الزعم أن شريعة موسى- عليه السلام – هي أولى الشرائع للبشر
وجه إبطال الشبهة:
القرآن الكريم الذي سلم من التحريف الذي وقع للكتاب المقدس هو الحجة والمصوب للأخطاء الناشئة عن تحريف الكتاب المقدس، وقد ذكر أن الله تعالى قد شرع لنوح وإبراهيم من قبل موسى عليهم السلام.
التفصيل:
القرآن هو الصدق كل الصدق، في كل ما جاء به من عقيدة وشريعة وقصص وأخبار، وقد ذكر أن الله تعالى قد شرع لنوح وإبراهيم – عليهما السلام – من قبل:
قال سبحانه وتعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)( (الشورى).
أخبر الله – سبحانه وتعالى – أنه قد شرع لنوح وإبراهيم ما قد شرعه لموسى وعيسى – عليهم السلام – من شريعة فقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابـن جريـر، عـن قتـادة – رحمه الله – )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا( قال: الحلال والحرام.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة – رضي الله عنه – قال: بعث نوح – عليه السلام – حين بعث بالشريعة، بتحليل الحلال وتحريم الحرام[1].
وأخرج ابن المنذر، عن زيد بن رفيع، بقية أهل الجزيرة، قال: بعث الله نوحا – عليه السلام – وشرع له الدين، فكان الناس في شريعة نوح – عليه السلام – ما كانوا، فما أطفأها إلا الزندقة [2]، ثم بعث الله موسى عليه السلام، وشرع له الدين، فكان الناس في شريعة من بعد موسى، ما كانوا، فما أطفأها إلا الزندقة، ثم بعث الله عيسى – عليه السلام – وشرع له الدين، فكان الناس في شريعة عيسى – عليه السلام – ما كانوا فما أطفأها إلا الزنادقة، قال: ولا يخاف على هلاك هذا الدين إلا الزنادقة[3].
وعدم نص الكتاب المقدس على شريعة قبل شريعة موسى – عليه السلام – لا يعد دليلا على عدم وجود شرائع قبل موسى عليه السلام، وذلك لوقوع تدخلات بشرية فيه أدت إلى احتوائه على العديد من الأباطيل والأساطير – وذلك باعتراف علماء اللاهوت أنفسهم – وبهذا لا يعد الكتاب المقدس الحالي دليلا أو حكما يحتج به أو يتحاكم إليه.
ولقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن الحكم، قال: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)( (الشورى) قال: جاء نوح – عليه السلام – بالشريعة، بتحريم الأمهات والأخوات والبنات[4]، وفي هذا تدرج في التشريع عبر الأزمان، وتخصيص في تناول قضايا الحل والحرمة، والتعامل مع بعضهم بعضا في الحياة العامة، أليست هذه هي الشريعة بعينها؟! والرسل – عليهم السلام – هم القدوة الحسنة للناس في شتى مناحي الحياة، فالذي يسير على منهاجهم، فقد طبق الشريعة بعينها؛ لأنه لا يفعل شيئا عن أمره، إنما هو يفعل ما أمره الله أن يفعل، ويترك ما أمره الله أن يترك، أليست هذه هي الشريعة[5]؟!
قال القاسمي: وتخصيص هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم – عليهم السلام – بالذكر؛ لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة، ولاستمالة قلوب الكفرة لاتفاق الكل على نبوة بعضهم[6].
ويوضح الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)( (الشورى) اختلاف الشرائع في الفروع واتخاذها في الأرض منذ آدم – عليه السلام – فإنه وإن كان نبيا إلا أنه لم يكن رسولا فلم تفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم، وإنما كان تنبيها على بعض الأمور واقتصارا على ضرورات المعاش وأخذا بوظائف الحياة والبقاء، واستقر المدى إلى نوح – عليه السلام ـفبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء صلوات الله عليهم واحدا بعد واحد، وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكان المعنى: أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي التوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنا، والإذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم [7] المروءات.. فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة واحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم[8].
وبهذا يتبين أن شريعة موسى – عليه السلام – ليست أول الشرائع الإلهية للبشر فقد سبقتها شرائع كثيرة منها شريعة نوح وإبراهيم – عليهما السلام – وغيرهما من الأنبياء، بل إن لكل أمة شريعة، وإلا فلماذا كان يرسل الله إليهم رسلا؟ وبماذا كانوا يأمرونهم وينصحونهم؟ فكل ما كان يبعث به النبي إلى قومه من الأوامر والحلال والحرام فهذا تشريع، ويدل على هذا ما تبقى من بعض الشرائع السابقة كالذي بقي من ملة إبراهيم مثل شعائر الحج ومناسكه التي شرعها الله – سبحانه وتعالى – لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – بعدما صححها من مظاهر الشرك التي ألحقها الناس بها.
الخلاصة:
- القرآن هو الصدق كل الصدق في كل ما أخبر به من عقيدة وشريعة وقصص وأخبار، وقد أخبر الله أنه شرع لنوح وإبراهيم ما شرعه لموسى وعيسى – عليهم جميعا السلام – إذن فليست شريعة موسى – عليه السلام – أول الشرائع.
- الله تعالى أرسل إلى كل أمة نذيرا يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويبلغهم أوامر الله ونواهيه، ويعلمهم كيفية تعامل بعضهم مع بعض، ويكون قدوة حسنة لهم يسيرون على منهاجه. أليست هذه هي الشريعة؟!
(*) قناة الحياة الفضائية، القمص زكريا بطرس، الحلقة 17.
[1]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (21/ 512)، تفسير سورة الشورى، الآية 13.
[2]. الزندقة: مذهب من يقول بأزلية العالم، وأطلق على الزرادشتية والمانوية وغيرهم من الثنوية، وتوسع فيه فأطلق على كل شاك أو ضال أو ملحد.
[3]. الدر المنثور في التفسير المأثور، جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، ط1، 1983م، ج9، ص58.
[4]. الدر المنثور في التفسير المأثور، جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، ط1، 1983م، ص58.
[5]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص23، 24 بتصرف.
[6]. محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ/ 2003م، ج8، ص247.
[7]. خرم المروءات: القدح فيها.
[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج16، ص11.