد ديدات، ترجمة: محمد مختار، كتاب المختار، القاهرة، ص209: 212.
[16]. نقض دعوى عالمية النصرانية، فرج الله عبد الباري، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط1، 2004م، ص38، 39.
[17]. الناعقين: جمع ناعق، وهو الصائح بصوت عال.
[18]. مكتبة ديدات، المجموعة الثانية، أحمد ديدات، ترجمة: محمد مختار، كتاب المختار، القاهرة، ص15: 17.
[19]. النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط.
[20]. هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، ابن القيم، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، دار الريان للتراث، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص288 وما بعدها.
[21]. الجلية: الواضحة.
[22]. الركام: ما اجتمع من الأشياء بعضه فوق بعض.
[23]. عيسى رسول الإسلام، سليمان شاهد مفسر، ترجمة: أبو إسلام أحمد عبد الله، بيت الحكمة، ط1، 1993م، ص24.
[24]. الطغمة: الحمقى.
[25]. عيسى رسول الإسلام، سليمان شاهد مفسر، ترجمة: أبو إسلام أحمد عبد الله، بيت الحكمة، ط1، 1993م، ص41.
[26]. الجلل: العظيم.
[27]. التأفف: التضجر.
[28]. العميم: هو كل ما اجتمع وكثر.
[29]. البهيم: الأسود.
[30]. التقمص: التقليد والمحاكاة.
[31]. السخائم: جمع السخيمة، وهي الحقد والضغينة.
[32]. الممقوت: المكروه.
[33]. مقدمة المصحف المفسر، د. محمد فريد وجدي، دار الشعب، القاهرة، ص106 وما بعدها.