الزعم أن طلب النبي – صلى الله عليه وسلم – تخفيف عدد الصلوات عن المسلمين يثبت عدم إدراكه لمقاصد الصلاة
وجوه إبطال الشبهة:
1) مقاصد الصلاة في الشرائع السماوية معلومة ومعروفة، فكيف لا يدركها محمد صلى الله عليه وسلم؟
-
-
- فمقاصد الصلاة في اليهودية الدعاء والتوسل.
- ومقاصد الصلاة في النصرانية الطهارة والرفعة والحط من الأوزار وطرد كيد الأعداء.
- ومقاصد الصلاة في الإسلام دوام ذكر الله والاتصال به وتمام طاعته والاستسلام له، وهي تهذب الروح وتنير القلب وتقوي الجسد.
-
2) سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم – ربه التخفيف لا ينافي مقاصد الصلاة، فالصلوات الخمس تؤدي المقاصد نفسها وتحقق المرجو دون خلل، وإذا لم يدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – عظمة الصلاة وهي التي قال عنها: إنها عماد الدين، وقرة عينه، فمن إذا يدرك قيمة العبادة إذا كان المبلغ لها لا يدرك قيمتها؟
3) طلب النبي – صلى الله عليه وسلم – التخفيف كان من التقدير الكوني والرحمة الإلهية؛ فهي خمس في الأداء وخمسون في الجزاء.
4) النبي – صلى الله عليه وسلم – هوالذي بين عظمة فريضة الصلاة وفضلها، حتى جعلها الخط الفصل بين الإيمان والكفر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»[1]. فكيف يفترى عليه أنه لا يدرك قيمتها؟ ومن أين علمنا مكانتها ومقاصدها إلا عن طريقه صلى الله عليه وسلم؟
التفصيل:
أولا. مقاصد الصلاة في الشرائع السماوية:
- مقاصد الصلاة في الشريعة اليهودية:
o الدعاء: كانت الصلاة هي الدعاء باسم الرب، فقد جاء في العهد القديم: “ولشيث أيضا ولد ابن فدعا اسمه أنوش، حينئذ ابتدئ أن يدعى باسم الرب”. (التكوين 4: 26). وعن إبراهيم عليه السلام: “ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقى بيت إيل، ونصب خيمته، وله بيت إيل من المغرب وعأي من المشرق، فبنى هناك مذبحا للرب ودعا باسم الرب”. (التكوين 12: 8). وكانت تتميز بالتوجه مباشرة لله، وهي تعني الدعاء والتوجه إلى الله بالطلب.
o التوسل: ولذلك صلى هارون – عليه السلام – وصلى صموئيل الذي قال للشعب: “وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم، بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم”. (صموئيل الأول12: 23)، ولذلك اعتبر اليهود الصلاة وسيلة للتقرب إلى الله، والالتجاء والإنابة إليه واستحضار الله – عز وجل – والقرب منه.
- مقاصد الصلاة في الشريعة النصرانية:
إن مقاصد الصلاة في النصرانية لا تختلف عن اليهودية كثيرا؛ فهي عندهم باب للطهارة والرفعة، والحط من الأوزار، وطرد كيد الأعداء، والعطاء من فضل الله، والفيض من خيره، والمغفرة من الذنوب، وهذا واضح من خلال نصوص الكتاب المقدس: “واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير؛ لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد”. (متى 6: 12، 13). والصلاة كذلك لإخراج الأرواح النجسة من بني آدم: “ولما دخل بيتا سأله تلاميذه على انفراد: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه، فقال لهم: هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم”. (مرقس 9: 28، 29).
وعلى ذلك فالصلاة عند النصارى أذكار وتراتيل، وصلة بينهم وبين إلههم ورجوع إليه، واعتماد عليه بالصلاة في كل حال من أحوالهم، حتى إن “بوليفاريوس من سميرنا أحد المعلمين الرسوليين في تاريخ الكنيسة، عندما اعتقل وحكم عليه بالموت حرقا، طلب منحه ساعة واحدة، يمكنه بها الصلاة بحرية” [2].
- مقاصد الصلاة في الإسلام:
والصلاة في الإسلام عبادة تحقق دوام ذكر الله، ودوام الاتصال به، وتمثل تمام الطاعة والاستسلام لله والتجرد له وحده بلا شريك، وتربي النفس وتهذب الروح وتنير القلب بما تغرس فيه من جلال الله وعظمته، وتعلي المرء وتجمله بمكارم الأخلاق، فهي عمل من صميم التدين، ولذلك كانت سنة مطردة – على تعاقب الرسل – بعد التوحيد، بها تتوثق أسباب الاتصال بالله، ويتزود العبد من خلالها بطاقة روحية تعينه على مشقة التكليف.
فرضها الله على المسلمين للثناء عليه بما يستحقه، وليذكرهم بأوامره وليستعينوا بها على تخفيف ما يلقونه من أنواع المشقة والبلاء في الحياة الدنيا.
فيها يقف الإنسان بين يدي ربه في خشوع وخضوع، مستشعرا بقلبه عظمة المعبود، مع الحب والخوف من جمال وجلال المعبود، طامعا فيما عنده من الخير، وراغبا في كشف الضر، وجلا من عقابه الشديد” [3].
ومن خلال هذا البيان يتضح لنا أن مقاصد الصلاة في جميع الأديان السماوية تكاد تكون واحدة، فهي تعني: التوجه إلى المعبود في أوقات الفرح والحزن، الفرج والشدة، السراء والضراء، للشكر أو طلب الصبر، وهو ما يمكن أن يكون قاسما مشتركا بين كل من يعرف له معبود [4].
ثانيا. هل سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم – التخفيف ينافي مقاصد الصلاة؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال يرد على شبهتهم تلك، فها هي الصلاة قد أدت مقاصدها رغم تخفيفها، وما كان تخفيفها إلا للتيسير على الناس حتى يطيقوا ويستطيعوا أن يحققوا أهدافها فيهم، لقد أدت الصلاة مهمتها ولا تزال تؤديها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ما دام هناك من يقول “لا إله إلا الله” بصدق وإخلاص، ويتبع سنة الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – بتجرد واندفاع.
لقد جعلت الصلاة من المؤمنين الراكعين الساجدين أناسا يمتازون عن غيرهم سموا وخلقا، قوية أجسامهم، نظيفة أبدانهم، قليلة أمراضهم، نقية سرائرهم، طيبة نفوسهم، سوية أفكارهم، بعيدة عن الفحشاء والمنكر جوارحهم.
لقد عم خير الصلاة حتى شمل كل عضو من أعضاء جسم المسلم، وكل خلية من خلاياه، فأصبحت هذه الخلايا تعمل وتنفذ ما خلقها الله من أجله بكل دقة وبراعة، فأصلحت وروضت، ونمت كل أقسام البدن ومتاهاته. بحيث لم يبق مجال للتباطؤ والخمول، ولا مكان للكسل أو التعطيل.. فكل الجزئيات تعمل، وكل الأجهزة تنتج إنتاجا جادا بناء منظما.
ولا تحسب أن الصلاة تهتم بالجانب الروحي فقط، بل إنها تهتم أيضا بالجانب الجسدي للإنسان؛ وذلك لأنها رياضة جسدية تجعل من جسم المصلي جسما أقوى من أجسام أترابه، حتى يكاد أن يكون نموذجا بإمكاناته ومعطياته، وذلك من خلال رياضتها الجسدية، وأيضا فإنها تدعوه إلى النشاط، وعدم الكسل فتجعله يستيقظ مبكرا.
ثم إنها تحثه على النظافة، وتلك أيضا حماية لجسده من الأمراض، وكما يقولون فإن الوقاية خير من العلاج.
وإذا بحثت فيما فعلته الصلاة وتفعله في نفسية المسلم وشخصيته، وفي فكره وسلوكه، وفي إرادته وذكائه، وفي استقامته وأخلاقه، فهي سر انخفاض نسبة الأمراض النفسية والعقلية عند المسلمين، والمتعمق في مجريات الأحداث وخصائص الشعوب يلاحظ بلا شك سلامة المسلمين – نسبة إلى بقية الشعوب نفسيا وفكريا وعاطفيا وعصبيا – من كثير من الأمراض النفسية، والشذوذ الخلقي، والخيالات المريضة المدمرة.
ذلك أن الصلاة: [5]
- فتحت أبواب الإيمان على مصراعيه في نفس المؤمن وقلبه وفكره وجوارحه.
- أمنت الصلة الدائمة بين العبد وربه.
- هيأت كل أشكال وسبل ذكر الله – عز وجل – وعلى رأس الأذكار قراءة القرآن، وجعلت جسم المسلم نظيفا قويا، سليما معافى من أكثر الأمراض.
- وجهت سلوك المسلم وزادت من استقامته، فأصبح إنسانا جادا منتجا لا يقول إلا خيرا ولا يتصرف إلا صالحا.
- نقت من ذكائه وزادت في فطنته، وسمت بأفكاره، وقومت تأملاته.
- أزالت سعير الفراغ القاتل، وأبادت جحافل الوقت الضائع.
- جمعت المسلمين في الصلوات الجماعية، وألفت بينهم وجعلتهم كالجسد الواحد.
- عملت في نفسية المسلم كمحطات توليد وتقوية للتيار الإيماني الذي عليه يحيا، ومن أجله ينبض قلبه، فتوليد التيار هو في الصلاة نفسها، وبما فيها من توجه إلى الله ودعاء وتضرع.. وأما التقوية فهي في الصلوات الجماعية، وبخطب الجمع والعيدين، وبصلوات الاستسقاء والكسوف والخسوف، والقنوت [6].
فهذه من مقاصد الصلاة وقد تحققت بخمس صلوات، وليس هذا فحسب، بل إن المسلم ليصلي خمس صلوات ويأخذ أجر الخمسين؛ رحمة من عند الله وكرما منه – عز وجل – ثم إن المسلم ليتشوق للصلاة بعد هذا التخفيف، ويعبد الله بحب وشوق؛ لأنه يعلم أن هذا التخفيف رحمة من عند الله، قال تعالى: )يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر( (البقرة: ١٨٥)، ولم تنته المقاصد، بل إن الإنسان لعله يخطئ في هذه الفترة بين الصلاتين، فينتظر بشوق ولهفة وقت الصلاة حتى تطفئ هذه النيران.
وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملكا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم، قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها» [7] [8].
ويصور الرسول لأصحابه – بكل وسائل التوضيح – عمل الصلاة في محو الخطايا التي تبدر من الإنسان في صباحه ومسائه، فيروي لنا أبو هريرة – رضي الله عنه – أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن»[9].
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك هل يبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئا. قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا» [10].
ولعلنا نتعجب حينما نعلم أنهم بعد هذا كله يتهمون المسلمين بأنهم لم يدركوا مقاصد الصلاة فكيف هذا؟! إن البعد العقدي، والأخلاقي، والاجتماعي، والصحي، للصلاة في الإسلام، لا يمكن أن تبلغه تلك الصلوات اليهودية والمسيحية التي شابتها عناصر وثنية انحرفت بها عن القدسية، وقطعتها عن مصدرها الإلهي.
إن دقة التشريع الإسلامي في الصلاة وشموله وكماله، في عددها، وأركانها، وسننها، وهيئاتها، فيما يتقدمها ويتأخر عنها من نوافل، وفيما يسبقها من طهارة، ويخلفها من أذكار، وفي تنوع تراكيبها، وفي تناسقها، في روحانياتها، كل هذا يدل على قدسية مصدرها وعظمة المقصود بها، وطهارة من علمها للناس، واقتداء الخلف بعد السلف في أدائها بالمعصوم – صلى الله عليه وسلم – بحيث لو قام في الناس اليوم لم ينكر منها شيئا.
لقد تراكم على العبادات اليهودية والمسيحية أكوام من العبادات الوثنية والخبرات الشخصية، حتى طمست فيها نور الحق وضياء النبوة، وصارت لا تعدو أن تكون طقوسا بشرية لا روح فيها، ولا قدسية لها.
فالمقصود بالصلاة في اليهودية: إله خاص لشعب خاص، ومن سوى هذا الشعب لا قيمة لهم؛ فهم “أمميون” وكلأ مباح لليهود، يفعلون بهم ما يشاءون، ويمارسون معهم ما يشاءون من سيء الأخلاق والمعاملات، فليس للصلاة في اليهودية بعد عقدي ولا أخلاقي، بل إن الإله عندهم خادم يحقق رغباتهم، وينفي عنهم الإصر[11] والأغلال.
وفي المسيحية: إله غامض ليس واحدا، ولكنه ثلاثة، وليسوا ثلاثة ولكنهم واحد، وهو لبس لا يمكن أن تتم معه روحانية أو اتصال بين الخالق والمخلوق [12].
وكل إنسان يرى العالم بعيونه، فهم حينما لم يعرفوا مقصد صلاتهم، وخرجوا منها بلا جدوى ظنوا أن المسلمين كذلك، وهذا زعم فاسد وبالأخص بعد هذا البيان، فهل من متكلم في حق الصلاة في الإسلام بعد ذلك؟!!
ثالثا. طلب النبي – صلى الله عليه وسلم – التخفيف كان من التقدير الكوني، والرحمة الإلهية:
“كأن الله أراد أن يشعرنا بالتخفيف الرباني إذ لم يفرض الصلاة خمسا منذ البداية، فهو سبحانه يعلم مسبقا بما سيدور بين موسى ومحمد – صلوات الله عليهما – ثم جاء البيان الإلهي المليء بالرحمة والكرم: فهي خمس في الأداء وخمسون في الجزاء” [13].
وبهذا يفرح المسلمون ويقبلون على الصلاة بكل حب، بل يشتاقون لموعدها، ويتلهفون لأدائها، وكذلك يعلمون مدى عطف نبيهم عليهم، ورحمة الله بهم، فيزداد إيمانهم، وتقوى عقيدتهم، ويعظم حب الله تعالى في قلوبهم فمن أسمائه: الرحمن، الرحيم، الرءوف، الحليم، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم: )حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128)( (التوبة)، “وموسى – عليه السلام – صاحب خبرة مع قوم قساة متنصلين من الواجبات، بينما محمد – صلى الله عليه وسلم – حيي مأخوذ بكلام الله مذعن لحكمه” [14].
وهذا كله واضح في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه: «… ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أمرت: قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات، فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت، قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، قال فلما جاوز نادى مناد: أمضيت فريضتي وخففت على عبادي» [15] [16].
ومما يدل أيضا على أن الله – عز وجل – كان مقدرا لعدد الصلوات ما ورد في رواية البخاري في كتاب التوحيد أنه بعد أن راجع ربه بمشورة موسى – عليه السلام – وجاء في المراجعة الخامسة أنه قال لربه: «يارب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وآذانهم، فخفف عنا، فقال الجبار عز وجل: يا محمد، قال: لبيك وسعديك. قال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك»[17] [18].
وفى رواية مسلم حتى قال: «يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة» [19].
رابعا. إدراك النبي لعظمة فريضة الصلاة:
لقد جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة هي الدليل الأول على التزام عقد الإيمان، والشعار الفاصل بين المسلم والكافر قال صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»[20]. وقال صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» [21].
قال العلماء في توجيه هذا الحديث: فمن شغله عن الصلاة ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسته ووزارته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف. وتأكيدا لمكانة الصلاة وعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – بمنزلتها فإنه يبين أن «من فاتته صلاة كأنما وتر أهله وماله»[22]، أي أصيب في أهله وماله، وأصبح بعدهم وترا فردا، فإذا كانت هذه كارثة من فاته صلاة في الإسلام؟[23] فكيف يدعون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يدرك عظمتها؟! هل يقول كل هذا الكلام عن فضل لم يدركه؟!! فأي عقول هذه التي تفكر هذا التفكير؟! ولكن: )أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)( (الحج).
ونقول لأصحاب هذه الشبهة: أخبرونا كيف لم يدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – عظمة الصلاة، وهو الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه؟!! فهل هذا الفعل يكون من إنسان غير مدرك لعظمة الصلاة؟
إذن فما الذي دفعه إلى فعله هذا إلا علمه التام وإدراكه لعظمتها؟! “فقد «سأل ابن عمر – رضي الله عنهما – أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – فقال: أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبكت وقالت: كل أمره كان عجبا.. أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي، ثم قال: “ذريني أتعبد لربي عز وجل. قلت: والله إني لأحب قربك وإني أحب أن تعبد ربك، فقام إلى القربة فتوضأ، ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكي حتى بل لحيته، ثم سجد فبكي حتى بل الأرض…» [24] [25].
وما هذا إلا لأن الصلاة كانت قرة عين النبي – صلى الله عليه وسلم – قال صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة»[26].
وأخرج الشيخان وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال: «صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى انتفخت قدماه»[27]. أي من كثرة صلاة الليل، فأنزل الله عليه من القرآن ما خفف به عليه وعلى من تبعه، وهو قوله: )إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل( (المزمل: ٢٠)، وقوله تعالى: )طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2)( (طه) [28].
“هذه هي الصلاة التي كانت قرة عينه – صلى الله عليه وسلم – والتي كان يحن إليها ويتلهف عليها ويقول لبلال:«أرحنا بها!»[29]. هذه هي صلاة الأنس والحب[30]، ولذلك كانت آخر وصايا الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهو في سكرات الموت، تحض على الصلاة “فعن أنس بن مالك قال: كانت عامة وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين حضره الموت: «الصلاة، وما ملكت أيمانكم. حتى جعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه» [31] [32].
فها هو النبي – صلى الله عليه وسلم – في حياته إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة، يطلب فيها الراحة “أرحنا بها يا بلال”. وها هو عند الاحتضار يوصي بالصلاة، مؤكدا أنها أهم شيء، وإلا لما وصى بها، فكيف يقول قائل – بعد هذا كله – إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يدرك أهمية الصلاة؟!!
الخلاصة:
- إن مقاصد الصلاة في الشرائع السماوية تكاد تكون واحدة، فهي في اليهودية بمعنى الدعاء والتوسل، وفي النصرانية أذكار وتراتيل، وصلة بينهم وبين إلههم، وفي الإسلام هي تمام الطاعة والاستسلام لله، والتجرد له وحده بلا شريك له، فمقاصد الصلاة في هذه الشرائع مشتركة في أنها “تعني التوجه إلى المعبود في أوقات الفرح والحزن، والفرج والشدة، والسراء والضراء، للشكر أو طلب الصبر، وهو ما يمكن أن يكون قاسما مشتركا بين كل من لم يعرف له معبود” [33].
- وهذه المقاصد قد حققتها الصلاة الإسلامية رغم تخفيفها، فلم يكن تخفيف الصلاة عائقا حيال تأدية الصلاة مقاصدها، بل إن الصلاة أدت مهمتها ولا تزال تؤديها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لقد جعلت الصلاة من المؤمنين الراكعين الساجدين أناسا يمتازون عن غيرهم سموا وخلقا، فكرا، وقوة وعزما، روحا ونفسا.
- ثم إن طلب النبي – صلى الله عليه وسلم – التخفيف كان من التقدير الكوني، والرحمة الإلهية، كأن الله – عز وجل – أراد أن يشعرنا بالتخفيف الرباني؛ إذ لم يفرض الصلاة خمسا منذ البداية، فهو سبحانه يعلم مسبقا بما سيدور بين موسى ومحمد – صلوات الله عليهما – ثم جاء البيان الإلهي المليء بالرحمة والكرم، فهي خمس في الأداء وخمسون في الجزاء” [34].
- النبي – صلى الله عليه وسلم – هو الذي بين معنى الصلاة وأفضليتها حيث جعلها الشعار الفاصل بين المسلم والكافر، فقال صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»[35]. وليس هذا فحسب بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، يصلي لربه عز وجل. وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، لماذا؟! لأنه يعلم مكانتها بل إن راحته كانت في الصلاة «أرحنا بها يا بلال»[36]. لماذا؛ لأنها قرة عينه صلى الله عليه وسلم«وجعلت قرة عيني في الصلاة»[37]. ولذلك فإنها تلازمه حتى عند موته فيوصي بها من بعده، مبينا لهم بلسان الحال والمقال عظمتها، إذ يقول وهو في سكرات الموت: «الصلاة، الصلاة وما ملكت أيمانكم»[38]، فكيف يفتري المفترون عليه – صلى الله عليه وسلم – أنه لم يدرك ” أفضليتها وقيمتها، بل هم الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ولم يدركوا قيمة الصلاة ولا قيمة النبوة وعظمتها.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.Islameyat.com
[1]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (257).
[2]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص111 وما بعدها.
[3]. الصلاة، عبد الله بن محمد الطيار، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، السعودية، 1418هـ/ 1998م، ص18، 19.
[4]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص129.
[5]. وفي الصلاة صحة ووقاية، فارس علوان، دار السلام، القاهرة، 1415هـ/ 1995م، ج2، ص423 بتصرف.
[6]. وفي الصلاة صحة ووقاية، فارس علوان، دار السلام، القاهرة، 1415هـ/ 1995م، ص8.
[7]. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (9/ 173) برقم (9452)، وفي المعجم الصغير (2/ 262)، (1135)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (358).
[8]. انظر: العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط24، 1416 هـ/ 1995م، ص213 وما بعدها.
[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهمن ما اجتنبت الكبائر (573).
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة (505)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا (1554).
[11]. الإصر: العهد الثقيل.
[12]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص130.
[13]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص98.
[14]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، ط1، 1422هـ / 2001م، ص97 بتصرف.
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج (3674).
[16]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص135.
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قوله: ) وكلم الله موسى تكليما (164) ( (النساء) (7079).
[18]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، ط1، 1422هـ / 2001م، ص93.
[19]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماوات وفرض الصلوات (429).
[20]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (256).
[21]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث بزيدة الأسلمي رضي الله عنه (22987)، والترمذي في سننه، كتاب الإيمان، باب من ترك الصلاة (2621)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (564).
[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3407)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع المطر (7430).
[23]. العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 24، 1416 هـ/ 1995م، ص223.
[24]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب الرقائق، باب التوبة (620)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (68).
[25]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، ط1، 1422هـ / 2001م، ص449.
[26]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12315)، والنسائي في المجتبى، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (3939)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3124).
[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم الله (6106)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار (7302).
[28]. شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص157.
[29]. أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، أحاديث رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23137)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة (4987)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7892).
[30]. العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 24، 1416 هـ/ 1995م، ص225.
[31]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12190)، وابن ماجه في سننه، كتاب الوصايا، باب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2697)، وصححه الألباني في الإرواء (2178).
[32]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، ط1، 1422هـ / 2001م، ص747.
[33]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص129.
[34]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، ط1، 1422هـ / 2001م، ص98.
[35]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (256).
[36]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، أحاديث رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23137)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة (4987)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7892).
[37]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، (12315) والنسائي في المجتبى، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (3939)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3124).
[38]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12190)، وابن ماجه في سننه، كتاب الوصايا، باب أهل أوصى رسول الله صلى الله عنه (2697)، وصححه الألباني في الإرواء (2178).