الزعم أن القرآن الكريم به ألفاظ لا تعرفها لغة العرب
وجه إبطال الشبهة:
نزل القرآن الكريم بلغة العرب؛ ليفهمه أهل هذه اللغة على اختلاف لهجاتهم، وقد قال سبحانه وتعالى: )إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2)( (يوسف) (يوسف).
ويدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم يأتي بألفاظ كثيرة لم ترد في لغة العرب؛ مثل: كلمة “الخرطوم” في قوله سبحانه وتعالى: )سنسمه على الخرطوم (16)( (القلم)، ويزعمون أن العرب لم تطلق كلمة “الخرطوم” على أنف الإنسان، حتى ولو كان ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء، وهذا يدل في زعمهم على أن القرآن يستخدم ألفاظا لم يعرفها العرب.
ويرد على هذا الزعم ببيان هذه الحقيقة: لقد عرف العرب كلمة “الخرطوم”، وأطلقوها على كل أنف مستطيل كأنف الفيل والخنزير، ونحوهما، وإطلاقه على أنف الإنسان في هذه الآية استعارة؛ للاستخفاف، والاستهانة بهذا المشرك، وللدلالة على أنه لا يستحق أن يوصف بالصفات الإنسانية.
التفصيل:
قبل الحديث عن معرفة العرب لكلمة “الخرطوم” واستعمالهم لها، لا بد أن نوضح حقيقة هامة، ألا وهي: أن القرآن الكريم قد نزل على النبي – صلى الله عليه وسلم – بلسان عربي مبين؛ ليفهمه العرب؛ لهذا نجد كثيرا من آيات القرآن الكريم تبين أن الله قد يسره للذكر، ولا يمكن أن يكون ميسرا للذكر إلا إذا كانت ألفاظه معروفة وشائعة بين العرب؛ يقول سبحانه وتعالى: )قرآنا عربيا غير ذي عوج( (الزمر: ٢٨) [1]، ويقول: )فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون(58)( (الدخان) [2].
وتصديقا لهذا فإن المتأمل لكلمة “الخرطوم” في قوله: )سنسمه على الخرطوم (16)( (القلم) يجد أنها كلمة عربية قد عرفها العرب، وأطلقوها على كل أنف مستطيل[3]، كأنف الفيل والخنزير ونحوهما، أما إطلاقه في هذه الآية الكريمة على أنف الإنسان؛ فهو من باب الاستعارة، وقد كانت العرب تتهاجى بنبذ الخصوم بصفات الحيوان كإطلاق المشفر – وهو شفة البعير – على شفة الإنسان؛ كما في قول الفرزدق:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
ولكن زنجىا غليظ المشافر
وكإطلاق الجحفلة على شفة الإنسان، وهي للخيل، والبغال، والحمير[4] في قول النابغة يهجو لبيد بن ربيعة:
ألا من مبلغ عني لبيدا
أبا الورداء جحفلة الأتان
وهذه الاستعارة في الآية الكريمة من باب الاستخفاف والاستهانة بهذا المشرك – الوليد بن المغيرة – الذي سبق وصفه في الآيات السابقة علـى هـذه الآيـة بتسـع خصــال ذميمـة، لا نعلــم – كما يقول القرطبي – أن الله بلغ من ذكرعيوب أحد ما بلغه منه، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة، وهذه الخصال الذميمة هي: “حلاف، مهين، هماز، مشاء بنميم، مناع للخير، معتد، أثيم، عتل، زنيم”.
فأراد الله بعد ذكر مساوئه تلك، والتي تدل على أنه ليس إنسانا مستحقا للتفضيل والتكريم؛ لأن هذه الصفات تنافي الإنسانية، أراد سبحانه – عز وجل – بهذا الوصف “الخرطوم” الـذي يجمـع بيـن التشويـه والإهانــة أن يبيـن لنـا أن هـذا المشــرك – وقد جمع كل تلك الصفات الخلقية الذميمة التي تنافي الإنسانية – لا يستحق أن يوصف بدنه بصفات الإنسان، فلم يقل: “أنفه”، بل جاء بلفظ يدل على وصفه بالحيوانية، فمثله مثل الكلب، أو الخنزير، بل هو أدنى وأحط، وإمعانا في إذلاله وتحقيره توعده الله أن يجعل على خرطومه علامة تميزه في الدنيا، وتشير إلى ما تورط فيه من جرم ومنقصة، وقد حدث بعد نزول هذه الآية بسنين، في موقعة بدر، حيث عثر على الوليد بن المغيرة، وقد خطم خرطومه بالسيف، وسوف يبعث يوم القيامة وهذه العلامة على خرطومه إهانة له في الدنيا والآخرة[5].
إذن فإطلاق لفظ “الخرطوم” على أنف الإنسان في هذه الآية الكريمة من باب الاستعارة؛ – وهي من أساليب العرب في الكلام – ومن ثم فلا مجال لأحد أن يزعم أن هذه اللفظة لم يعرفها العرب؛ لأن في هذا الزعم تجنيا واضحا على الحقيقة، وعلى لغة القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
- إن المتأمل في قوله تعالى: )سنسمه على الخرطوم( يجد أن هذه الآية تحتوي على ثلاث كلمات فحسب، وعلى الرغم من هذا فقد حوت الكثير من الملامح البلاغية، وكذلك أشارت إلى شيء من وجوه إعجاز القرآن، ومنها:
- في قوله سبحانه وتعالى: )سنسمه على الخرطوم( مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ لأن اللفظ المذكور جزء من المعنى، فالخرطوم معناه: الأنف، وأراد به الوجه، فعبر بالجزء وهو الخرطوم، وأراد به الكل وهو الوجه[6].
- إن موقع هذه الآية بالنسبة للآيات التي سبقتها – الآيات التي تتحدث عن الصفات الذميمة للوليد بن المغيرة – بمثابة استئناف بياني؛ جوابا لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمة التي وصف بها، فيسأل السامع: ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح، والاجتراء على ربهم؟ وفي هذا تحريك لذهن السامع ولفت لانتباهه.
- أما قوله: سنسمه، فمعروف أن الوسم يكون للإبل ونحوها، بجعل سمة لها أنها من مملوكات القبيلة، أو المالك المعين، وهذا كناية عن تحقيره، فالمعنى: سنعامله معاملة يعرف بها أنه عبدنا، وأنه لا يغني ماله وولده عنه شيئا، وهذا يظهر تمكن الله منه وإظهار عجزه.
- أما وصف الأنف بالخرطوم، فكما سبق أن قلنا، هو استعارة للدلالة على غاية الإذلال والإهانة؛ إذ إنه صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف، وإذا كان الوسم في الوجه شينا، فكيف به على أكرم عضو فيه؟
فالوسم يقتضي التمكن، وكونه في الوجه يعتبر إذلالا ومهانة، وكونه على الأنف أشد إذلالا، والتعبير عن الأنف بالخرطوم فيه جمع بين التشويه والإهانة، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة[7].
والملاحظ في هذه الآية الكريمة أن الله عبر عن هذا الوعيد بصيغة تدل على الاستقبال “سنسمه”، وفي هذا إعجاز غيبي للقرآن الكريم؛ حيث إنه أخبر بشيء لم يحدث بعد، وقد حدث بالفعل بعد هذا الإخبار في غزوة بدر، حيث خطم أنفه بالسيف كعلامة مميزة له، ويزداد إعجابنا بهذا الإعجاز الغيبي، إذا علمنا أن هذا الإعجاز الغيبي الذي ينبئ عن أمر في المستقبل قد سبق بإعجاز غيبي آخر، ولكن في الزمن المنصرم، وهو وصف هذا المشرك بصفة زنيم وهو: ولد الزنى، ولم يكن أهل مكة أو غيرهم يعرفون أن الوليد بن المغيرة كان ولد زنا حتى أخبر القرآن بهذا، وقد ذهب هو بنفسه إلى أمه، وما زال يهددها حتى اعترفت له بذلك.
هذه بعض من الأسرار البلاغية في هذه الآية الكريمة، والتي تدل بما لايدع مجالا للشك على إعجاز هذا الكتاب الحكيم، سواء الإعجاز في جمله وتراكيبه، أم الإعجاز في مفرادته، بما يوصد الباب أمام كل متصيد للأخطاء؛ لأن هذا الكتاب منزه عن الخطأ؛ فهو كلام رب العالمين.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.
[1]. فقول الله سبحانه وتعالى: ) قرآنا عربيا غير ذي عوج ( أي: حال كونه قرآنا عربيا لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، ولا تعارض ولا تناقض.
[2]. وقول الله سبحانه وتعالى: ) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( أي: يا محمد، فإنما سهلنا القرآن بلغتك ـ وهو لسان العرب ـ لعلهم يتعظون وينزجرون (صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج3، ص1241، 1342).
[3]. القاموس المحيط، الفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1407 هـ/ 1987م، مادة: خرطم.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج14، ج29، ص77.
[5]. الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م، ص126 بتصرف.
[6]. القرآن والصور البيانية، عبد القادر حسين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص173.
[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج14، ج29، ص76: 78 بتصرف.