الزعم أن القرآن أقرّ أسطورة جبل قاف
وجه إبطال الشبهة:
إن قاف الذي جاء في القرآن الكريم ليس اسمًا لجبل، وإنما هو أحد حروف الهجاء، سمى الله به السورة وافتتحها به، ومن المعلوم أن الله عز وجل افتتح بعض سور القرآن الكريم ببعض حروف الهجاء، مثل “ألم، ص، ن … إلخ”. أما ما استدل به من روايات نسب بعضها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهي خرافات وأساطير مأخوذة عن الإسرائيليات المردودة الباطلة، وقد ردّها المحققون من علماء المسلمين.
التفصيل:
لليهودية ثقافتها الدينية التي تستمد من التوراة، وللنصرانية ثقافتها الدينية التي تستمد من الإنجيل، وقد انضوى تحت لواء الإسلام منذ ظهوره كثير من اليهود والنصارى، ولهؤلاء وأولئك ثقافتهم الدينية.
ولما دخل أهل الكتاب في الإسلام حملوا معهم ثقافتهم الدينية من الأخبار والقصص الديني، وهم حين يقرأون القرآن قد يتعرضون لذكر التفصيلات الواردة في كتبهم، وكان الصحابة يتوقفون إزاء ما يسمعون من ذلك؛ امتثالًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا»([1]).
وتلك الأخبار التي تحدث بها أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام هي التي يطلق عليها الإسرائيليات من باب التغليب للجانب اليهودي على الجانب النصراني؛ حيث كان النقل عن اليهود أكثر لشدة اختلاطهم بالمسلمين منذ بدأ ظهور الإسلام، والهجرة إلى المدينة.
ولم يأخذ الصحابة عن أهل الكتاب شيئًا في تفسير القرآن من الأخبار الجزئية سوى القليل النادر، فلما جاء عهد التابعين، وكثر الذين دخلوا الإسلام من أهل الكتاب كثر أخذ التابعين عنهم، ثم عظم شغف من جاء بعدهم من المفسرين بالإسرائيليات، قال ابن خلدون: “وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى… فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم”.
ولم يكن المفسرون يتحرون صحة النقل فيما يأخذونه من هذه الإسرائيليات، ومنها ما هو فاسد باطل؛ لذا كان على من يقرأ في كتبهم أن يتجاوز عما لا طائل تحته، وألا ينقل منها إلا ما تدعو إليه الضرورة وتتبين صحة نقله، ويظهر صدق خبره([2]).
ومن تلك الإسرائيليات ما ذكره بعضهم في تفسير قوله سبحانه وتعالى:)ق والقرآن المجيد (1)((ق)؛ فقد ذكر صاحب الدر المنثور وغيره روايات كثيرة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «خلق الله من وراء هذه الأرض بحرًا محيطًا بها، ثم خلق وراء ذلك البحر جبلًا يقال له: قاف، سماء الدنيا مرفوعة عليه، ثم خلق الله تعالى من وراء ذلك الجبل أيضًا مثل تلك الأرض سبع مرات، واستمر على هذا حتى عد سبع أراضين، وسبعة أبحر، وسبعة أجبل، وسبع سماوات».
وهذا الأثر لا يصح سنده عن ابن عباس، وفيه انقطاع، ولعل البلاء فيه من المحذوف، ولو سلمنا بصحته عنه؛ فقد أخذه من الإسرائيليات([3]).
وجاء في كتاب (عرائس المجالس) للثعلبي أن عبد الله بن سلامرضى الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعلى جبل في الأرض، فأخبره أنه جبل قاف، وأن ارتفاعه مسيرة خمس مئة سنة، وأن طوله مسيرة ألفي سنة، وأنه مخلوق من زمرد أخضر.
وكتاب (عرائس المجالس) مرفوض عند العلماء، ولا يصلح أن يكون مرجعًا في التفسير؛ فمعظم الحكايات والأخبار والروايات التي فيه موضوعة ومردودة، وهي خرافات وأساطير، مأخوذة عن الإسرائيليات المردودة الباطلة([4]).
ومن ثم فإن هذا الكتاب لا ينبغي التعويل عليه لمن لا يميز صحيح الحديث من ضعيفه، والثعلبي قد انتقده العلماء في رواياته للأحاديث والأخبار، قال ابن تيمية في منهاج السنة: “أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات… إلى أن قال: والثعلبي فيه خير ودين، لكنه لا خبرة له بالصحيح من الأحاديث، ولا يميز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال”([5]).
وأخرج ابن أبي الدنيا: خلق الله تعالى جبلًا يقال له: قاف، محيط بالعالم، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية، أمر ذلك الجبل فيحرك العرق الذي يلي تلك القرية، فيزلزلها ويحركها.
يقول الشيخ محمد أبو شهبة: وكل ذلك ـ كما قال القرافي ـ لا وجود له، ولا يجوز اعتماد ما لا دليل عليه، وهو من خرافات بني إسرائيل الذين يقع في كلامهم الكذب والتغيير والتبديل، دُسَّت على هؤلاء الأئمة، أو تقبلوها بحسن نية، ورووها لغرابتها، لا اعتقادًا بصحتها، ونحمد الله أنه وجد في علماء الأمة من رد هذا الباطل، وتنبه له قبل أن تتقدم العلوم الكونية كما هي عليه اليوم.
ومن العجيب: أن يتعقب كلام القرافي ابن حجر الهيتمي فقال: ما جاء عن ابن عباس مروي من طرق خرجها الحفاظ وجماعة ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه: حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقول للشيخ الهيتمي: إن تخريج من التزم الصحة ليس بحجة، وكم من ملتزم شيئًا لم يف به، والشخص قد يسهو ويغلط مع عدالته، وأنظار العلماء تختلف، والحاكم على جلالته، صحح أحاديث حكم عليها الإمام الذهبي وغيره بالوضع، وكذلك ابن جرير على جلالته أخرج روايات في تفسيره حكم عليها الحفاظ بالوضع والكذب، وحتى لو سلمنا بصحتها عن ابن عباس رضى الله عنهما، فلا ينافي ذلك أن تكون من الإسرائيليات الباطلة.
وأما أن لها حكم الرفع فغير مسلم به؛ لأن المحققين من أئمة الحديث على أن ما لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع، إذا لم يكن الصحابي ممن عرف بأنه يأخذ عن مسلمة أهل الكتاب، وابن عباس رضى الله عنهما ممن أخذ عنهم([6]).
لقد أصبح رواد الفضاء يطوفون حول الأرض، ويرونها معلقة في الفضاء بلا عمد ولا جبال ولا بحار ولا صخرة استقرت عليها، وأصبح من الثابت كذلك أن أعلى قمة على سطح الأرض هي قمة جبل إفرست في سلسلة جبال الهيمالايا، ويبلغ ارتفاعها 8840 م فوق مستوى سطح البحر.
ورحم الله الإمام الألوسي حيث قال: “والذي أذهب إليه: ما ذهب إليه القرافي، من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحس، فقد قطعوا هذه الأرض، برها وبحرها على مدار السرطان مرات، فلم يشاهدوا ذلك، والطعن في صحة الأخبار، وإن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح أهون من تكذيب الحس، وليس ذلك من باب نفي الوجود لعدم الوجدان كما لا يخفى على ذوي العرفان، وأمر الزلزلة لا يتوقف على ذلك الجبل، بل هي من الأبخرة وطلبها الخروج مع صلابة الأرض”([7]).
وإليكم ما قاله عالم حافظ ناقد، سبق الإمام الألوسي بنحو خمسة قرون؛ فقد قال ابن كثير في تفسيره: “وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: قاف جبل محيط بجميع الأرض… وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بني إسرائيل، التي أخذها عنهم بعض الناس؛ لما رأوا من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب… وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة ـ مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها ـ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل، مع طول المدى، وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته، وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «… وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج…»([8])، فيما قد يجوزه العقل، فأما ما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه؛ فليس من هذا القبيل”([9]).
ثم قال: وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين وكذا طائفة كبيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب، في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ـ ولله الحمد والمنة ـ حتى إن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي أورد هنا أثرًا غريبًا، لا يصح سنده عن ابن عباس، ثم ساق السند والمتن الذي ذكرناه آنفا.
ثم قال: فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع ـ أي سقط راوٍ من رواته ـ والذي رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله عز وجل: )ق(هو اسم من أسماء الله عز وجل، والذي ثبت عن مجاهد ـ وهو من تلاميذ ابن عباس الملازمين له، الناشرين لعلمه ـ أنه حرف من حروف الهجاء، كقوله سبحانه وتعالى:)ص(،)ن(،)حم(،)طس(، فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس رضى الله عنهما([10]).
إن ابن كثير يرفض أسطورة جبل قاف المحيط بالأرض، ويعتبرها من روايات بني إسرائيل، ويجعلها خرافة تناقض العقل. وبما أنها مرفوضة مردودة، فإن القرآن لا يحمل وزرها، ولا يستشهد بها على وجود الخطأ فيه، كما فعل هؤلاء المتحاملون.
(*) القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، مرجع سابق.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التوحيد، باب: ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية، (13/ 525)، رقم (7542).
[2]. انظر: مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط12، 1423هـ/ 2002، ص344، 345.
[3]. الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفاسير، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1426هـ/ 2006م، ص292، 293.
[4]. القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، مرجع سابق، ص55.
[5]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج7، ص7، 8.
[6]. الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفاسير، د. محمد أبو شهبة، مرجع سابق، ص293، 294.
[7]. روح المعاني، الألوسي، مرجع سابق، عند تفسير قوله سبحانه تعالى: )ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)((ق).
[8]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذُكر عن بني إسرائيل، (6/ 572)، رقم (3461).
[9]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص221.
[10]. المرجع السابق نفسه.