الزعم أن كتبة الوحي كانوا يتزيدون فيه وأنه – صلى الله عليه وسلم – كان يقر أقوالهم
وجها إبطال الشبهة:
1) لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليقر قول أحد من كتبته، على أنه وحي وهو ليس كذلك، وما كان من قول عبد الله بن أبي السرح، فقد جاء موافقا لإكمال الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتبها فهكذا نزلت، ولو فعل النبي غير ذلك لحرف الوحي وحاشاه – صلى الله عليه وسلم – من ذلك، ولما سمع الرسول – صلى الله عليه وسلم – بما يدعيه كذبا وبهتانا أمر بقتله، ثم عفا عنه يوم الفتح، وحسن إسلامه.
2) إن شدة حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على سلامة الوحي من التغيير والتحريف أثناء كتابته، وضبطه لكل ما يكتبون، وجمعه بطريقتين مختلفتين (الحفظ والكتابة) كل ذلك يعضد ما كان من حرصه – صلى الله عليه وسلم – على سلامته من التدخل البشري فيه، فكيف يتهم – صلى الله عليه وسلم – بنسبة ما ليس منه له؟!!
التفصيل:
أولا. لم يكن النبي ليملي على كتبة الوحي إلا ما نزل عليه من السماء:
قال القرطبي في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله( (الأنعام: ٩٣): “من” في موضع خفض، أي: ومن أظلم ممن قال سأنزل، والمراد عبد الله بن أبي السرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم ارتد ولحق بالمشركين، وسبب ذلك – فيما ذكر المفسرون – أنه لما نزل قوله عز وجل: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12)( (المؤمنون) دعاه النبي – صلى الله عليه وسلم – فأملاها عليه؛ فلما انتهى إلى قوله سبحانه وتعالى: )ثم أنشأناه خلقا آخر( (المؤمنون: 14) عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان، فقال: )فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هكذا أنزلت علي”، فشك عبد الله حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين.
وقال ابن اسحاق في هذه الآية )ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله(: إنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح، إذ ارتد عن الإسلام، فلما دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة؛ أمر – صلى الله عليه وسلم – بقتله واثنين معه، ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففر عبد الله بن أبي السرح إلى عثمان رضى الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة – أرضعت أمه عثمان – فغيبه عثمان، حتى أتي به إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعدما اطمأن أهل مكة، فاستأمنه له؛ فصمت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طويلا ثم قال: “نعم”، فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت[1] إلي يا رسول الله؟ فقال: إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين» [2]. وأسلم عبد الله بن سعد بن أبي السرح أيام الفتح فحسن إسلامه، ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك، وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش[3].
فلو كان عبد الله يعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كاذب، لما أسلم ثانية ولما حسن إسلامه، وربما يقول قائل: إنه أسلم خوفا من القتل. نقول: لو كان ما تقولونه حقا لارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم! ولكننا لم نسمع عن شيء من ذلك، بل سمعنا عن بطولاته وفتوحاته، فهو الذي فتح الله على يديه إفريقية، وهو الذي غزا الصواري من أرض الروم، وإنما كان ذلك ليقينه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم.
أما ما قيل من أنه كان يملي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: عزيز حكيم، فيكتب هو من تلقاء نفسه: عليم حكيم، فيقر – صلى الله عليه وسلم – صنيعه – فهذه رواية كاذبة، وليس لها أساس من الصحة حتى ولو فرضنا صحتها، فهي لا تعني ما يكتبه من قرآن، وإنما ما كان يكتبه للنبي – صلى الله عليه وسلم – من رسائل وغيرها.
ثانيا. شدة حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على سلامة الوحي:
خلال فترة امتدت ثلاثة وعشرين عاما، كان الوحي ينزل على محمد – صلى الله عليه وسلم – بطرق مختلفة؛ ولذلك كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعرف ما ينزل عليه، أهو قرآن، أو حديث قدسي، أو إعلام بالغيب؟
وفيما يخص وحي القرآن فإن القرآن عبارة عن 114 سورة، تختلف سوره في عدد آياتها، وتختلف الآيات في طولها، فمنها القصير، ومنها الطويل، وكذلك السور التي كان لكل منها اسم مأخوذ من فاتحتها أو من مضمونها.
ولما كان محمد – صلى الله عليه وسلم – أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة بأية لغة؛ كان يحفظ الوحي عن ظهر قلب، ومن ثم يقوم بإبلاغ أتباعه ما أنزل عليه من القرآن، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – أثناء نزول الوحي عليه، يردده بسرعة لكي يحفظه، فأنزل الله – سبحانه وتعالى – قوله: )لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19)( (القيامة)، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على حفظ ما يوحى إليه؛ حتى لا يتبدل القول لديه، ولكن الله – عز وجل – أعلمه أنه هو المتكفل بحفظه.
وكان أتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – على نوعين:
- نوع يعتمد على حفظ ما سمع من النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ظهر قلب: وكان هؤلاء على نوعين:
الأول: يحفظ كل ما يسمع من القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: متفرغ لملازمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وحفظ القرآن عن ظهر قلب منه.
وكان أغلب الصحابة من النوع الأول الذي يحفظ من النبي – صلى الله عليه وسلم – ما تيسر له حفظه، كلما سمحت ظروفه بذلك. أما النوع الثاني فقد كان متفرغا لحفظ القرآن عن ظهر قلب؛ لذلك حفظ هؤلاء القرآن كله من نبيهم محمد – صلى الله عليه وسلم – ومن هؤلاء: عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت… وغيرهم.
- أما النوع الآخر فكان الكتبة: وكانوا ينقسمون إلى نوعين: كتبة متفرغون، وكتبة غير متفرغين، فالكتبة المتفرغون من الذين كانوا يلازمون النبي – صلى الله عليه وسلم – لكتابة الوحي، دون أن يمارسوا أي عمل، فعملهم الوحيد هو كتابة الوحي من محمد – صلى الله عليه وسلم – وكان من هؤلاء الكتبة: معاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت.
أما صنف الكتبة غير المتفرغين للكتابة، فيندرج تحته كل المسلمين الذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة، ولا يستطيعون التفرغ لكتابة الوحي، إلا أنهم كانوا يكتبون الوحي كلما سنحت لهم الفرصة لذلك، ومن هؤلاء: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ويزيد بن أبي سفيان، والزبير بن العوام… إلخ.
وعندما كان ينزل الوحي على النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول للموجودين: اكتبوا ما نزل علي من القرآن، فيكتب الكتبة الموجودون، ويحفظ الحفظة عند نزول الوحي، فربما كتب البعض على عسيب، أو كتب على لـخف، أو على رقعة من الجلود، وما أن ينتهي الكتبة من كتابة ما نزل من القرآن في ذلك الوقت، حتى يأمرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن يقرءوا عليه ما كتبوا، فإن تأكد من صحته، أمرهم أن يكتبوا نسخة له ليأخذ تلك النسخة ويضعها في بيته، وبهذا تتضح عناية الرسول – صلى الله عليه وسلم – في حفظ القرآن من الدخلاء[4].
ومن هنا نتساءل: كيف يغير عبد الله بن أبي السرح بعض الألفاظ؟ ولم يكن وحده يكتب ما ينزل من القرآن؟! ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يراجع عليهم ما كتبوا خوفا من التحريف أو التغيير، ثم يحتفظ بنسخة مما أقره في بيته.
هذا فضلا عن أن جبريل – عليه السلام – كان يدارس النبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن كل عام مرة في شهر رمضان، وفي العام الذي قبض فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دارسه القرآن مرتين، فلو كان فيه تغيير أو تحريف كما يزعمون، فكيف كان يقره جبريل – عليه السلام – عندما كان يراجعه كل عام؟!
وذلك معلوم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – حيث قال: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعتكف في كل شهر رمضان عشرة أيام، فلما كان من العام الذي توفـي فيه اعتكف عشرين يوما، قال: وكان يعرض عليه القرآن كل رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه، عرض عليه مرتين»[5] [6].
فإذا كان جبريل يراجع القرآن سنويا حتى توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكيف – إذن – يسمح بإبقاء ا لكلمات التي كان يغيرها عبد الله بن أبي السرح كما يدعون؟!
الخلاصة:
- لم يحدث أن دون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أقوال كتبة الوحي قط ولا أقر شيئا منها دونوه هم؛ وذلك لأن القرآن هو كلام الله الموحى به إلى نبيه الحريص على سلامة تبليغه صلى الله عليه وسلم.
- الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يأمر كاتبه عبد الله بن أبي السرح، بكتابة قوله سبحانه وتعالى: )فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون) إلا لأن الآية قد نزلت عليه هكذا فعلا، وقد أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقتله عندما قال: )أوحي إلي ولم يوح إليه شيء( (الأنعام: 93)، ثم عفا عنه الرسول فرجع ابن أبي السرح إلى الإسلام وحسن إسلامه، وما قيل من أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يملي عليه عزيز حكيم، ويكتب هو عليم حكيم، فتلك رواية مكذوبة.
- لو فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – مع ابن أبي السرح شيئا غير إقراره إياه على ما قال؛ لموافقته الوحي، لكان – صلى الله عليه وسلم – بذلك محرفا للقرآن لمجرد مخالفة كاتبه ابن أبي السرح ولجاز لهم في هذه الحال مطعنهم، لكن شيئا من هذا لم يحدث، وحاشاه – صلى الله عليه وسلم – أن يفعل ذلك.
- كان النبي – صلى الله عليه وسلم – حريصا على سلامة الوحي من التغيير والتحريف أثناء كتابته وجمعه بطريقتين مختلفتين – الحفظ، والكتابة – لضمان سلامته من التزيد، وكان جبريل يدارسه – صلى الله عليه وسلم – القرآن كل عام مرة في شهر رمضان، وكل ذلك ينفي اتهام النبي – صلى الله عليه وسلم – بنسبة ما ليس منه له.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات عبد الله الفادي. www.Islameyat.com
[1]. أومأ: أشار.
[2]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب المغازي، حديث فتح مكة (36913)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد (4316)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1723).
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج7، ص40.
[4]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص554: 556 بتصرف.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم (4712).
[6]. دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ج7، ص146.