الزعم أن التشريع الإسلامي فرض الجهاد وأباح المنكرات لإكراه بعض الناس على اعتناقه، وإغراء بعضهم بالدخول فيه
وجوه إبطال الشبهة:
1) انتشار الإسلام ودخول الناس فيه أفواجا يرجع إلى اقتناعهم بوضوح عقيدته، وسهولة تشريعه، وصحة منهجه، وسمو تقاليده، وخلوه من التعقيد والغموض الموجود في النظم الأخرى، ولأنه الدين الرباني الذي يجمع بين الوسطية والشمول والإنسانية. وليس أدل على ذلك من الزيادة السريعة في أعداد المسلمين رغم حال المسلمين المتأخرة.
2) كيف يكره الإسلام الناس على اعتناقه وهو الذي أسس مبدأ “لا إكراه في الدين”، بل ذم التقليد الأعمى والإيمان الصادر عن غير اقتناع؟ وليس في نصوص الدين ولا تاريخ المسلمين ما يبرهن على هذا الزعم؛ بل إن المنصفين من غير المسلمين أكدوا على سماحة الإسلام، فمن أين يفتري هؤلاء المشككون هذا اللغط؟!
3) الإسلام دين السلام، وما شرعت الحرب إلا لاستقرار السلام وسيادة الأمن والأمان ورفع العدوان ونصرة المستضعفين في الأرض وتحريرهم من أيدي الطغاة، إذن لا يوجد تناف بين دعوة الإسلام إلى حرية الاعتقاد والجهاد في سبيل الله تعالى.
4) الإسلام لم يبح المنكرات، ولم يتساهل مع المخطئين، بل شرع الحدود والتعزيرات لتأديب المخطئين، ولكنه لا يدعو إلى اليأس والقنوط من رحمة الله؛ لذلك جعل باب التوبة مفتوحا ولم يغلقه في وجه المخطئين، مما يؤدي إلى إصلاح الإنسان واستقرار المجتمع.
التفصيل:
أولا. وضوح الإسلام وسهولة تشريعه هو السبب في دخول الناس في دين الله أفواجا:
إن السبب وراء انتشار الإسلام ودخول الناس فيه أفواجا – رغم ما يعانيه المسلمون من تأخر، ورغم الحملة الشديدة الموجهة ضد الإسلام لتشويهه – هو اقتناع الناس بالإسلام؛ لوضوح عقيدته، وسهولة تشريعه، وصحة منهجه، وسمو تعاليمه، وخلوه من التعقيد والغموض الموجود في العقائد والنظم الأخرى.
وتشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، ففي السهولة سر قوة الإسلام، ولقد ساعد وضوح الإسلام البالغ، وما أمر به من العدل والإحسان كل المساعدة على انتشاره في العالم، وهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام – كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية – فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام؛ كما أن هذه المزايا هي السبب في عدم تنصر أية أمة بعد أن رضيت بالإسلام دينا، سواء كانت غالبة أم مغلوبة.
يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب” وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي عصور الفتوحات من بعده: قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند – التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل – حتى زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها، ولم يكن الإسلام أقل انتشارا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط، حيث يزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا في الوقت الحاضر.
هذا، وقد مكث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمكة ثلاثة عشر عاما، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد كان نتاج هذه المرحلة أن دخل في الإسلام خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء، ولم يكن لدى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثروة عظيمة يغري بها هؤلاء الداخلين، ولم يكن إلا الدعوة وحدها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحمل المسلمون – لا سيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم – من صنوف العذاب وألوان البلاء ما تعجز الجبال الرواسي عن تحمله، فما صرفهم ذلك عن دينهم وما تزعزعت عقيدتهم، بل زادهم ذلك صلابة في الحق، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم، وما سمعنا أن أحدا منهم ارتد سخطا عن دينه، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه، وإنما كانوا كالذهب لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء1.
ولقد نظر الغرب إلى نفسه، فإذا عصابات المافيا منتشرة، واللصوص لا يردعهم وازع من عقل أو دين، والانحلال الخلقي حدث عنه ولا حرج؛ لهذا دب في صدورهم حقد شديد على الإسلام، فراحوا ينبحون في وجهه، ولكن هل يضر السماء نبح الكلاب؟
يقول جوستاف لوبون نقلا عن الفيلسوف بيل: إن من الضلال أن يعزى انتشار الإسلام السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يلقي عن كاهل الإنسان ما شق من التكاليف والأعمال الصالحة، وأنه يبيح له البقاء على سيئ الأخلاق، وقد دون هوتنجر قائمة طويلة بالأخلاق الكريمة والآداب الحميدة عند المسلمين، فأرى – مع القصد في مدح الإسلام – أن هذه القائمة تحتوي أقصى ما يمكن أن يؤمن به إنسان من التحلي بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن العيوب والآثام.
والذي يدفع هذا الافتراء الذي يلحقه هؤلاء بالإسلام أن الذين يدخلون الإسلام من غير المسلمين، والذين يعودون إلى الإسلام وتطبيق تعاليمه من المسلمين، يؤثرون – راضين سعداء بهدايتهم – ضوابط الإسلام الخلقية على الانحلال الذي كانوا يرتعون فيه.
وإذا كنا نتحدث عن الانتشار السريع للإسلام فلا يفوتنا أن نعلم أن هذه معجزة نبوية مذهلة، يخبرنا من خلالها النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – عن الانتشار السريع للإسلام، وأن هذا الدين سوف يغطي جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهذا ما سنعرفه من خلال الإحصائيات الحديثة حول أعداد المسلمين في جميع دول العالم.
الإسلام بين الماضي والحاضر:
لقد بدأ الإسلام قبل 1400 سنة برجل واحد هو سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وأصبح عدد المسلمين اليوم أكثر من ألف وأربعمائة مليون مسلم! فما هو سر هذا الانتشار المذهل؟! وماذا تقول الإحصائيات العالمية عن أعداد المسلمين اليوم في العالم؟
يوجد اليوم أكثر من 4200 ديانة في العالم، وتدل الإحصائيات على أن الدين الإسلامي هو الأسرع انتشارا بين جميع الأديان في العالم! ففي عام 1999 بلغ عدد المسلمين في العالم 1200 مليون مسلم.
إن الإسلام ينتشر اليوم في كل قارات العالم، فقد بلغ عدد المسلمين في عام 1997 في القارات الست:
- في آسيا 780 مليونا.
- في أفريقيا 308 ملايين.
- في أوربا 32 مليونا.
- في أمريكا 7 ملايين.
- في أستراليا 385 ألفا.
تطور نسبة المسلمين في العالم:
كان عدد المسلمين في العالم عام 1900 أقل من نصف عدد المسيحيين، ولكن في عام 2025 سوف يصبح عدد المسلمين أكبر من عدد المسيحيين بسبب النمو الكبير للديانة الإسلامية:
- ففي عام 1900 بلغت نسبة المسلمين في العالم 12. 4%، أما المسيحية فقد بلغت نسبتها 26. 9%.
- وفي عام 1980 بلغت نسبة المسلمين في العالم 16.5%، أما المسيحية فقد بلغت نسبتها 30%.
- وفي عام 2000 بلغت نسبة المسلمين في العالم 19. 2%، أما المسيحية فقد بلغت 29. 9%.
- أما في عام 2025 سوف تبلغ نسبة المسلمين في العالم 30%، أما المسيحية فستكون نسبتها 25%.
ومن هنا نستنتج أن الإسلام ينمو كل سنة بنسبة 2. 9% بالمائة، وهذه أعلى نسبة للنمو في العالم!
كيف تحدث النبي الكريم عن هذا الأمر؟
هناك معجزة نبوية مذهلة حدثنا بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ حيث بين أن الإسلام سينتشر في جميع أجزاء الأرض، يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:«ليبلغن هذا الأمر – أي الإسلام – ما بلغ الليل والنهار»2.
ومعنى ذلك أن كل منطقة من الأرض يصلها الليل والنهار سوف يبلغها الإسلام، وهذا ما حدث فعلا؛ لأن جميع الدول اليوم فيها مسلمون. وإذا تذكرنا أن هذا الحديث قد نطق به النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – في مرحلة ضعف المسلمين وقلة عددهم في ظروف لم يكن أحد يتوقع أن الإسلام سينتشر في بقاع الأرض كافة، ندرك عندها عظمة المعجزة. لقد جاء هذا الحديث الشريف ليواسي المؤمنين على ضعفهم وقلة عددهم، ولو أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم يكن رسولا من عند الله لما تجرأ أن يخبر أصحابه بأن الإسلام سينتشر في كافة أنحاء الأرض؛ إذ كيف يضمن ذلك؟ ولكن الله – عزوجل – الذي يعلم الغيب هو الذي أخبره بهذه الحقيقة ليحدث بها أصحابه قبل 1400 سنة، ولتكون بشرى نصر بالنسبة لهم، ولتكون دليلا على نبوته في هذا العصر!
ومن دلائل هذه المعجزة أن النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – قرن بين انتشار الإسلام وبين الليل والنهار، وهذه المقارنة دقيقة وصحيحة، فكما أن الليل والنهار يبلغ كل نقطة من نقاط الكرة الأرضية، كذلك فإن الإسلام قد بلغ كل نقطة على سطح الأرض، وهذا ما لا يمكن تخيله في ذلك الزمن.
مع ملاحظة أنه لم يكن أحد يعلم حدود الليل والنهار، ولم يكن أحد يعلم أن الأرض كروية، ولم يكن أحد يتوقع أن الإسلام سينتشر في جميع دول العالم، ولذلك يمكن القول بأن هذا الحديث يمثل معجزة علمية للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
كيف تحدث القرآن عن هذا الأمر؟
يقول الله عزوجل: )يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9)( (الصف)، تأمل معنى قوله عزوجل: )ليظهره على الدين كله( (التوبة: ٣٣)، ألا تدل على أن الإسلام سيكون الديانة الأولى في العالم؟
فالإحصائيات تخبرنا بأنه عام 2025 سيكون الإسلام هو الدين الأول من حيث العدد على مستوى العالم، وهذا الكلام ليس فيه مبالغة، بل هي أرقام حقيقية لا ريب فيها. هذه الأرقام جاءت من علماء غير مسلمين أجروا هذه الإحصائيات.
ومما يعضد هذا الكلام أن صحيفة ” لفرانس ويست إكلير” الفرنسية نشرت إحصائيات تشير إلى تزايد أعداد المسلمين الذين دخلوا الإسلام في عام 2007 إلى 114 ألف مسلم في فرنسا وهولندا وألمانيا والجزء الشمالي من بلجيكا والنمسا.
وأرجعوا ذلك إلى سعي المجتمع الأوربي لمعرفة الدين الإسلامي، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، حيث بدءوا بعدها يقرءون عن الإسلام، والذين قرءوا اكتشفوا أن حقيقة الإسلام غير ما ينشر عنه في وسائل الإعلام الغربية، ومما ساعد في ذلك قيام دور النشر في أوربا بحركة ترجمة للكتب العربية عن الإسلام في المكتبات التجارية بأوربا، كما أن المجتمع الأوربي قارئ وهو ما ساهم في زيادة المعرفة بالإسلام في أوربا.
أما عن السبب الآخر الذي تأتي في سياقه تلك التصريحات فهو ” تحول الإسلام إلى ما يشبه الكرة الثلجية التي يصعب الإمساك بها، فأشاروا – في هذا السياق – إلى أن انتشار البطالة في الأوساط الأوربية شجع الشباب على التردد على مواقع الإنترنت، ومن بينها المواقع التي تعرف بالإسلام، فرأوا أن الإسلام غير ما يقال عنه في وسائل الإعلام الغربية، وهذا ما يقلق الفاتيكان الذي يخشى من التقدم الإسلامي في أوربا.
وعن الهدف من تلك التصريحات، فمن الواضح أنها تهدف لمحاولة إيقاف تقدم الإسلام على مستوى النخبة والقاعدة الشعبية في أوربا، خاصة فرنسا وألمانيا صاحبتي القيادة السياسية والاقتصادية في المجموعة الأوربية.
كما اعتبر عضو مجلس الحوار مع الكنائس أن تباطؤ عملية التنصير مقابل انتشار الإسلام السريع أثار قلق الفاتيكان، وأوضح أنه بعد مؤتمر روما الذي نظمه الفاتيكان عام 1993 واختاروا فيه إفريقيا لتكون موطنا للديانة المسيحية، فوجئوا عام 1997 أنهم نصروا ما بين 8 إلى 10 ملايين إفريقي في مقابل 21 مليونا اعتنقوا الإسلام دون احتكاك مباشر بالمنظمات الإسلامية؛ لذلك نقل الفاتيكان ثقله إلى إفريقيا لأن الأفارقة يميلون للإسلام، ولهذا السبب نجد الفاتيكان يطلق دعاوى تشويهية ضد الإسلام في إفريقيا، وكذلك الإنسان العربي؛ لأن الإفريقي المثقف ثقافة أوربية لا يعرف الفرق بين العربي والمسلم، وهذه الأمور شكلت سدا منيعا أمام المنصرين والمبشرين رغم أنهم ينفقون المليارات.
خصائص المنهج الإسلامي ومميزاته:
يوضح د. يوسف القرضاوي أن أهم خصائص الإسلام التي تجذب الناس للدخول فيه أنه: دين رباني، شمولي، وسطي، يجمع بين الثبات والمرونة.
- الربانية:
والمراد بها: ربانية الغاية والوجهة، وربانية المصدر والمنهج.
- ربانية الغاية والوجهة:
ونعني بها أن الإسلام غايته الأخيرة وهدفه البعيد، هو حسن الصلة بالله عزوجل، والحصول على مرضاته، فهذه هي غاية الإسلام.
ولا جدال في أن للإسلام غايات وأهدافا أخرى إنسانية واجتماعية، ولكن عند التأمل نجد هذه الأهداف في الحقيقة خادمة للهدف الأكبر، وهو مرضاة الله عزوجل، وحسن مثوبته؛ فهذا هو هدف الأهداف، أو غاية الغايات.
ومن ثمرات هذه الربانية – ربانية الغاية والوجهة – في النفس والحياة:
معرفة الوجود الإنساني:
أن يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لمسيرته وجهة، ويعرف لحياته رسالة، وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى، ولعيشته طعما ومذاقا، وأنه ليس ذرة تافهة تائهة في الفضاء، ولا مخلوقا سائبا يخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء، كالذين جحدوا الله أو شكوا فيه، فلم يعرفوا: لماذا وجدوا؟ ولماذا يعيشون؟ ولماذا يموتون؟
كلا، إنه لا يعيش في عماية، ولا يمشي إلى غير غاية، بل يسير على هدى من ربه، وبينة من أمره، واستبانة لمصيره، بعد أن عرف الله، وأقر له بالوحدانية.
الاهتداء إلى الفطرة:
ومن ثمرات هذه الربانية وفوائدها، أن يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها، والتي تطلب الإيمان بالله عزوجل، ولا يعوضها شيء غيره، يقول سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله( (الروم: 30).
واهتداء الإنسان إلى فطرته ليس كسبا رخيصا، بل هو كسب كبير، وغنى عظيم، فيه يعيش المرء في سلام ووئام مع نفسه، مع فطرة الوجود الكبير من حوله، فالكون كله رباني الوجهة، يسبح بحمد الله: )وإن من شيء إلا يسبح بحمده( (الإسراء: 44).
والحقيقة أن في فطرة الإنسان فراغا لا يملؤه علم ولا ثقافة ولا فلسفة، إنما يملؤه الإيمان بالله عزوجل، وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر، والجوع والظمأ، حتى تجد الله، وتؤمن به، وتتوجه إليه.
سلامة النفس من التمزق والصراع:
ومن ثمرات هذه الربانية – ربانية الغاية والوجهة – سلامة النفس البشرية من التمزق والصراع الداخلي، والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات، وشتى الاتجاهات.
اختصر الإسلام غايات الإنسان في غاية واحدة هي: إرضاء الله عزوجل، وركز همومه في هم واحد هو العمل على ما يرضيه عزوجل.
ولا يريح النفس الإنسانية شيء كما يريحها وحدة غايتها، ووجهتها في الحياة، فتعرف من أين، وإلى أين تسير، ومع من تسير.
التحرر من العبودية للأنانية والشهوات:
ومن ثمرات هذه الربانية: أنها – حين تستقر في أعماق النفس – تحرر الإنسان من العبودية لأنانيته، وشهوات نفسه، ولذات حسه، ومن الخضوع والاستسلام لمطالبه المادية، ورغباته الشخصية.
وذلك أن الإنسان “الرباني” يوقفه إيمانه بالله وباليوم الآخر موقف الموازنة بين رغبات نفسه، ومتطلبات دينه، بين ما تدفعه إليه شهوته، وما يأمر به ربه، بين ما يمليه عليه الهوى، وما يمليه عليه الواجب، بين متعة اليوم، وحساب الغد، أو بين لذة عاجلة في دنياه، وحساب عسير ينتظره في أخراه.
وهذه الموازنة والمساءلة جديرة أن تخلع عنه نير العبودية للهوى والشهوات، وأن ترتفع به إلى أفق أعلى من الأنانية والبهيمية، أفق الإنسانية المتحررة التي تتصرف بوعيها وإرادتها، لا بوحي بطنها وفرجها وغريزتها الحيوانية.
- ربانية المصدر والمنهج:
ونعني بها أن المنهج الذي رسمه الإسلام للوصول إلى غايته وأهدافه، منهج رباني خالص؛ لأن مصدره وحي الله – عزوجل – إلى خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم.
لم يأت هذا المنهج نتيجة لإرادة فرد، أو إرادة أسرة، أو إرادة طبقة، أو إرادة حزب، أو إرادة شعب، وإنما جاء نتيجة إرادة الله، الذي أراد به الهدى والنور، والبيان والبشرى، والشفاء والرحمة لعباده، كما قال – عزوجل – يخاطبهم: )يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)( (النساء)، وقال عزوجل: )يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57)( (يونس).
موضع الرسول في هذا المنهج الإلهي:
أما الرسول – صلى الله عليه وسلم – فهو الداعي إلى هذا المنهج أو هذا الصراط، ليبين للناس ما اشتبه عليهم من أمره، يقول – عزوجل – مخاطبا رسوله: )وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)( (الشورى).
ميزة الإسلام بين المناهج القائمة في العالم:
والمناهج أو الأنظمة التي نراها في العالم إلى اليوم ثلاثة، فيما عدا الإسلام طبعا:
- منهج أو نظام مدني بشري محض، مصدره التفكير العقلي، أو الفلسفي لبشر فرد، أو مجموعة من الأفراد، كالشيوعية والرأسمالية، والوجودية، وغيرها.
- منهج أو نظام ديني بشري كذلك، مثل الديانة البوذية القائمة في الصين، واليابان، والهند، والتي لا يعرف لها أصل إلهي، أو كتاب سماوي، فمصدرها إذن فكر بشري.
- منهج أو نظام ديني محرف، فهو – وإن كان إلهيا في أصله – عملت فيه يد التحريف والتبديل، فأدخلت فيه ما ليس منه، وحذفت منه ما هو فيه، واختلط فيه كلام الله بكلام البشر، فلم يبق ثمة ثقة بربانية مصدره، وذلك كاليهودية والنصرانية، بعد ثبوت التحريف في التوراة والإنجيل نفسيهما، فضلا عما أضيف إليهما من شروح وتأويلات ومعلومات بشرية، بدلت المراد من كلام الله.
أما الإسلام فهو المنهج الفذ الذي سلم مصدره من تدخل البشر، وتحريف البشر، ذلك أن الله – عزوجل – تولى حفظ كتابه ودستوره الأساسي بنفسه، وهو القرآن المجيد، وأعلن ذلك لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ولأمته فقال: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر).
الإسلام منهج رباني خالص:
إن الإسلام منهج رباني خالص من حيث: عقائده وعباداته، وآدابه وأخلاقه، وشرائعه ونظمه، كلها ربانية إلهية، ونعني بذلك أسسها الكلية، ومبادئها العامة، لا في التفريعات والتفصيلات والكيفيات.
- عقيدة ربانية:
عقائد الإسلام عقائد ربانية، مستقاة من كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من القرآن الكريم الذي أرسى دعائمها، ووضح معالمها، ومن صحيح السنة المبينة للقرآن.
- عبادات ربانية:
والعبادات الإسلامية – أي الشعائر التي يتعبد بها لله – عزوجل – عبادات ربانية؛ فالوحي الإلهي هو الذي رسم صورها، وحدد أشكالها، وأركانها وشروطها، وعين زمانها فيما يشترط فيه الزمان، ومكانها فيما يشترط فيه المكان.
ولم يقبل من أحد من الناس – مهما كان مجتهدا في الدين، ومهما علا كعبه في العلم والتقوى – أن يبتكر صورا وهيئات من عنده للتقرب إلى الله عزوجل، فإن هذا افتئات على صاحب الحق الأوحد في ذلك، وهو الله – عزوجل – صاحب الخلق والأمر.
- أخلاق ربانية:
والأخلاق الإسلامية أخلاق ربانية، بمعنى أن الوحي الإلهي هو الذي وضع أصولها، وحدد أساسياتها، التي لا بد منها لبيان معالم الشخصية الإسلامية، حتى تبدو متكاملة متماسكة متميزة في مخبرها ومظهرها، عالمة بوجهتها وطريقها، إذا التبست على غيرها المسالك، واختلطت الدروب.
- تشريعات ربانية:
والتشريعات الإسلامية لضبط الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والدولية، تشريعات ربانية؛ أي في أسسها، ومبادئها، وأحكامها الأساسية، التي أراد الله أن ينظم بها سير القافلة البشرية، ويقيم العلاقات بين أفرادها وجماعاتها على أمتن القواعد، وأعدل المبادئ، بعيدا عن قصور البشر وتطرفاتهم وأهوائهم وتناقضاتهم.
وبهذا تقرر في الأصول الإسلامية أن المشرع الوحيد هو الله، فهو الذي يأمر وينهى، ويحلل ويحرم، ويكلف ويلزم، بمقتضى ربوبيته وألوهيته وملكه لخلقه جميعا، فهو رب الناس، ملك الناس، إله الناس، له الخلق والأمر، وله الملك والملك، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
ومن خصائص الإسلام:
- الشمولية:
من معاني الشمول في الإسلام أنه رسالة للإنسان في كل مجالات الحياة، وفي كل ميادين النشاط البشري، فلا يدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيه موقف، وقد يتمثل في الإقرار والتأييد، أو في التصحيح والتعديل، أو في الإتمام والتكميل، أو في التغيير والتبديل، وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين، وقد يسلك سبيل الموعظة الحسنة، وقد يتخذ أسلوب العقوبة الرادعة؛ كل في موضعه.
المهم هنا أنه لا يدع الإنسان وحده بدون هداية الله، في أي طريق يسلكه، وفي أي نشاط يقوم به؛ ماديا كان أو روحيا، فرديا أو اجتماعيا، فكريا أو علميا، دينيا أو سياسيا، اقتصاديا أو أخلاقيا.
إن الإسلام – كما قال المرحوم العقاد – هو العقيدة المثلى للإنسان منفردا أو مجتمعا، وعاملا لجسده وناظرا إلى دنياه أو ناظرا إلى آخرته، ومسالما أو محاربا، ومعطيا حق نفسه، أو معطيا حق حاكمه وحكومته، فلا يكون مسلما وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلما وهو يطلب الدنيا دون الآخرة، ولا يكون مسلما لأنه روح تنكر الجسد، أو لأنه جسد ينكر الروح، أو لأنه يصحب إسلامه في حالة، ويدعه في حالة أخرى… ولكن المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه في جميع حالاته، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.
والعقيدة الإسلامية عقيدة شاملة من أي جانب نظرت إليها، فهي توصف بالشمول، باعتبار أنها تفسر كل القضايا الكبرى في هذا الوجود، القضايا التي شغلت الفكر الإنساني، ولا تزال تشغله، وتلح عليه بالسؤال، وتتطلب الجواب الحاسم الذي يخرج الإنسان من الضياع والشك والحيرة، وينتشله من متاهات الفلسفات والنحل المتضاربة قديما وحديثا: قضية الألوهية، قضية الكون، قضية الإنسان، قضية النبوة، قضية المصير.
- الوسطية:
ويعبر عنها أيضا بـ “التوازن”، ونعني بها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه ويطغى على مقابله ويحيف عليه.
مثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة: الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، والوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، والواقعية والمثالية، والثبات والتغير، وما شابهها. ومعنى التوازن بينها: أن يفسح لكل طرف منها مجاله، ويعطي حقه بالقسط أو بالقسطاس المستقيم، بلا وكس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار، كما أشار إلى ذلك كتاب الله – عزوجل – بقوله: )والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9)( (الرحمن).
- الجمع بين الثبات والمرونة:
من أجل مظاهر الوسطية التي تميزت بها رسالة الإسلام، وبالتالي يتميز بها مجتمعه عن غيره: التوازن بين الثبات والتطور، أو الثبات والمرونة؛ فهو يجمع بينهما في تناسق مبدع، واضعا كلا منهما في موضعه الصحيح؛ الثبات فيما يجب أن يخلد ويبقى، والمرونة فيما ينبغي أن يتغير ويتطور.
فالإسلام – الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية – أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معا، وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان وكل مكان.
ونستطيع أن نحدد مجال الثبات ومجال المرونة في شريعة الإسلام ورسالته الشاملة الخالدة، فنقول: إنه الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب، الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات، الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية.
دلائل الثبات والمرونة في مصادر الإسلام وأحكامه:
إن للثبات والمرونة مظاهر شتى نجدها في مصادر الإسلام وشريعته وتاريخه.
- يتجلى هذا الثبات في “المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع” من كتاب الله – عزوجل – وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالقرآن هو الأصل والدستور، والسنة هي الشرح النظري والبيان العملي للقرآن، وكلاهما مصدر إلهي معصوم، لا يسع مسلما أن يعرض عنه، قال عزوجل: )قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول( (النور: 54)، قال عزوجل: )إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور).
- تتجلى المرونة في “المصادر الاجتهادية” التي اختلف فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها ما بين موسع ومضيق، ومقلل ومكثر، مثل: الإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد، وطرائق الاستنباط3.
ثانيا. لا إكراه في الدين:
من المبادئ الإسلامية أنه لا يكره أحد على الدخول في الإسلام إن أراد البقاء على ما يعتقد، وفي هذا يقول القرآن الكريم: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256)، أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله، لا يحتاج إلى أن يكره أحدا على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيد الدخول مكرها مجبورا.
ويروى عن ابن عباس قوله إنها نزلت: )لا إكراه في الدين( في رجل من الأنصار من بني سالم يقال له الحصيني وكان له ابنان نصرانيان وكان رجلا مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.
وقد كان لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مملوك نصراني يسمى أسبق، فكان يعرض عليه الإسلام فيأبى، فيقول: لا إكراه في الدين يا أسبق، لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين.
ثم يطيب القرآن خاطر النبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين معه حتى لا يحزنوا على من لم يعتنق الإسلام، فيقول: )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس).
والإسلام حينما يقرر مبدأ عدم الإكراه في الدين إنما يضع العقيدة في مكانها الصحيح في قلب الإنسان وعقله، وما يفيد الإكراه إلا انصياعا مذعورا مرتجفا باللسان دون أن يقابله اقتناع القلب.
إن المكره يستطيع أن يمزق الإنسان إربا، ولكنه لا يستطيع أن يفتح قلبه عنوة لعقيدة لم يرتضها أو مبدأ لا يؤمن به، ولا يفيد الإكراه – إن كان له فائدة – إلا كثرة سواد المنافقين الذين يسلمون بأفواههم، وقلوبهم مطبقة على ما فيها من الإنكار والجحود. وقد كان المسلمون على هذا المبدأ في معاملاتهم مع أهل الأديان الأخرى، فكانوا يسمحون لأهل البلد المفتوح أن يبقوا على دينهم إن أرادوا مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة، وفي مقابل هذا يكونون في حماية من كل اعتداء، وتحترم شعائرهم وعقائدهم ومعابدهم.
وعقود الأمان التي كانت تعطى لأهل البلاد المفتوحة دليل صدق على ذلك المبدأ؛ ففي معاهدة عمر بن الخطاب مع أهل بيت المقدس: “هذا مما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان؛ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم… ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم”.
وفي عهد عمرو بن العاص لأهل مصر: “هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينقص”.
أين هذا من أخلاق المنتصرين في كل بقاع الأرض على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، وهل يعقل الغازون في البلاد التي تقع تحت أيديهم مثل هذا؟ وهل يكتفون بأقل من تغيير وجه الحياة بكل صورها وأشكالها في البلاد المفتوحة؟
الشواهد التي تؤكد عدم الإكراه للدخول في الإسلام:
الشواهد التي تؤكد حرص المسلمين الأوائل على الالتزام بآية: )لا إكراه في الدين( كثيرة، منها:
- جاءت امرأة نصرانية عجوز إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في حاجة لها، فقال لها: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. فقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت إلي قريب! فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد، وتلا قوله تعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)4.
- الجدل الذي ثار بين فقهاء المسلمين حول مناقشة الزوج المسلم زوجته الكتابية في مسألة إسلامها، فقد رأى الإمام الشافعي أنه لا يحق للرجل أن يفاتح زوجته في هذا الأمر ولا يعرض عليها الإسلام؛ لأن فيه تعرضا لهم وقد ضمنوا بعقد الذمة ألا يتعرض لهم. أما الأحناف فيرون أن للزوج أن يعرض الإسلام على زوجته لمصلحة من غير إكراه.
إلى هذا المدى بلغت الرقة والحساسية عند بعض الفقهاء في إبعاد شبهة الإكراه في الدين؛ الأمر الذي دفع الشافعي إلى الإفتاء بفتواه خشية الوقوع في الإكراه المحظور في حق الآخرين.
شهادة كتاب الغرب على أن الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه:
إن الآيات العديدة التي تؤكد حرية الاعتقاد وتأمر المسلمين بعدم الإكراه، جعلت الكثير من كتاب الغرب يعترفون بأن المسلمين لم يكرهوا أحدا على اعتناق الإسلام.
- يقول جوستان لوبون في كتابه “حضارة العرب”: إن مسامحة محمد – صلى الله عليه وسلم – لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، ولم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وقد سار خلفاؤه على سنته.
وهذا الرأي سبقه إليه كثير من الكتاب الأوربيين، مثل روبرتسون إذ قال: إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم لم يستخدموا الحسام نشرا لدينهم، وتركوا من لم يرغب فيه حرا في التمسك بتعاليمه الدينية.
- ولقد كتب الأديب جورج برناردشو: لقد عمد رجال الدين في العصور الوسطى على تصوير الإسلام في أحلك الألوان، وذلك بسبب الجهل أو التعصب الذميم، والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد – صلى الله عليه وسلم – ودينه ويعدونه عدوا للمسيح عليه السلام. أما إذا تولى – محمد – صلى الله عليه وسلم – زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته، وأحل في العالم السلام، وما أشد حاجة العالم اليوم إليه!
- وكتب السير توماس أرنولد: لقد عامل المسلمون الكافرين العرب والمسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة.
ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح.
- ويقول الشاعر الأمريكي رونالد ركويل بعد أن أشهر إسلامه: لقد راعى الإسلام حقا تلك السماحة التي يعامل بها الإسلام مخالفيه، سماحة في السلم وسماحة في الحرب، والجانب الإنساني في الإسلام واضح في وصاياه5.
هذا مما شهد به الكتاب الأوربيون بسماحة الإسلام ورعايته لغير المسلمين، وعدم إكراههم على الدخول في الإسلام.
ثالثا. الإسلام دين السلام، وما شرعت الحرب إلا لإقرار الأمن و السلام:
وقد أقام الإسلام مفهوم الحرب – الجهاد – على أسس واضحة، فهو:
- من أجل رد العدوان والدفاع عن النفس والأهل والوطن والدين، قال سبحانه وتعالى: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة).
- من أجل تأمين الدين والاعتقاد للمؤمنين الذين يحاول الكافرون أن يفتنوهم عن دينهم.
- حماية الدعوة حتى تبلغ للناس جميعا، ويتحدد موقفهم منها تحديدا واضحا؛ ذلك أن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية شاملة تنطوي على أفضل مبادئ الحق والخير والعدل، وتوجه إلى الناس جميعا.
- تأديب ناكثي العهد من المعاصرين أو الفئة الباغية على جماعة المؤمنين التي تتمرد على أمر الله وتنأى عن حكم العدل والإصلاح.
- إغاثة المظلومين من المؤمنين أينما كانوا، والانتصار لهم من الظالمين.
- تحريم الحرب لغير ذلك من الأغراض، فكل ما سوى هذه الأغراض الإنسانية الإصلاحية الحقة من المقاصد المادية أو الشخصية أو النفعية فإن الإسلام لا يجيز الحرب من أجلها.
لقد عرف المسلمون “الجهاد” وفق مفهوم الإسلام: دفاعا عن حق مجتمع الإسلام في الحياة، ودعوة الإسلام في الامتداد؛ وذلك بالتضحية بالنفس والمال6.
فالإسلام دين رحمة وليس دين عنف وشدة، والإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه ولكن يدعوهم بالحجة البالغة والكلام السديد الحسن. قال تعالى: )وقولوا للناس حسنا( (البقرة: 83).
والإسلام ليس ضد حرية الاعتقاد، ولكنه كفل للإنسان حرية الاعتقاد، وجاء هذا في القرآن الكريم. قال تعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256).
وقد قال تعالى: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله( (البقرة: 193)، وفي الآية بيان للغاية من القتال في الشريعة الإسلامية، وهي أن لا يفتن الناس، فلا يميلوا عن الحق إلى الباطل، ولا يجنحوا للضلال والرجس، بفعل الفتن التي يثيرها الظالمون والأشرار الذين لا يبغون للبشرية خيرا ولا يريدون للإنسان أن يهتدي ويستقيم، فكان لا بد من صد هؤلاء المجرمين والظالمين الذين يثيرون الفتن بمختلف أساليبهم في الإغواء والتضليل أو الإغراء والخداع والبطش والقمع والترهيب، وكل ذلك فتنة لحجب الإنسان عن دين الحق والحيلولة بين البشرية وطريق الله القويم طريق الإسلام، فلا سبيل بعد ذلك ولا مناص من التصدي لأهل الشر المعوقين عن الحق لصدهم وردعهم بالقوة رحمة بالخليقة المظلومة التي حيل بينها وبين إدراك الحق. فلا تناقض إذن بين هذه الآية وبين قوله تعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256).
فالإسلام لم يكره أحدا على الدخول فيه، وأساس نشره الإقناع الهادئ والتعليم المجرد وترك الناس أحرارا بعد عرض الدعوة عليهم ليقبلوها أو يردوها.
السلام أصل متين من أصول الدين:
مع عناية الإسلام البالغة بقوة المسلمين أفرادا وأمة، وأمره ببذل ما في الوسع للإعداد للقتال، وإعداده الأمة كلها لتكون عند الحاجة جيشا يقاتل في سبيل الله، وترتيبها على الأخذ بأسباب القوة والصبر على الجهاد، فإنه لا يعتبر الحرب هي الأصل في الحياة، إنما يعتبرها ضرورة لدفع العدوان والظلم، ويعتبر السلام هو الأصل والهدف الذي يعمل لتحقيقه.
إن العالم في حاجة ماسة إلى قوة تدافع فيه عن الحق، وتكفل الحرية لجميع الناس، وتقف في وجه الدول الطاغية التي تستذل الشعوب وتمتص دماءها وتتحكم في مصايرها، والإسلام يريد لأمته أن تكون هي هذه القوة، تحافظ على أمن العالم وسلامته وسلامه، والانتصار للحق في كل مكان، بصرف النظر عن الدين والجنس والوطن، ومن ثم كان لا بد لها من القوة: قوة الإيمان بالحق، وقوة النفوس، وقوة الإعداد، فالسلام الذي يريده الإسلام إذن ليس سلام الضعف والاستكانة، ولا السلام على حساب مثله الرفيعة في الحياة.
والسلام في مبادئ الإسلام أعمق من أن يكون مجرد رغبة يدعو إلى تحقيقها في الحياة، إنما هو أصل في عقيدته، وعنصر من عناصر تربيته، وهدف يعمق الإحساس به في ضمير الفرد وفي واقع المجتمع وفي بناء الأمة.
إنه يتصور الحياة وحدة إنسانية غايتها التعارف بين الجميع، ولا يتصورها صراعا بين الطبقات، ولا حربا بين الشعوب، ولا عداوة بين الأجناس: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).
ويتصور الأديان كلها دينا واحدا، بعث الله به رسله للبشرية الواحدة، والمؤمنين الذين آمنوا بهذا الدين أمة واحدة، في كل زمان ومكان، ويصور النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه الوحدة بالبناء الواحد الذي لا يشغل منه إلا موضع لبنة: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» 7.
وبهذا قضى الإسلام على معظم الأسباب التي تؤدي إلى العداوة والحروب.
ثم يخطو الإسلام خطوة كبيرة في سبيل تحقيق هذا الهدف، وذلك بتقرير حقوق الإنسان، تلك الحقوق التي لم يصل إليها حتى اليوم نظام ولا شريعة ولا فلسفة، في عمقها وأصالتها ورفعتها، فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق كريم وكائن ممتاز، كرمه ربه بنفخة علوية من روحه، وزوده بالمواهب والطاقات التي تمكنه من تعمير الأرض والرقي بالحياة، وأسجد له ملائكته وجعله خليفته في أرضه، وسخر له في حياته كل ما يحتاج إليه لتحقيق رسالته: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء).
ويهدف الإسلام إلى تحقيق هذه الكرامة للإنسان في واقع الحياة – فقط لكونه إنسانا – بصرف النظر عن دينه وجنسه ولونه ووطنه، فأعطاه حق الحياة الحرة الكريمة؛ ففرض لكل جاهل أن يتعلم، ولكل محتاج أن يعان، ولكل مريض أن يداوى، ولكل خائف أن يؤمن، وصان عرضه وماله ومسكنه، وحرم دمه أن يسفك، وحريته أن يعتدى عليها، وضميره أن يتحكم فيه، ولم يترك هذه الحقوق عرضة للعبث والضياع، ولم يضعها في أسلوب الحكم والنصائح، إنما جعلها من صميم العقيدة لها حرمة الإيمان، كما جعلها فرضا على المجتمع والدولة.
وأكد حرمة الدم البشري، فحرم سفكه إلا بالحق، لا فرق بين إنسان وإنسان: )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق( (الأنعام: 151).
وعظم من حرمة النفس البشرية ومن وزر الاعتداء عليها، فاعتبر النفوس كلها واحدة، من اعتدى على إحداها فكأنما اعتدى عليها جميعا؛ لأنه اعتداء على حق الحياة، ومن قدم لإحداها خيرا فكأنما قدم الخير للإنسانية بأسرها: )من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا( (المائدة: 32).
وعلى أساس احترام النفس الإنسانية كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يربي أصحابه، فعن جابر قال: «مرت بنا جنازة، فقام لها النبي – صلى الله عليه وسلم – وقمنا، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! فقال: أوليست نفسا؟ إذا رأيتم جنازة فقوموا»8.
وبهذا الفقه كان المسلم يتحرج من سفك الدماء في أحرج المواقف، فحينما حاصر الثوار أمير المؤمنين عثمان بن عفان – رضي الله عنه – ومنعوا عنه الماء وأجمعوا على قتله، حاول الصحابة أن يقاتلوا الثوار فأبى عثمان رضي الله عنه، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: دخلت على عثمان يوم الدار، فقلت له: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإياي معهم؟ قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك، مأجورا غير مأزور.
ثم يرتفع الإسلام بالمسلمين إلى أفق إنساني رفيع، إلى مستوى العمل لخير الإنسانية كلها، فيفرض عليهم الجهاد لتطهير العالم من الظلم والفساد، ويبين لهم أن مهمة الرسل جميعا هي إقرار العدل بين الناس: )لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (25)( (الحديد).
ويحدد لهم واجبهم بعد نصر الله لهم والتمكين لهم في الأرض بالعمل للخير الإنساني، لا لتكون أمة أقوى من أمة، ولا ليكون دين أكثر أتباعا من دين: )الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر( (الحج: 41).
ويربي النبي – صلى الله عليه وسلم – الأمة على العمل الإنساني الخالص، حتى ولو لم يكن من ورائه مظنة منفعة فيقول: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل»9. كأنما يريد أن يكون آخر عهد المسلم بالدنيا عملا إنسانيا أداه خالصا لوجه الله.
ورغم أن الإسلام يعتبر نفسه الطور النهائي لدين الله الواحد، وأن رسالته خاتمة الرسالات، وأنه جاء بالمبادئ الخالدة للإنسانية كلها على طول الزمان – فإنه لم يأذن للمسلمين بإكراه الناس على عقيدته، ولا بالتمكين لنظامه ومبادئه بالقوة، ولا أباح الحرب بحجة نشر دعوته.
إن آيات القرآن في عهديه – المكي والمدني – صريحة واضحة محكمة، تحدد أسلوب الدعوة بالحكمة والحسنى، ومهمة الرسول في الدعوة والبلاغ، وتنهى عن القسر والإكراه: )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس)، )وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20)( (آل عمران)، )فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)( (الشورى)، )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256)(
(البقرة)، )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125).
أما الذين يظنون أن الإسلام يبيح الحرب للتوسع وإكراه الشعوب على مبادئه، فإنما يحكمون عليه من ثنايا نفوسهم المتعصبة، ولم يفهموه من واقع أهدافه وأوامره ومبادئه.
لقد جاءت مبادئه ثورة عالمية لتحرير الضمير والفكر، فربطت الاعتقاد بالفهم والاقتناع، والإيمان بالدليل والبرهان، والتقوى بالعلم والتفكير، فكيف يعمد بعد ذلك إلى إكراه الناس على دعوته بالحرب والقتال؟
وروح الإسلام ومبادئه ومنهجه في التربية تهدف كلها إلى إقرار السلام وتعميق حبه في ضمير المسلم وسيادته في المجتمع، وليس في الدنيا شريعة ولا نظام يفرض على أتباعه رياضة أنفسهم على السلام إلا الإسلام، ففي فريضة الحج يحرم على المسلم أن يقتل حيوانا أو يهيج طائرا أو يقطع نباتا أو يؤذي إنسانا بيد ولا لسان: )الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج( (البقرة: 197).
وكذلك الصوم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه»10. وهي تربية عملية على تذوق حياة السلام وتعود ممارستها في الحياة والتعامل على أساسها في المجتمع.
وقد أشاد القرآن بالسلام إشادة بالغة تغرس حبه في قلوب المؤمنين، فالله – عزوجل – اسمه السلام: )هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام( (الحشر: 23)، وليلة القدر التي نزل فيها القرآن ليلة كلها سلام: )تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) سلام هي حتى مطلع الفجر (5)( (القدر)، والإسلام دعوة إلى السلام: )يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام( (المائدة: 16)، والجنة دار السلام: )والله يدعو إلى دار السلام( (يونس: 25)، )دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام( (يونس: 10).
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يربي المسلمين على إيثار السلام واستنفاد الحيلة في دفع العدوان بالحسنى وعدم القتال: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية»11.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: “فانشد بالله”، قال: فإن أبوا علي؟ قال: “فانشد بالله”، قال: فإن أبوا علي؟ قال: “فانشد بالله”، قال: فإن أبوا علي؟ قال: فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار»12.
وعلى أساس هذه الأصول يعتبر الإسلام السلام هو الأصل، ويعتبر الحرب ضرورة لا يلجأ إليها إلا مقاومة للظلم ودفعا للعدوان وحين لا يكون بد منها، أما الحروب العدوانية أو الهجومية بالمفهوم الحديث فهي حروب لا يعرفها الإسلام: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة).
وكذلك يأمر القرآن بوقف الحرب بمجرد طلب العدو للصلح، حتى ولو كان في طلبه مظنة خيانة أو غدر، أو كان يبغي من وراء وقف القتال كسب الوقت للإعداد لحرب ثانية )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62)( (الأنفال).
ولم تكن حروب الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلا تطبيقا عمليا لهذه المبادئ، فلم يلجأ إلى القتال إلا مضطرا وفي حدود الدفاع عن حرية دعوته وعن كيان المسلمين13.
ويقول سيد قطب: “إن المهزومين روحيا وعقليا ممن يكتبون عن الجهاد في الإسلام ليدفعوا عن الإسلام هذا الاتهام، يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس، وتمنعهم من العبودية لله.. وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما.. ومن أجل هذا التخليط، وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة، يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: “الحرب الدفاعية”.. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة الإسلام ذاته ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله، وذكر الله – عز وجل – أنه أرسل من أجلها هذا الرسول – صلى الله عليه وسلم – بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات.
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض، ومن ثم لم يكن للإسلام أن ينطلق في الأرض إلا لإزالة الواقع المخالف لذلك الإعلان العام… بالبيان وبالحركة مجتمعين.. وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله.
ولم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته.. ولكن الإسلام ليس مجرد عقيدة، إن الإسلام – كما قلنا – إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد؛ فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان… ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارا – بالفعل – في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم، بعد رفع الضغط السياسي عنهم، وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم، ولكن هذه التجربة ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم، أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدا للعباد! وأن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله!
والذي يدرك طبيعة هذا الدين يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح “الحرب الدفاعية” – كما يريد المهزومون – أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر – أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام، إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير الإنسان في الأرض بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري، وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.
وإذا لم يكن بد أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة “دفاع” ونعتبره دفاعا عن الإنسان ذاته، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره… هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات، كما تتمثل في الأنظمة السياسية، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، والتي ما تزال أشكال منها سائدة في هذا الزمان!
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة “الدفاع” نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي ذاتها، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، وتقرير الألوهية لله وحده وربوبيته للعالمين. وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان.
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية، ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على الوطن الإسلامي – وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب – فهي محاولة تتم عن قلة إدراك لطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض. كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع وأمام العقبات المادية من أنظمة الدولة السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك!
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير الإنسان – نوع الإنسان – في الأرض – كل الأرض – ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان! إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات.. فهنا “لا إكراه في الدين”.. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولا بالقوة؛ للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من هذه الأغلال!
إن الجهاد ضرورة للدعوة، إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه، ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري! سواء كان الوطن الإسلامي – وبالتعبير الإسلامي الصحيح: دار الإسلام – آمنا أم مهددا من جيرانه، فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد تلك السلم الرخيصة، وهي مجرد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية، إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله، أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله.
رابعا. الإسلام لم يبح المنكرات ولم يتساهل مع المخطئين؛ بل شرع الحدود والتعزيرات لتأديبهم، ولكنه لا يدعو إلى اليأس والقنوط من رحمة الله؛ لذلك جعل باب التوبة مفتوحا أمام المخطئين:
إن الإسلام لا يتساهل في أمر المعاصي والذنوب، بل إنه على العكس من ذلك يتهم كثيرا بالقسوة فيما يتعلق بالعقوبات والحدود التي شرعت لمحاربة الكبائر والخطايا، والعقوبة عليها في الدنيا، وبالمبالغة في الترهيب والتخويف بشأنها من عذاب الله في الآخرة.
والمستعرض لآيات القرآن الكريم يجد الكثير من المواضع التي يحذر الله فيها من مغبة العصيان والمخالفة لأمر الله، والوقوع في نواهيه، وبيان أن ذلك سبب رئيس في الشقاء والتعاسة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
وإلى جانب هذا الموقف الحازم من الإسلام تجاه مرتكبي الكبائر من العصاة والمتمردين، نجده يتحلى بروح واقعية فريدة، تنطلق من الإقرار بالطبيعة الخاصة التي خلق عليها الإنسان، فهو مزيج من الطبائع المتعارضة؛ فيه الروح السامي الذي يقربه من الملائكة المكرمين، في حالة الطاعة والقرب من الله، وفيه الشهوة الجامحة والقوة الغضبية التي تهوي به إلى الوحلة الحيوانية، في أحط دركاتها إذا غلبت عليه وحولته من إنسان مكرم إلى مرتبة أقل من مرتبة الأنعام، قال عزوجل: )والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم( (12) (محمد)، وقال عزوجل: )ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (179)( (الأعراف)، فضلا عن وجود النفس الأمارة بالسوء والتي تميل بصاحبها نحو مسالك الغواية والضلال وتسير به في طريق الشيطان وحزبه، ومن ثم كان الإنسان بطبيعته مخلوقا يحمل بين جنبيه روحا ملائكيا، وطبعا حيوانيا، ونفسا شيطانيا، وعليه لم تكن المعصية أمرا منافيا لطبعه؛ إذ كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
ومن هنا جاءت النصوص الدينية في الإسلام لتتعامل مع الإنسان بصورة واقعية تنهاه وتحذره من المعصية، وتتوعده عليها، ثم تأخذ بيده إذا سقط فيها لتعطيه الأمل في المغفرة والفرصة في التوبة، والرجاء في القبول.
وهذا التوازن العجيب بين الموقف الجاري والتوجه الواقعي يعبر عنه خير تعبير قول الله عزوجل: )نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو العذاب الأليم (50)( (الحجر)، وقوله عزوجل: )ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (6)( (الرعد)، فالإنسان في المنطق الإسلامي يتردد بين منزلتي الخوف والرجاء، قال عزوجل: )أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)( (الإسراء).
إذن فليس هناك أي وجه لصحة الادعاء القائل: إن انتشار الإسلام السريع، يرجع إلى إباحته المنكرات، وتساهله مع المخطئين، بل إن السبب الحقيقي لانتشار الإسلام يرجع إلى سهولة تشريعه، وخلوه من الغموض والتعقيد الموجود في الديانات الأخرى.
كما أن الإسلام لا يتساهل في أمر المعاصي والذنوب، ولكن الصواب أن يقال: إنه قد وضع ضوابط وهي استيفاء شروط أو انتفاء موانع درئها بالشبهات، فيما يتعلق بالعقوبات والحدود التي شرعت لمحاربة الكبائر والخطايا والمعاقبة عليها في الدنيا، حتى لا تسير وفقا لأغراض الحكام والقضاة وأهوائهم؛ لذلك كان القرآن يعقب دائما بعد ذكر النص على العقوبة، قال عزوجل: )واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه( (البقرة: 235)، وقال عزوجل: )ولا تتخذوا آيات الله هزوا( (البقرة: 231).
كما أن الإسلام فتح باب التوبة في أي زمان وأي مكان، ما لم يحضر الأجل وتصعد الروح إلى بارئها، إلى أن تشرق الشمس من مغربها؛ كي لا يقنط الناس من رحمة الله عزوجل، وحتى يعودوا – إن انحرفوا – مسرعين إلى ربهم، ولا يستمروا في طغيانهم يعمهون؛ لأنه إذا سدت أبواب التوبة في وجوه العصاة والمذنبين، فسوف يزداد الفساد والطغيان؛ فالتوبة تقلل من الجريمة، وتحد من انتشارها واستمرارها بقدر الإمكان وإدراك ما يمكن إدراكه، وإصلاح ما فسد بقدر الطاقة والاستطاعة.
ولو نظرنا في الفقه الإسلامي لوجدناه يحتوي على جزء كبير منه يسمى بـ “الفقه الجنائي”، وهو عبارة عن مجموعة من العقوبات والتعزيرات التي تخص كل جريمة على حدة، مثل جريمة الزنا التي حدها الجلد مائة جلدة لغير المتزوج، والرجم حتى الموت للمتزوج، وجريمة القتل التي حدها القصاص في القتل العمد، والدية في القتل الخطأ، وجريمة السرقة التي حدها قطع اليد، وجريمة شرب الخمر أو المسكرات التي حدها الجلد، وغيرها من الحدود التي شرعت في الأساس من أجل الحفاظ على النفس والعرض والمجتمع والدين، ولكن العقوبة في الإسلام لم تشرع من أجل التعذيب والقسوة على المخطئ، وإنما كانت لمقاصد وأهداف أهمها:
- أن تكون العقوبة بحيث تمنع الناس عن الجريمة قبل وقوعها، فإذا ما وقعت الجريمة كانت العقوبة بحيث تؤدب الجاني على جنايته وتزجر غيره عن التشبه به وسلوك طريقه، وفي هذا يقول بعض الفقهاء عن العقوبات: إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده؛ أي أن العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل، وإيقاعها بعده يمنع العود إليه.
- إن حد العقوبة هو حاجة الجماعة ومصلحتها، فإذا اقتضت مصلحة الجماعة التشديد شددت العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة الجماعة التخفيف خففت، فلا يصح أن تزيد العقوبة أو تقل عن حاجة الجماعة.
- إذا اقتضت حماية الجماعة من شر المجرم استئصاله من الجماعة أو حبس شره عنها، وجب أن تكون العقوبة هي قتل المجرم أو حبسه عن الجماعة حتى يموت ما لم يتب أو ينصلح حاله.
- إن كل عقوبة تؤدي لصلاح الأفراد وحماية الجماعة هي عقوبة مشروعة فلا ينبغي الاقتصار على عقوبات معينة دون غيرها.
- إن تأديب المجرم ليس معناه الانتقام منه، وإنما استصلاحه، والعقوبات على اختلاف أنواعها تتفق – كما يقول الفقهاء – في أنها تأديب وإصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب، والعقوبات إنما شرعت رحمة من الله – عزوجل – بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض.
ويلاحظ في التأديب أنه يختلف باختلاف الأشخاص؛ فتأديب أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود»14؛ ولأن المقصود من التأديب الزجر عن الجريمة، وأحوال الناس مختلفة فيه؛ فمنهم من ينزجر بالصيحة، ومنهم من يحتاج إلى اللطمة والضرب؛ ومنهم من يحتاج إلى الحبس… إلخ.
كما يلاحظ أن الأصول التي تقوم عليها العقوبة في الشريعة ترجع إلى أصلين أساسيين أو مبدأين عامين، فبعضها يعنى بمحاربة الجريمة ويهمل شخصية المجرم، وبعضها يعنى بشخصية المجرم ولا يهمل محاربة الجريمة، والأصول التي تعنى بمحاربة الجريمة الغرض منها حماية الجماعة من الإجرام، أما الأصول التي تعنى بشخص المجرم فالغرض منها إصلاحه.
ولا جدال في أن بين المبدأين تضاربا؛ لأن حماية الجماعة من المجرم تقتضي إهمال شأن المجرم، كما أن العناية بشأن المجرم تؤدي إلى إهمال حماية الجماعة.
وقامت نظرية العقوبة في الشريعة على هذين المبدأين المتضاربين، ولكن الشريعة جمعت بين المبدأين بطريقة تزيل تناقضهما الظاهر، وتسمح بحماية المجتمع من الإجرام في كل الأحوال، وبالعناية بشخص المجرم في أكثر الأحوال، ذلك أن الشريعة أخذت بمبدأ حماية الجماعة على إطلاقه واستوجبت توفره في كل العقوبات المقررة للجرائم، فكل عقوبة يجب أن تكون بالقدر الذي يكفي لتأديب المجرم على جريمته تأديبا يمنعه من العودة إليها ويكفي لزجره عن التفكير في مثلها، فإذا لم يكف التأديب شر المجرم عن الجماعة أو كانت حماية الجماعة تقتضي استئصال المجرم وجب استئصال المجرم أو حبسه حتى الموت.
أما مبدأ العناية بشخص المجرم فقد أهملته الشريعة بصفة عامة في الجرائم التي تمس كيان المجتمع؛ لأن حماية الجماعة اقتضت بطبيعتها هذا الإهمال، والجرائم التي من هذا النوع قليلة ومحدودة بطبيعة الحال، ما عدا ذلك من الجرائم ينظر في عقوبته إلى شخصية المجرم، وتستوجب الشريعة أن تكون شخصية الجاني وظروفه وأخلاقه وسيرته محل تقدير القاضي عند الحكم بالعقوبة.
تقسيم الجرائم:
لقد نشأ عن الجمع بين المبدأين على هذه الصورة أن أصبح لكل مبدأ حيز ينطبق فيه ومدى ينتهي إليه، ولتقيم الشريعة معالم واضحة للحيز الذي ينطبق فيه كل مبدأ قسمت الجرائم قسمين:
- الجرائم الماسة بكيان المجتمع: ويدخل تحت هذا القسم كل الجرائم التي تمس كيان المجتمع مسا شديدا، وهي نوعان لكل منهما حكم مختلف:
- جرائم الحدود التامة: وهي سبع جرائم: الزنا، والقذف، والشرب، والسرقة، والحرابة، والردة، والبغي.
وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم السبع عقوبات مقدرة ليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها أو يستبدل بها غيرها، فمن ارتكب جريمة منها أصابته العقوبة المقررة لها دون نظر إلى رأي المجني عليه أو إلى شخصية الجاني، وليس لولي الأمر أن يعفو عن الجريمة أو العقوبة بحال من الأحوال.
وقد اتجهت الشريعة في جرائم الحدود إلى حماية الجماعة من الجريمة، وأهملت شأن المجرم إهمالا تاما، فشددت العقوبة وجعلتها عقوبة مقدرة، ولم تجعل للقاضي أو لولي الأمر سلطانا على العقوبة، وعلة التشديد أن هذه الجرائم من الخطورة بمكان وأن التساهل فيها يؤدي حتما إلى انحلال الأخلاق وفساد المجتمع واضطراب نظامه وازدياد الجرائم، وهي نتائج ما ابتلي بها جماعة إلا تفرق شملها واختل نظامها وذهب ريحها، فالتشدد في هذه الجرائم قصد به الإبقاء على الأخلاق وحفظ الأمن والنظام، أو قصد به – بتعبير آخر – مصلحة الجماعة، فلا عجب أن تهمل مصلحة الفرد في سبيل مصلحة الجماعة، بل العجب ألا تضحى مصلحة الفرد في هذا السبيل.
- جرائم القصاص والدية: وهي جرائم القتل العمد وشبه العمد والخطأ، والجرح المتعمد والخطأ.
وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم عقوبتين هما: القصاص أو الدية في حالة العمد، والدية في حالة الخطأ، وحرمت على القاضي أن ينقص من هاتين العقوبتين أو يزيد فيهما أو يستبدل بهما غيرهما، كما حرمت على ولي الأمر أن يعفو عن الجريمة أو العقوبة، وعلى هذا فمن ارتكب جريمة من هذه الجرائم أصابته العقوبة المقررة لها دون النظر إلى ظروف الجاني وشخصيته.
- الجرائم الأخرى: ويشمل هذا القسم كل الجرائم التي لا تدخل تحت القسم الأول، أو يشمل الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة بعقوبات غير مقدرة، فيدخل تحت هذا القسم كل الجرائم المعاقب عليها بعقوبة تعزيرية، وهي ثلاثة أنواع:
- جرائم التعازير الأصلية، أي كل جريمة ليست من جرائم الحدود ولا من جرائم القصاص والدية.
- جرائم الحدود التي لا يعاقب عليها بعقوبة مقدرة، وهي جرائم الحدود غير التامة وجرائم الحدود التي يدرأ فيها الحد.
- جرائم القصاص والدية التي يعاقب عليها بعقوبة غير مقدرة، وهي الجرائم التي لا قصاص ولا دية فيها.
والجرائم التي تدخل تحت هذا القسم ليست بخطورة جرائم القسم الأول، ولهذا كان لها حكم مختلف، ففي القسم الأول تقيد الشريعة القاضي بعقوبة معينة مقدرة، فليس له اختيار غيرها وليس له أن يزيد فيها أو ينقص منها، أما في القسم الثاني فتترك الشريعة الحرية للقاضي في اختيار العقوبة الملائمة بين مجموعة من العقوبات، كما تترك له تقدير كمية العقوبة اللازمة وتقدير ظروف الجريمة وظروف المجرم، فإن رأى أن ظروف الجريمة وظروف المجرم لا تقتضي التخفيف عاقبه بالعقوبة الملائمة لشخصه وظروفه وسيرته وأخلاقه، وإن رأى أن ظروف الجريمة تقتضي التشديد وظروف الجاني تقتضي التخفيف توسط بين الأمرين فلم يغلظ العقوبة ولم يخففها، وفي هذا القسم تطبق الشريعة الأصول التي تقوم عليها نظرية العقوبة منفردة ومجتمعة، فإذا لم تكن ظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي في تقدير العقوبة واختيار نوعها شخصية الجاني، وإذا كانت ظروف الجريمة تقتضي التشديد وظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي بقدر الإمكان في اختيار العقوبة وتقدير كميتها أن تحمي الجماعة من الإجرام وأن تلائم شخصية المجرم.
ورأي المجني عليه ليس له اعتبار لذاته في هذا القسم، وعفوه لا يسقط العقوبة، ولكن العفو ينظر إليه باعتباره ظرفا قضائيا مخففا للجاني، فإذا تصالح المجني عليه مع الجاني أو عفا عنه كان للقاضي أن يعتبر الصلح أو العفو ظرفا مخففا في صالح الجاني، والعلة في عدم إسقاط العقوبة التعزيرية بالعفو أن كل عقوبة فيها حقان: حق للمجني عليه وحق للجماعة، فإذا أسقط المجني عليه حقه فقد بقي حق الجماعة، بعكس الحال في عقوبتي القصاص والدية فهما من حق المجني عليه أو وليه دون غيرهما، فإذا عفا أحدهما سقطت العقوبة وحل محلها التعزير على اعتبار أن التعزير حق الجماعة، ولهذا لا يظهر أثر العفو في عقوبات التعازير كما يظهر في القصاص والدية؛ لأن عقوبة التعزير فيها حق المجني عليه وحق الجماعة، فإذا أسقط حق المجني عليه بقي حق الجماعة، أما القصاص والدية فهما من حق المجني عليه وحده، فإذا عفا أسقطهما العفو.
إن الشريعة تشددت في جرائم القسم الأول واتجهت في اختيار العقوبة وتقديرها إلى حماية المجتمع من الإجرام، وأهملت شخصية الجاني إهمالا تاما إلا إذا عفا المجني عليه في جرائم القصاص والدية دون غيرهما، وقلنا: إن الشريعة أرادت بذلك حماية المجتمع؛ لأن جرائم القسم الأول بنوعيها تمس كيان المجتمع مساسا شديدا، وقد بقي أن نعرف كيف تمس هذه الجرائم كيان المجتمع؟!
فالجماعات – مهما اختلفت على المبادئ أو اختلفت عليها العصور – تشترك في أنظمة معينة تعيش عليها الجماعة ويقوم كيانها عليها، ولو بحثنا كل الأنظمة التي تقوم عليها الجماعات في كل أقطار الأرض لوجدنا كل الجماعات تشترك في أربعة أنظمة هي الدعائم التي يقوم عليها فعلا كل مجتمع على وجه الأرض، وهذه الأنظمة الأربعة هي:
- نظام الأسرة.
- نظام الملكية الفردية.
- النظام الاجتماعي للجماعة.
- نظام الحكم في الجماعة.
فوجود الرجل والمرأة وقدرتها على التناسل وحاجة هذا النسل إلى من يعوله حتى يبلغ أشده، كل هذا اقتضى بطبيعته أن يستأثر كل رجل بامرأة معينة، وأن ينسب إلى نفسه من تلد له من الأبناء، وهكذا اقتضى وجود الرجل والمرأة وجود نظام الأسرة، وصار هذا النظام أساسا تقوم عليه كل جماعة؛ لأن الجماعة ليست إلا مجموعة من الأفراد، ولا يزال نظام الأسرة حتى في الدول الشيوعية عماد المجتمع وسيظل كذلك إلى ما شاء الله.
وحاجة الإنسان الطبيعية الدائمة إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وأدوات السعي – لهذه ولغيرها من المنافع – دعته إلى تملك هذه الأشياء والاستئثار بها دون غيره من الناس لنفسه ولأسرته بعد أن اقتضى الحال وجود نظام الأسرة، وهكذا وجد نظام الملكية الفردية كما وجد نظام الأسرة، أوجدتهما طبيعة الإنسان وطبيعة الأشياء، وسيظل كلاهما قائما ما لم تتغير طبائع البشر وطبائع الأشياء، ولن تتغير حتى تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.
وقد اقتضى نظام الأسرة ونظام الملكية الفردية الاعتراف بشخصية الفرد وحريته وحقه في حماية نفسه وأسرته وملكه، ولكن ضعف الفرد وكثرة حاجاته وقلة وسائله وحاجته إلى التعاون مع غيره كل ذلك دعا إلى تكوين الجماعة.
وتكوين الجماعة يقتضي بطبيعته أن يكون للجماعة نظام اجتماعي تقوم الجماعة على مبادئه، ويبين حقوق الأفراد وواجباتهم.
والنظام الاجتماعي للجماعة يختلف باختلاف الجماعات، فالنظام الاجتماعي للجماعات الإسلامية يقوم على مبادئ الإسلام، والجماعات غير الإسلامية يقوم نظامها الاجتماعي على أساس الاشتراكية أو الشيوعية أو الرأسمالية أو غير ذلك من الأنظمة الاجتماعية.
كذلك اقتضى تكوين الجماعة أن يقوم فيها نظام للحكم يصرف شئونها ويسهر على مصالحها ونظامها الاجتماعي؛ ويوفر الأمن لها في الداخل والخارج.
ونظام الحكم يختلف باختلاف البلاد، ففي بعض البلاد يكون الحكم جمهوريا وفي بعضها ملكيا إلى غير ذلك، وهكذا وجد نظام الحكم وكان وجوده نتيجة ضرورية لوجود الجماعة نفسها.
هذه هي الأنظمة الأربعة التي يقوم عليها كيان المجتمع، كل مساس بها يمس المجتمع في أصل وجوده ويهدم أهم مقوماته، ولذلك حرصت الشريعة الإسلامية على أن تحمي هذه النظم من كل اعتداء؛ لأن في حمايتها بقاء الجماعة وصلاحيتها للبقاء؛ ولأن كل تهاون في حمايتها يؤدي إلى انحلال الجماعة وسقوطها.
وقد تقصت الشريعة الاعتداءات الخطيرة التي يمكن أن تمس هذه الأنظمة فوجدتها تنحصر في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية؛ وهي الزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة والحرابة والردة والبغي والقتل والجرح في حالتي العمد والخطأ15.
وعليه فإن العقوبات إنما شرعت للحفاظ على طهارة المجتمع وطهارة هذا الدين ومن يدينون به، وهي رادعة لكل من تسول له نفسه ارتكاب الشرور، فلا تساهل مع المخطئين ولا تعدي عليهم، ولا إباحة للمنكرات.
كما أن فرصة التوبة لا تغلق أبدا حتى يموت العبد، أو تقوم الساعة، وذلك باب عظيم لإغلاق الشر عن المجتمع الإسلامي كله؛ فالنفس التي تعصي ولا تجد لها إلى التوبة سبيلا تظل تعصي وتعصي، وتمرق في معصيتها، فلا يصاب المجتمع منها إلا بكل شر وخبث وأذى، وأما النفس التي يفتح أمامها باب التوبة ينصلح حالها، وتكون عضوا نافعا في هذا المجتمع ويؤمن الشر من جانبها؛ وعليه فإن فتح باب التوبة من الضمانات التي تؤمن المجتمع شر أولئك الذين يعصون الله وينساقون مع المعصية ويستمرئونها، فرجوعهم هو الضمان الوحيد لأمان المجتمع وسلامته.
الخلاصة:
- السبب وراء انتشار الإسلام ما جاء به هذا الدين الحنيف من تعاليم، ومثل عليا، وقيم بناءة، وما يتمتع به منهجه من عوامل الجذب، فهو الدين الرباني الذي يجمع بين الوسطية والشمول والإنسانية، ومما يبرهن على ذلك أن الإسلام منذ وجد في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وحتى اليوم في تزايد مستمر، والعالم كله اليوم في تخوف وترقب من زيادة قوة هذا المارد الهائل الذي لايريدون له أن يقوم من مرقده، بل يريدون أن يزول أثره وأن ينتهي أمره.
- أرسى الإسلام مبدأ “لا إكراه في الدين” وحمل أتباعه على ذلك، وطبقه النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته والمسلمون من بعدهم، ولا دليل على خلافه – عند من يزعم اعتناق بعض البشر للإسلام بالإكراه – لا في نصوص الدين ولا تاريخ المسلمين؛ بل إن المنصفين من غير المسلمين أكدوا على سماحة الإسلام، فمن أين يفتري هؤلاء المشككون هذا اللغط؟!
- الإسلام دين السلام، وما شرعت الحرب فيه إلا لإقرار الأمن و السلام، ورفع العدوان ونصرة المستضعفين في الأرض وتحريرهم من أيدي الطغاة، إذن لا يوجد تناف بين دعوة الإسلام إلى حرية الاعتقاد والجهاد في سبيل الله عزوجل.
- الإسلام شرع العقوبات والحدود والتعزير، وبالغ في ذلك، فلم يدع معصية واحدة لم يحرمها، ولم يدع سبيلا للشر إلا ونهى عنه، فأنى لمثل هذا الدين أن يتساهل في المنكرات ويسمح بها؟ بل إن الإسلام فتح باب التوبة ليغلق باب شر عظيم عن المجتمع، فلا ييأس أحد من التوبة، وينقلب بيأسه معول هدم في بناء المجتمع، بل يظل كل عاص يأمل في رحمة الله ومغفرته، مما يؤدي إلى إصلاح المجتمع واستقراره.
(*) ظلام من الغرب، محمد الغزالي، دار القلم، دمشق، ط1، 1420هـ/ 1999م. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 1981م. حرية الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط4، 2004م.
[1]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427/ 2006م، ص410.
- صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث تميم الداري رضي الله عنه (16998)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب السير، باب إظهار دين النبي صلى الله عليه وسلم على الأديان (18400) بنحوه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3).
- مدخل لمعرفة الإسلام,د. يوسف القرضاوي,مكتبة وهبة,القاهرة,ط3, 1422هـ/ 2001م، ص133: 177 بتصرف.
- الجامع لأحكام القرآن, القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج3، ص280.
- الجامع لأحكام القرآن, القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج3، ص280.
- سماحة الإسلام، د. عمر عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، ط1، 2003م، ص154.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (3342)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (6101).
8 . أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي (1249).
- صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (13004)، وعبد بن حميد في مسنده، مسند أنس بن مالك (1216)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (9).
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم (1805)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب فضل الصيام (2762).
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التمني، باب كراهية تمني لقاء العدو (6810)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كراهية تمني لقاء العدو بالصبر عند اللقاء (4640) بنحوه.
- صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8456)، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب تحريم الدم، باب ما يفعل من تعرض لماله (3545)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1414).
- الجهاد في الإسلام، محمد شديد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م ، ص119: 128.
- صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25513)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب البنيان، باب الرفق (465) بنحوه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (638).
- التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص610: 618.