الزعم أن الشافعي كان متعصبا لقريش ممالئا لبني أمية
وجوه إبطال الشبهة:
1) إذا علمنا أن مولد الشافعي كان سنة 150هـ وانتهاء حكم الأمويين كان في سنة 132هـ؛ تساءلنا كيف يلي لهم عملا بعد انتهاء حكمهم بنحو عقدين من الزمان؟!
2) روي أن الشافعي ولي بعض الأعمال للعباسيين فلو كان منحازا لقوم لانحاز لهم.
3) اتهام الشافعي بالانضمام للعلويين وهم خصوم العباسيين يؤكد عدم انحيازه للأسرة الحاكمة سواء كانت أموية أو عباسية.
التفصيل:
أولا. مولد الشافعي بعد انتهاء حكم الأمويين بثمانية عشر عاما!
وقد اتفقت الروايات على أن الشافعي – رحمه الله – ولد سنة 150هـ، أي: بعد انقراض ملك الأمويين وسقوط دولتهم سنة 132هـ بحوالي عقدين من الزمان، فكيف يلي للأمويين عملا وهو الذي لم يشهد دولتهم وإنما سمع عنها كما سمع الناس أحداث من سبقوا وتاريخهم؟!
ثانيا. ولاية الشافعي التي اتسمت بالعدل والقسط في عهد العباسيين:
يروى أن الشافعي ولي – وليست الولاية محرمة على الفقهاء بل يكونون أصلح من غيرهم، إن عملوا بعلمهم – لوالي اليمن زمن العباسيين عملا بنجران، وقام فيه بالعدل والقسط والأخذ على يد الظلمة من أهل السلطان فنالته محنة من جراء ذلك وأنجاه الله منها.
ويروي خبر هذه الولاية وملابساتها الشيخ أبو زهرة؛ فيقول: “ولما مات مالك – رضي الله عنه – وأحس الشافعي أنه نال من العلم أشطرا – وكان إلى ذلك الوقت فقيرا – اتجهت نفسه إلى عمل يكتسب منه ما يدفع حاجته، ويمنع خصاصته، وصادف في ذلك الوقت أن قدم إلى الحجاز والي اليمن، فكلم بعض القرشيين والي الحجاز في أن يصحبوا الشافعي فأخذه ذلك الوالي معه. ويقول الشافعي في ذلك: ولم يكن عند أمي ما تعطيني ما أتحمل به، فرهنت دارا فتحملت معه، فلما قدمنا عملت له على عمل.
وفي هذا العمل تبدو مواهب الشافعي وكفاءته وذكاؤه وعلمه ونبل نسبه، فيشيع ذكره عادلا ممتازا، ويتحدث الناس باسمه في بطاح مكة، ويبلغ الفقهاء والمحدثين الذين تلقى عنهم أو التقى بهم ذكره، فيختلفون إليه، ومنهم من يلومه على دخوله في العمل وينصح له بتركه.
سياسة الشافعي وعدله:
وتولى عملا بنجران فأقام العدل ونشر لواءه، وكان الناس في نجران – كما هم في كل عصر، وفي كل بلد – يصانعون الولاة والقضاة ويتملقونهم، ليجدوا عندهم سبيلا إلى نفوسهم، ولكنهم وجدوا في الشافعي عدلا لا سبيل إلى الاستيلاء على نفسه بالمصانعة والملق، ويقول هو في ذلك: وليت نجران وبها الحارث بن عبد المدان وموالي ثقيف، وكان الوالي إذا أتاهم صانعوه، فأرادوني على نحو ذلك، فلم يجدوا عندي.
أغلق الشافعي إذن باب المصانعة والملق؛ لكيلا يصل إلى نفسه أحد، وهو الباب الذي يلج منه صغار النفوس إلى كبارها، ليحولوا نفوسهم عن مجرى العدل والحق، فالشافعي إذ أغلقه قد حصن نفسه من كل شر وظلم؛ ولذا صار كله للعدل، ولكن العدل دائما مركب صعب لا يقوى عليه إلا أولو العزم من الرجال، وهم يتعرضون لخشونة الزمان وأذاه وكذلك كان الشافعي.
ثالثا. اتهام الشافعي بالانضمام إلى العلويين خصوم العباسيين:
لقد نزل الشافعي باليمن، ومن أعمالها نجران، وبها وال ظلوم غشوم، فكان الشافعي يأخذ على يديه، ويمنع مظالمه أن تصل إلى من تحت ولايته، وربما نال الشافعي من ذلك الوالي بما يملكه العلماء من سيف يحسنون استعماله، ويكثرون من إرهافه وهو النقد، فلعله كان – من باب الأخذ على يديه – يناله بنقده، ويسلقه بلسانه، فإذا ذلك الوالي يكيد له، بالدس والسعاية والوشاية، وكل ميسر لما خلق له.
كان العباسيون يعدون العلويين خصومهم الأقوياء؛ لأنهم يدلون بمثل نسبهم، ولهم من رحم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما ليس لهم. فإذا كانت دولة العباسيين قامت على النسب، فأولئك يمتون بمثله وبرحم أقرب؛ ولذا كانوا إذا رأوا دعوة علوية قضوا عليها وهي في مهدها، ويقتلون في ذلك على الشبهة لا على الجزم واليقين، إذ يرون أن قتل بريء يستقيم به الأمر لهم، أولي من ترك متهم يجوز أن يفسد الأمن عليهم.
جاءهم الوالي الظالم من هذه الناحية الضعيفة في نفوسهم، واتهم الشافعي أنه مع العلوية، فأرسل إلى الرشيد أن تسعة من العلوية تحركوا، ثم قال في كتابه: إني أخاف أن يخرجوا وإن هاهنا رجلا من ولد شافع المطلبي لا أمر لي معه ولا نهي. وفي بعض الروايات أنه قال في الشافعي: يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه، فأرسل الرشيد أن يحضر أولئك النفر التسعة من العلوية ومعهم الشافعي.
ويقول الرواة: إنه قتل التسعة، ونجا الشافعي بقوة حجته، وشهادة محمد بن الحسن، أما قوة حجته فكانت بقوله للرشيد – وقد وجه إليه التهمة بين النطع والسيف -: يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبده، أيهما أحب إلى؟ قال: الذي يراك أخاه، قال: فذاك أنت يا أمير المؤمنين، إنكم ولد العباس، وهم ولد علي، ونحن بنو عبد المطلب، فأنتم ولد العباس تروننا إخوتكم، وهم يروننا عبيدهم.
وأما شهادة محمد بن الحسن؛ فذلك لأن الشافعي استأنس لما رآه في مجلس الرشيد عند الاتهام، إذ إن العلم رحم بين أهله، فذكر بعد أن ساق ما ساق أن له حظا من العلم والفقه، وأن القاضي محمد بن الحسن يعرف ذلك، فسأل الرشيد محمدا، فقال: له من العلم حظ كبير، وليس الذي رفع عليه من شأنه، قال: فخذه إليك، حتى أنظر في أمره، وبهذا نجا” (1).
هذه هي القصة بتمامها، فما الذي يشين فيها ويعيب؟! إن هي إلا الأهواء وأمراض النفوس وسقم الفكر الذي ينبش عظام القبور ويفتش بين السطور، عله يعثر على شبهة تمكنه من اختلاق فرية ينعق بها بين الناس كغراب لا يجد أنيسا.
فلا علاقة للشافعي بالأمويين على الإطلاق – عكس ما تزعمه الشبهة التي نناقشها – إذ لم يعش في عصرهم، وهو قد ولي عملا زمن العباسيين، فقام فيه بالعدل والإنصاف والأمانة خير قيام، فما المشكلة في هذا؟!
الخلاصة:
- لقد ولد الشافعي سنة 150هـ باتفاق الآراء، أي بعد انقراض ملك الأمويين بنحو عقدين من الزمان، فكيف تكون له علاقة بالأمويين؟!! وكيف يتولى لهم عملا وقد انتهى حكمهم؟!!
- نعم، تشهد المصادر التاريخية أن الشافعي تولى بعض الأعمال، ولكن ذلك كان في عهد العباسيين لا الأمويين، وقد قام بعمله بما توجبه عليه أمانة القيام به من عدل و إنصاف وإحقاق للحق دون أن يخاف في الله لومة لائم.
- حقد عليه بعض مناوئيه و حساده، فألصقوا به إحدى التهم الرائجة في ذلك الوقت، وهي انضمامه للعلويين ضد العباسيين، وهي فرية استطاع الشافعي بقوة حجته أن ينجو منها.
- لعل في التناقض البين بين القول بممالأة الشافعي لبني أمية، وبين اتهامه بالانضمام للعلويين – في هذا ما يؤكد عدم انحيازه لأسرة حاكمة أموية أو عباسية وكانت سياسته في العدل معروفة شهد له بها الجميع إلا قلة من الحاقدين، الذين لا يشهدون بالحق، ولا يرضيهم الحق.
(*) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، نصر أبو زيد، دار سينا للنشر، مصر، ط1، 1992م.
[1] . تاريخ المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1996م، ص429: 431.