الزعم أن السنة رويت بالمعنى مما أدى إلى تحريفها
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد حث النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه أن يرووا أحاديثه بألفاظها كما سمعوها منه – صلى الله عليه وسلم – ورغب في ذلك أيما ترغيب، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – إذا سمع هو راويا يبدل لفظا مكان لفظ استوقفه, وأمره أن يرويه كما قاله – صلى الله عليه وسلم -.
2) لقد حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على رواية الحديث بلفظه أشد الحرص، وذلك بحفظه – كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم – في صدورهم أو بكتابته في صحفهم.
3) إذا كان العلماء قد جوزوا للراوي العالم بالألفاظ ومدلولاتها روايته الأحاديث بالمعنى، فإنهم لم يجوزوا لغير العالم بالألفاظ ذلك، وعلى الجملة فقد وضعوا قيودا وضوابط لرواية الحديث بالمعنى تضمن حفظه من التحريف والتغيير، وقد كانت هذه الشروط خاصة برواة أجيال ما بعد الصحابة، لا جيل الصحابة الكرام أنفسهم.
التفصيل:
أولا. رواية الأحاديث باللفظ هي الأصل، وحث النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك:
لقد حث النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه على رواية أحاديثه باللفظ كما سمعوها منه صلى الله عليه وسلم، ورغب في هذا كثيرا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع»[1].
فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «فبلغه كما سمع» إنها دعوة إلى نقل الحديث عنه بألفاظه ومعانيه، لا بمعانيه فقط، وهذا دليل على استحباب الرواية على اللفظ، وكراهة روايته على المعنى، وإن كان ذلك لا يتعدى إلى رفض الرواية بالمعنى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»[2].
وواضح ما في الحديث من وعيد لمن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإبدال لفظ مكان لفظ – مع التعمد – يندرج تحت الكذب على رسول الله، وهذا الحديث بلغ مبلغ التواتر الذي لا مثيل له، وقد اشتهر بذلك عند المحدثين، فمن يا ترى – من أصحاب رسول الله، وهم الذين رووا لنا كل أحاديثه القولية، وكل سنته الفعلية، ومن منهم – يجرؤ على الكذب على رسول الله مع علمه بهذا الحديث؟!
ومن أقوى الأدلة التي تؤكد حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على الرواية عنه باللفظ ما رواه البخاري من حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به. قال البراء: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت»[3].
ففي هذا الحديث دعوة من النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى رواية الحديث بلفظه، والتمسك بذلك، وعدم مخالفة اللفظ، و قد أدى حثه – صلى الله عليه وسلم – الصحابة على ذلك إلى تأثرهم الشديد بما قاله، فعمل الصحابة على المحافظة على نصه.
وعليه فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – وإن لم ينه عن الرواية بالمعنى ربما لكي لا يشق على أمته إلا أنه رغب في رواية الحديث بلفظه، وحث أصحابه الكرام على ذلك كثيرا ونهى من سمعه عن أن يغير لفظا ولو بمرادفه، وقد اتبع أصحابه هذا المبدأ فحفظوا لنا السنة، كما قالها صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. صيانة الصحابة للحديث وحرصهم على روايته بلفظه:
لقد حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على نقل الحديث بألفاظه، وإن ترخص بعضهم في روايته بالمعنى، فإن ذلك عند الضرورة فقط، وعلى هذا المنوال سار التابعون من بعدهم، ونهجوا نهجهم.
فمما لا شك فيه أن جميع الصحابة حرصوا على أداء الحديث، كما سمعوه من الرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى إن بعضهم ما كان يرضى أن يبدل حرفا بحرف، أو كلمة مكان كلمة، أو يقدم كلمة على أخرى، وقد روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه كان يقول: “من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم”[4]. وروي نحو ذلك عن عبد الله بن عمر وزيد بن أرقم.
وقد اشتهر من بين الصحابة الذين كانوا يتشددون في الحرص على لفظ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عبد الله بن عمر؛ فقد روى حديث بني الإسلام على خمس، فأعاده رجل فقال له ابن عمر: “لا، اجعل صيام رمضان آخرهن، كما سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم “[5]. وقد كان عبد الله بن عمر جالسا ذات يوم وعبيد بن عمر يقص على أهل مكة، فقال عبيد: «مثل المنافق كمثل الشاة بين الغنمين، إن أقبلت إلى هذه الغنم نطحتها، وإن أقبلت إلى هذه نطحتها، فقال: عبد الله بن عمر: ليس هكذا، فغضب عبيد بن عمير، وفي المجلس عبد الله بن صفوان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف قال رحمك الله؟ فقال: قال: مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين، إن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، وإن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، فقال له: رحمك الله، هما واحد، قال: كذا سمعت»[6].
ولهذا نرى في بعض الأحاديث، قول الراوي – كذا وكذا – لا أدري بأيهما بدأ، أو أيهما قال قبل، ونحو ذلك، وهذا تنبيه من الراوي إلى أنه أدرك الحديث وفهمه، ولكنه لم يتأكد من ترتيب اسمين فيه أو كلمتين فيبين موضع شكه وأن الشك ليس في أصل الحديث.
ومن تشدد الرواة في المحافظة على نص الحديث بألفاظه، أنهم كانوا يمنعون زيادة حرف واحد، أو حذفه وإن كان لا يغير المعنى؛ ومن هذا ما رواه سفيان قال: حدثنا الزهري أنه سمع أنس بن مالك يقول: “نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الدباء[7] والمزفت[8] أن ينتبذ فيه[9]، فقيل لسفيان: أن ينبذ فيه؟ فقال: لا، هكذا قاله لنا الزهري “ينتبذ فيه”[10].
وبلغ من شدة حرصهم على اللفظ الذي سمعوه أنهم كانوا لا يخففون حرفا ثقيلا، ولا يثقلون حرفا خفيفا، ولا يبدلون حركات الحروف التي يسمعونها، بل يروونها كما سمعوها، وإن كان ذلك التغيير لا يبدل معناها، نحو “نما – نمى” في حديثه صلى الله عليه وسلم: «ليس الكاذب من أصلح بين الناس، فقال خيرا أو نمى خيرا». قال حماد: “سمعت هذا الحديث من رجلين، فقال أحدهم: نما خيرا “خفيفة”. وقال الآخر نمى خيرا “مثقلة”[11].
إلى هذا الحد بلغ حرص الصحابة والتابعين على الحفاظ على حديثه – صلى الله عليه وسلم – بلفظه دون أي تغيير أو تبديل، فهل من المعقول أن يروي قوم هذا حالهم السنة بطريقة تؤدي إلى تحريفها؟!
لقد اهتم الصحابة الكرام بسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – اهتماما عظيما في حياته وبعد مماته، وهذا الاهتمام الواضح يبين أن ما ادعاه المغرضون من إهمال الصحابة للسنة إن هو إلا كذب مفترى، فقد تنوعت أساليب حفظ الصحابة لها بحفظها في الصدر أو تقييدها في الكتاب.
أما عن حفظ الصدر؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: “جزأت الليل ثلاثة أجزاء، ثلثا أصلي وثلثا أنام وثلثا أذكر فيه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “[12].
وكان الصحابة يحثون بعضهم بعضا على مذاكرة الحديث، فمن ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه «تذاكروا الحديث، فإنكم إلا تفعلوا يندرس»[13]. فدل هذا كله على حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على حفظ الحديث بلفظه، وضبطه في صدورهم كما قاله المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وأنهم رضوان الله عليهم قد بذلوا ما في وسعهم لتحقيق هذا الغرض، معتبرين ذلك تعبدا لله – عز وجل – وطاعة لأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – ولذلك وصل إلينا الحديث النبوي دون تحريف أو تبديل.
ولا ننسى أن مما ساعدهم على حفظ الحديث بلفظه في صدورهم – الذاكرة الحافظة التي وهبها الله – عز وجل – لحملة الشريعة الإسلامية، ورواة الحديث الشريف من الصحابة والتابعين؛ فيروي لنا التاريخ، ما كان يحفظه أبو هريرة وغيره، وإن المرء ليعجب عندما يطلع على أخبار صحيحة تذكر أولئك الحفاظ الذين حملوا إلينا السنة، فنجد عبد الله بن عباس الذي اشتهر بسرعة حفظه، كان يحفظ الحديث من مرة واحدة، ويروى أنه سمع قصيدة لابن أبي ربيعة عدتها ثمانون بيتا فحفظها من المرة الأولى، وكذلك زيد بن ثابت الذي حفظ معظم القرآن قبل بلوغه، وتعلم لغة اليهود في سبعة عشر يوما، وفيهم عائشة – أم المؤمنين – التي كانت آية من آيات الذكاء والحفظ, وغيرهم كثير.
وفي التابعين نافع مولى عبد الله بن عمر الذي لم يخطئ فيما حفظ، وأجمع النقاد على دقة حفظه، وفيهم ابن شهاب الزهري حافظ زمانه، وعامر الشعبي ديوان عصره، وقتادة بن دعامة السدوسي مضرب المثل في سرعة الحفظ والضبط والإتقان[14].
أضف إلى هذا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يختار في تعليمه من الأساليب أحسنها، وأفضلها، وأوقعها في نفس المخاطب وأقربها إلى فهمه وعقله، وأشدها تثبيتا للعلم في ذهن المخاطب، وأكثرها مساعدة على إيضاحه له[15], فكان – صلى الله عليه وسلم – إذا حدث بحديث فإنه يفصل كلامه ويردده، ولم يكن يتحدث كما يتحدث الناس على عجل، وهذا أدعى إلى حفظ الحديث بلفظه.
هذا عن حفظ الصدر، أما عن حفظ السنة بالكتابة فقد اهتم الصحابة – رضي الله عنهم – بكتابتها كما قالها المصطفى – صلى الله عليه وسلم – لا سيما بعد أن نسخت أحاديث المنع، وما كان اهتمامهم بالكتابة إلا لحفظ الحديث لفظا، ووصوله إلى المسلمين بلفظه، فنجد من المحدثين من لم يحدث طلابه إلا إذا كتبوا عنه، إذ خشي ألا يحفظوا عنه؛ فيقع منهم الوهم والخطأ، وهذا ما يرويه الخطيب البغدادي، بسنده عن ابن عيينة، قال: “قال محمد بن عمرو: لا والله لا أحدثكم حتى تكتبوا، إني أخاف أن تكذبوا علي، وفي رواية “أخاف أن تغلطوا علي”[16].
ومما يدل على أن كتابة الحديث مندوب إليها إذا خيف عليه التحريف أو النسيان ما روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: “لم يكن أحد من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه يكتب وأنا لا أكتب”[17]. وفي هذا تأكيد على أنهم كانوا يدركون جيدا أن كتابة الحديث أدعى لحفظه من غيرها.
وعن ابن عمرو قال: “كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أريد حفظه فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق»[18]، فدل هذا على أن ابن عمرو كان يكتب خلف رسول الله ما يقوله بلفظه، ويحفظه كما هو لفظا لا معنى.
ولم يقتصر الأمر على هذا فحسب؛ فقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يرسل كل منهم للآخر في طلب أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكتوبة، فتعددت الصحف التي كتب فيها الصحابة الحديث، وانتقل هذا الحرص على الكتابة إلى الجيل الأول من التابعين.
ونخلص من هذا كله إلى أن مرحلة ما قبل التدوين الرسمي للسنة لم تقف الرواية فيها على الشفاهة فقط، وإنما كانت الكتابة موافقة لها، ومن ثم لم تكن السنة مروية بالمعنى في بادئ الأمر مما يدل على سلامتها ووصولها إلينا باللفظ والمعنى محفوظة من التحريف والتغيير مؤداة كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا. شروط الرواية بالمعنى:
إن للعلماء في رواية الحديث بالمعنى مذاهب عدة، نستخلص منها مذهبين:
المذهب الأول: أن رواية الحديث بالمعنى لا تجوز لمن لا يعلم مدلول الألفاظ في اللسان العربي، ومقاصدها، وما يحيل معناها، والمحتمل من غيره، والمرادف منها، وذلك على وجه الوجوب بلا خلاف بين العلماء؛ لأن من اتصف بذلك لا يؤمن أن تؤدي روايته بالمعنى إلى خلل، ووجب على من هذا حاله أن يروي الحديث بالألفاظ التي سمع بها مقتصرا عليها دون تقديم ولا تأخير، ولا زيادة، ولا نقص لحرف أو أكثر، ولا إبدال حرف أو أكثر بغيره، ولا مشدد بمثقل، أو خلافه[19].
أما من كان عالما بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيرا بما يحيل معانيها، بصيرا بمقادير التفاوت بينها، فاختلف فيه السلف وأصحاب الحديث، وأرباب الفقه والأصول، فالمعظم منهم أجاز له الرواية بالمعنى إذا كان قاطعا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه سواء في ذلك الحديث المرفوع أو غيره[20].
المذهب الثاني: المنع من الرواية بالمعنى مطلقا، بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين العارف بمعاني الألفاظ وغيره، وهو مذهب كثير من السلف وأهل التحري في الحديث، وهو مذهب الإمام مالك، ومعظم المحدثين[21].
ومن هنا يظهر لنا أن الأصل في رواية الحديث عند العلماء روايته باللفظ للعالم بالألفاظ ومدلولاتها، وغيره أيضا، والفرع هو الترخص في الرواية بالمعنى للعالم دون غيره، وهذا هو الراجح عند العلماء.
وإذا سلمنا – جدلا – بأن الأصل هو الرواية بالمعنى، فإنها لا تفضي إلى تحريف السنة كما يزعمون؛ لأن اختلاف ألفاظ الأحاديث لا يرجع إلى الرواية بالمعنى وحدها، بل يرجع إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي كانت تختلف ألفاظه بتعدد الأزمنة والأمكنة، والحوادث والأحوال، والسامعين والمستفتين، والمتخاصمين والمتقاضين، والوافدين والمبعوثين، ففي كل ذلك تختلف ألفاظه – صلى الله عليه وسلم – إيجازا وإطنابا، وتقديما وتأخيرا، وزيادة ونقصانا، بحسب ما تقتضيه الحال ويدعو إليه المقام.
فقد يسأل عن أفضل الأعمال مثلا، فيجيب كل سائل بجواب غير جواب صاحبه فيظن من لا علم له أن هذا من باب التعارض، أو من عدم ضبط الرواة، أو من آثار الرواية بالمعنى، وواقع الأمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان طبيب النفوس، يجيب كل إنسان عن مسألته بما يناسبه، وبما يكون أنفع له أو للناس في جميع الظروف، أو في الظرف الذي كان فيه الاستفتاء[22].
فقد كانت له – صلى الله عليه وسلم – حكمة عظيمة في التعليم، وتبليغ الوحي الإلهي، وإسداء ما يناسب الأفراد والجماعات، من العظات وبيان الحكم، ولا غرابة في ذلك، فهذا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه القصة الواحدة لنبي من الأنبياء، تذكر في جملة سور منه على وجوه شتى، فتارة تذكر كلها كاملة، موجزة أو مبسوطة، وتارة يذكر طرف منها في سورة وطرف آخر في سورة أخرى، موجزا ذلك الطرف أو مبسوطا، كل ذلك مع اختلاف الألفاظ، وتنوع العبارات، كما تراه في قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام[23].
ويرجع اختلاف الأحاديث أيضا إلى أنها ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي كثيرة، ومنها ما أصله قولي ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، وأشباه ذلك، وهذان الضربان ليسا محل نزاع، ولا دخل للرواية بالمعنى فيهما[24].
هذا من جانب, ومن جانب آخر فإن علماء الحديث قد وضعوا شروطا، وضوابط حازمة فيما تصح روايته بالمعنى، حفاظا على الرواية من التحريف أو الخطأ، من هذه الشروط:
- أن يكون الراوي ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به.
- أن يكون الراوي عالما بلغات العرب ووجوه خطابها.
- بصيرا بالمعاني والفقه.
- عالما بما يحيل المعنى وما لا يحيله.
- أن لا يكون الحديث أحد ثلاثة؛ وهي:
- مما يتعبد بلفظه كالشهادة، والتشهد، والإقامة، والدعاء وغير ذلك.
- أن يكون من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
- أن يكون مما يستدل بلفظه على حكم لغوي.
- أن يكون ذلك في خبر ظاهر.
- أن لا يكون ذلك في الخبر؛ لأنه ربما نقله الراوي بلفظ لا يؤدي مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- أن يقول الراوي عقب روايته للحديث: (أو كما قال) أو (نحوه) أو (شبه).
- أن يكون الراوي قد اضطر اضطرارا إلى روايته بالمعنى:
- كأن يغيب اللفظ عنه في حالة روايته له.
- أو أن لا يكون ضابطا للحديث؛ لأن الضبط الدقيق مطلب عزيز لا يتقنه إلا القليل، والضرورة تقدر بقدرها.
- أن لا تكون روايته للحديث على سبيل الرواية والتبليغ خاصة بخلاف الاستفتاء والمناظرة.
- أن يبين الراوي أن هذا هو معنى قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لا لفظه[25].
هذه هي الشروط التي وضعها العلماء لقبول رواية الحديث بالمعنى، فهل يعقل أن الحديث الذي روي بالمعنى مراعيا مثل هذه الشروط هل يعقل أن يؤدي إلى تحريف السنة؟!
نود أن نبين أن الخلاف الذي وقع بين العلماء في جواز رواية الحديث بالمعنى، إنما يقصد بهم رواة ما بعد جيل الصحابة الكرام؛ لأن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا حفاظا من الطراز الأول وساعدهم على حفظ الحديث بلاغة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان الصحابة أعلم الناس بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وأحواله وأقواله, ومن ثم فإن روايتهم لحديثه بأي شكل من الأشكال لن تؤثر في معنى الحديث ولفظه.
وبذلك فإن المنبع – وهو الرسول صلى الله عليه وسلم – والجداول – وهم الصحابة الكرام – كانت سليمة من أي تحريف.
وإذا علمنا أن التدوين الخاص وجد في القرن الأول الهجري، وأن التدوين العام بدأ في أواخر القرن الأول وبداية الثاني، وأن الرواية بالمعنى لا تجوز في الكتب المدونة، والصحف المكتوبة، وأن الذين نقلوا الأحاديث ورووها، منهم من التزم باللفظ، ومنهم من أجاز الرواية بالمعنى، وهؤلاء المجيزون كانوا عربا خلصا، ممن قد سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا أحواله، وأنهم أعلم الناس بمواقع الخطاب، وكامل الكلام، وأنهم يعلمون حق العلم أنهم يروون ما هو دين، ويعلمون حق العلم حرمة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أيضا أن الكذب على رسول الله إنما هو في حقيقته كذب على الله فيما شرع وحكم.
إذا علمنا كل ذلك، علمنا أن الرواية بالمعنى لم تجن على الدين، وأنها لم تدخل على النصوص التحريف والتبديل، كما زعم بعض المستشرقين ومن لف لفهم، وأن الله – عز وجل – الذي تكفل بحفظ كتابه قد تكفل بحفظ سنة نبيه من التحريف والتبديل، وقيض لها في كل عصر من ينفون عنها تحريف المغالطين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فذهب الباطل الدخيل، وبقي الحق موردا صافيا للشاربين[26]، )فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض( (الرعد: 17).
وإذا كان الأمر كما أوضحنا، وأن الراوي بالمعنى لا بد أن تتوفر فيه مثل هذه الشروط، يتأكد أن احتمال الخطأ بالنسبة إليه أشبه بالأمر الموهوم الذي لا يؤبه له، ولا يلتفت إليه، وبخاصة إذا نظرنا إلى ما كان عليه السلف من دقة وأمانة وثقة وورع وصدق ودين، والأحاديث مع تعدد طرقها لا نرى فيها اختلافا في المعنى، وعلى هذا الأساس يكون الظن بصحة الرواية بالمعنى قائما وراجحا، ومع الظن يجب العمل؛ إذ الظن في هذا كاف لوجوبه بما في ذلك أصول الدين التي يكفر جاحدها، وهو ما علم من الدين بالضرورة[27].
الخلاصة:
- لقد حث النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه الكرام أن يرووا أحاديثه بألفاظها كما سمعوها منه – صلى الله عليه وسلم – ووعدهم بالخير الجزيل إذا فعلوا ذلك.
- إن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى من سمعه أن يبدل لفظا مكان لفظ في رواية الحديث، وأرشده إلى التزام اللفظ الذي قاله، وفي ذلك ما يدل على ترغيبه – صلى الله عليه وسلم – في الرواية باللفظ.
- توعد – صلى الله عليه وسلم – من يكذب عليه أشد الوعيد، ومن يبدل لفظا مكان لفظ – متعمدا – يندرج تحت الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا غير المعنى.
- لقد حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على نقل الحديث بألفاظه، ولم يترخصوا في ذلك إلا عند الضرورة، وعلى هذا المنوال سار التابعون من بعدهم.
- لقد اعتنى الصحابة – رضي الله عنهم – بالحديث النبوي، وكانوا يرفضون أي تغيير ولو لم يؤثر على المعنى سواء أكان ذلك في الكلمات نفسها، أم الحروف، أم الحركات.
- لقد تجلى اهتمام الصحابة بالحديث في صور كثيرة منها حفظهم إياها في الصدور، وتقييدهم له في الكتب والصحائف. ومدارسته حتى يتسنى لهم إتقانه وتثبيته، وساعدهم على ذلك الحافظة القوية، وأسلوب النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي بلغ الغاية في حسن العرض والأداء, وسلامة التلقين.
- لقد حرص الصحابة على كتابة الحديث من فم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى لا يتغير لفظه، وحث العلماء تلاميذهم على ذلك، والأدلة على كتابة السنة في مرحلة ما قبل التدوين الرسمي أكثر من أن تحصى.
- إذا كان العلماء قد جوزوا للراوي العالم بالألفاظ ومدلولاتها رواية الحديث بالمعنى فإنهم لم يجوزوا ذلك لغير العالم بالألفاظ، ووضعوا شروطا حازمة لقبول رواية الحديث بالمعنى، مما يضمن سلامته من أي تغيير أو تحريف، وما حدث من تغيير في بعض الأحاديث لم يقبلها العلماء.
- إن الأصل في رواية السنة هو روايتها باللفظ، والفرع هو الترخص في رواية المعنى عند الضرورة بشروط وضوابط.
- اختلاف بعض الألفاظ في الأحاديث ليس مرده الرواية بالمعنى فقط، وإنما من أسبابه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يلقي الأحاديث وقد تتغير العبارات أو الألفاظ بما يقتضيه الحال دون أن تتغير المعاني، وذلك موجود في القرآن حيث تروى القصة أو يقع الأمر والنهي بأكثر من صياغة في أكثر من موضع، كما أن الإخبار عن أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – محل تنوع؛ فكل يروي بلفظه ما يراه، فهل يعقل أن يتهم هؤلاء السنة بالتحريف وقد أحيطت بكل هذه العناية وذاك الاهتمام؟!
(*) في السنة النبوية ومصطلح الحديث, د. حسين سمرة، دار الهاني، القاهرة، 1427هـ/ 2006م. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام “مناقشاتها والرد عليها”, د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م. دفاع عن السنة ورد شبهات المستشرقين والكتاب المعاصرين, د. محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م.
[1]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع، (7/ 347، 348)، رقم (2794، 2795). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2657).
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 244)، رقم (110). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 169).
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الوضوء، باب: فضل من بات على الوضوء، (1/ 426)، رقم (247).
[4]. المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، القاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، دمشق، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص538.
[5]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 515).
[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب، (7/ 5546)، رقم (5546). وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح.
[7]. الدباء: القرع، واحده دباءه، وكانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب.
[8]. المزفت: الوعاء المطلي بالقار وهو الزفت.
[9]. النبذ والانتباذ: أن يوضع الزبيب أو التمر في الماء ويشرب نقيعه قبل أن يختمر أو يسكر.
[10]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 522).
[11]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 530).
[12]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، تحقيق: د.محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (2/ 399).
[13]. أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: العلم، (1/ 173)، رقم (324).
[14]. السنة قبل التدوين, محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص136 بتصرف.
[15]. الرسول المعلم وأساليبه في التعليم, د. عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص63 بتصرف.
[16]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، تحقيق: د.محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (5/ 675).
[17]. تقييد العلم، الخطيب البغدادي، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م، ص83.
[18]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، (10/ 15)، رقم (6510). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[19]. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي, السيوطي، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط2، 1392هـ/ 1972م،(2/ 98، 99).
[20]. السنة النبوية, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م, (1/ 376) بتصرف.
[21]. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول, الشوكاني، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، ط1، 1356هـ/ 1937م، ص57.
[22]. الحديث والمحدثون, محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر, القاهرة, ط1, 1378هـ/ 1958م، ص207، 208 بتصرف.
[23]. الحديث والمحدثون, محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر, القاهرة, ط1, 1378هـ/ 1958م، ص209.
[24]. السنة النبوية, د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 381) بتصرف.
[25]. قضايا حديثية، أشرف خليفة عبد المنعم، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، القاهرة، 2004م، ص455.
[26]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين, د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م، ص56: 58 بتصرف.
[27]. مكانة السنة في بيان الأحكام الإسلامية، علي الخفيف، ص23بتصرف.