الزعم أن تقرير النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس حجة في الشرع
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن مهمة النبي – صلى الله عليه وسلم – هي التبليغ عن ربه – عز وجل – وتعليم المسلمين أمور دينهم؛ وذلك من خلال أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، بل إن مهمته لا يمكن أن تؤدى إلا بذلك، ولو سكت النبي – صلى الله عليه وسلم – عما يفعل أمامه مما يخالف الشرع، كما زعموا، لما كان ناهيا عن المنكر كما بين القرآن، فكيف يكون النهي عن المنكر واجبا على الأمة، ولا يعمل به النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو المعصوم؟
2) تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز باتفاق علماء المسلمين، وعليه فلا يجوز على النبي – صلى الله عليه وسلم – عدم نهي من يخالف الشرع, سواء أكان الفاعل جاهلا بالمخالفة أم عالما بها، وهكذا كان دأبه – صلى الله عليه وسلم – بل إن مجمل حياته وأفعاله وأقواله – صلى الله عليه وسلم – إما أمر بمعروف وإما نهي عن منكر.
3) النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقر اليهود والنصارى على معتقداتهم، بل دعاهم وكاتبهم وعاهدهم ثم حاربهم لما غدروا وطغوا. فهل هذا يعد إقرارا أم إنكارا وتغييرا؟! كما أن نوع المعاملة مع اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار والمشركين – خارج عن الإقرار – الذي يحتج به – المشروط بكونه للمسلم الملتزم المطيع المتبع؛ إذ توجه إليهم الدعوة أولا حتى يدخلوا في الإسلام فإذا آمنوا صح في حقهم الإقرار أو الإنكار.
4) ما علم من حال الصحابة – رضي الله عنهم – في وقائع كثيرة يدل على احتجاجهم بتقريره صلى الله عليه وسلم؛ إذ التقارير تمثل قسما مهما من السنة، فإقراره – صلى الله عليه وسلم – تشريع من الله – تعالى – لسائر أفراد الأمة يجب الأخذ به؛ تحقيقا لقوله تعالى: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة( (الأحزاب: ٢١).
التفصيل:
أولا. مهمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – هي التبليغ عن ربه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو سكت النبي – صلى الله عليه وسلم – عما كان يفعل أمامه مما يخالف الشرع لم يكن ناهيا عن المنكر:
نقرر بداية أن الوظيفة الأولى للنبي – صلى الله عليه وسلم – والمهمة التي بعث من أجلها – هي تبليغ رسالة الله – عز وجل – للناس كافة، يقول تعالى: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك( (المائدة: ٦٧)، والبلاغ الذي أمر المولى – عز وجل – به رسوله – صلى الله عليه وسلم – هو البلاغ الشامل لكل ما تحتاج إليه البشرية في عاجلها وآجلها، ودنياها وأخراها[2]، ويدل على هذا الشمول عموم اسم الموصول “ما” في الآية، كما عمم من أراد تبليغهم، حين حذف المفعول الأول لـ “بلغ” ليعم الخلق المرسل إليهم، والتقدير: بلغ جميع ما أنزل إليك من كتاب وسنة، من يحتاج إلى معرفته، وهم جميع الأمة, من أمر الدين الموحى به إليك[3].
“ولقد نادى الله – عز وجل – الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأن يبلغ ما أنزل إليه من ربه. كل ما أنزل إليه، لا يستبقي – منه شيئا، ولا يؤخر منه شيئا مراعاة للظروف والملابسات أو تجنبا للاصطدام بأهواء الناس، وواقعهم، وإن لم يفعل فما يكون قد بلغ”[4]، وحاشا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ألا يفعل، أو أن يكتم شيئا أمره ربه بتبليغه، وكيف هذا؟ وقد شهد الله له – صلى الله عليه وسلم – بصدقه وأمانته في تبليغ الوحي بقسميه: القرآن والسنة، فلقد نفى عنه الضن به؛ إذ يقول: )وما هو على الغيب بضنين (24)( (التكوير), وقد شهد له أصحابه الكرام في حجة الوداع بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة.
هذا فضلا عن وجود أحاديث كثيرة تنص على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعلم الناس، ويريهم أصول الدين، ويبعث صحابته إلى الآفاق مبشرين ومنذرين.
والقرآن الكريم ذكر هذه المهمة الأساسية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – صراحة، فقال: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة( (الجمعة: ٢).
فقد بينت هذه الآية أن من مهمات الرسول – صلى الله عليه وسلم – التعليم والتربية، تعليم الكتاب والحكمة، وتربية الأنفس عليها، وكان الجانب الأعظم من حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مستغرقا لهذا الجانب؛ إذ إنه هو الجانب الذي ينبع منه كل خير، ولا يستقيم أي جانب من جوانب الحياة: سياسيا، أو اجتماعيا، أو اقتصاديا، أو عسكريا، أو أخلاقيا، إلا به، فالأمة بلا علم يوضح لها جوانب سلوكها، وبلا تربية تعرف كل فرد من أفرادها واجبه – تصبح أمة فوضوية، تصرفاتها غير متوقعة وغير منضبطة، ولكل فرد من أفرادها سلوك يخالف سلوك الآخر، وعادات وتصورات تختلف؛ فلا تكاد تفلح بهذا أمة ولا فرد”[5].
وإذا كانت هذه هي مهمة النبي – صلى الله عليه وسلم – فكيف يحققها على وجهها المنوط بها، إن لم يكن آمرا بالمعروف، وناهيا عن الرذيلة والمنكر؟
فإذا أضفنا إلى ما ذكرناه من حقائق كون النبي – صلى الله عليه وسلم – أسوة حسنة للمسلمين، وأن المسلمين مأمورون باتباعه في كل ما يفعل: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21)( (الأحزاب) – ساغ لنا أن نتساءل: كيف يظن متوهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – يمكن أن يسكت عن أية مخالفة للشرع؟ أو أن يمتنع عن النهي عن أي منكر يراه، لأي سبب من الأسباب؟! وخاصة إذا علمنا أن هذا السكوت منه – صلى الله عليه وسلم – على المخالفة يعني بقاء هذه المخالفة في الأمة إلى يوم الدين.
وكيف يظن هؤلاء هذا، وقد ذكر الله – سبحانه وتعالى – أن خيرية هذه الأمة مشروطة بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، يقول عز وجل: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر( (آل عمران: ١١٠). وعليه فإذا انعدم وجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انعدم وصف الخيرية.
وقد أوجب النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمته إنكار المنكر، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[6]، فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق أمة المسلمين مؤكدا فهو في حق النبي – صلى الله عليه وسلم – أوكد، وهو المكلف من قبل ربه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن مهمته لا يمكن أن تؤدى إلا بذلك، وقد وصفه ربه بقوله: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر( (الأعراف: ١٥٧).
ولا شك أنه – صلى الله عليه وسلم – لو سكت عما يفعل أمامه مما يخالف الشرع، لما كان ناهيا عن المنكر[7]، وهذا لا يجوز في حقه – صلى الله عليه وسلم – وما كان له – صلى الله عليه وسلم – أن يقر أو يسكت عن شيء يخالف الشرع، بل كانت تقريراته – صلى الله عليه وسلم – كلها توافق الشرع، وهي حجة يجب على المسلمين الالتزام بها في كل زمان ومكان، وبذلك نكون قد كشفنا عوار هذه الدعوى الباطلة وأتينا عليها من الأساس، وأثبتنا أن الإقرار كالقول والفعل في درجة الاقتداء والاتباع.
ثانيا. تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه – صلى الله عليه وسلم – باتفاق علماء المسلمين:
لقد سبق أن أوضحنا أن مهمة النبي – صلى الله عليه وسلم – هي تبليغ رسالة الله إلى الخلق، وقد أوضحنا أن هذا البلاغ عام يشمل كل ما يوحى إليه – صلى الله عليه وسلم – من كتاب وسنة، وهو عام أيضا؛ لأنه يشمل كل البشر في كل زمان ومكان.
وعليه؛ فإن من مقتضيات هذا البلاغ ألا يؤخر النبي – صلى الله عليه وسلم – حكما من الأحكام الشرعية عن وقت الحاجة إليه؛ لأن هذا التأخير يعني فوات الحكمة من هذا البلاغ؛ لهذا أوجب الله – عز وجل – على نبيه تبليغ كل ما يوحى إليه وقت الحاجة إليه أو قبلها، يقول عز وجل: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته( (المائدة: ٦٧).
فقد ذهب الجمهور إلى أن قوله: )فما بلغت رسالته( معناه: وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك من ربك بأن كتمت بعضه، فكأنك لم تبلغ منه شيئا قط؛ لأن كتمان بعضه ككتمان الجميع[8]، وهذه الآية تفيد حكما ولا تصف واقعا؛ لأن الله – عز وجل – عصم نبيه من كتمان شيء مما أمره بتبليغه، ولولا ذلك لبطلت حكمة الرسالة بعدم ثقة الناس بالتبليغ. وقد يسأل سائل: إذا كان الأمر كذلك من عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – عن كتمان شيء من الوحي، فلماذا هذا التأكيد في هذه الآية بجعل كتمان بعضه ككتمان كله؟
والجواب هو أن الحكمة من هذا التأكيد هي إعلام الله لنبيه أن التبليغ حتم لا تخيير فيه، ولا يجوز كتمانه ولو مؤقتا بتأخير شيء منه عن وقته على سبيل الاجتهاد؛ إذ يجوز لولا هذا النص أن يكون من اجتهاد الرسول – صلى الله عليه وسلم – تأخير بعض الوحي إلى أن يقوى استعداد الناس لقبوله، ولا يحملهم سماعه على رده، وإيذاء الرسول لأجله[9]، ولهذا كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقرأ القرآن على الناس عند نزول الآية، ويأمر بحفظها عن ظهر قلب، وبكتابتها، والمتتبع لسيرته – صلى الله عليه وسلم – يجد أنه كان يبادر بإبلاغ القرآن عند نزوله، فإذا نزل عليه ليلا أخبر به عند صلاة الصبح، وفي حديث عمر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: )إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1)( (الفتح)»[10].
وهذه المبادرة منه – صلى الله عليه وسلم – بالبلاغ لا تقتصر على القرآن فقط، بل تشمل كل ما يوحى إليه من ربه، ومن ذلك الأحكام والشرائع، وما يحتاجه المسلمون في أمور دينهم ودنياهم.
فإذا ارتكب أحد المسلمين مخالفة لأحكام الدين، ورآه النبي – صلى الله عليه وسلم – أو علم به وجب عليه – صلى الله عليه وسلم – نهيه عن هذه المخالفة في وقتها؛ لأن هذا المخالف إما أن يكون جاهلا بالمخالفة، أو عالما بها، فإن كان جاهلا بها, وجب البيان له ليستدرك ما فات إن كان مما يستدرك، ولئلا يعود إلى المخالفة في المستقبل، وإن كان عالما فلئلا يتوهم نسخ الشرع المخالف، وثبوت عدم التحريم.
ويؤكد ما ذهبنا إليه إنكاره – صلى الله عليه وسلم – على المسيء صلاته، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي – صلى الله عليه وسلم – فرد، وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل (ثلاثا)، فقال: والذي بعثك بالحق، ما أحسن غيره، فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، وافعل ذلك في صلاتك كلها»[11].
ففي حادثة المسيء صلاته هذه، لم يغض النبي – صلى الله عليه وسلم – الطرف عن خطأ وقع أمامه، كما لم يؤخر تصحيحه إلى وقت آخر، حتى لا يكون مقرا له، وإنما كان ذلك في وقت حدوثه. وهذا يدل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لفاعل خالف الشرع جاهلا لا يجوز، وهو لمن علم الحكم أولى، إذ يعد الإقرار حينئذ نهيا عن منكر، وزجرا لمن وقع فيما يخالف الشرع عالما به، وحتى لا يتوهم نسخ الحكم.
ثالثا: الإقرار من النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يعتبر إلا مع المسلمين:
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يقر إلا من كان مسلما، وما كان له – صلى الله عليه وسلم – أن يسكت عن الإنكار على من توفر فيه هذا الشرط، وهو الإسلام الخالص، ما دام قد أخطأ، وفي المقابل إقراره – صلى الله عليه وسلم – له بالموافقة إذا أصاب؛ إذ إنه – صلى الله عليه وسلم – مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما مر توضيحه سلفا.
ويدخل في هذا كون المقر له منافقا خفي النفاق، أي لا يعلمه جمهور الصحابة، فهذا تجري عليه أحكام المسلمين، ويكون إقراره حجة.
أما إذا كان المقر له منافقا ظاهر النفاق، فلا ينبغي أن يشك في أن إقراره ليس بحجة، فقد روي أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع بأصحابه عن مساعدة النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزوة أحد[12]، وكان له إماء يكرههن على البغاء[13] ويأكل من كسبهن السحت[14]، وحالف اليهود خشية أن تصيبه الدوائر، فكل ذلك لا حجة فيه على جواز صدور مثله من المسلمين، هذا فضلا عن أن القرآن لم يسكت على صنيع عبد الله بن أبي بن سلول في إكراه الإماء على الزنا بعد أن اشتكين من ذلك[15].
وقال ابن تيمية: “إقرار النبي – صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن أبي، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لـما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك، بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه”[16].
وعلى هذا فإن حال هؤلاء – أي الذين يظهرون النفاق – كحال اليهود والنصارى الذين أقرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – على معابدهم وكنائسهم ورتبهم الكنسية، وعلى بيعهم وبعض مراسيمهم في العقود والأقضية وغيرها. وأزال أشياء أخرى كإيذاء المسلمين. وأقر كذلك المجوس على معابدهم، مع ما يعمل فيها من الكفر بالله والشرك به، وقد اعتمر – صلى الله عليه وسلم – عمرة القضاء، فطاف بالكعبة وعليها الأصنام، وفيها الصور، وطاف بين الصفا والمروة وعليهما تمثالان لإساف ونائلة؛ فلم يكن ذلك حجة على صحة ذلك الوضع، ومن أجل هذا لا يكون سكوته عن الإنكار على فعل الكافر حجة على رفع الحرج، ولكن هو مع ذلك حجة على أنه يجوز للأئمة إقرار أهل الذمة على مثل ما أقرهم عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وهذا النوع هو من الاستدلال بالأفعال لا من حيث إنه تقرير.
وإيضاحا للأمر فإن سكوته – صلى الله عليه وسلم – عن الإنكار على أفعال الكفار من يهود ونصارى ومجوس وغيرهم, كان بعد أن أبان لهم ما حصل به البيان الكافي، القاطع للعذر، وقاتلهم حتى أعطوا الجزية وهم صاغرون، فلو تركهم بعد ذلك لم يظن أن الحكم قد تغير؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن ليكرر على الكفار والمشركين الإنكار في كل يوم وكل حال.
وعليه؛ فإنه يجوز ترك الإنكار على المصر الذي لم تنفعه التذكرة، لقوله عز وجل: )فذكر إن نفعت الذكرى (9)( (الأعلى)؛ إذ هو تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى، ذلك يفهم من اجتلاب حرف (إن) المقتضي عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه، لذلك جاء بعده بقوله )سيذكر من يخشى (10)( (الأعلى)، فهو استئناف بياني ناشئ عن قوله: )فذكر( وما لحقه من الاعتراض بقوله: )إن نفعت الذكرى (9)( (الأعلى) المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكرين، وهذا معنى قول ابن عباس: تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي”[17].
وعلى هذا فإنه لا يجوز الاحتجاج بالمعاملة مع اليهود أو النصارى وغيرهم من المشركين والكفار على أن الرسول ربما يترك المنكر دون نهي عنه لعلمه أن إنكاره لا يفيد؛ وذلك لأن من شروط صحة دلالة تقرير النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يكون المقر منقادا للشرع؛ بأن يكون مسلما سامعا مطيعا.
ففي وجود هذا الشرط لا يمكن القول بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – ربما ترك إنكار بعض المنكر؛ لأنه يعلم أنه لا فائدة منه، ولكن كل ما رآه من منكر يصدر من مسلم فإنه قد أنكره، وما لم ينكره النبي على أحد فهو إقرار منه لهذا الأمر، ومن ثم وجب اتباعه, ولا وجه لما استدلوا به من سكوته – صلى الله عليه وسلم – على اليهود والنصارى لما تقدم بيانه.
رابعا. كثرة احتجاج الصحابة – رضي الله عنهم – بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم:
كان الصحابة – رضي الله عنهم – يحتجون بتقرير النبي – صلى الله عليه وسلم – لعلمهم أنه لا يقر أحدا إلا على حق؛ إذ إنه – صلى الله عليه وسلم – مزكى بالوحي الإلهي والعناية الربانية من أن يقر أحدا على باطل أو منكر، ومما يشهد لذلك ما وقع للصحابة من وقائع، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما روي عن أنس بن مالك لما سئل وهو غاد إلى عرفة: «كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه»[18].
وكذا قول ابن عباس: «أقبلت راكبا على حمار أتان[19]، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد»[20].
وها هو البخاري يبين هذا الأمر في ترجمة باب من أبواب كتاب الاعتصام بالسنة، فيقول فيها: “باب من رأى ترك النكير من النبي – صلى الله عليه وسلم – حجة، لا من غير الرسول”، وروى بسنده عن محمد بن المنكدر أنه قال: «رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصياد الدجال، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم»[21].
وقال ابن حجر موضحا هذه الترجمة بقوله: “وقد اتفقوا على أن تقرير النبي – صلى الله عليه وسلم – لما يفعل بحضرته أو يقال، ويطلع عليه بغير إنكار دال على الجواز؛ لأن العصمة تنفي عنه ما يحتمل في حق غيره مما يترتب على الإنكار فلا يقر على باطل”[22].
فعلم أنه قد وقع اتفاق العلماء على عدم جواز سكوت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أمر محظور شرعا، وأن إقراره لشيء حجة معتبرة شرعا، في حين نجد أن سكوت غير النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يعد دليلا على جواز الفعل؛ لذلك قال البخاري في آخر ترجمته: “لا من غير الرسول”؛ لأن سكوته قد يكون مهلة للتفكير، وقد يكون لا يقوى على إنكار الفعل بلسانه فينكره بقلبه, لذلك قالوا: لا ينسب لساكت قول أما النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا.
أفلا يدل كل هذا على احتجاج الصحابة – رضي الله عنهم – بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم؟!
ثم إن عمل الصحابة جميعا على استنباط حكم الجواز من تقريرات “تنطبق على أفعال لا حصر لها، وذلك لكثرة ما كان يقع تحت ناظري رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الأفعال، وما يطرق سمعه من الأقوال من أصحابه، في أثناء مباشرتهم لأمور حياتهم وعبادتهم ودراستهم ونقاشهم وجهادهم وسفرهم وإقامتهم, وكفى بفعلهم حجة – كما تقدم”[23].
ويحسن بنا أن نضيف إلى قائمة الأدلة هذه، آية من القرآن الكريم تبين أن تقريره – صلى الله عليه وسلم – للأمة هو تشريع من الله تبارك وتعالى يجب الأخذ به تحقيقا؛ ألا وهي: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21)( (الأحزاب)؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – لا يتكلم إلا بالحق، وعن طريق الوحي، ولا يسكت عن شيء إلا إذا كان حقا وصوابا.
وإلا ما كان قد قام بوظيفته – صلى الله عليه وسلم – الأولى، التي أرسله الله من أجلها، وهي البلاغ عن ربه، من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، كما ذكرنا ذلك سلفا.
وعليه؛ فإن تقريره – صلى الله عليه وسلم – للأمة يعد حجة في الشرع لازمة الاتباع – حسب حكم فعل التقرير، إما بالوجوب، أو الندب، أو الإباحة – ليس على المقر وحده، بل يتعدى الحكم إلى سائر أفراد الأمة على القياس؛ لأن الأمة في أحكام الشرع سواء، ومما يشهد لذلك ما ورد عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «رد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على عثمان بن مظعون التبتل[24]، ولوأذن له لاختصينا[25]»[26]، فقوله هذا يدل على أنهم كانوا يرون التقرير لواحد إقرارا لغيره, بل ولجموع الأمة.
ومن ثم لو كان الإقرار على خلاف مقتضى العموم خاصا بالمقر له لوجب على النبي – صلى الله عليه وسلم – بيان الخصوصية، لئلا يكون ذلك تلبيسا على من علم بذلك الإقرار، وقد قال الغزالي: “لو كان – أي الفعل المقر عليه – من خاصيته – أي المقر له – لوجب على النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يبين اختصاصه، بعد أن عرف أمته أن حكمه في الواحد كحكمه في الجماعة”، فيدل من هذا الوجه على النسخ المطلق[27].
ونخلص مما سبق كله إلى أن تقريره – صلى الله عليه وسلم – يعد حجة في الشرع لسائر أفراد الأمة، وليس للمقر وحده؛ لأنه تشريع من الله تعالى، وهذا التقرير يمثل قسما مهما من السنة؛ لذا كان الصحابة – رضي الله عنهم – يحتجون بتقريره – صلى الله عليه وسلم – كما يحتجون بأقواله وأفعاله, وقد دلت على ذلك وقائع كثيرة لهم.
الخلاصة:
- لقد بعث الله – عز وجل – نبيه – صلى الله عليه وسلم – بمهمة أولى وأساسية، وهي التبليغ عنه سبحانه، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف يترك هذا، بسكوته – صلى الله عليه وسلم – عما يفعل أمامه مما يخالف الشرع, ألا يعد هذا مخالفة لما أمر به من النهي عن المنكر؟! وحاشا لرسول الله أن يفعل ذلك.
- إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه – صلى الله عليه وسلم – وذلك باتفاق علماء المسلمين، إلا أن يكون انتظارا لنزول الوحي بحكمه في ذلك؛ إذ إنه – صلى الله عليه وسلم – لا ينطق عن الهوى، ولا يتصرف إلا تبعا بما يأتيه به الوحي, ولذلك فلا يجوز للنبي – صلى الله عليه وسلم – أن يرى فعلا مخالفا للشرع ولا ينكره, حتى لو كان صاحبه ممن لم يبلغه التحريم, وإن كان قد بلغه فلئلا يتوهم فاعله نسخ الحكم, وحتى لا يتمادى في المنكر إن كان قد فعله عن عمد وقصد.
- ترك الإنكار على المصر الذي لم تنفع فيه التذكرة، كاليهود والنصارى، وغيرهم من الكفار والمشركين جائز شرعا، إلا أنه يخرج عن الإقرار الذي يحتج به؛ لأن من شروط صحة دلالة التقرير أن يكون المقر مسلما سامعا مطيعا، ومن ثم فلا ينسب لسكوت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن مثل هؤلاء – المفتقدين لهذا الشرط – حكم.
- كان الصحابة – رضي الله عنهم – يحتجون بتقرير النبي – صلى الله عليه وسلم – لعلمهم أنه لا يقر إلا حقا، وأنه لا يتصرف تبعا لهواه – صلى الله عليه وسلم – ومما يشهد لذلك ما وقع للصحابة من وقائع كثيرة أقرهم عليها. والسنة التقريرية تشمل أفعالا لا حصر لها، وذلك لكثرة ما كان يقع تحت ناظري رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الأفعال، وما يطرق سمعه من الأقوال, فكان يقر منها ما كان صوابا وهو كثير.
- كيف لا يكون تقرير النبي – صلى الله عليه وسلم – حجة في الشرع، مع أنه يمثل في الحقيقة قسما مهما من أقسام السنة، وحكمه يتعدى إلى سائر أفراد الأمة في كل زمان ومكان؛ لأنه تشريع من الله – عز وجل – إلا ما جاء خاصا بأفراد معينين، ومن ثم فمن اللامعقول أن يسكت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن فعل أو قول غير جائز شرعا وإلا لا يكون قد بلغ رسالة ربه وحاشاه – صلى الله عليه وسلم – أن يخون الأمانة، ولذلك نقول: إن تقريره – صلى الله عليه وسلم – لا يقل أهمية عن قوله وفعله، وهو رافد مهم من روافد استنباط الأحكام عند العلماء.
(*) أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م.
[1]. تقرير النبي صلى الله عليه وسلم (السنة التقريرية): وهو أن يسكت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن إنكار قول قيل، أو فعل فعل بين يديه، أو في عصره وعلم به، وسكوته هذا يفيد جواز هذا الأمر. ]أصول الفقه, محمد أبو زهرة، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 2006م، ص101. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م, (2/ 89)].
[2]. انظر: رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم, د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص350 بتصرف.
[3]. التحرير والتنوير, ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (6/ 258) بتصرف.
[4]. في ظلال القرآن, سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1987م, (2/ 937).
[5]. الرسول صلى الله عليه وسلم, سعيد حوى، دار السلام، القاهرة، ط2، 1410هـ/ 1990م، ص172.
[6]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان، (1/ 413)، رقم (175).
[7]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م، (2/ 16) بتصرف.
[8]. تفسير المنار, محمد رشيد رضا، دار الفكر، دمشق، ط2، د. ت، (6/ 468).
[9]. تفسير المنار, محمد رشيد رضا، دار الفكر، دمشق، ط2، د. ت، (6/ 469) بتصرف.
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل سورة الفتح، (8/ 675، 676)، رقم (5012).
[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، (2/ 276، 277)، رقم (757).
[12]. انظر: السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق: محمد بيومي، دار الحرم للتراث، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م, (3/ 17).
[13]. البغاء: الزنا.
[14]. السحت: هو ما خبث من المكاسب وحرم.
[15]. انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (12/ 254).
[16]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (28/ 131).
[17]. انظر: التحرير والتنوير, ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت, (15/ 284، 285).
[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحج، باب: التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة، (3/ 596)، رقم (1659).
[19]. الأتان: هي الأنثى من الحمر.
[20]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصلاة، باب: سترة الإمام سترة من خلفه، (1/ 680)، رقم (493).
[21]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة, باب: من رأى تـرك النكيـر مـن النبـي ـ صلى الله عليـه وسلـم ـ حجــة، (13/ 335)، رقم (7355).
[22]. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري, ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/ 335).
[23]. أفعال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلالتها على الأحكام الشرعية, د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م، (2/ 129)
[24]. التبتل: الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة.
[25]. الخصاء: الشق على الأنثيين وانتزاعهما.
[26]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء، (9/ 19)، رقم (5073).
[27]. المستصفى من علم الأصول، أبو حامد الغزالي، تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1417هـ/ 1997م، (2/ 157).