الزعم أن النبوة المحمدية لم يؤمن بها إلا شرذمة من بله الفقراء وسذج الأغنياء
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد آمن بدعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – أناس عقلاء من خيرة الناس وعلى أكبر قدر من الرزانة, وكيف لا يكونون كذلك ومنهم: أبو بكر وعمر وغيرهم ممن استطاعوا قيادة شعوب العالم القديم؟!
2) كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الجنة والنار ليس حديث خرافات، بل إنه أمر غيبي حقيقي أخبر به الله – عز وجل – على لسان أنبيائه ورسله، وأقره العقل، ووافقته الفطرة السليمة.
التفصيل:
أولا. الذين آمنوا بدعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – هم أناس عقلاء وعلى أكبر قدر من الرزانة:
في البداية نود أن نشير إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يدعو فقط إلى التوحيد والإيمان بالبعث، وأنه رسول الله إلى الناس، وظل كذلك حوالي عشر سنوات لا يعد أحدا بشيء من أمور الدنيا، وإنما كان يطلب من أتباعه الصبر على الأذى، وقد بقيت دعوته كذلك إلى أن هاجر من مكة إلى المدينة؛ إذ أصبحت المزايا الدنيوية للمستضعفين ثمرة من ثمرات إيمانهم بوحدانية الله عز وجل[3].
ونحن إذا استطعنا أن نحصر عدد المؤمنين بهذه الدعوة، فإننا لا نستطيع أن ننسب هؤلاء إلى طبقة معينة من طبقات المجتمع؛ لأنه قد استجاب لدعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – أناس من كل الطبقات على اختلاف مستوياتهم، فلقد كان من أوائل المسلمين:
- من طبقة التجار: أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.
- من طبقة السادة: عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب وسعيد بن زيد العدوي والأرقم بن أبي الأرقم وخالد بن سعيد بن العاص ابن سيد قريش رضي الله عنهم.
- من طبقة الموالي: صهيب الرومي وعمار بن ياسر ووالده ياسر العنسي – الذي استشهد تحت التعذيب ليرتد عن دينه فما ارتد حتى نال الشهادة بكل جدارة واستحقاق، وزيد بن حارثة رضي الله عنهم.
- من طبقة نساء الموالي: سمية والدة عمار بن ياسر، والتي استشهدت تحت التعذيب رافضة الارتداد عن الإسلام.
- من طبقة أشراف النساء: خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت الخطاب وأم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية وأم سلمة زوجة أبي سلمة بن عبد الله بن أسد رضي الله عنهن .
- طبقة جواري النساء: أم عبيس وزنيرة والنهدية وبنتها وجاريتا إحدى نساء بني عبد الدار وجارية بني مؤمل من بني عدي رضي الله عنهن.
- طبقة العبيد: عامر بن فهيرة وبلال بن رباح وخباب بن الأرت رضي الله عنهم.
- طبقة رعاة الأغنام: عبد الله بن مسعود وأبو ذر الغفاري وأخوه أنيس الغفاري رضي الله عنهم.
لقد آمنت كل هذه الفئات بدعوة محمد – صلى الله عليه وسلم – لأنها دعوة إلى التوحيد الخالص، ولم يكن هؤلاء من السذج البله، الذين ملوا الترف أو اشتد عليهم الفقر – كما يزعمون – بل لو كان الأمر كذلك لنأوا عن الإسلام بكل جهدهم، لا أن ينضموا تحت لوائه “فلقد كانت نتيجة إسلام التجار أن قاطعت قريش شراء بضائعهم، وكان نتيجة إسلام السادة تسفيه عقولهم، وكان نتيجة إسلام المولى صهيب الرومي سلب ماله الذي ورثه إياه سيده، بينما كانت عقوبة ياسر العنسي وزوجته سمية التعذيب حتى الموت، وعقوبة أشراف النساء عزوف قريش عن مصاهرتهن، وعقوبة الجواري والعبيد هي التعذيب” [4]. وهذا يدل على أن سبب إسلام هؤلاء هو اقتناعهم التام بأن ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – هو الحق من ربه، وأن ما عداه هو الضلال المبين.
والمتأمل في حال المؤمنين الأوائل يجد أنهم كانوا يتمتعون بمنزلة كبيرة في أقوامهم، وكانوا يعرفون بالعقل والرزانة، ولا يمكن أن يوصفوا أبدا بالسذاجة والبلاهة، ونحن إذا تتبعنا أخبار بعض هؤلاء المسلمين الأوائل فسوف تتأكد لنا هذه الحقيقة الجلية، وهي أن هؤلاء المسلمين كانوا يتمتعون بقدرات ومؤهلات تفوق كثيرا أقرانهم الذين لم يسلموا، ومن هؤلاء:
- أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه – كما يقول ابن كثير – صدرا[5] معظما، ورئيسا في قريش مكرما، وصاحب مال في الجاهلية قبل الإسلام.
ويقول ابن إسحاق: “وكان أبو بكر رجلا متألفا لقومه، محببا سهلا” [6].”وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر، وكان تاجرا ذا ثروة طائلة، وكريما حسن المجالسة عالما بتعبير الرؤى، ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام” [7].
“ويقول ابن إسحاق عن بداية إسلامه: ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آباءنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بلى. إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعو بالحق، فوالله، إنه للحق, أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته”، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق، فلم يحتج أبو بكر – رضي الله عنه – في أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى دليل خارج عن حاله وخلقه صلى الله عليه وسلم” [8].
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
كان تاجرا مشهورا من أشراف قريش، وكانت إليه السفارة في الجاهلية، وذلك أن قريشا إذا وقعت بينهم حرب أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به وبعثوه منافرا ومفاخرا، وهذا دليل على مكانته الاجتماعية، ومنزلته في قريش قبل الإسلام، ولما بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان ابن الخطاب شديدا عليه وعلى المسلمين[9].
ولما علم عمر بإسلام أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد – رضي الله عنهما – ذهب إلى بيتها، وسمع حين دنا من البيت قراءة خباب بن الأرت عليهما؛ فلما دخل قال: ما هذه الهينمة[10] التي سمعت؟ وبطش عمر بختنه – أي زوج أخته – سعيد بن زيد، فقامت أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك، قالت له أخته وختنه: نعم أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك، فلما رأى عمر ما بأخته من الدم، ندم على ما صنع فقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك، قالت له أخته: يا أخي، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا المطهرون، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة، وفيها “طه”.
فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، فلما سمع ذلك خباب قال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه, فأخذ عمر سيفه فتوشحه[11]، ثم عمد إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما دخل نهض إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخذ بمجمع ردائه، ثم جبذه[12] به جبذة شديدة، وقال: “ما جاء بك يا ابن الخطاب”؟ فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن عمر قد أسلم[13].
ويتضح من ذلك أن إسلام عمر لم يكن إلا بعد اقتناع شديد بأن ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الحق. فهل يعقل أن يوصف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بأنه من السذج أو البله كما يدعي هؤلاء المغرضون؟
- عثمان بن عفان رضي الله عنه:
روي عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أنه قال: كنت رجلا مستهترا بالنساء قبيل الإسلام، وفي ذات ليلة قابلت خالة لي قاعدة، وكانت قد تكهنت عند قومها، فلما رأتني قالت: عثمان، لك الجمال ولك اللسان، هذا نبي معه البرهان، أرسله بحقه الديان، وجاءه التنزيل والفرقان، فاتبعه لا تختالك[14] الأوثان، قلت: يا خالة، إنك لتذكرين شيئا ما وقع ذكره ببلدنا فأبينيه لي، فقالت: محمد بن عبد الله رسول من عند الله جاء بتنزيل الله، يدعو به إلى ربه، قال: ثم انصرفت ووقع كلامها في قلبي وجعلت أفكر فيه، وكان لي مجلس عند أبي بكر، فأتيته فأخبرته بما سمعت من خالتي، فقال: ويحك يا عثمان، إنك رجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا؟ أليست حجارة صما لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع؟ قلت: بلى والله إنها كذلك، قال: فقد والله صدقتك خالتك، هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – محمد بن عبد الله، قد بعثه الله – سبحانه وتعالى – برسالته إلى خلقه، قال: فوالله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية، فكان يقال: أحسن زوجين رقية وعثمان[15].
نلاحظ من خبر إسلام عثمان – رضي الله عنه – أنه لم يسلم إلا بعد أن أدرك أن ما كانوا يعبدونه من أصنام وحجارة ما هو إلا باطل, فهي لا تضر ولا تنفع، ولم يسلم إلا بعد أن اقتنع أن ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – هو الحق، وقد وصفه أبو بكر بالعقل والحزم، فكيف يمكن بعد ذلك وصف هؤلاء الصحابة الذين آمنوا بالله وبرسوله بأنهم سذج أو بله؟
ولدينا نماذج أخرى من الذين آمنوا بالرسول – صلى الله عليه وسلم – وقد كانوا ملوكا وأمراء على أقوامهم قبل الإسلام, ومنهم:
- وائل بن حجر:
كان ملكا مطاعا في قومه، وكان له صنم من العقيق[16] الأحمر يعبده ويحبه حبا شديدا، وكان يكثر السجود له ويعقر له العقائر[17]، وبينما هو نائم في الظهيرة أيقظه صوت منكر من المخدع الذي فيه الصنم، فقام من مضجعه وأتاه فسجد بين يديه، وقال وائل: ثم وجدت الصنم خر لوجهه، وانكسر أنفه واندقت، فقدمت إليه فجعلته رفاتا، ثم سرت مسرعا حتى أتيت المدينة، وأتيت المسجد، فلما رآني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بسط لي رداءه، فجلست عليه، ثم صعد المنبر وأقامني دونه، ثم قال: أيها الناس هذا وائل بن حجر أتاكم من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الإسلام، فقلت: يا رسول الله بلغني ظهورك، وأنا في ملك عظيم، فمن الله علي أن رفضت ذلك كله وآثرت الدين، قال: صدقت,اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده، قال وائل: فما لقيني أحد من الصحابة إلا قال لي: بشرنا بك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل قدومك بثلاث [18].
وهنا سؤال يتبادر إلى الذهن عند تأمل خبر إسلام وائل بن حجر وهو: لماذا يترك وائل صنمه الذي يعبده ويترك ملكه، ويأتي ليسلم ويتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لا بد أنه قد تأكد أن ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الحق، وأن ما كان فيه من لهو وعبادة للأصنام هو الباطل، فأسرع باتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – وتصديقه ليلحق بطريق الحق والهداية، ويبعد عن الضلال والغواية، فهل يمكن أن ينطبق عليه وصف هؤلاء المتقولين بالسذاجة؟ أيمكن لعاقل أن يصف من يعبد الله – خالق السماوات والأرض – بأنه ساذج أو أبله؟ إذن، فماذا نسمي من عمي عن خالقه ورازقه… ثم عبد من دونه ما لايغني عنه ولا عن نفسه شيئا؟!
إن وصف هؤلاء الصحابة الكرام بالسذاجة أو البلاهة لهو السذاجة والبلاهة بعينها؛ فقد كانوا – رضي الله عنهم – أحسن الناس عقلا، وأكثرهم حكمة، وأوسعهم إدراكا، وأصدقهم مشورة.
وكيف يوصف بالسذاجة من هزموا إمبراطورية الروم، وقهروا مملكة الفرس؟! وكيف يوصف بالسذاجة من استطاعوا نشر الإسلام في أنحاء المعمورة في مدة زمنية قصيرة جدا؟
وإذا كانت دعوته – صلى الله عليه وسلم – لا يؤمن بها إلا السذج، فلماذا أسلم كفار قريش أمثال: عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وسفيان بن حرب وغيرهم ممن حاربوا الإسلام؟! هل كانوا عقلاء عندما حاربوا الإسلام ثم تحولوا إلى السذاجة بدخولهم في الإسلام بعد أعوام قليلة؟!
كما أنه ليس صحيحا أن فقراء الصحابة دخلوا في الإسلام؛ لأنهم ملوا الفقر، فما الذي كان يملكه النبي – صلى الله عليه وسلم – ليعطيه لهم؟
لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – كثير الأموال، ولم يكن زعيما أو قائدا في قومه، إنه كان يرعى الأغنام على قراريط لأهل مكة، ثم عمل في تجارة السيدة خديجة بنت خويلد. فأي شيء وعدهم من نعيم الدنيا، وليس له منها شيء يذكر؟ أوقد نسي المدعون ما عاناه الصحابة والرسول – صلى الله عليه وسلم – من شدة الجوع والفقر، حتى إنهم ليربطون الحجر فوق بطونهم، وإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ليربط حجرين، فمن أين يعطيهم؟، وأي نعيم يعدهم به؟! إنه كان لا يعد من يأتيه ليعلن إسلامه إلا بشيء واحد هو “الجنة”.
والثابت تاريخيا أن هؤلاء الفقراء وجدوا الإهانة والتعذيب من أسيادهم بعد اعتناقهم الإسلام, فهذا النبي – صلى الله عليه وسلم – يمر على آل ياسر وهم يعذبون بسبب إسلامهم. فيقول لهم: «صبرا آل ياسر فإن مصيركم إلى الجنة» [19]. وهذا بلال بن رباح يعذب ويكاد يهلك لولا إعتاق أبي بكر له، ونماذج تعذيب الكفار للمسلمين وإذلالهم لصدهم عن الإسلام كثيرة ومتنوعة,ولا يتسع المجال لسردها أو حصرها.
وهؤلاء الفقراء قد هاجروا إلى المدينة فرارا بدينهم، تاركين أموالهم وأبناءهم ومساكنهم، فأي نعيم دنيوي تطلعوا إليه عندما آمنوا بدعوة نبي قد تكالب عليه الزعماء والأشراف ليخرجوه أو يقتلوه؟
أما الأغنياء، أمثال: أبي بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنهم – فما كان إيمانهم لأنهم ملوا الترف، وإلا لحرصوا بعد إيمانهم على إضاعة المال وإهداره فيما لا يفيد، ولأداروا للدنيا ظهورهم لا يعبئون بها وبما فيها، منصرفين عنها بالكلية، وهذا ما لم يثبت عنهم، ولم يأت نص قرآني أو نبوي يحضهم عليه، بل كان العكس، أن نزلت الآيات التي تحضهم على الإنفاق في سبيل الله وتأمرهم به، كقوله عز وجل: )لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون( (آل عمران: 92)، ونزلت الآيات التي تأمرهم بالاعتدال في إنفاق الأموال، وتحول بينهم وبين الإسراف وإضاعة الأموال في غير فائدة، قال – عز وجل – محذرا من التبذير: )إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا (27)( (الإسراء)، وقال: )وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)( (الأعراف).
فهؤلاء الأغنياء حافظوا على أموالهم ولم يضيعوها وأنفقوا على الجهاد والدعوة من أموالهم الكثير والكثير، فقد ثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما أحد أعظم عندي يدا من أبي بكر»،[20] وورد أن عمر أتى بنصف ماله إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لينفقه على الدعوة، وهذا عثمان بن عفان يجهز ثلث جيش العسرة (غزوة تبوك)، وهذا عبد الرحمن بن عوف يترك تجارته وأمواله في مكة من أجل الحفاظ على إيمانه، فيأتي المدينة ويسأل عن السوق ويبحث لنفسه عن مكان لتاجر بسيط, ولكنه ما يلبث أن يصبح من أكبر تجار المدينة، إذن، كانوا أغنياء، ولكن هذا الغنى كان مسخرا لخدمة الإسلام الذي دخلوه مقتنعين به، باذلين كل غال ورخيص في سبيله.
ثانيا. كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الجنة والنار ليس حديث خرافات:
الجنة هي الجزاء العظيم والثواب الجزيل الذي أعده الله لأهل طاعته، أما النار فهي العذاب الأليم والسجن الكئيب الذي أعده الله للكافرين والعصاة,وليست الجنة والنار من حديث الخرافات,وإليك بيان ذلك:
- حديث القرآن عن الجنة والنار:
ما من نبي إلا وأخبر قومه بحقيقة اليوم الآخر وما يكون فيه من نعيم أو عذاب، وقد تكلم النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الجنة والنار، فوعد المؤمنين الطائعين بالجنة، وأنذر الكافرين والعصاة عذاب النار، وتعددت الآيات التي تكلمت عن الجنة والنار وتنوعت في طرق سردها، من ذلك قوله تعالى عن الجنة: )وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133)( (آل عمران)، )سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله( (الحديد: 21)، ومن الآيات التي تكلمت عن النار قوله سبحانه وتعالى: )إن جهنم كانت مرصادا (21) للطاغين مآبا (22)( (النبأ).
- علاقة الجنة والنار باليوم الآخر,وأهمية الإيمان به:
إن الحديث عن الجنة والنار لا بد أن يتصل بالحديث عن اليوم الآخر، فالجنة والنار هما النهاية التي ينتهي إليها كل إنسان بعد الحساب والعرض على الله – سبحانه وتعالى – واليوم الآخر هو المخصص لأمر الحساب، وبعدها إما أن يدخل الإنسان الجنة أو النار؛ لذلك سيتداخل كلامنا عن الجنة والنار مع الحديث عن اليوم الآخر وقضية البعث والحساب.
والإيمان باليوم الآخر هو العنصر المهم الذي يلي الإيمان بالله مباشرة؛ لأن الإيمان بالله يحقق المعرفة بالمصدر الأول الذي صدرعنه الكون، والإيمان باليوم الآخر يحقق المعرفة بالمصير الذي ينتهي إليه هذا الوجود.
ويبرز الشيخ السيد سابق أهمية العلم بالمصدر والمصير والنتيجة المترتبة على الجهل بهما فيقول: “وعلى ضوء المعرفة بالمصدر والمصير يمكن للإنسان أن يحدد هدفه، ويرسم غايته، ويتخذ من الوسائل والذرائع ما يوصله إلى الهدف ويبلغ به الغاية.
ومتى فقد الإنسان هذه المعرفة فإن حياته سوف تبقى حياة لا هدف لها ولا غاية منها, وحينئذ يفقد الإنسان سموه الروحي وفضائله العليا، ويعيش كما تعيش الأنعام، تسيرها غرائزها الطبيعية واستعداداتها الفطرية، وهذا هو الانحطاط الروحي المدمر لشخصية الإنسان” [21].
- الإيمان باليوم الآخر يرتقي بشخصية الفرد:
“في الإنسان نزعتان فطريتان متكاملتان: إحداهما تنزع إلى الإيمان بالمحسوس، والأخرى تنزع إلى الإيمان بالغيب. وإذا كان الإنسان يشترك في النزعة الأولى مع بعض المخلوقات الأخرى، فقد خصه الله بالنزعة الثانية, وهي الإيمان بالغيب, وكرمه بها، وفضله بها على كثير ممن خلق. وكانت هذه الموهبة الربانية من عوامل رفعة الإنسان واتساع أفقه وعظمة روحه، وانفساح المجال أمامه وراء المحسوسات القريبة إلى آفاق التفكير والتدبر في الكون كله؛ لينتفع به ويستدل به على عظمة خالقه ومبدعه” [22].
أما الإنسان الذي يكتفي بالنزعة الأولى – الإيمان بالمحسوس فقط – فسوف يعيش في ضنك وضيق من العيش؛ لضيق أفقه وإحساسه بعدم قيمة الحياة التي يحياها، وسوف يزيد اضطرابه وقلقه؛ لرغبته في الحياة وخوفه من الموت, وسوف يسارع إلى الملذات، ويعيش حياة بهائمية؛ لأن عمره محدود بسنوات، ولذائذ الحس كثيرة ومتنوعة، وسوف تغيب من حسه معان مثل: الضمير، والحرام، والفضائل، والعلم، والإبداع، والحقوق، وسوف يمتد التأثير إلى المجتمع وإلى الأمم لتعيش في صراعات وتكالب على الدنيا والملذات.
ولن يرتفع الإنسان من ثقلة الأرض، ولن يتحرر من عبودية الشهوات ولن يرتقي بحياته إلا إذا آمن – بعد إيمانه بالله – باليوم الآخر، فالإيمان بأن كل متاع زائد يتنازل عنه الإنسان في الحياة الدنيا – طاعة لله والتزاما بأمره – يعوض عنه في الآخرة بمتاع أعلى وأخلد وأبقى، والإيمان في ذات الوقت بأن كل خروج على أمر الله في الحياة الدنيا – من أجل متاع الأرض الزائل – سيجازى عليه في الآخرة عذابا أليما؛ هذا الإيمان يصنع الفرد المثالي، الذي يقدر على الارتفاع إلى القيم العليا والأخلاق الفاضلة والمثل الرفيعة؛ لأنه يوقن بالجزاء الذي سوف يناله على ذلك كله.
وعندئذ يوجد الفرد الصالح والجماعة الصالحة التي تتعاون على البر والتقوى ولا تتعاون على الإثم والعداون[23].
- العقل والفطرة السليمة لا يتعارضان مع الإيمان باليوم الآخر:
هذا الكون بما فيه من سماوات وأراض وجبال وبشر ودواب سوف يصبح خلقه باطلا ونوعا من العبث إذا لم يكن هناك يوم آخر يحاسب فيه الناس على أعمالهم, فيثاب المحسن ويعاقب المسيء. قال سبحانه وتعالى: )أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115)( (المؤمنون).
“فنحن نشاهد في حياتنا الدنيا ظالمين ظلوا ظالمين حتى لحظة الموت, ومظلومين ظلوا مظلومين حتى لحظة الموت. أفإن كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف أيكون هذا عدلا وحكمة؟! وأين هو العدل، والظالم لم يقتص منه, والمظلوم لم يقتص له؟! وأين هي الحكمة في خلق حياة تجري أحداثها على غير مقتضى العدل, ثم تنتهي على هذه الصورة” [24]؟
لا يجوز في حق الله تعالى أن تكون الأمور على هذه الصورة من العبث وعدم الحكمة.
لقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا: )تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير (1) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور (2)( (الملك).
“فإذا كان الموت هو نهاية المطاف, فأين حكمة خلق الموت والحياة؟ وكيف يتميز الذين أحسنوا العمل من الذين أساءوا” [25]؟
“والحساب هو مقتضى العدل الإلهي, فالله – عز وجل – متصف بصفات الكمال, ومن صفاته الكمالية العدل والحكمة, فهو عدل لا يظلم أحدا من خلقه, وحكيم لا يضع الشيء في غير موضعه.
ومن عدله وحكمته ألا يسوي بين البر والفاجر, ولا بين المؤمن والكافر, ولا بين المحسن والمسيء, فإن التسوية بينهما منتهى الظلم والسفه” [26].
فالعدل أن يحاسب كل فرد بعد البعث على ما قدم من خير أو شر, فمن غلب خيره شره دخل الجنة, ومن غلب شره خيره دخل النار.
وإذا تبجح أحدهم وقال: )وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (47) أوآباؤنا الأولون (48)( (الواقعة), قلنا له: )قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26)( (الجاثية).
فالله تعالى الذي خلقكم أولا, والذي يميتكم ثانية، أليس بقادر على إحيائكم مرة أخرى؟! بلى وهو الخلاق العليم.
وعليه فليس صحيحا أن المؤمنين الأوائل بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – كانوا من السذج والبله؛ لأنهم صدقوا بوجود الجنة والنار، لأن السذاجة والبله حقا هو إنكار وجودهما لعدم وقوعهما تحت إدراك الحس والعقل. وهل كل ما لا يدركه الحس أو العقل لا وجود له؟ لا شك أن هذا لا يقول به عاقل منصف يحترم الحق.
الخلاصة:
- لقد ظل النبي – صلى الله عليه وسلم – طيلة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى التوحيد فقط، ولا يعد أحدا بشيء من أمور الدنيا؛ لهذا نجد أن كل من آمن بدعوته – صلى الله عليه وسلم – قد آمن عن اقتناع تام بصدق دعوته، وأن ما جاء به هو الحق من ربه، وأن ما عداه هو الضلال المبين.
- لقد آمن بدعوة محمد – صلى الله عليه وسلم – أناس من كافة فئات المجتمع وكانوا على درجة كبيرة من الاحترام في أقوامهم، وقدراتهم العقلية تفوق أقرانهم، ويكفي أن نعرف أن من أوائل هؤلاء المسلمين: أبا بكر الصديق التاجر الذكي ونسابة قريش، وعمر بن الخطاب التاجر المشهور وسفير قريش في الجاهلية، وعثمان بن عفان الذي هداه عقله إلى ما عليه قومه من الضلال، وأن ما يعبدون من دون الله لا يضر ولا ينفع، وهؤلاء الثلاثة قد تولوا خلافة المسلمين واستطاعوا أن يدبروا أمر أمة عظيمة، وأن يقضوا على أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت (الفرس والروم)، فهل يمكن أن يقال إنهم من السذج والبله؟! وكذلك آمن بهذه الدعوة زعماء وسادة وملوك في أقوامهم كعدي بن حاتم، والنجاشي ملك الحبشة، ممن لا يمكن أن يوصفوا بالسذاجة والبله إلا ممن أنكر نفسه وسفه عقله.
- الجنة والنار حق وليستا من الخرافات، وقد أخبر بهما جميع الأنبياء والرسل، فوعدوا المؤمنين بالجنة، وأنذروا الكافرين وحذروهم من النار، والكلام عن الجنة والنار يوافق العقل، ولا ترفضه الفطرة السليمة؛ إذ إن من مقتضيات العدل والحكمة الإلهية أن يكون ثمة يوم آخر يحاسب الناس جميعا فيه تحت عدالة نزيهة لا تعرف المجاملات أو المحسوبيات، وكل يحاسب بما فعل إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، أما أن تنتهي الحياة بالموت وانتهاء الدنيا ثم لا يعاقب الظالم ولايجازى المظلوم فهذا هو الظلم بعينه.
(*) اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م.
[1]. الشرذمة: الفئة القليلة.
[2]. البله: جمع أبله، وهو ضعيف العقل.
[3]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص648 بتصرف.
[4]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص648، 649 بتصرف يسير.
[5]. صدر في قومه: سيدهم ورئيسهم.
[6]. دلائل النبوة ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، د. عبد الحليم محمود، دار الإنسان، القاهرة، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص372.
[7]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص70.
[8]. دلائل النبوة ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، د. عبد الحليم محمود، دار الإنسان، القاهرة، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص372، 373.
[9]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص105.
[10]. الهينمة: الصوت الذي لا يفهم.
[11]. توشح بالسيف: تقلده.
[12]. جبذ: جذب.
[13]. دلائل النبوة ومعجزات الرسول، د. عبد الحليم محمود، دار الإنسان، القاهرة، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص385، 386.
[14]. تختال: تخادع.
[15]. الخصائص الكبرى، السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص218، 219.
[16]. العقيق: حجر كريم أحمر يصنع منه الفصوص.
[17]. العقائر: هي الذبائح، وكانوا يتقربون بها إلى الأصنام.
[18]. محمد أعظم البشر، د. حمزة النشرتي، دار النشرتي، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص301، 302.
[19]. صحيح: أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 140)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (43/ 369)، وصححه الألباني في تحقيقه لفقه السيرة، ص103.
[20]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 191)، أحاديث عبد الله بن العباس رضي الله عنهما (11461)، وفي المعجم الأوسط (1/ 166) برقم (504)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2214).
[21]. العقائد الإسلامية، السيد سابق، دار الكتب الحديثة، ط3، 1396هـ/ 1976م، ص231 بتصرف يسير.
[22]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق, القاهرة, ط1, 1422هـ/ 2001م، ص115 بتصرف.
[23]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق, القاهرة, ط1, 1422هـ/ 2001م، ص394، 395 بتصرف.
[24]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق, القاهرة, ط1, 1422هـ/ 2001م، ص387.
[25]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق, القاهرة, ط1, 1422هـ/ 2001م، ص394، 395 بتصرف.
[26]. العقائد الإسلامية، السيد سابق، دار الكتب الحديثة، ط3، 1396هـ/ 1976م، ص249.