الزعم أن كثرة مرويات أبي هريرة تطعن في عدالته
وجوه إبطال الشبهة:
1) من المعلوم أن صحبة أبي هريرة – رضي الله عنه – تعدت ثلاث سنوات، فقد قدم على النبي – صلى الله عليه وسلم – عام خيبر، أي في جمادى الأولى سنة سبع، ولازمه حتى وفاته، وبين خيبر ووفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – أربعة أعوام إلا شهرين، وهذه المدة ليست قليلة لحفظ هذه الأحاديث، لاسيما لمن لازم النبي – صلى الله عليه وسلم – وأوقف حياته على تلقي الحديث وحفظه فقط، خصوصا وقد دعا له النبي – صلى الله عليه وسلم – بعدم النسيان.
2) إن من الخطأ الفاحش أن نقارن بين الخلفاء الراشدين وأبي هريرة في كثرة المرويات عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك لانشغالهم بشئون السياسة وأمور الدولة، بينما تفرغ أبو هريرة – رضي الله عنه – للحديث، وابتعد عن الفتن وغيرها من المشاغل.
3) لا تصح مقارنة عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – بأبي هريرة في رواية الحديث؛ لأن عبد الله سكن مصر والشام بعيدا عن طلاب الحديث فقلت مروياته، وشهادة أبي هريرة له كانت بأنه أكثر تحملا لا أداء، وكذلك لم يقصد ابن عمر – رضي الله عنهما – اتهام أبي هريرة بمقولته: «لقد أكثر علينا أبو هريرة»، لأنه يعني أن روايته زادت على روايتهم.
التفصيل:
أولا. ملازمة أبي هريرة للنبي – صلى الله عليه وسلم – كافية لحفظ هذه الأحاديث:
من المعلوم أن أبا هريرة – رضي الله عنه – قدم مهاجرا من اليمن إلى المدينة ليالي فتح خيبر سنة سبع من الهجرة، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو في اليمن، وشهد هذه الغزوة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولازمه إلى آخر حياته يخدمه، ويتلقى العلم عنه، ويتحدث هو عن ذلك لما سأله مروان بن الحكم قائلا له: ” إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحديث، وإنما قدمت قبل وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – بيسير، فقال أبو هريرة: نعم، قدمت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخيبر سنة سبع، وأنا – يومئذ – قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، وأقمت معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله – يومئذ – مقل (فقير)، وأصلي خلفه، وأحج، وأغزو معه، فكنت – والله – أعلم الناس بحديثه، قد – والله – سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار، وكانوا يعرفون لزومي له؛ فيسألوني عن حديثه، منهم: عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا – والله – ما يخفى علي كل حدث كان بالمدينة، وكل من أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكل من كانت له عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منزلة، وكل صاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر صاحبه في الغار، وغيره قد أخرجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من المدينة أن يساكنه، فليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه، فإنه يجد عندي منه علما كثيرا جما…، فو الله ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة، ويتقيه – بعد ذلك – ويخافه ويخاف جوابه”[1].
وفي هذا رد صريح “على من ادعوا أن صحبة أبي هريرة للنبي – صلى الله عليه وسلم – لم تتعد السنة وتسعة أشهر؛ لأن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وخيبر كانت في جمادى الأولى سنة سبع، وتوفي النبي – صلى الله عليه وسلم – في ربيع الأول سنة 11 هـ، وبين خيبر ووفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – أربع سنوات إلا شهرين تقريبا”[2].
ولكثرة مرويات أبي هريرة – رضي الله عنه – عدة أسباب هي:
- شدة ملازمته النبي – صلى الله عليه وسلم – ومواظبته على حضور مجالسه؛ فقد روى الشيخان وغيرهما أن أبا هريرة قال: “إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينا، ألزم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم وقال: «من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه فلم ينس شيئا سمعه مني، فبسطت بردة كانت علي، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه»[3].
- رغبته الشديدة في تحصيل العلم؛ حتى نالته دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – ألا ينسى شيئا من العلم، فبز أقرانه في كثرة الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مع قصر صحبته قياسا عليهم، فقد روى البخاري في باب الحرص على الحديث عن أبي هريرة أنه قال: «يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه»[4].
- أدرك أبو هريرة كبار الصحابة وأخذ عنهم شيئا كثيرا من الحديث فتكامل علمه به واتسع أفقه فيه[5].
ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن “ما رواه – أبو هريرة – لم يكن جميعه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بل روى عن الصحابة رضي الله عنهم، ورواية بعض الصحابة عن بعض مشهورة مقبولة لا مأخذ عليها “[6].
- قوة ذاكرته وحفظه وحسن ضبطه، خاصة بعد حادثة بسط الثوب، وتبشير الرسول له بالحفظ وعدم النسيان – كما سبق – فكان حافظا متقنا ضابطا لما يرويه.
ويدل على ذلك قصة امتحان مروان له فيما رواه الحاكم عن أبي الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم: “أن مروان بن الحكم دعا أبا هريرة فأقعدني خلف السرير، وجعل يسأله وجعلت أكتب، حتى إذا كان عند رأس الحول، دعا به فأقعده وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخر”[7]، وهذه القصة “تدل على قوة حفظه وإتقانه، كما شهد له بذلك الصحابة والتابعون فمن بعدهم من أئمة الحديث إلى يومنا هذا”[8].
- امتداد عمره – رضي الله عنه – بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيث عاش بعده نحو سبعة وأربعين عاما ينشر الحديث ويبثه بين الناس بعيدا عن المناصب والمشاغل والفتن.
ومن هذه الأمور مجتمعة كان أبو هريرة أحفظ الصحابة للحديث، متفوقا عليهم في باب التحمل والرواية معا، وكان كل ما رواه أبو هريرة مجتمعا يثبت متفرقا لدى جميع الصحابة أو كثير منهم، لهذا كانوا يرجعون إليه، ويعتمدون في الرواية عليه، حتى إن ابن عمر كان يترحم عليه في جنازته ويقول: “كان يحفظ على المسلمين حديث النبي صلى الله عليه وسلم “[9]، قال البخاري: “روى عن أبي هريرة نحو من ثمانمائة رجل من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم”[10].
ومعلوم لدى علماء الحديث “أن أبا هريرة روى خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثا(5374)، اتفق الشيخان منها على ثلاثمائة وخمسة وعشرين(325)، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين (93)، ومسلم بمائة وتسعة وثمانين(189)”[11].
ومن ثم، نتساءل ما وجه الغرابة في كثرة مرويات أبي هريرة – رضي الله عنه – مع حداثة صحبته بالنسبة لغيره، طالما أن المدة التي صحب النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها ليست بالزمن القصير في عمر الصحبة؟ وليس ذلك ببدع لا في العقل ولا في العادة، فكم من شخص قد يجمع في الزمن القليل مالا يجمعه غيره في أضعافه، والذكاء والإقبال على العلم والتفرغ من الشواغل الدنيوية – كل ذلك يساعد على الإكثار مع الجمع والتحصيل.
وإنا “لنجد في عصورنا المتأخرة بعض التلاميذ والمريدين الذين لازموا أساتذتهم وشيوخهم مدة وجيزة، يقيدون عنهم الكتب والمجلدات ويحفظون عن ظهر قلب من كلامهم ما يربو على ما حفظه أبو هريرة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذلك على الفرق الذي بين عصرنا وعصر النبوة، وبين أبي هريرة – رضي الله عنه – وهؤلاء التلاميذ من جهة التفرغ والاستعداد وتكاليف الحياة، وكذلك التقوى والورع وغير ذلك من متطلبات حصول العلم.
ولا يغيب عنا أن هذه الخمسة آلاف والثلاثمائة والأربعة والسبعين حديثا – الكثير منها لا يبلغ السطرين أو الثلاثة، ولو جمعت كلها لما زادت عن جزء، فأي غرابة في هذا؟”[12].
إنه من الغريب حقا أن يعجب هؤلاء من كثرة حديث أبي هريرة، فهل يعجبون من قوة ذاكرة أبي هريرة أن تجمع (5374) حديثا؟ أم يعجبون أن يحمل هذه الكثرة عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – خلال ثلاث سنوات؟
إذا كانوا “يعجبون من قوة حافظة أبي هريرة، فليس هذا مجالا للدهشة والطعن؛ لأن كثيرا من العرب قد حفظوا أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة، فكثير من الصحابة حفظوا القرآن الكريم والحديث الشريف والأشعار، فماذا يقولون في هؤلاء؟ وماذا يقولون في حفظ أبي بكر أنساب العرب؟ وعائشة – رضي الله عنها – شعرهم؟ وماذا يقولون في حفظ حبر الأمة عبد الله بن عباس؟ وحفظ الإمام الزهري والشعبي وقتادة؟ فحفظ أبي هريرة – إذن – ليس بدعا وليس غريبا.
وإذا كانوا يعجبون من تحمل أبي هريرة هذه الأحاديث الكثيرة عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – خلال ثلاث سنوات، فقد غاب عن ذهنهم أن أبا هريرة صحب الرسول – صلى الله عليه وسلم – في سنوات ذات شأن عظيم – هذا فضلا عما ذكرناه من أسباب قوة حفظه – جرت فيها أحداث اجتماعية وسياسية وتشريعية هامة، وفي الواقع أن الرسول قد تفرغ في تلك السنوات للدعوة والتوجيه بعد أن هادنته قريش، ففي السنة السابعة وما بعدها انتشرت رسله في الآفاق، ووفدت إليه القبائل من جميع أطراف جزيرة العرب، وأبو هريرة في هذا كله يرافق الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويعي بقلبه”[13].
ومن ثم، فإنه لا غرابة أن يحفظ أبو هريرة هذه الأحاديث في مدة تزيد على ثلاث سنوات؛ لتوفر كل متطلبات الحفظ لديه، وهذه المدة ليست سنة وأربعة أشهر كما زعموا، وإنما هي أكثر من ثلاث سنوات.
ثانيا. حيثيات المفارقة بين مرويات أبي هريرة والخلفاء الراشدين:
من الخطأ الفاحش أن يقارن بين الخلفاء الراشدين وأبي هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية لأسباب عدة، أهمها:
- أن هؤلاء الخلفاء الأربعة اهتموا بشئون الدولة، وسياسة الحكم، فأنقذوا العلماء والقراء والقضاة إلى البلدان، فأدوا الأمانة التي حملوها، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شئون الدولة، فكان ذلك الذي شغلهم عن رواية الحديث مما أدى إلى قلة حديثهم، فكما لا نلوم خالد بن الوليد – مثلا – على قلة حديثه عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لانشغاله بالفتوحات لا نلوم كذلك أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم، وهل لأحد أن يلوم عثمان بن عفان أو عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – لأنها لم يحملا لواء الفتوحات شرقا وغربا؛ لأن كل امرئ ميسر لما خلق له.
- إن في انصراف أبي هريرة – رضي الله عنه – إلى العلم والتعليم، واعتزاله الفتن والسياسة، واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، ما يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة، بل هي خطأ كبير[14].
- تقليل الخلفاء الراشدين من الرواية؛ خشية أن يتخذها المنافقون مطية لأغراضهم الخبيثة:
فقد نظر الخلفاء الراشدون وتابعهم سائر الصحابة إلى السنة الشريفة فألقوها كنوزا ثمينة في صدور الذين أوتوا العلم، فلم يشاءوا أن يعرضوها في سوق الرواية؛ لئلا يتخذ المنافقون من شيوع الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذريعة للتزيد فيه وسلما لتزييف الحديث على رسول الله، ولئلا تزل بالمكثرين أقدامهم فيسقطوا في هوة الخطأ والنسيان فيكذبوا على رسول الله من حيث لا يشعرون، كما كرهوا أن يشتغل الناس برواية الحديث وينصرفوا عن تلاوة القرآن ولما يتيسر حفظه لكثير منهم؛ لذلك نجدهم قد أتقنوا من السنة بقدر ما يعن لهم من مسائل الفتوى والقضاء.
فهذا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – على كثرة سماعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقلل من رواية الحديث، وكان عمر بن الخطاب يأمر الناس بتقليل الرواية وكان مهيبا عند جميع الصحابة؛ فقد روى ابن ماجه في سننه عن الشعبي عن قرظة بن كعب، قال: «بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة وشيعنا، فمشى معنا إلى موضع يقال له “صرار”، فقال: أتدرون لم مشيت معكم، قال: قلنا: لحق صحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولحق الأنصار، قال: لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز[15] المرجل[16]، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد، فأقلوا الرواية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم أنا شريككم»[17].
فلما قدم قرظة، قالوا: “حدثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب”[18].
وهذا أبو هريرة – الذي يحتجون به – يمسك عن التحديث في زمن عمر بن الخطاب مع أنه معدود في المكثرين من الصحابة لرواية الحديث، ولكنه اتباعا لسنة الشيخين في التقليل من الرواية يكف عنها، ثم لما طالت به الأيام واحتيج إلى ما عنده من العلم حدث به وأظهره للناس؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنه قال: «إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو قوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160)( (البقرة).»[19]
ومن ثم، فإن الخلفاء الراشدين وقفوا على حذر في شأن الحديث، فأقلوا من الرواية خشية أن يتخذها المنافقون مطية لأغراضهم الخبيثة، وهم مع ذلك واقفون عند قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم وكثرة الحديث عني، من قال علي فلا يقولن إلا حقا أو صدقا…»[20][21]
ثالثا. أسباب كثرة ما روي عن أبي هريرة وقلة ما روي عن عبد الله بن عمرو:
إن طعنهم في أبي هريرة بسبب كثرة أحاديثه (5374 حديثا) قياسا بأحاديث عبد الله بن عمرو بن العاص(700 حديثا)، قائلين كيف يشهد أبو هريرة بأن عبد الله بن عمرو أكثر منه حديثا، فقد روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: «ليس أحد من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكثر حديثا مني، إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب»[22]، ومع كل هذا تروي لنا كتب السنة أحاديث لأبي هريرة تربو على مرويات عبد الله بن عمرو بن العاص بالآلاف؟
نقول قد يكون أبو هريرة قال هذا قبل دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – له بعدم النسيان، أو أن عبد الله بن عمرو كان – فعلا – أكثر تحملا من أبي هريرة، ولكن قلت مروياته، ويرجح ذلك عدة أسباب منها:
- أنه كان مشتغلا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم، فقلت الرواية عنه، بخلاف أبي هريرة فقد كان متصدرا للتحديث.
- إن عبد الله كان أكثر مقامه بعد الفتوحات بمصر أو بالطائف، ولم تكن الرحلة إليهما من طلاب الحديث كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة مقيما بالمدينة متصديا للفتوى والتحديث إلى أن مات، ويظهر هذا في كثرة من أخذ عن أبي هريرة الحديث، فقد بلغ عددهم ثمانمائة نفس، ولم يقع ذلك لغيره من الصحابة.
- إن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – كان قد وقع له بالشام كتب من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها ويحفظ منها جملا، ويحدث بها؛ فربما تجنب التحمل عنه لذلك الكثير من أئمة التابعين.
لهذه الأسباب “نجد أن ما روي عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – لا يتناسب مع غزارة علمه وكثرة ما حفظه وكتبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يصل إلينا عنه سوى سبعمائة حديث اتفق الشيخان منها على سبعة عشر حديثا، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين”[23].
أما عن زعم الطاعنين أن عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – اتهم أبا هريرة – رضي الله عنه – بقوله: «لقد أكثر علينا أبو هريرة»، فهذا زعم باطل؛ إذ ليس في قول ابن عمر – رضي الله عنه – هذا اتهام لأبي هريرة، غاية ما في الأمر أنه أراد أن أبا هريرة أكثر عليهم، أي زادت روايته عن رواياتهم.
إن ما روي عن ابن عمر – رضي الله عنه – من شهادته لأبي هريرة بأنه أكثر سماعا من النبي – صلى الله عليه وسلم – لأنه كان أكثرهم جرأة يدحض هذا الزعم، فلقد مر عبد الله بن عمر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط أعظم من أحد، فقال له ابن عمر – رضي الله عنهما: “أبا هر انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة – رضي الله عنها – فقال لها: يا أم المؤمنين أنشدك الله، أسمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان، فقالت: اللهم نعم. فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غرس ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها، فقال ابن عمر: “يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأعلمنا بحديثه»[24].
وهذا اعتراف صريح من ابن عمر بأن أبا هريرة كان ألزمهم للنبي – صلى الله عليه وسلم – وأعلمهم بحديثه، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه، فقال له مروان بن الحكم: أما يجزئ أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه، قال عبيد الله في حديثه: قال: لا، قال: فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: أكثر أبو هريرة على نفسه، قال: فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئا مما يقول، قال: لا، ولكنه اجترأ وجبنا، قال: فبلغ ذلك أبا هريرة، قال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا»[25] ومعنى “اجترأ”، أي: اجترأ على سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم – في حين أن الصحابة كانوا يهابون سؤاله، فعن أبي بن كعب قال: كان أبو هريرة جريئا على النبي – صلى الله عليه وسلم – يسأله عن أشياء لا نسأله عنها[26]، وكيف يتهم ابن عمر أبا هريرة وهو يعيذ سائله من أن يرد أو يشك مجرد الشك فيما رواه أبو هريرة؟!
من خلال ما سبق يتبين بجلاء أن المقارنة بين أبي هريرة وعبد الله عمرو بن العاص في كثرة المرويات عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا تصح؛ لاختلاف ظروف كل منهما، وأما قول ابن عمر: «لقد أكثر علينا أبو هريرة»، أي زادت روايته على روايتهم، ولم يقصد منها اتهام أبي هريرة أو ذمه، بل يقصد مدحه والثناء عليه لشدة حرصه، والدليل على ذلك قوله: “لكنه اجترأ وجبنا”، وقوله: “كنت ألزمنا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأعلمنا بحديثه”، وترحمه عليه بقوله في جنازته: “رحم الله أبا هريرة كان يحفظ على الناس سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم “.
الخلاصة:
- لقد أسلم أبو هريرة عام خيبر، وخيبر كانت في جمادى الأولى سنة سبع، وبين خيبر ووفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – أربع سنوات إلا شهرين، وفي هذا رد من قال: إن أبا هريرة لم يصحب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا سنة وأربعة أشهر.
- كان دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – لأبي هريرة – رضي الله عنه – بعدم النسيان – مع تفرغه لطلب العلم، وشدة ملازمته النبي – صلى الله عليه وسلم -،وحرصه على أداء ما حمله – وراء كثرة مروياته رضي الله عنه.
- من الخطأ الفاحش أن يقارن الخلفاء الأربعة – رضي الله عنهم – بأبي هريرة – رضي الله عنه – في كثرة الرواية عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لانشغالهم بأمور السياسة، وشئون الدولة المترامية الأطراف، على عكس تفرغ أبي هريرة للحديث، وابتعاده عن الفتن وغيرها من المشاغل، واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، وإذ ما أضفنا إلى ذلك إقلال الخلفاء الراشدين من الرواية خشية أن يتخذها المنافقون مطية لأغراضهم الخبيثة – علمنا لماذا زادت مرويات أبي هريرة عن الخلفاء الراشدين.
- إن شهادة أبي هريرة لعبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – بأنه أكثر حديثا منه، تعني أنه كان أكثر تحملا لا أداء، ولم يتيسر لعبد الله أداء كل ما عنده لسكنه بمصر والشام بعيدا عن طلاب الحديث، على عكس أبي هريرة الذي قطن المدينة ملجأ طلاب الحديث.
- لم يقصد ابن عمر – رضي الله عنهما – بمقولته: «لقد أكثر علينا أبو هريرة» الطعن في أبي هريرة، بدليل تصديقه له، وتحذيره من الشك فيما رواه، وترحمه عليه بقوله: “رحم الله أبا هريرة كان يحفظ على الناس سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم “ولكنه قصد أن روايته زادت على روايتهم؛ لاهتمامه بالحديث والعمل على حفظه ونشره بين الناس، وهذا ثناء ومدح وليس ذما.
(*) الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، محمد حمزة، المركز الثقافي العربي، المملكة المغربية، ط1، 2005م. الرد على القرآنيين، شافع توفيق محمود، الصفا والمروة للنشر والتوزيع، الإسكندرية، ط1، 1428هـ/ 2007م. السنة المطهرة والتحديات، د. نور الدين عتر، دار المكتبي، سوريا، ط1، 1419هـ/ 1999م.
[1]. تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، ط1، 1419هـ/ 1998م، (67/355) بتصرف.
[2]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام “مناقشتها والرد عليها”، د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (2/ 105، 106).
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الحجة على من قال: إن أحكام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت ظاهرة،(13/333)، رقم (7354).
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: الحرص على الحديث، (1/233)، رقم (99).
[5]. الحديث والمحدثون، د. محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، القاهرة، ط1، 1378هـ/ 1958م، ص133، 134 بتصرف.
[6]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، مصر، ط4، 1425هـ/ 2004، ص450.
[7]. أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: معرفة الصحابة، باب: ذكر أبي هريرة، (3/583)، رقم (6164).
[8]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام “مناقشتها والرد عليها”، عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (2/ 110).
[9]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، ص134.
[10]. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، ابن الأثير، دار الفكر، بيروت، د. ت، (5/321).
[11]. الحديث والمحدثون، د. محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، القاهرة، ط1، 1378هـ/ 1958م، ص134.
[12]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م، ص181، 182.
[13]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، مصر، ط4، 1425هـ/ 2004، ص450،449.
[14]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، مصر، ط4، 1425هـ/ 2004، ص450، 451.
[15]. هزيز: صوت.
[16]. المرجل: إناء يغلي فيه الماء، وله صوت عند غليان الماء فيه.
[17]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب: التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/12)، رقم (28). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم (26).
[18]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، مصر، 1428هـ/ 2007م، (2/999، 1000).
[19]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: حفظ العلم، (2/258)، رقم (118).
[20]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث أبي قتادة الأنصاري، (22591). وحسنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[21]. الحديث والمحدثون، د. محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، القاهرة، ط1، 1378هـ/ 1958م، ص66: 69 بتصرف.
[22]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/249)، رقم (113).
[23]. الحديث والمحدثون، د. محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، القاهرة، ط1، 1378هـ/ 1958م، ص143، 144.
[24]. صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: معرفة الصحابة، باب: ذكر أبي هريرة، (3/ 584)، رقم (6167). وصححه الذهبي في التلخيص، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: فضل اتباع الجنائز، (3/ 229)، رقم (133، 134). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة، (4/146)، رقم (2154).
[25]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الصلاة، باب: الاضطجاع بعدها، (4/98)، رقم (1257). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (1261).
[26]. أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: معرفة الصحابة، باب: ذكر أبي هريرة الدوسي، (3/ 583)، رقم (6166).