الزعم أن قاعدة تقوية الحديث الضعيف بكثرة طرقه على إطلاقها
وجها إبطال الشبهة:
1) أجمع علماء الحديث على أن الحديث يرتقي من الضعيف إلى الحسن إذا كان راويه ضعيف الحفظ، ولكنه صادق القول، أمين في نقله، وجاء الحديث من وجه آخر، أما الضعيف لفسق الراوي، أو كذبه فلا يؤثر فيه موافقة غيره له، بل يزيده ضعفا.
2) لقد أجاز الحافظ ابن حجر العمل بهذه القاعدة، ولكنه قيدها بشروط بالغة الدقة، حتى لا يفتح المجال أمام الناس ليحسنوا كل ضعيف تعددت طرقه، فيدخلوا في السنة ما ليس منها.
التفصيل:
أولا. تعدد طرق الحديث الضعيف لا يستلزم تحسينه:
إن إطلاق القول في قاعدة ” تقوية الحديث بكثرة طرقه” مخالف لما هو مقرر في أصول علم الحديث، فالمعروف أنه “إذا روي الحديث من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها حسن، بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر وصار حسنا، وكذا إذا كان ضعفها لإرسال زال بمجيئه من وجه آخر، وأما الضعف لفسق الراوي أو كذبه فلا يؤثر فيه موافقة غيره”[1].
ويقول الحافظ ابن كثير: “قال الشيخ أبو عمرو – وهي كنية ابن الصلاح: “لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة؛ كحديث «الأذنان من الرأس» – أن يكون حسنا؛ لأن الضعف يتفاوت، فمنه ما لا يزول بالمتابعات، يعني لا يؤثر كونه تابعا أو متبوعا، كرواية الكذابين والمتروكين، ومنه ضعف يزول بالمتابعة، كما إذا كان راويه سيء الحفظ، أو روي الحديث مرسلا، فإن المتابعة تنفع حينئذ”[2].
ثم علق الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – على ما قاله ابن كثير بقوله: “وبذلك يتبين خطأ كثير من العلماء المتأخرين في إطلاقهم أن الحديث الضعيف إذا جاء من طرق متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفا إلى ضعف؛ لأن تفرد المتهمين بالكذب، أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرهم، يرفع الثقة بحديثهم، ويؤيد ضعف روايتهم وهذا واضح”[3].
ومن هنا فإن القاعدة التي استندوا إليها، وهي تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، وقد نبه على ذلك غير واحد من علماء الحديث المحققين؛ حيث نجد أحاديث محكوما بضعفها، مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة، فليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجه آخر، بل ذلك يتفاوت، فمنه ما يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه، ولم يختل فيه ضبطه له، وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ؛ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر، ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب، أو كون الحديث شاذا، وهذه الجملة تدرك تفاصيلها بالمباشرة والبحث.
كما أن الغفلة عن ذلك قد أوقعت كثيرا من العلماء – لا سيما المشتغلين منهم بالفقه – في خطأ، وهو تصحيح كثير من الأحاديث الضعيفة، اغترارا بكثرة طرقها، وذهولا منهم عن كون ضعفها من النوع الذي لا ينجبر الحديث بضعفها، بل لا تزيد إلا وهنا على وهن[4].
ومن أجل ذلك نجد كثيرا من الأحاديث الضعيفة قد جزم العلماء بضعفها مع أن لها طرقا كثيرة، فعلى سبيل المثال نجد حديث «من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعث يوم القيامة فقيها»؛ فقد نقل عن النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه مع كثرة طرقه.
وعدم معرفة هذه القاعدة المهمة يؤدي إلى تقوية كثير من الأحاديث الضعيفة من أجل طرقها، بل قد يؤدي إلى الالتحاق ببعض الفرق الضالة، وكذلك نجد حديث «إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه» فقد روي من حديث ابن مسعود، ومن حديث أبي سعيد من طريقين، وجابر وسهل بن حنيف وغيرهم، ومع ذلك فهو معدود في جملة الأحاديث الموضوعة، وكذلك حديث «علي خير البشر، من أبى فقد كفر» فنجد أن للحديث طرقا كثيرة، ومع ذلك فقد حكم ابن الجوزي بوضعه ولم يخالف فيه[5]، فلا يمكن أن نعتبر هذه الأمثلة من الأحاديث الموضوعة أحاديث صحيحة بمجرد أنها مروية من عدة طرق، فالحديث “الضعيف نوعان:
الأول: ضعيف ضعفا لا ينجبر بمجيئه من طريق آخر، أو طرق أخرى، وذلك إذا كان ضعفه ناشئا عن كذب الراوي أو فسقه، وهذا هو المراد عند الإطلاق، فإن قيل: هذا حديث ضعيف؛ انصرف إلى الفرد الكامل منه في بابه، وهو الضعيف الذي لا ينجبر ضعفه.
الثاني: الضعيف الذي ينجبر ضعفه بمجيئه من طريق آخر، أو طرق أخرى، وذلك إذا كان ضعفه ناشئا عن سوء الحفظ، أو التخليط مثلا، وهذا هو الحسن لغيره الذي يعرف في بابه.
ومن هذا نستطيع أن نقول: إن الحسن لغيره حديث ضعيف ضعفا لا يوجب رده، بل انجبر بطريق آخر أو طرق أخرى، فارتفع من الضعف إلى الحسن لغيره”[6]، وهو قول جماهير الأمة من العلماء والفقهاء.
ولذلك قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى – في بعض الأحاديث: وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة، فمجموعها يقوي بعضها بعضا، ويصير الحديث حسنا ويحتج به، وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة طرقه الضعيفة، وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه، فإنه قال: هذا القسم لا يحتج به كله بأن يعمل به في فضائل الأعمال، ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرقه، أو عضده اتصال عمل، أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر القرآن… قلت: وقد اشترط القائلون بارتقاء الحديث الضعيف بتعدد الطرق شروطا لذلك، وهي:
- أن يروى من طريق آخر فأكثر على أن يكون الطريق الآخر مثله أو أقوى منه.
- أن يكون سبب ضعف الحديث إما سوء حفظ راويه، أو انقطاع في سنده، أو جهالة في رجاله[7].
وبذلك يتبين أن هذه القاعدة لا تؤخذ على إطلاقها كما يزعمون، بل وضع لها علماء الحديث شروطا لضبطها، فلا يلزم أن يكون كل حديث ضعيف تعددت طرقه أن يكون حديثا حسنا، بل لابد أن يخضع لهذه الشروط والضوابط التي وضعها علماء الحديث، وبذلك لا يرتقي الضعيف إلى الحسن، إلا من خلال هذه الشروط الدقيقة، وبعد كثير من الدقة والتمحيص في أصل الحديث.
ثانيا. شروط ابن حجر للعمل بقاعدة تقوية الحديث الضعيف بمجموع طرقه:
إذا كان ابن حجر – على وجه الخصوص – قد أجاز العمل بهذه القاعدة، فإنه لم يجعلها على إطلاقها، ولكنه قيدها بشروط، وهي:
- أن يكون الحديث في فضائل الأعمال.
- ألا يكون ضعفه شديدا؛ كالحديث الذي انفرد به الكذابون، والمتهمون بالكذب، ومن فحش غلطه.
- أن يندرج تحت أصل كلي معمول به.
- ألا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط[8]؛ لئلا ينسب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ما لم يقله.
وهذه هي الشروط التي اشتهرت عن الحافظ ابن حجر، ويقول في ذلك: “ولكن اشتهر أن أهل العلم يتساهلون في إيراد الأحاديث في الفضائل، وإن كان فيها ضعف، ما لم تكن موضوعة، وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفا وألا يشهر ذلك، لئلا يعمل المرء بحديث ضعيف، فيشرع ما ليس بشرع، أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة…
وليحذر المرء من دخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين»[9]، فكيف بمن عمل به؟!”
ثم يقول ابن حجر: “ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل، إذ الكل شرع”[10].
وقد فهم العلامة الألباني – رحمه الله – من هذه الجملة، أن الحافظ – رحمه الله – يميل إلى عدم جواز العمل بالحديث الضعيف، لكنه لم يجزم بذلك فقال: “يبدو لي” كما في مقدمته “تمام المنة”. والحق أن مذهب الحافظ في هذه المسألة غير واضح، وحمل كثير من أهل العلم نقله لشروط الأئمة في ذلك على أنه مذهبه، لكن مجرد النقل ليس بكاف ويتبين لنا أن: ما قاله الحافظ في الشرط الرابع، ما هو إلا تضييق لخناق هذه القاعدة، وقد وقفنا له على كلمة أقر فيها أبا الحسن بن القطان على أن الذي يعمل به في الفضائل هو الحسن لغيره في اصطلاح الترمذي، وهو الضعيف الذي اعتضد من طرق، فقال في “النكت على ابن الصلاح”: “وقد صرح أبو الحسن بن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب في كتابه “بيان الوهم والإيهام” بأن هذا القسم – يعني الحسن لغيره – لا يحتج به كله، بل يعمل به في فضائل الأعمال، ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرقه، أو عضده اتصال عمل، أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر قرآن”. قال الحافظ: “وهذا حسن قوي رايق ما أظن منصفا يأباه، والله الموفق”[11].
وهذه الشروط الأربعة التي ذكرها ابن حجر لجواز العمل بالضعيف في الفضائل ونحوها، أضاف شيخ الإسلام ابن تيمية إليها شرطين آخرين، وهما:
الأول: أن يكون العمل الوارد في ذلك الحديث الضعيف، مما ثبت بالشرع حكمه قدحا أو ذما.
الثاني: ألا يشتمل ذاك الضعيف على تفصيلات أو تقديرات، أو تحديدات، زيادة على ما ثبت في الصحيح[12].
وهذا هو محصل ما ورد من كلام أهل العلم في تلك القيود التي قيدوا بها استعمال الحديث الضعيف فيما ذكرناه سابقا، أي أنهم لم يعتمدوا القاعدة على إطلاقها، بل قيدوها بشروط، وبالتالي فلا يمكن اعتبار كل حديث ضعيف كثرت طرقه وتعددت بأنه يمكن تقويته والعمل به – كما يزعمون – لأن أهل العلم عندما وضعوا هذه القاعدة قيدوها بشروط، وإن لم تنطبق هذه الشروط على الحديث فلا يمكن تقويته والعمل به، وبذلك فلم يعتمد ابن حجر القاعدة على إطلاقها كما يزعمون، بل قيدها كما قيدها غيره من العلماء بعدد من الشروط التي إن انطبقت على الحديث الضعيف أصبح حديثا حسنا لغيره في اصطلاح الترمذي، وهو الضعيف الذي اعتضد من طرق، ويمكن إلقاء الضوء على تلك الشروط فيما يلي:
أما الشرط الأول: فلابد لمن أراد استعمال شيء من تلك الأحاديث أن يميز بين الضعف الشديد من اليسير، أو يعتمد على أهل لذلك التمييز، فإن معرفة درجة الضعف في حديث ما أدق من مجرد معرفة الضعف من الصحة؛ ولذلك لا يقوم به إلا خواص أهل العلم.
ثم إن هذا أمر مما تختلف فيه الأنظار، فرب حديث شديد الضعف عند زيد، لكنه محتمل الضعف عند عمرو، وهذا باب يدخل منه التساهل في الحكم على الأحاديث، فيعمل بكل ضعيف بحجة كون ضعفه يسيرا، حتى عمل بالموضوع، والمنكر والمتروك.
وأما الثاني: فإن الأصل العام له ضوابط يجب مراعاتها، ولولا ذلك لكان هذا الشرط – بفهمه الخاطئ – من أعظم الذرائع والأسباب في فتح أبوب البدع والمحدثات[13].
وقد أوضح الإمام أبو إسحاق الشاطبي – رحمه الله تعالى – في كتابه النافع “الاعتصام” تلك الضوابط أيما إيضاح وبيان، وقسم ذلك “الأصل العام” تقسيمات محكمة، وقد آثرت نقل ما له تعلق بهذا الشرط الثاني من كلامه رحمه الله تعالى.
قال الشاطبي: “ولو كان من شأن أهل الإسلام الأخذ من الأحاديث بكل ما جاء عن كل من جاء، لم يكن لانتصابهم للتعديل أو التجريح معنى، مع أنهم قد أجمعوا على ذلك، ولا كان لطلب الإسناد معنى يتحصل؛ فلذلك جعلوا الإسناد من الدين، ولا يعنون “حدثني فلان عن فلان” مجردا، بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم، حتى لا يسند عن مجهول، ولا مجروح، ولا متهم، إلا من تحصل الثقة بروايته؛ لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي – صلى الله عليه وسلم – لنعتمد عليه في الشريعة، ونسند إليه الأحكام.
والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قالها، فلا يمكن أن يسند إليها حكم، فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب”[14]؟!
وللشيخ أحمد شاكر رأي في ذلك الموضوع، حيث يقول في كتابه “الباعث الحثيث”: “لقد أجاز بعضهم رواية الضعيف من غير بيان ضعفه بشروط:
أولا: أن يكون الحديث في القصص أو المواعظ، أو فضائل الأعمال، أو نحو ذلك، مما لا يتعلق بصفات الله تعالى، وما يجوز له ويستحيل عليه سبحانه، ولا بتفسير القرآن، ولا بالأحكام؛ كالحلال والحرام وغيرهما.
ثانيا: أن يكون الضعف فيه غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، والذين فحش غلطهم في الرواية.
ثالثا: أن يندرج تحت أصل معمول به.
رابعا: ألا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.
والذي أراه – والكلام لفضيلة العلامة أحمد شاكر -: أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال، لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح، خصوصا إذا كان الناقل له من علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك، وأنه لا فرق بين الأحكام، وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من حديث صحيح أو حسن.
وما قاله أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك: “إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا”، فإنما يريدون به – فيما أرجح، و الله أعلم – أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة، فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن في عصرهم مستقرا واضحا، بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة أو بالضعف فقط”[15].
- عذر كبار الأئمة في روايتهم عن بعض الضعفاء:
قال النووي في شرح مسلم: “قد يقال: لم حدث هؤلاء الأئمة عن هؤلاء الضعفاء مع علمهم بأنهم لا يحتج بهم. ويجاب عنه بأجوبة:
أحدها: أنهم رووها؛ ليعرفوها وليبينوا ضعفها؛ لئلا يلتبس في وقت عليهم أو على غيرهم أو يتشككوا في صحتها.
الثاني: أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر أو يستشهد به، ولا يحتج به على انفراده.
الثالث: رواية الراوي الضعيف يكون فيها الصحيح، والضعيف، والباطل فيكتبونها، ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض، وذلك سهل عليهم معروف عندهم، وبهذا احتج سفيان – رحمه الله – حين نهى عن الرواية عن الكلبي، فقيل له: أنت تروي عنه؟ فقال: أنا أعلم صدقه من كذبه.
الرابع: أنهم قد يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب، وفضائل الأعمال، والقصص، وأحاديث الزهد ومكارم الأخلاق، ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلال والحرام وسائر الأحكام، وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فيه، ورواية ما سوى الموضوع منه والعمل به؛ لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع معروفة عند أهله.
وعلى كل حال فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئا يحتجون به على انفراده في الأحكام؛ فإن هذا شيء لا يفعله إمام من الأئمة المحدثين، ولا محقق من غيرهم من العلماء[16].
وهؤلاء الأئمة كثيرا ما يروون هذه الأحاديث على جهة الاعتبار والاعتضاد بها، فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضا.
والحديث الذي يقبل الجبر أو يعتبر به هو حديث ضعيف نشأ ضعفه عن سبب من الأسباب الأتية:
1.الستر: وهو جهالة الحال في الراوي، بحيث لا يعرف بعدالة ولا تجريح، أو أن يستوي فيه الطرفان بشرط أن يكون غير مغفل كثير الخطأ.
2.ضعف حفظ الراوي: بشرط أن يكون من أهل الصدق والديانة؛ أي يكون عدلا، ويشمل هذا ما كان ضعفه بسبب سوء الحفظ، أو يكون موصوفا بالغلط أو الخطأ أو الاختلاط إذا حدث بعد اختلاطه.
3.عدم الاتصال: كالإرسال، ويشترط أن يرسله إمام حافظ، أو كما قال ابن حجر: ما كان في إسناده انقطاع خفيف، وأن يكون خاليا من متهم بالكذب، فلا يظهر منه تعمد الكذب أو سبب مفسق، فمثل هذا صالح للاعتبار به، – أي أنه حديث يكتب للاعتبار به في المتابعات والشواهد – فيجبر غيره، ويجبره غيره الصالح للاعتبار، بشرط أن يكون خاليا من الشذوذ، أو النكارة فيكون حسنا لغيره.
وهذا هو الضعيف ضعفا يقبل الجبر، ويرتقي عن درجة الضعف؛ لأن تفرد المتهمين بالكذب، أو المجروحين يرفع الثقة بحديثهم ويؤيد ضعف روايتهم[17].
ويؤكد ابن حجر أيضا في مقدمته “هدي الساري” على أن الحديث الضعيف لا يتقوى بمجموع طرقه مطلقا، فيقول: “وأما الغلط – أي في الحديث – فتارة يكثر من الراوي وتارة يقل؛ فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له، إن وجد مرويا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط؛ علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله… وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال: سيء الحفظ، أو له أوهام، أو له مناكير، وغير ذلك من العبارات فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله، بمعنى أنه ينظر، فقد يكون مرويا من طريق آخر غير الموصوف بقلة الغلط، فيعلم أن المعتمد أصل الحديث”[18].
وبذلك يتبين أن الإمام الحافظ ابن حجر وغيره من العلماء عندما أجازوا هذه القاعدة، فإنهم لم يجيزوها على إطلاقها، ولكن قيدوها بشروط بالغة الدقة، ذلك حتى لا يصبح كل حديث ضعيف متعدد الطرق حسنا لغيره.
الخلاصة:
- لقد وضع العلماء شروطا للحديث الضعيف الذي يرتقي إلى الحسن لغيره بتعدد طرقه، وهي أن يكون راويه صدوقا أمينا، ولكنه ضعيف الحفظ، ففي هذه الحالة يرتقي الحديث إلى الحسن بتعدد طرقه وشواهده.
- أما إذا كان راوي الحديث فاسقا أو كاذبا، فإن هذه القاعدة لا تنطبق عليه، ولا يزيده التعدد إلا ضعفا على ضعفه، يدلنا على ذلك أن هناك أحاديث كثيرة تعددت طرقها، ولكنها لم ترتق إلى الحسن؛ لكذب رواتها وفسقهم، أو لكون الحديث شاذا.
- أجاز الحافظ ابن حجر العمل بهذه القاعدة، ولكنه قيدها بشروط، عندما تحدث عن العمل بالحديث الضعيف، وهذه الشروط هي أن يكون الحديث خاليا من متهم بالكذب، وأن يكون خاليا من الشذوذ والنكارة، وأن يندرج تحت أصل معمول به، وأن يكون في فضائل الأعمال، وفيما عدا ذلك من الضعيف فلا يصلح أن يتقوى أو يرتقي لدرجة الحسن لغيره.
- لم يكن ابن حجر وحده هو الذي أخذ بتقوية الضعيف بالشروط السابقة، ولكن بعض العلماء ذهب إلى ما ذهب إليه؛ كالإمام أحمد بن حنبل، والنووي والعراقي، والسخاوي، والسيوطي، وهذا يدل على أن هذه القاعدة اصطلح عليها معظم علماء السنة، وليست من اختراع ابن حجر.
(*) دفاع عن السنة المطهرة، علي بن إبراهيم حشيش، دار العقيدة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م. نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، محمد ناصر الدين الألباني، المكتبة الإسلامية، بيروت، ط3، 1417هـ/ 1996م.
[1]. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة دار التراث، مصر، ط2، 1392هـ/ 1972م، (1/ 176، 177).
[2]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، مصر، ط3، 1399هـ/ 1979م، ص33 بتصرف.
[3]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، مصر، ط3، 1399هـ/ 1979م، هامش ص34.
[4]. نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، محمد ناصر الدين الألباني، المكتبة الإسلامية، بيروت، ط3، 1417هـ/ 1996م، ص38: 40 بتصرف.
[5]. انظر: دفاع عن السنة المطهرة، علي حشيش، دار العقيدة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص126.
[6]. أسباب رد الحديث، محمد محمود بكار، دار طيبة، السعودية، ط2، 1418هـ/ 1997م، ص14.
[7]. القول المنيف في حكم العمل بالحديث الضعيف، فواز أحمد زمرلي، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص75: 77.
[8]. انظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة دار التراث، مصر، ط2، 1392هـ/ 1972م، (1/ 298، 299).
[9]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين، (1/ 168).
[10]. تبيين العجب بما ورد في فضل رجب، ابن حجر العسقلاني، نقلا عن: حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أشرف بن سعيد، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص54.
[11]. النكت على كتاب ابن الصلاح، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: ربيع بن هادي عمير، دار الراية، الرياض، ط4، 1417هـ، (1/ 402).
[12]. انظر: حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أشرف بن سعيد، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص55.
[13]. حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أشرف بن سعيد، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص54، 55.
[14]. الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (1/ 225).
[15]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، مصر، ط3، 1399هـ/ 1979م، ص76.
[16]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 270، 271) بتصرف.
[17]. أسباب رد الحديث، د. محمد محمود بكار، دار طيبة، السعودية، ط2، 1418هـ/ 1997م، ص19: 21.
[18]. هدي الساري مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص403.