الزعم أن السنة مستوحاة من النصرانية
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن السنة النبوية وحي إلهي كالقرآن، وليس بها لفظ واحد مستوحى من الإنجيل؛ إذ كيف يأخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – سنته من كتب محرفة مبدلة باعتراف الأساقفة أنفسهم, وبشهادة الله – عز وجل – في القرآن؟! وكيف تكون السنة مستوحاة من النصرانية وهي تهدم عقائدهم وتخالف شرائعهم؟! ولماذا لم يشنع أهل الكتاب الذين حاربهم النبي – صلى الله عليه وسلم – عليه ذلك؟ وإذا كان استوحى أربعة أحاديث، فمن أين استوحى ملايين الأحاديث الأخرى؟!
2) لقد كانت عناية الصحابة والتابعين والعلماء بعدهم بالسنة وجمعها عناية فائقة, فقد تحروا الدقة في نقل الأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ووضعوا لذلك شروطا صارمة لقبول الحديث سندا ومتنا, وبينوا أحوال الرواة خوفا من الوضع والوضاعين. فكيف يتسرب للسنة ما ليس منها من أقوال النصارى المحرفة؟!
3) إن الأحاديث التي استدل بها هؤلاء الزاعمون أحاديث صحيحة، وليست مستوحاة من الإنجيل، وإن وافق معنى في الإنجيل حديثا نبويا – وهو قليل – فذلك دليل على أنهما من مشكاة واحدة، ومصدرهما واحد وهو الوحي الإلهي، وما خالف – وهذا هو الغالب – منها فهو دليل على تحريف الإنجيل، لانقطاع السند بين سيدنا عيسى – عليه السلام – وكتبة الإنجيل, فضلا عن ضياع معظمه, وهذا مخالف لجمع السنة وتدوينها.
التفصيل:
أولا. السنة النبوية وحي إلهي:
إن ما زعمه المغرضون من كون السنة مستوحاة من النصرانية مناف للحقائق الثابتة، والأدلة والبراهين العقلية والنقلية الساطعة؛ إذ بزعمهم هذا ينكرون ما هو واضح جلي، وهو أن السنة وحي من عند الله أنزل على نبيه – صلى الله عليه وسلم – وليس معنى نسبتها إلى النبي أنها ليست موحاة من عند الله، أو أن هذا ينفي العصمة في حفظها، فالسنة منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم “من جهة أنه المنشئ لألفاظها، وأما معانيها فهي من عند الله: إما أن ينزل بها جبريل كما ينزل بالقرآن، أو ينفث بها في روعه – صلى الله عليه وسلم – أو يلهمه مناما، أو أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول أو يفعل باجتهاد منه في حدود ما تعلمه من معرفة بمقاصد الشرع، وقواعده المحكمة الحكيمة، وهذا الاجتهاد إما أن يقرعليه فيرجع إلى حقيقة الوحي، أولا يقر عليه فينبه إلى الصواب”[1].
والسنة قطعا وحي من الله وليست مستوحاة من الأناجيل, والدليل على ذلك من القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، فمنطوق النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس إلا وحيا يوحى به إليه من ربه عز وجل.
ويقول – عز وجل – أيضا: )واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة( (الأحزاب: ٣٤) فالحكمة هاهنا السنة، وإذا كانت الحكمة معناها السنة، والله – سبحانه وتعالى – قرن بين الكتاب والسنة في الذكر، فهذا يقتضي كونها من عند الله تعالى.
وأما الدليل على أن السنة وحي من السنة نفسها قوله صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه…»[2].
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يؤكد أنه أوتي القرآن وأوتي السنة، والإتيان من عند الله فمصدرهما واحد وهو المولى عز وجل.
وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على أن السنة وحي من عند الله, يقول ابن حزم – رحمه الله: “فصح أن كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كله في الدين وحي من عند الله – عز وجل – لاشك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل العلم في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل”[3].
وقال الشاطبي: “وأدلة القرآن تدل على أن كل ما جاء به الرسول وكل ما أمر به ونهى عنه فهو لاحق في الحكم بما جاء في القرآن “[4].
وإذا كانت السنة وحيا – كما بينا – فإن الله تكفل بحفظها ورعايتها من أن يدس في ثناياها ما يشوهها كأقوال الأناجيل المحرفة وغيرها، يقول الحق سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر). وقال تعالى: )قل إنما أنذركم بالوحي( (الأنبياء: ٤٥). قال ابن حزم: “فأخبر تعالى أن كلام نبيه – صلى الله عليه وسلم – كله وحي، والوحي بلا خلاف ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن، فصح بذلك أن كلامه – صلى الله عليه وسلم – كله محفوظ بحفظ الله – عز وجل – مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدا”[5].
ومما يؤكد حفظ السنة من نسبة ما ليس منها لها أن الصحابة كانوا يتلقون العلم النظري متمثلا في القرآن الكريم مشفوعا به التطبيق العملي من الرسول – صلى الله عليه وسلم – وذلك لأن أقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – وتوجيهاته وأفعاله إنما هي بمثابة التطبيق والتنفيذ لآيات وأحكام القرآن الكريم, فكانوا حريصين على التلقي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن تلقى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن جبريل عليه السلام.
وقد حرص الصحابة على سماع حديثه – صلى الله عليه وسلم – ونقله للناس كما سمعوه دون تحريف أو تغيير، فكانوا يتركون أهليهم وأوطانهم ليقيموا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسمعون منه, ثم يعودون بعد ذلك إلى أهليهم وذويهم فيعلمونهم ما تعلموه[6].
ومما سبق يتضح أن السنة وحي من عند الله – عز وجل – وما كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يأتي بأقوال الإنجيل ويجعلها سنة، لأنه لا ينطق إلا عن وحي من الله ـ عز وجل ـ بنص القرآن الكريم، ثم تناقلها الصحابة والتابعون جيلا بعد جيل دون أن تمسها يد التحريف أو التغيير,استنادا إلى مناهج قويمة, وشروط صارمة سندا ومتنا.
وكيف تكون السنة مستوحاة من النصرانية وهي تهدم عقائدهم الباطلة، وأولها مسألة تأليه المسيح التي هي صلب عقيدتهم مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم…»[7].
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه… أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء»[8].
فلو كانت السنة مقتبسة من النصرانية كما يفترون، فلماذا لم نجد صدى لمثل هذه العقائد الباطلة كعقيدة ألوهية المسيح وصلبه وعقيدة الفداء وغيرها – في كتب السنة؟! بل نجد أن الأحاديث تنص على التوحيد الخالص، وهو خلافها.
ولماذا اختلفت تشريعات الإسلام عن شرائع النصارى في كل الجوانب؟! ومعلوم أن معظم تفصيلات الشريعة مأخوذة من السنة، بل كان – صلى الله عليه وسلم – يأمر بمخالفتهم وينهى عن التشبه بهم.
وإذا كان المدعون زعموا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – استوحى أربعة أحاديث من الإنجيل فمن أين استوحى النبي – صلى الله عليه وسلم – ملايين الأحاديث الأخرى؟!
ولو سلمنا جدلا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – استوحى السنة من تعاليم النصرانية، واستفاد منها كما زعموا فلماذا لم يردوا عليه حينما تعرض في صراحة لبطلان عقائدهم وفساد مذاهبهم؟! ولماذا لم يقولوا له هذه تعاليم ديننا فما أتيت بجديد نتبعك عليه، فكيف تطعن في ديننا؟
نعم لقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم – تحريف النصارى للإنجيل، وبين فساد عقيدتهم التي بدلوها وغيروها، ومن الطبيعي أن النصارى في هذا الوقت كانوا يحاولون الدفاع عن أنفسهم بكل الطرق، فلو أحسوا أنه – صلى الله عليه وسلم – يستلهم سنته من أقوال إنجيلهم لتحدثوا عن ذلك, واستغلوه دليلا قويا يدافعون به عن أنفسهم، ولكن هذا لم يحدث.
ولا ندري أنصدق مزاعمهم هذه أم نصدق الحق – سبحانه وتعالى – حيث يقول: )وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)( (الشورى).
ثم نتساءل: أي نصارى الذين أخذ عنهم النبي؟ النصارى المحرفون؟! أم النصارى المخرفون؟! وإليك صورة النصرانية في هذا العهد بشهادة النصارى أنفسهم، وها هو مولانا محمد علي يطرح السؤال نفسه قائلا: “ولكن كيف كانت حالة النصرانية في ذلك العهد؟ ويدعونا للرجوع إلى شهادات الكتاب النصارى أنفسهم في هذا الموضوع، فقد رسم أحد الأساقفة صورة لتلك الأيام فقال: إن المملكة الإلهية كانت في اضطراب كلي، بل إن حالة جهنمية حقيقية كانت قد أقيمت على سطح الأرض نتيجة للفساد الداخلي، وقد عالج السير “وليم موير” هذا الموضوع فانتهى إلى النتيجة نفسها يقول: “وفوق هذا فقد كانت نصرانية القرن السابع نفسها متداعية فاسدة، كانت معطلة بعدد من الهرطقات المتنازعة، وكانت قد استبدلت بإيمان العصور الأولى السمح صغارات الخرافة وصبياناتها”.
تلك صورة للنصرانية تمثل وضعها العام آنذاك، كانت وحدة الذات الإلهية قد احتجبت منذ عهد بعيد، وكانت عقيدة التثليث قد أدت إلى نشوء تعقيدات متعددة، وتنافست الفرق والهرطقات المختلفة في قدح زناد الفكر لتفسير هذه العقيدة، وأدى ذلك إلى إنشاء جمهرة من المؤلفات أبعدت الإنسان عن هدف الدين الحقيقي[9].
فهل يعقل أن يستلهم النبي – صلى الله عليه وسلم – سنته من دين يعيش في مثل هذه الظروف، ويعاني من مشاكل الانحلال والفساد؟
ولقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه والتابعون من بعدهم على علم أكيد بأن الإنجيل محرف، وذلك للأدلة الكثيرة على تحريفه, فقد اندثرت نصوص كثيرة من الإنجيل الأصلي، كما أن كتاب الأناجيل لم يكونوا تلاميذ للمسيح، وأن هناك تناقضا في الأناجيل الأربعة، ومما يؤكد تحريفها وجود تلاعبات لفظية بها,فضلا عن ضياع أصولها تماما.
ومن دلائل تحريف الأناجيل ما جاء في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15)( (المائدة). وغير ذلك من الأدلة التي تؤكد تحريف الإنجيل.
ونخلص من هذا إلى أن السنة وحي إلهي من عند الله – عز وجل – غير مستوحاة من الإنجيل أو غيره من الكتب الأخرى. وقد تلقى الصحابة والتابعون ألفاظها بتحر ودقة، وقد وضعوا نصب أعينهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار»[10]، وأن الأناجيل محرفة كما أخبرنا القرآن الكريم، وبما ثبت لدى العلماء المدققين الذين عنوا بدراستها، وبينوا ما فيها من فساد وعقائد محرفة تتنافى مع منطق العقل السليم الواعي، فكيف يأخذ عنها وهي محرفة ويسكت قومه على ذلك؟!
وبهذا يظهر عور هذا الزعم وتهافته بعد أن أقحمنا أصحابه بالحجة والبرهان.
ثانيا. عناية الصحابة والتابعين وأئمة أهل العلم من بعدهم بالسنة:
قيض الله – سبحانه وتعالى – لدينه رجالا صانوا كلامه وكلام نبيه – صلى الله عليه وسلم – من أن يكون مطية لأهل الأهواء، فجعل للأمة رجالا أمناء مخلصين، قاوموا الوضاعين وتتبعوهم، وميزوا الباطل من الصحيح، ولولا الجهود التي بذلها الصحابة والتابعون وعلماء الأمة من بعدهم لاشتبه على كثير من الناس بعض أمور دينهم، لكثرة ما اختلقه الكذبة الوضاعون، ونسبوه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – زورا وبهتانا. فكانت مهمة العلماء شاقة لما يحف بها من الحذر، وما يترتب عليها من الآثار الجليلة في الدين والدنيا، وبفضل الله ورحمته تذللت الصعوبات على أيدى جهابذة الأمة, الذين شهد بعلمهم وفضلهم وحسن منهجهم ودقة قواعدهم القاصي والداني، وحفظت السنة من عبث العابثين، وتأويل المغرضين، وتحريف الجاهلين المضللين، وصدق ابن المبارك حين قيل له: هذه الأحاديث الموضوعة, فقال تعيش لها الجهابذة، )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)([11].
وقد اتخذوا طرقا محكمة لحفظ السنة من التحريف أو الوضع، وخطوا لذلك خطوات جليلة كفلت سلامة السنة من العبث سنذكرها فيما يأتي:
- التزام الإسناد:
ظل الصحابة بعد انتقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى الرفيق الأعلى منعمين في جو من الصدق، آمنين على تراث نبيهم، إلى أن حدثت الفتنة وظهرت الأحزاب والفرق، وأخذ الكذب على رسول الله يزداد شيئا فشيئا، فانبرى الصحابة يمحصون الأحاديث سندا ومتنا, ويشددون في معرفة الرواة والطرق ويلتزمون الإسناد دائما، وكان ابتداء مرحلة التحري والتزام الإسناد منذ عهد صغار الصحابة, الذين تأخرت وفاتهم عن زمن الفتنة، فعن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم, فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”[12]، فهم منذ ذلك الحين صاروا يلتزمون الإسناد[13].
وسار التابعون وأتباعهم بعد الصحابة على ذات المنهج يتواصون بطلب الإسناد، ومن ذلك أن الزهري كان إذا حدث أتى بالإسناد، ويقول: “لايصلح أن يرقى السطح إلا بدرجة”, وقال الأوزاعي: “ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد”[14].
- التثبت من الأحاديث:
إن الصحابة والتابعين كانوا يتذاكرون الأحاديث فيما بينهم لمعرفة ما يأخذونه منها، وترك ما ينكرونه، كما كانوا على جانب كبير من الوعي والحيطة بحيث يحفظون الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة خشية أن تختلط عليهم, وحتى يستطيعوا التمييز بين الصحيح وغيره بدقة فائقة وحيطة بالغة.
ومن أجل التثبت كذلك ناهض العلماء الكذابين ومنعوهم من التحديث واشتدوا عليهم، لدرجة أنهم كانوا يضربونهم أحيانا ويهددونهم بالقتل أحيانا أخرى حدا, فعن حمزة الزيات قال: سمع مرة الهمذاني من الحارث الأعور شيئا فقال له: اقعد بالباب، قال: فدخل مرة وأخذ سيفه، قال: وأحس الحارث بالشر فذهب”[15]. فكانوا شديدي التثبت من الأحاديث.
- نقد الرواة:
لقد اهتم الصحابة والأمة بعدهم بنقد الرواة, ودراسة حياتهم وتاريخهم, وبيان أحوالهم من صدق أو كذب، وقد وصلوا عن طريق هذه الدراسة إلى تمييز الصحيح من المكذوب, وكانت لديهم قواعد اتبعوها وساروا عليها في الأخذ من الرواة أو عدم الأخذ منهم, فحصروا المتروكين الذين يكذبون, وأصحاب البدع والأهواء والزنادقة، والذين لا يفهمون ما يحدثون، ومن لا تتوافر فيهم صفات الضبط والعدالة والفهم، وكان أئمة النقاد ينقدون الرواة نقدا دقيقا، فعن يحيى بن سعيد قال: سألت سفيان الثوري وشعبة ومالكا وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتا في الحديث، فيأتيني الرجل فيسألني عنه، قالوا: أخبر عنه أنه ليس بثبت”[16].
- وضع قواعد عامة لتقسيم الحديث وتمييز الصحيح من غيره:
لقد قسم العلماء الحديث إلى درجات: صحيح وحسن وضعيف, وذلك لمعرفة القوي من الضعيف, وما يقبل وما يرد.
وقد وضع العلماء قواعد يعرفون بها الحديث الموضوع، وبينوا العلامات الدالة على وضعه، والتي منها ما هو في السند، ومنها ما هو في المتن، واستطاعوا من خلالها الحكم على الأحاديث، وقد سبق تفصيل ذلك.
وبالإضافة إلى هذه الأسس الرصينة والقواعد المحكمة نقد العلماء المتن من ناحية اضطرابه أو شذوذه أو إعلاله، كما بحثوا فيما وقع فيه من قلب أو غلط أو إدراج إلى غير ذلك من العلل التي عني العلماء ببيانها وشرحها فيما وضع في ذلك من الكتب[17].
هذه الأسس والقواعد طبقت على كل المرويات بلا استثناء سواء ما كان منها عن أهل الكتاب أو غيرهم، ولم يقبل العلماء منها إلا ما صح سنده واتصل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – برواية العدل الضابط عن مثله مع خلوه من الشذوذ والعلة.
ولا يفوتنا في هذا الصدد أن ننبه على أن المرويات التي رويت عن أهل الكتاب في التفسير والقصص والترغيب والترهيب وغيرها كان الرواة ينصون عند روايتها على أنها عن أهل الكتاب، ومع ذلك فقد وضع النبي – صلى الله عليه وسلم – القواعد الصارمة لقبولها في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: )آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46) (» (العنكبوت)[18]، بل إنه – صلى الله عليه وسلم – حذر من قراءة كتب أهل الكتاب، لأنها محرفة وعندنا المحفوظ الثابت الكافي المهيمن على كل الكتب؛ إذ قال لعمر – رضي الله عنه – لما رأى في يده صحيفة فيها شيء من التوراة: «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب! فوالذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني»[19].
من هذه الأحاديث وغيرها في هذا الصدد أخذ العلماء حكم ما يروى عن أهل الكتاب وهي ثلاثة أنواع؛ الأول: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح، والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه، والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا ولا من ذاك، فلا نؤمن به ولا نكذبه لما تقدم[20].
وفي ظل هذه القواعد المتينة وتلك الأسس الرصينة جمعت السنة النبوية ودونت في كتبها، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يتسرب إليها ما ليس من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – البعيد كل البعد عن تعاليم النصرانية أو غيرها، وهل في ظل هذه القواعد والضوابط يمكن أن تقبل تلك الدعوى الباهتة؟!
ثالثا. الأحاديث المزعوم اقتباسها من النصرانية:
إن الأحاديث التي استند إليها الطاعنون نسبتها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صحيحة، وليست مستوحاة من الأناجيل كما ادعى المفترون، وليس فيها أي اتفاق مع النصوص التي ادعوا أنها مستوحاة منها، بل إن الأمر يصل إلى التناقض. ولو وجدنا بعض المعاني عندهم توافق حديثا نبويا فهو دليل على أنهما من مصدر واحد وأن غايتهما واحدة، وأن هذه المعاني إما أنها نجت من التحريف وإما أنها حرفت لفظا وبقيت معنى، وأما ما خالف، فهو دليل على تحريف ما جاءت به الأناجيل، لكونها غير متصلة السند بخلاف السنة النبوية المتصلة السند إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأيضا لاختلاف نسخ الأناجيل بعضها عن بعض وتطورها بتطور الزمن، والنصارى أنفسهم لا ينسبوها إلى الأنبياء ولا يعتقدون أنها كلام الله ووحيه بخلاف السنة النبوية التي يعتقد المسلمون – بكل تأكيد – أنها وحي من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وليس كل ما وجد في الدين الإسلامي وتشابه مع النصرانية أو اليهودية مأخوذ منها، فقد يوافق القرآن الكريم الذي لا إشكال في تواتره وصونه عن أي تحريف – التوارة والإنجيل – في بعض التشريعات والأخلاقيات, وليس معنى هذا أنه مأخوذ منهما؛ إذ إن الأديان السماوية مردها جميعا إلى الله – عز وجل – والعقائد والفضائل فيها ثابتة لا تختلف باختلاف الأزمان والرسالات، فهي أمور مقررة في كل دين، قال تعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: ١٣)، وقال تعالى: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه( (المائدة: 48) لكن هذه الأصول والأخلاقيات وتلك التشريعات جاءت في الدين الإسلامي أوفى وأكمل من غيره, وصالحة لكل زمان ومكان، فهو الدين الخاتم المهيمن.
ولما كان الأمر كذلك فليس في العقل ولا في الشرع ما يمنع أن تتوافق بعض التشريعات والأخلاقيات؛ إذ إن ما حرف من الكتب السماوية السابقة لم يحرف جميعه، ولما كان القرآن الكريم بحكم أنه سلم من التحريف والتبديل, وتوفرت الدواعي والأسباب لوصوله إلى المسلمين كما أنزله الله – عز وجل – مهيمنا وشاهدا على الكتب السماوية السابقة, كان ما وافقه من الكتب السابقة حق، وما خالفه فيها فهو باطل.
ومثال ذلك: مسألة العفو والتسامح جاءت بها النصرانية، وأكثر عيسى – عليه السلام – من العودة إليها؛ ليكون مقللا من شأن الظلم والتعدي على الدماء والأعراض التي تجاوز فيها اليهود الحد, ثم جاء الإسلام الدين العام الخالد فأباح الاقتصاص ومقابلة السيئة بالسيئة, ولكنه مع ذلك رغب في العفو والصفح عن الإساءة. فقال عز وجل: )وأن تعفوا أقرب للتقوى( (البقرة: ٢٣٧). وقال عز وجل: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199) ( (الأعراف).
فليس معنى هذا أن القرآن قد تأثر بالنصرانية في العفو والتسامح, ومن ذلك أيضا: تشريع إخفاء الصدقة فليس أمرا خاصا بالنصرانية ولا بغيرها وإنما هو من الأمور التي تتفق فيها الأديان, فقد قال الله – عز وجل – في كتابه الكريم: )إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير (271)( (البقرة)، وبذلك تتضح مسألة التشابه في بعض المعاني بين السنة وبعض نصوص الإنجيل وذلك قليل كما قلنا.
أما عن الأحاديث التي استند إليها المغرضون فنسبتها صحيحة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وموحاة من قبل الله إليه، وللتأكيد على أنها لم تؤخذ من الإنجيل نستعرض بالشرح تلك الأحاديث، لنبين ما وافق منها الأقوال النصرانية، والسبب في هذا الاتفاق، وذلك على النحو الآتي[21]:
الحديث الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم»[22].
هذا الحديث صحيح، رواه البخاري في كتاب الفتن, ومسلم في كتاب الإمارة؛ ولا مطعن في سنده ولا متنه؛ والمراد منه تحذير المسلمين من القيام بالفتن والثورات إذا ما وجدوا من الأمراء أمورا ينكرونها, مما يتعلق بأمور الدنيا كمنعهم بعض حقوقهم، وغير ذلك.
وأما ما يتعلق بأمور الدين فما لم يروا كفرا بواحا عندهم فيه من الله برهان فعليهم أن يلتزموا بالسمع والطاعة، كما في الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «… وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان»[23]. و”الأثرة”: هو الاستئثار عليهم والاستيلاء على حقوقهم أو بعضها, وهي نظرة حكيمة.
فلو أن الإسلام أباح القيام في وجوه الحكام والأمراء لأدنى جور، لصار المجتمع الإسلامي في فوضى واضطرابات تراق فيها الدماء التي يحرص الشرع على صيانتها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح هنا، إذ إنه لا يوجد حاكم مهما بلغ من العدل إلا وله هنات.
والمراد بإعطائهم حقهم أن يعطوهم ما ألزمهم به الشارع الحكيم ونحوه من حقوق عامة أو خاصة، مثل: حق الزكاة، والخروج للجهاد، والإنفاق في سبيل الله، وتمكينهم من تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود، والسمع والطاعة لهم مالم يروا كفرا بواحا، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: “وسلوا الله حقكم” أي تسألون الله – عز وجل – أن يوفي الحق الذي لكم من الغنيمة والفيء ونحوها، مما هو من حقوق الرعية على الراعي. ولاتقالوهم لاستيفاء حقكم وكلوا أمرهم إلى الله”.
وهذا المعنى الذي يفهم من الحديث النبوي بخلاف المعنى المنسوب إلى المسيح في الإنجيل: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (مرقس 12: 17).
إذ إن معنى عبارة “مرقس” هذه أن النصرانية عبادة ودين داخل دور العبادة فقط ولا علاقة لها بشئون الحياة بخلاف الإسلام الذي هو دين ودولة، وذلك معلوم من دين الإسلام بالضرورة، وما أكثر الآيات والأحاديث المستفيضة في الحكم والسياسة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الحكام الطغاة والوقوف في وجوههم، وليس معنى أن الإسلام أمر بالتزام الجماعة والصبر على أذى الحكام في الحديث الذي بين أيدينا – أن الإسلام ينعزل عن شئون الحياة والسياسة بل هو في نفس المجال يدور؛ إذ المحافظة على أمن البلاد من الفتن والاضطرابات هو من صميم الأمور السياسية.
الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «قال الله – تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لاعين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر»[24].
هذا الحديث من السنة المفسرة للقرآن فهو تفسير لقوله عز وجل: )فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين( (السجدة: 17).
أي: لا تبلغ نفس من أهل العلم معرفة ما أعد الله لهم[25]، وقد فسر النبي – صلى الله عليه وسلم – جزاء هذه الأعمال الصالحات في حديث أغر، رواه الترمذي عن معاذ بن جبل قال: «قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت”، ثم قال: “ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: )تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (17)( (السجدة)»[26].
وبناء على ما سبق فإن تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – للآية السابقة هو وحي من الله – عز وجل – أوحاه لنبيه، لتوضيح المعنى المقصود، ولا ضير من توافق بعض المعاني بين حديث نبوي ونص كان أصله سماوي قبل التحريف، فلربما أنه نجا من التحريف أو حرف لفظه دون معناه؛ إذ إن مردها جميعا إلى الله – سبحانه وتعالى – في الأصل قبل تحريف الكتب السابقة، ولكن ما القول في ملايين النصوص في الإنجيل التي تتناقض مع بعضها البعض، فضلا عن تناقضها مع عقيدة التوحيد وتشريعات الإسلام، وما القول في ملايين النصوص التي تتناقض تناقضا تاما مع نصوص التوراة والإنجيل؟! من أين اقتبسها محمد صلى الله عليه وسلم؟!
الحديث الثالث: إخباره – صلى الله عليه وسلم – أنه أوتي الشفاعة، ومن الأحاديث التي تصرح بذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي… «وأعطيت الشفاعة»[27].
فهذه الأحاديث التي تؤكد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أوتي الشفاعة مخرجة في الكتب الصحيحة، كما هو عند البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من أصحاب الكتب الحديثية الأخرى، لكن ما ادعاه المغرضون من أن هذا الحديث مأخوذ من سفر أعمال الرسل الذي يتحدث عن شفاعة عيسى – عليه السلام – زعم باطل، لأن هذا السفر فيه شرك صريح بالله – عز وجل – إذ زعم مؤلفه أن هناك إلهين: أحدهما “الرب” وهو الله – سبحانه وتعالى – والثاني هو “عيسى ابن مريم”، وأنهما مشتركان في الألوهية. وذلك في قوله: “فليعلم يقينا جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربا ومسيحا” (أعمال الرسل 2: 36)، بالإضافة إلى أن كثيرا من علماء اللاهوت قد تشككوا في صحة نسبة هذا السفر – الذي استشهد به الزاعمون – إلى كاتبه الذي يزعمون أن اسمه لوقا، بل إن عالم اللاهوت الغربي الشهير “ميرول نيتي” قد صرح بأن كاتب هذا السفر غير معروف.
وبما أن علماء مصطلح الحديث يردون رواية مجهول العين ومجهول الحال حتى لو كان مسلما، فلا يعقل أن يأبه هؤلاء المحدثون بما جاء في هذا السفر الذي لا يعرف راويه، وحتى لو عرف فإنه قطعا لا ينتمي لأمة الإسلام[28].
وبالنظر إلى الشروط التي اشترطها العلماء في الراوي، وقد ذكرناها آنفا فإنه لا يعقل أن يأخذوا عن مثل هذا.
فكيف يكون هذا الحديث مأخوذا عن الأقوال التي نسبت إلى عيسى – عليه السلام – وبينهما ما بينهما من الاختلاف الذي وصل في نص الإنجيل إلى حد الشرك بالله الذي جاء الإسلام ليهدمه ويقيم عقيدة التوحيد محله.
الحديث الرابع: الوارد فيه أن بركة محمد – صلى الله عليه وسلم – حلت على طعام جابر فأكل ألف رجل من وعاء واحد, ولم ينقص ما في الوعاء.
وهذا الحديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: «لما حفر الخندق رأيت برسول الله – صلى الله عليه وسلم – خمصا[29]، فانكفأت إلى امرأتي، فقلت لها: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله – صلى الله عليه وسلم – خمصا شديدا, فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير, ولنا بهيمة داجن[30], قال: فذبحتها وطحنت، ففرغت إلى فراغي فقطعتها في برمتها[31], ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: لا تفضحني برسول الله ومن معه. قال: فجئته فساررته. فقلت: يا رسول الله، إنا قد ذبحنا بهيمة لنا, وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر معك. فصاح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال: “يا أهل الخندق، إن جابرا قد صنع سورا[32] فحي هلا بكم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء. فجئت وجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقدم الناس حتى جئت امرأتي. فقالت: بك وبك, فقلت: قد فعلت الذي قلت لي. فأخرجت له عجينتنا فبصق فيه وبارك, ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك, ثم قال: “ادعي خابزة فلتخبز معك, واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها, وهم ألف. فأقسم بالله! لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا, وإن برمتنا لتغط كما هي, وإن عجينتنا لتخبز كما هو»[33].
فالحديث صحيح وهو من المعجزات الحسية لرسول صلى الله عليه وسلم.
أما كون وجود تشابه بين ما ورد في هذا الحديث وبين ما جاء في بعض الأقوال المنسوبة لعيسى – عليه السلام – في الإنجيل – فلا يدل على أن المسلمين قد أخذوا متن هذا الحديث عن أناجيل النصارى؛ لأن جميع الأقوال الواردة في الأناجيل لا يمكن إثبات نسبتها لسيدنا عيسى – عليه السلام – لانقطاع سلسلة السند بين عيسى – عليه السلام – وبين مؤلفي هذه الأناجيل، باعتراف علماء اللاهوت أنفسهم كما بينا.
وعليه، فلا يعقل أن يعتمد المحدثون في مروياتهم على أناجيل النصارى التي لا سند لها, بجانب أن مناهج المحدثين تحتم عليهم عدم أخذ الحديث إلا عن العدل الضابط، وهو المسلم البالغ العاقل غير الفاسق، ولا مخروم المروءة، وهذه الصفات كما هو معلوم لا تنطبق بحال من الأحوال على أهل الكتاب من اليهود والنصارى[34].
ونخلص من هذا أن الأحاديث التي استند إليها هؤلاء المغرضون أحاديث صحيحة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وإذا كانت موافقة لما صح ولم يحرف من الإنجيل فهذا دليل على أن مصدرهما واحد, وهو الوحي من عند الله كما بينا.
ثم إن هذه الأقوال التي زعموا أن هذه الأحاديث مأخوذة منها, فيها شرك صريح بالله كجعل عيسى – عليه السلام – إلها، كما أن الأقوال التي في الإنجيل لم ترو بدقة, ولم يتصل سندها كما حدث في السنة. فهل ننسب المقطوع بصحته إلى المشكوك في صحته؟!
الخلاصة:
- إن السنة النبوية وحي إلهي كالقرآن الكريم وليس بها من أقوال النصارى لفظة واحدة؛ إذ إن أناجيل النصارى محرفة من قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – باعتراف الأساقفة أنفسهم, وبشهادة القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم.
- لو أخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – أقواله من النصارى لردوها عليه – صلى الله عليه وسلم – حينما عرض لبطلان عقائدهم، فكيف يأخذ منهم ثم يشنع عليهم ما يفعلونه؟!
- إن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن جاء بعدهم من العلماء, قد تحروا الدقة في نقل الحديث ونقدوه سندا ومتنا؛ فنقحوه وميزوا بين صحيحه وسقيمه.
- لقد وضع العلماء قواعد صارمة لقبول الأحاديث، فلا يعقل أن يقبل العلماء أقوال النصارى في وجود مثل هذه الضوابط, خاصة أنه من المعلوم انقطاع السند بين سيدنا عيسى – عليه السلام – وكتاب الأناجيل, فضلا عن ضياع معظمه.
- إن الأحاديث التي زعموا أنها مأخوذة من أقوال النصارى أحاديث نسبتها صحيحة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي لا تتفق مع النصوص التي زعموا أنها متشابهة معها، ولو وجد تشابه فهذا دليل على أن ما صح من هذه النصوص من نفس مشكاة السنة النبوية، وهي الوحي الإلهي، ويتضح ذلك مما يأتي:
o الحديث الأول: معناه يختلف تماما عن المعنى المراد من قول المسيح.
o الحديث الثاني: توضيح للآية الكريمة, وإن وافق بعض المعاني في رسالة بولس، فإن بولس انتحلها من قول لعيسى – عليه السلام – وحرف فيها وخلط فيها الكثير، وهذا ربما يكون لأن بعض الألفاظ لم يتغير معناها بعد التحريف.
o الحديث الثالث: لا يصح أن يكون مأخوذا من قول المسيح الذي ادعوه عليه، لأن هذا القول فيه شرك صريح بالله – عز وجل – والإسلام جاء ليهدم هذا الشرك.
الحديث الرابع: صحيح متصل السند، ولايمكن مقارنته بأقوال محرفة غير متصلة السند، وهو من المعجزات الحسية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخلاف نص الإنجيل الذي يثبت قدرة عيسى كإله.
(*) شبهات التكفير، عمر بن عبد العزيز قريشي، مكتبة التوعية الإسلامية، مصر، ط1، 1421هـ/ 2001م. منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل، عزية علي طه، دار البحوث العلمية للنشر، مصر، 1987م. موسوعة القرآن العظيم، د. عبد العظيم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م. السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء، حمدي عبدالله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، مصر، ط1، 2007م.
[1]. انظر: الموافقات، الشاطبي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، السعودية، ط1، 1418هـ/ 1997م، (4/ 871).
[2]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة، (12/ 231)، رقم (4591). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4604).
[3]. الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 117).
[4]. الموافقات، الشاطبي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، السعودية، ط1، 1418هـ/ 1997م، (4/ 876).
[5]. الإحكام، ابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 96، 97).
[6]. من جهود الأمة في حفظ السنة، أحمد حسين محمد إبراهيم، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص70، 71 بتصرف.
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله عز وجل: ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها (، (6/ 549)، رقم (3436).
[8]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قوله: ) يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق (، (3/ 546) رقم (3435). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، (1/ 366)، رقم (139).
[9]. انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، (1/ 217: 218) بتصرف.
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 242)، رقم (107). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليظ الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 169).
[11]. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط2، 1392هـ/ 1972م، (1/ 282).
[12]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: بيان أن الإسناد من الدين، (1/ 173).
[13]. كتاب المجروحين، ابن حبان، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، دمشق، ط2، 1402هـ، (1/ 222).
[14]. انظر: السنة النبوية وعلومها، د. أحمد عمر هاشم، مكتبة غريب، القاهرة، ط2، 1989م، ص92 بتصرف.
[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: بيان أن الإسناد من الدين، (1/ 176).
[16]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: بيان أن الإسناد من الدين، (1/ 176).
[17]. السنة النبوية وعلومها، د. أحمد عمر هاشم، مكتبة غريب، القاهرة، ط2، 1989م، ص97.
[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: ) قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا (، (8/ 20)، رقم (4485).
[19]. حسن: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب: الأدب، باب: من كره النظر في كتب أهل الكتاب، (6/ 228)، رقم (1). وحسنه الألباني في ظلال الجنة برقم (50).
[20]. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (13/ 366).
[21]. حجية السنة ورد الشبهات التي أثيرت حولها، الجامعة الدولية بأمريكا اللاتينية برنامج البكالوريوس، طبعة خاصة، ص63: 65 بتصرف.
[22]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفتن، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: سترون بعدي أمورا تنكرونها، (13/ 7) رقم (7052). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، (7/ 2906)، رقم (4693).
[23]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “سترون بعدي أمورا تنكرونها”، (13/ 7)، رقم (7056). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، (7/ 2899)، رقم (4689).
[24]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: ) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين (، (8/ 375)، رقم (4779). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها، (9/ 3940)، رقم (6999).
[25]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (21/ 229).
[26]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة، (7/ 303) رقم (2749). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2616).
[27]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: “جعلت لي الأرض مسجدا… (1/ 634)، رقم (438). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد، (3/ 1083)، رقم (1143).
[28]. السنة النبوية في كيد الأعداء وجهل الأدعياء، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، مصر، ط1، 2007م، ص145، 146 بتصرف يسير.
[29]. خمصا: ضامر البطن من الجوع.
[30]. بهيمة داجن: الصغيرة من أولاد الضأن، والداجن: ما ألف البيوت.
[31]. برمتها: البرمة هي القدر المتخذ من الحجارة.
[32]. السور: لفظة فارسية بمعنى الطعام الذي يدعى إليه.
[33]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، (7/ 457)، رقم (4102). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الأشربة، باب: جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ويتحفظه، (7/ 3137)، رقم (5217).
[34]. السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، مصر، ط1، 2007م، ص144، 145 بتصرف.