الزعم أن محمدا ً – صلى الله عليه وسلم – كان داعيا ً اشتراكيا ً لا رجل دين
وجوه إبطال الشبهة:
1) إذا لم يصح أن يوصف محمد – صلى الله عليه وسلم – بأنه رجل دين، فمن ذا الذي يستحق أن يوصف بالتدين؟! فالبشرية قاطبة لم تشهد – ولن تشهد – رجلا أخلص في عبادة الله والدعوة لتوحيده مثل محمد صلى الله عليه وسلم.
2) لقد أقر الإسلام الملكية الفردية، وحماها إلى أقصى الحدود، وأعلن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه», بعكس النظام الاشتراكي الذي لم يعترف إلا بالملكية العامة “ملكية الدولة”.
3) إن حقيقة الزكاة تختلف تماما عن حقيقة الضرائب الإلزامية، فهي أساس العدالة الاجتماعية في الإسلام، وهي فرض على الأغنياء؛ مواساة لإخوانهم الفقراء، وقضاء لحق الأخوة، وهي أعظم دليل على تكافل المجتمع الإسلامي وتضامنه.
التفصيل:
أولا. النبي – صلى الله عليه وسلم – أعظم متدين عرفته البشرية:
إن المرء ليعجب أشد العجب من هؤلاء الذين ينفون عن محمد – صلى الله عليه وسلم – صفة التدين ويصفونه بغيرها من الصفات التي يتساوى فيها الكثير من البشر؛ لأن البشرية قاطبة منذ آدم – عليه السلام – إلى أن تقوم الساعة لم تشهد ولن تشهد رجلا أخلص في عبادة الله والدعوة لتوحيده مثل محمد – صلى الله عليه وسلم – فالمتأمل في سيرته العطرة يجدها مثالا جليا لعبادة الله – عز وجل – وطلب مرضاته، فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يفعل شيئا إلا لله، فكان يحب إذا أحب لله ويكره إذا كره لله، ولم يغضب – صلى الله عليه وسلم – لنفسه قط، بل كان يغضب إذا غضب لله – سبحانه وتعالى – فكانت حياته كما أمره ربه: )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162)( (الأنعام).
ومن أكبر الدلائل على إخلاصه – صلى الله عليه وسلم – في عبادة الله تعالى:
- ثباته على الدعوة لله رغم الإيذاء والإغراء:
أمر الله – سبحانه وتعالى – رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالدعوة إليه بإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، وأمره أن يبدأ أولا بدعوة أهله وعشيرته والقوم الذين بعث فيهم، فامتثل – صلى الله عليه وسلم – أمر ربه وجمع قومه وأخبرهم بأنه رسول الله إليهم بشيرا ونذيرا، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن عبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر، ونهاهم عن اتباع الآباء والأجداد وتقليدهم في معتقداتهم الباطلة.
فلما سمعوا ما جاء به – صلى الله عليه وسلم – طار صوابهم، واستعظموا عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وأحلام آبائهم وأجدادهم، فناصبوه العداء الشديد، وتنكروا لدعوته، وسعوا جاهدين لصده وصرفه عنها بكل الطرق وشتى الوسائل، ومن هذه الطرق التي سلكوها لصده – صلى الله عليه وسلم – السخرية والاستهزاء باللفظ، والإيذاء البدني له – صلى الله عليه وسلم – ولأصحابه, فقد ألقوا عليه سلا[1] الجزور، وأدموا عقبيه[2] واتفقوا على قتله، وحاربوه في مدينته, وشجوا رأسه، وكسروا رباعيته[3]، وعلى الرغم من كل ذلك تحمل النبي – صلى الله عليه وسلم – ابتغاء لمرضاة ربه – عز وجل – ولم يتراجع أبدا عن هذه الدعوة التي ألبت عليه الأعداء من كل جانب، ولم يهادن فيها، ولم يساوم عليها، مثلما يفعل غيره من طلاب الدنيا.
- عبادته لله في السر والعلن قبل البعثة وبعدها:
لقد كان – صلى الله عليه وسلم – قواما لله تعالى طالبا مرضاته، فلم يك يعرف قبل البعثة إلا دين إبراهيم عليه السلام – وإن كان ناله التحريف – فقد عرف ما يكفيه لأن يكون عابدا يطلب رضا الله تعالى، وقد صفت نفسه فأدركت، وخلص قلبه فألـهم، وعلم أن ملة إبراهيم كانت الفطرة المستقيمة والحنيفية السمحة فاختارها وسلك سبيلها.
فالعبادة المتجهة إلى الله – سبحانه وتعالى – كانت في قلبه ونفسه وكيانه وخلقه، قبل أن ينزل عليه كتاب هاد قد أذهب حيرته، ووجد الكتاب ينير له السبيل، ويفصل في الأحكام، ولا شك أن العبادة تكون أهدى بعد هذا التنزيل, وأنها في الجاهلية قبل البعثة كانت في قلبه بذرة صالحة نمت؛ لأنها كانت في أرض طاهرة خصبة، ولم يكن لها سقي ولا رعي، ومع ذلك آتت أكلها؛ فبعد البعثة المحمدية جاءها السقي والرعي فربت ونمت، وازدهرت في قلب مخلص مدرك، وصار قريبا من الله تعالى بقلبه الطيب المخلص، وبمعرفة شرعه تعالى، وباتصال الوحي به دوما من غير انقطاع، فكان بذلك أعبد خلق الله تعالى، وكلما ازداد علما بالله وشرعه ازداد عبادة وخوفا من الله وإرضاء له، ولقد روى أبو ذر – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت[4] السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا عليه ملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا» [5].
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه شيئا، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته»[6].
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: «أنه قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أليس الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبدا شكورا» [7]. ولقد ثبت عن أبي الدرداء أنه قال: «خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعبد الله بن رواحة» [8].
وعن علقمة قال: «سألت أم المؤمنين عائشة قلت: كيف كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يخص شيئا من الأيام؟! قالت: لا، كان عمله ديمة[9], وأيكم يستطيع ما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستطيع» [10].
وهكذا نرى عبادته – صلى الله عليه وسلم – فيها ذكر دائم، وتلاوة للقرآن دائمة، وكان يحرض أصحابه على أن يقرءوا وهو يسمع، فإذا ذكروه بأن القرآن نزل على قلبه، قال لهم إنه يحب أن يسمعه من غيره.
ومع دوامه على العبادة التي وصفها القرآن الكريم ودعا إليها وبينها, كان إذا سكت عن القيام بصلاة أو إرشاد عام، يتفكر في آلاء الله، ويتأمل في خلقه؛ ليدرك عظمته وكمال سلطانه، فلم ينقطع عن عبادة التفكير التي ابتدأ بها قبل أن يوحى إليه، وكان كثير الاستغفار؛ لأن الاستغفار عبادة في ذاته؛ لأنه إحساس بوجوب الالتجاء إلى الله، وفيه إحساس بقصور ما يؤدي العبد من العبادة، واستصغار العمل إحساس بالحاجة إلى الله والقرب منه، وإلى عظمته وجلاله، وشعور بأن عمله – مهما يكن كبيرا – صغير بالنسبة لله تعالى، ومن يستكثر حسناته كأنه يمن على الله تعالى في هذه العبادة، وإن الشعور بالاستغفار والالتجاء إليه بعد عن المن؛ لذا كان سيد العابدين – صلى الله عليه وسلم – يحصن عبادته بالاستغفار، حتى لا يكون منه من الاستكثار – صلى الله عليه وسلم ـ[11]. فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» [12].
هكذا كان حال النبي – صلى الله عليه وسلم – في علاقته بربه – عز وجل – فكيف يقال بعد ذلك: إنه لم يكن رجل دين، وإنه مجرد داع اشتراكي لتوزيع الثروات؟! هذا ما لا يمكن أن يقوله عاقل أو يقر به منصف.
ثانيا. مفهوم التملك في النظامين الإسلامي والاشتراكي:
قبل الحديث عن النظام المالي الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – يحسن بنا أن نتكلم بشكل عابر عن أنظمة التملك السائدة في العالم؛ ليتبين الفرق العظيم بين نظام إلهي وهو نظام الإسلام، وبين الأنظمة الوضعية التي هي من صنع البشر.
فمن المعلوم بداهة أن هناك نظامين عالميين لمفهوم التملك، وهما يختلفان كل الاختلاف من ناحية النظرية والمبدأ والتطبيق، بل يتناقضان كل التناقض:
الأول: نظام الملكية الفردية أو المذهب الحر: وطابعه الأساسي هو الفردية التامة والحرية الواسعة في اقتناء المال وإنفاقه وتوزيعه حيث يشاء الفرد وحيث يريد.
الآخر: نظام الملكية الجماعية أو المذهب المقيد: وطابعه الأساسي طمس معالم الفردية، وتضييق الحرية الشخصية في كل مجالاتها، فما الفرد في هذا النظام إلا آلة مسخرة ليس لها أية حرية أو إرادة أو اختيار إلا في بعض المجالات[13].
وإن المتأمل يجد أن النظام الأول – الملكية الخاصة – هو الأصل في النظام الرأسمالي، بينما يجد أن النظام الثاني – الملكية العامة – هو الأصل في النظام الاشتراكي.
ومن ثم فإننا لو أردنا أن ننسب النظام الإسلامي الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – نجده لا ينتمي بحال إلى أحد هذين النظامين؛ وذلك لأن الملكية الخاصة والعامة في الإسلام كلاهما أصل يكمل الآخر، وكلاهما ليس مطلقا, بل مقيدا بالصالح العام.
وعلى هذا, فلا يصح بحال من الأحوال عد النبي – صلى الله عليه وسلم – داعيا اشتراكيا؛ لأن ما جاء به – صلى الله عليه وسلم – يخالف ما يدعو إليه الاشتراكيون الذين بنوا أفكارهم على أساس الملكية العامة، سواء ملكية الدولة أم ملكية الجماعة، والذين صادروا الملكيات الخاصة ولم يعترفوا بوجودها.
بينما أقر الإسلام الملكية الخاصة – ملكية الأفراد – وحماها إلى أقصى الحدود؛ لتكون جنبا إلى جنب مع الملكية العامة – ملكية الدولة أو الجماعة -، فقد أعلن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن: «كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه».[14] وكذلك قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه».[15] بل قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد» [16].
وقد كانت آخر كلماته – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم..» [17].
ولعل من أبرز صور حماية الإسلام للملكية الخاصة قطع يد السارق وتنظيم الميراث, سواء في صورة أموال استهلاك أم أموال إنتاج. ولكن ننبه إلى أن الإسلام لم يطلق الملكية الخاصة، بل وضع عليها قيودا عديدة للصالح العام، أحالها إلى مجرد وظيفة اجتماعية أو شرعية يؤديها المالك. وفيما عدا هذه القيود فإن الإسلام يطلق الملكية الخاصة دون أن يضع أي حد أعلى لاكتسابها؛ تشجيعا وضمانا للباعث والحافز الشخصي، ولقد وجد في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – أثرياء للغاية كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام – رضي الله عنهم – ممن يمكن أن نسميهم بلغة اليوم “مليونير” أو “بليونير”، ولكنه مليونير أو بليونير مقيد، أي ملتزم بحدود الشرع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالغنى لمن اتقى» [18] [19].
فلكل مواطن أن يسعى في الأرض دون أي قيد، أو حد أعلى للملكية أو الثروة والاغتناء، فالله – عز وجل – يقول: )للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن( (النساء: ٣٢)، ويقول سبحانه وتعالى: )والله فضل بعضكم على بعض في الرزق( (النحل: ٧١)، فاغتناء الناس وتفاوتهم في أرزاقهم ومعيشتهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات وتفضيل بعضهم على بعض ليس اعتباطا، وإنما هو بقدر ما يبذلونه من جهد وعمل صالح، وصدق الله العظيم الذي يقول: )وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41)( (النجم).
كما أن الأفراد في ظل النظام الإسلامي لهم مطلق الحرية في ممارسة نشاطهم الاقتصادي – بعكس النظام الاشتراكي – طالما كان هذا النشاط مشروعا بحسب المفهوم الإسلامي، كما أنه لا يجوز للدولة في الإسلام أن تتدخل في النشاط الاقتصادي كتاجرة أو منافسة للأفراد إلا إذا ثبت فعلا مغالاة الأفراد واتجاهاتهم نحو الاستغلال، فيكون تدخلها بالقدر الضروري الذي يلزم لتصحيح مسار النشاط الاقتصادي[20].
وهكذا يتبين لنا سعة الفروق بين النظام الإسلامي الإلهي, وبين النظام الاشتراكي الوضعي الذي لا يعترف بأي حقوق، عدا حقوق الدولة والجماعة.
وهذا يدل على أن ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – ليس له أية علاقة من قريب ولا بعيد بالاشتراكية أو غيرها من الأنظمة الوضعية؛ لأن كل ما جاء به هو من عند الله العليم الحكيم.
ثالثا. أوجه الاتفاق والاختلاف بين الزكاة والضريبة الإلزامية:
إن الغرض من تشريع الزكاة في الإسلام هو إشراك الفقراء والمساكين ومن على شاكلتهم في أموال الأغنياء، ولما بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – سيدنا معاذا – رضي الله عنه – إلى اليمن قاضيا أو واليا قال له: «أخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد إلى فقرائهم» [21].
والزكاة هي أساس العدالة الاجتماعية في المجتمع المسلم؛ ففيها اشتراك في المنفعة والثمرة لا في أصل المال، فقد ترك الشارع – عز وجل – لأهل الأموال أموالهم لينموها، ثم فرض فيها حقا لازما لا يجوز التساهل فيه، قال – سبحانه وتعالى – في صفة عباده المتقين: )وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (19)( (الذاريات)، وقال عز وجل: )والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسائل والمحروم (25)( (المعارج).
لهذا نجد أن الصديق – رضي الله عنه – قاتل مانعي الزكاة، وجادله في هذا عمر – رضي الله عنه – حتى اقتنع برأيه، وصار أمرا مجمعا عليه من الصحابة، ولا عجب؛ فالزكاة ركن أصيل في بناء المجتمع على أساس من التعاون والتكافل والمشاركة في الخير والنعماء، وقد جعلها الإسلام حقا في الذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم، والزروع والثمار، وعروض التجارة، بل ذهب بعض الفقهاء إلى وجوبها في البقول والخضر والفواكه وحلي النساء.
ترى لو أن الزكاة أخرجت من كل هذه الأنواع الحولية وغير الحولية، ووزعت في مصارفها المشروعة، هل كان هناك جائع لا يجد ما يسد جوعته, أو عار لا يجد ما يستر عورته؟ أو متشرد لا يجد مسكنا يؤويه، أو مريض لا يجد مستشفى يستشفي فيه، أو طالب علم لا يجد ما يعينه على طلب العلم؟!
ترى لو أن الناس أخرجوا زكاة أموالهم بأمانة وإخلاص، من غير تهرب أو تحايل، ووزعت في مصارفها، هل كنت تجد بين المسلمين من يدعو إلى الشيوعية أو يعتنقها مذهبا؟ وهل كنت تجد بينهم في كثير من أقطار المسلمين هذا الفقر والضنك، وهذه الفوارق الشاسعة بين الناس؟ فهناك قلة تتمتع بمتع الحياة وزخارفها، بما يصل إلى حد الإسراف، وتبعثر الأموال هنا وهناك في الحانات وبيوت اللهو والفجور، وحلبات الرقص والسباق والقمار!! وهناك الكثرة الكاثرة لا تتمتع بالطيبات التي أحلها الله، بل ولا تجد الضروريات.
إن الزكاة حينما كانت تجمع من كل من تجب عليه، وتنفق في سبلها المشروعة في صدر الإسلام، كان المجتمع الإسلامي على خير ما يكون رخاء ورغدا وتمتعا بالطيبات، وتآلفا وتآخيا، فقد روى الرواة أنه في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – أخصب الناس، واغتنوا حتى إنهم بحثوا عن مستحق للصدقة فلم يجدوا، فما كان منهم إلا أن اشتروا بها عبيدا وأعتقوهم لوجه الله. وهكذا بلغ الإسلام في عصوره الأولى – بمستوى حياة المسلمين ومعيشتهم – حدا لم تبلغه إلا أمم قليلة اليوم، وذلك بفضل تشريع الزكاة[22].
وعلى هذا تختلف حقيقة الزكاة في الإسلام عن الضريبة الإلزامية، ويمكننا أن نحدد هذه الفروق بين الزكاة والضرائب، كما حددها د. يوسف القرضاوي على النحو الآتي:
الضريبة – كما عرفها علماء المالية -: فريضة إلزامية يلتزم الممول بأدائها إلي الدولة تبعا لمقدرته على الدفع، بغض النظر عن المنافع التي تعود عليه من وراء الخدمات التي تؤديها السلطات العامة، وتستخدم حصيلتها في تغطية النفقات العامة من ناحية، وتحقيق بعض الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها من الأغراض التي تنشد الدولة تحقيقها من ناحية أخرى.
والزكاة – كما عرفها فقهاء الشريعة -: حق مقدر فرضه الله في أموال المسلمين لمن سماهم في كتابه من الفقراء والمساكين وسائر المستحقين؛ شكرا لنعمته تعالى، وتقربا إليه، وتزكية للنفس والمال.
أوجه الاتفاق بين الزكاة والضريبة:
ومن خلال التعريفين يتضح لنا أن هناك أوجه اختلاف وأوجه اتفاق بين الضريبة والزكاة، وسنبدأ ببيان أوجه الاتفاق:
- فعنصر الإلزام الذي لا تتحقق الضريبة إلا به، موجود في الزكاة إذا تأخر المسلم عن أدائها بدافع الإيمان ومقتضى الإسلام، وأي إلزام أكثر من أخذها بقوة السلاح ممن منعها، ومن سل السيف لقتال من جحدها ولو كان ذا شوكة؟
- كما أن من شأن الضريبة أن تدفع إلي هيئة عامة مثل السلطة المركزية والسلطات المحلية[23]. وكذلك الزكاة؛ إذ الأصل فيها أن تدفع إلي الحكومة بواسطة الجهاز الذي سماه القرآن “العاملين عليها”.
- ومن مقومات الضريبة: انعدام المقابل الخاص، فالممول يدفع الضريبة بصفته عضوا في مجتمع خاص، يستفيد من أوجه نشاطه المختلفة، والزكاة كذلك لا يدفعها المسلم مقابل نفع خاص, وإنما يدفعها بوصفه عضوا في مجتمع مسلم يتمتع بحمايته وكفالته وأخوته, فعليه أن يسهم في معونة أبنائه، وتأمينهم ضد الفقر والعجز وكوارث الحياة، وأن يقوم بواجبه في إقامة المصالح العامة للأمة المسلمة التي بها تعلو كلمة الله وتنشر دعوة الحق في الأرض، بغض النظر عما يعود عليه من المنافع الخاصة من وراء إيتاء الزكاة.
- وإذا كان للضريبة – في الاتجاه الحديث – أهداف اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة فوق هدفها المالي؛ فإن الزكاة لها أيضا أهداف أبعد مدى، وأوسع أفقا، وأعمق جذورا في هذه النواحي المذكورة وفي غيرها، مما له عظيم الأثر في حياة الفرد والجماعة.
أوجه الخلاف بين الزكاة والضريبة:
أما أوجه الخلاف بين الزكاة والضريبة فهي كثيرة، أهمها:
- في الاسم والعنوان:
إن الاختلاف بين الزكاة والضريبة يظهر للوهلة الأولى في الاسم والعنوان لكل منهما وما له من دلالة وإيحاء, فكلمة “الزكاة” تدل في اللغة على الطهارة والنماء والبركة، يقال: زكت نفسه: إذا طهرت، وزكا الزرع: إذا نما, وزكت البقعة: إذا بورك فيها.
واختيار الشرع الإسلامي هذه الكلمة ليعبر بها عن الحصة التي فرض إخراجها من المال للفقراء وسائر المصارف الشرعية – له في النفس إيحاء جميل، يخالف ما توحي به كلمة “الضريبة”؛ فإن “الضريبة” لفظة مشتقة من: ضرب عليه الغرامة أو الخراج أو الجزية ونحوها، أي ألزمه بها، وكلفه تحمل عبئها، ومنه قوله تعالى: )وضربت عليهم الذلة والمسكنة( (البقرة: ٦١). ومن هنا ينظر الناس عادة إلي الضريبة بوصفها مغرما وإضرارا ثقيلا.
أما كلمة “الزكاة” وما تحمله من دلالات التطهير والتنمية والبركة، فهي توحي بأن المال الذي يكنزه صاحبه، أو يستمتع به لنفسه، ولا يخرج منه حق الله الذي فرضه يظل خبيثا نجسا حتى تطهره الزكاة، وتغسله من أدران الشح والبخل.
وهي توحي كذلك بأن هذا المال الذي ينقص – في الظاهر – لمن ينظر ببصره يزكو وينمو ويزيد – في حقيقة الأمر – لمن يتأمل ببصيرته، كما قال سبحانه وتعالى: )يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (276)( (البقرة), وقال سبحانه وتعالى: )وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه( (سبأ: ٣٩). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وما نقص مال من صدقة» [24].
وهي توحي كذلك أن الطهارة والنماء والبركة ليست للمال وحده، بل للإنسان أيضا: لآخذ الزكاة ولمعطي الزكاة، فآخذ الزكاة ومستحقها تتطهر بها نفسه من الحسد والبغضاء وتنمو بها معيشته، إذ تحقق له ولأسرته تمام الكفاية.
أما معطي الزكاة فيتطهر بها من رجس الشح والبخل, وتزكو نفسه بالبذل والعطاء، ويبارك له في نفسه وأهله وماله، وفي هذا يقول القرآن الكريم: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم( (التوبة: ١٠٣).
- في الماهية والوجهة:
ومن أوجه الاختلاف بين الزكاة والضريبة: أن الزكاة عبادة فرضت على المسلم؛ شكرا لله تعالى وتقربا إليه. أما الضريبة فهي التزام مدني محض خال من كل معنى للعبادة والقربة، ولهذا كانت النية شرطا لأداء الزكاة وقبولها عند الله؛ إذ لا عبادة إلا بنية, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات».[25]، وقال سبحانه وتعالى: )وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء( (البينة: ٥).
ولهذا أيضا تذكر الزكاة في قسم “العبادات” في الفقه الإسلامي؛ اقتداء بالقرآن والسنة اللذين قرنا الزكاة بالصلاة، أما القرآن فقد قرن بينهما في نيف وعشرين موضعا من سوره المكية والمدنية، وأما السنة ففي مواضع لا حصر لها، منها حديث: «بني الإسلام على خمس» [26]. وغيره
ولما كانت الزكاة عبادة وشعيرة وركنا دينيا من أركان الإسلام، لم تفرض إلا على المسلمين، فلم تقبل الشريعة السمحة أن توجب على غير المسلمين فريضة مالية فيها طابع العبادة والشريعة الدينية، وهذا بخلاف الضريبة، فهي تجب على المسلم وغير المسلم؛ تبعا لمقدرته على الدفع.
- في تحديد الأنصبة والمقادير:
إن الزكاة حق مقدر بتقدير الشارع، فهو الذي حدد الأنصبة لكل مال، وعفا عما دونها، وحدد المقادير الواجبة من الخمس إلى العشر، إلي نصف العشر، إلى ربع العشر, فليس لأحد أن يغير فيما نص عليه الشرع أو يبدل، ولا أن يزيد أو ينقص، ولهذا خطأنا المتهورين الذين نادوا بزيادة المقادير الواجبة في الزكاة؛ نظرا للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تمخض عنها العصر الحديث. بخلاف الضريبة، فهي تخضع – في وعائها، وفي أنصبتها، وفي سعرها ومقاديرها – لاجتهاد السلطة وتقدير أولي الأمر، بل إن بقاءها وعدمه مرهون بتقدير السلطة لمدى الحاجة إليها.
- في الثبات والدوام:
يترتب على هذا: أن الزكاة فريضة ثابتة دائمة ما دام في الأرض إسلام ومسلمون، لا يبطلها جور جائر، ولا عدل عادل، شأنها شأن الصلاة. أما الضريبة فليس لها صفة الثبات والدوام، لا في نوعها ولا في أنصبتها ولا في مقاديرها، ولكل حكومة أن تحور فيها وتعدل حسبما ترى، أو يرى أهل الحل والعقد من ورائها, بل بقاؤها نفسه – كما ذكرنا – غير مؤبد، فهي تجب حسب الحاجة وتزول بزوالها.
- في المصرف:
وللزكاة مصارف خاصة، عينها الله في كتابه، وبينها رسوله – صلى الله عليه وسلم – بقوله وفعله، وهي مصارف محددة واضحة، يستطيع الفرد المسلم أن يعرفها وأن يوزع عليها – أو على معظمها – زكاته بنفسه إذا لزم الأمر، وهي مصارف ذات طابع إنساني وإسلامي. أما الضريبة فتصرف لتغطية النفقات العامة للدولة، كما تحددها السلطات المختصة.
ميزانية الزكاة إذن مستقلة عن الميزانية العامة للدولة، واجبة الصرف إلى الأبواب المنصوص عليها، والتي جعل القرآن الصرف لها وفيها )فريضة من الله( (التوبة:٦٠).
- في العلاقة بالسلطة:
مما سبق يعلم أن أداء الضريبة علاقة بين المكلف أو الممول وبين السلطة الحاكمة، وهي التي تسنها، وهي التي تطالب بها، وهي التي تحدد النسبة الواجبة، وهي التي تملك أن تنقصها، أو تتنازل عن جزء منها لظرف معين ولسبب خاص، أو على الدوام، بل تملك إلغاء ضريبة ما، أو الضرائب كلها إن شاءت, فإذا أهملت السلطة أو تأخرت في المطالبة بالضريبة فلا لوم علي المكلف، ولا يطلب منه شيء. أما الزكاة فهي – قبل كل اعتبار – علاقة بين المكلف وربه، فالله – عز وجل – هو الذي آتاه المال، وهو الذي كلفه أن يؤتي منه الزكاة؛ امتثالا لأمره وابتغاء مرضاته، وعرفه مقاديرها، وبين له مصارفها.. فإذا لم توجد الحكومة المسلمة التي تجمع الزكاة من أربابها، وتصرفها على مستحقيها، فالمسلم يفرض عليه دينه أن يقوم هو بتوزيعها على أهلها ولا تسقط عنه بحال, مثلها في ذلك مثل الصلاة، لو كان المسلم في مكان لا يجد فيه مسجدا ولا إماما يأتم به، وجب عليه أن يصلي حيث تيسر له، في بيته أو غيره؛ فالأرض كلها مسجد للمسلم ولا يترك الصلاة أبدا، والزكاة أخت الصلاة.
ولذلك يجب على المسلم أن يدفع الزكاة وهو طيب النفس بها، راجيا أن يتقبلها الله منه ولا يردها عليه.
ومن هنا يحرص المسلم على إيتاء الزكاة ولا يتهرب من دفعها، كما يتهرب جمهور الناس من دفع الضرائب، فإن لم يتهربوا دفعوها مكرهين أو كارهين, بل نجد من المسلمين من يدفع من ماله أكثر مما توجبه الزكاة؛ رغبة فيما عند الله، وطلبا لمثوبته ورضوانه, كما حدث ذلك في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وفيما بعده من العهود.
- في الأهداف والمقاصد:
وللزكاة أهداف روحية وخلقية تحلق في أفق عال، تقصر الضريبة عن الارتقاء إليه، وقد أشرنا إلى هذه الأهداف السامية في حديثنا عن كلمة “الزكاة” وما لها من دلالة وما تنطوي عليه من إيحاء, وحسبنا من هذه الأهداف ما صرح به كتاب الله في شأن أصحاب المال المكلفين بالزكاة؛ إذ قال سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103)( (التوبة), ومعنى )وصل عليهم( أي: ادع لهم، وكان – صلى الله عليه وسلم – يدعو لدافع الزكاة بالبركة في نفسه وفي ماله، وهو أمر مندوب لكل عامل على الزكاة أن يدعو لمعطي الزكاة؛ اقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – بل قال بعض الفقهاء: هو واجب؛ لأن الآية أمرت به وظاهر الأمر الوجوب.
أما الضريبة فهي بمعزل عن التطلع إلى مثل هذه الأهداف، وقد ظل رجال المالية قرونا يرفضون أن يكون للضريبة هدف غير تحصيل المال للخزانة، وسمي هذا “مذهب الحياد الضريبي”، فلما تطورت الأفكار وتغيرت الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية انهزم مذهب الحياديين، وظهر الذين ينادون باستخدام الضرائب أداة لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية معينة، كالتشجيع على الإنفاق، أو على الادخار، أو التقليل من الإنفاق في الكماليات، أو تقريب الفوارق وغير ذلك، وهذا إلى جوار هدفها المالي، وهو الهدف الأول.
ولكن لم يستطع مشرعو الضرائب ولا علماء المالية العامة ومفكروها أن يخرجوا من دائرة الأهداف المادية إلى دائرة أرحب وأبعد مدى، وهي دائرة الأهداف الروحية والخلقية التي عنيت بها فريضة الزكاة.
- في الأساس النظري لفرض كل منهما:
ومن أبرز أوجه الاختلاف بين الزكاة والضريبة اختلاف الأساس الذي بني عليه فرض كل منهما؛ فالأساس القانوني أو النظري لفرض الضريبة قد اختلف في تحديده على نظريات متباينة. أما الزكاة فإن أساسها واضح؛ لأن موجبها هو الله عز وجل.
- الزكاة عبادة وضريبة معا:
ومن هنا، نستطيع أن نقول: إن الزكاة ضريبة وعبادة معا، هي ضريبة؛ لأنها حق مالي معلوم تشرف عليه الدولة، وتأخذها كرها إن لم تؤد طوعا، وتنفق حصيلتها في تحقيق أهداف تعود على المجتمع بالخير.
وهي قبل ذلك عبادة وشعيرة يتقرب بأدائها المسلم إلى الله، ويشعر حين يؤديها أنه يحقق ركنا من أركان الإسلام، وشعبة من شعب الإيمان، وأنه يعين بها من يعطيه على طاعة الله تعالى، ومن هنا كان إيتاؤها طاعة وصلاحا، ومنعها فسقا صراحا، وجحودها كفرا بواحا، فهي حق الله الذي لا يسقط بتأخر الجابي، ولا بإهمال الحاكم، ولا بمرور السنين, وليست كالضريبة تجب بطلب الحكومة لها، وتسقط بعدمه.
والذي يهمنا أن نذكره هنا: أن علماءنا – رحمهم الله – قد تنبهوا ونبهوا على أن الزكاة تشتمل على هذين المعنيين: معنى الضريبة، ومعنى العبادة، وإن لم يعبروا عن الضريبة بهذا اللفظ نفسه؛ لأنه اصطلاح متأخر، وقد يعبرون عن هذا المفهوم بأنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء، أو يعبرون عنه بأنها صلة للرحم؛ أي الإنسانية أو الإسلامية، بجانب ما فيها من شائبة العبادة.
ومن أوضح ما يدل على هذا المعنى، ما نقله صاحب “الروض النضير” عن بعض المحققين من العلماء في بيان حقيقة الزكاة وحكمتها؛ حيث قال: “إنما فرض الله الزكاة في أموال الأغنياء؛ مواساة لإخوانهم الفقراء، وقضاء لحق الأخوة وعملا بما يوجب تأكيد الألفة، وما أمر الله به من المعونة والمعاضدة على ما فيها من ابتلاء أرباب الأموال التي هي شقائق النفوس، كما ابتلاهم في الأبدان بالعبادات البدنية، فهي صلة للرحم، وفيها شائبة عبادة، فلأجل شائبة العبادة وجبت فيها النية، ولم يصح فيها مشاركة معصية ونحو ذلك، لكونها صلة، صحت فيها الاستنابة، وصح فيها الإجبار عليها، وناب الإمام عن المالك في النية عند أخذها كرها، وأخذت من مال الميت وإن لم يوص، ولأجل كون الصلة غالبا عليها، وجب فيها رعاية الأنفع للفقراء، ووجبت في مال الصغير ونحوه، ولما كان المقصود بها المواساة لم يوجبها الله تعالى إلا في مال الذي بلغ النصاب، ولم يجعلها إلا في الأموال النامية، وهي العين – النقود – وأموال التجارة والمواشي وما أخرجت الأرض، وحدد الشرع نصاب كل جنس بما يحتمل المواساة، ورتب مقدار الواجب على حسب التعب والمؤنة، فجعل فيما سقت السماء ونحوها العشر، وفيما سقي بالسواقي – الدواب ونحوها – نصفه” [27].
وبعد هذا البيان الشافي تتضح لنا حقيقة الزكاة في الإسلام، وحقيقة الضرائب الإلزامية، كما يتبين لنا بطلان دعوى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان داعيا للاشتراكية وليس نبيا؛ لأن ما جاء به – صلى الله عليه وسلم – من الدعوة إلى الزكاة بوصفها ركنا من أركان الإسلام يختلف تماما عما ينادي به الاشتراكيون، وهو أسمى بكثير مما وضعه البشر القاصرون، فما جاء به – صلى الله عليه وسلم – لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الخلاصة:
- إن البشرية قاطبة منذ آدم – عليه السلام – إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لم تشهد، ولن تشهد رجلا أخلص لله مثل محمد – صلى الله عليه وسلم – فالمتأمل في سيرته العطرة يجد أن حياته كلها كانت لله كما أمره ربه: )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162)( (الأنعام)، ولعل من أكبر الدلائل على إخلاصه – صلى الله عليه وسلم – في عبادة ربه ثباته على الدعوة لله وتوحيده – سبحانه وتعالى – على الرغم مما تعرض له من أذى واضطهاد من أعدائه، وكذلك كان – صلى الله عليه وسلم – حريصا على طاعة الله، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – دائم الخشية له، وكان يحمل نفسه من المشقة في العبادة ما لا يطلب من المؤمنين فعله، فهل يعقل أن يقال بعد ذلك: إنه لم يكن رجل دين؟!
- إن النظام الذي جاء به سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – يختلف تمام الاختلاف عن النظام الاشتراكي الذي لا يعترف إلا بملكية الدولة والجماعة، والأفراد فيه مجرد آلات مسخرة ليس لها أية حرية أو إرادة، في حين أقر الإسلام ملكية الأفراد بجوار ملكية الجماعة، وحماها إلى أقصى الحدود، ولم يضع حدا أعلى لاغتناء الأفراد ما داموا ملتزمين بتعاليم الإسلام، كما أعطى الأفراد مطلق الحرية في ممارسة نشاطهم الاقتصادي طالما كان هذا النشاط مشروعا حسب المفهوم الإسلامي، وهذا ما يرفضه تماما النظام الاشتراكي، وهذا يدل على أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم يكن أبدا داعيا اشتراكيا كما يزعم المغرضون.
- هناك فروق كثيرة بين حقيقة الزكاة في الإسلام وبين حقيقة الضرائب الإلزامية، فالغرض من تشريع الزكاة في الإسلام هو إشراك الفقراء والمساكين ومن على شاكلتهم في أموال الأغنياء، وهي أساس العدالة الاجتماعية في المجتمع المسلم، في حين أن الضريبة فريضة إلزامية يلتزم الممول بأدائها إلى الدولة تبعا لمقدرته على الدفع، بغض النظر عن المنافع التي تعود عليه من وراء الخدمات التي تؤديها السلطات العامة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فالزكاة عبادة فرضت على المسلم؛ شكرا لله وتقربا إليه، بينما الضريبة التزام مدني محض خال من كل معنى للعبادة، وكل هذه الفروق تبطل دعوى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد فرض الزكاة لأنه كان يدعو إلى الاشتراكية؛ لأن ما جاء به – صلى الله عليه وسلم – أسمى بكثير مما وضعه البشر القاصرون.
(*) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إتيين دينيه، سليمان بن إبراهيم, ترجمة: د. عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، 2005م.
[1]. السلا: غشاء رقيق يحيط بالجنين، ويخرج معه من بطن أمه، أو ما يسمى “المشيمة”.
[2]. العقب: العظمة مؤخرة القدم.
[3]. الرباعية: مقدمة الأسنان.
[4]. أطت السماء: صاحت وأنت من كثرة ازدحام الملائكة والساجدين منهم.
[5]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث المشايخ عن أبي بن كعب رضي الله عنه (21555)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء (4190)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2449).
[6]. أخرج البخاري في صحيحه، أبواب التهجد، باب قيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالليل ونومه (1090).
[7]. أخرج البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة الفتح: ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ( (4556)، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (7302).
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر (1843)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (2686).
[9]. الديمة: الدائم المستمر.
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (1886)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (1865).
[11]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص206: 208 بتصرف يسير.
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اليوم والليلة (5948).
[13]. التكافل الاجتماعي في الإسلام، عبد الله ناصح علوان، دار السلام، مصر، ط7، 2007م، ص20، 21.
[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (6706).
[15]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث عم أبي حرة الرقاشي عن عمه رضي الله عنهما (20714)، وأبو يعلى في مسنده (3/ 140)، برقم (1570)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1459).
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب من قتل دون ماله (2348)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم (378).
[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب حجة النبي (3009).
[18]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، أحاديث رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23206)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب حسن الخلق، باب طيب النفس (301)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5290).
[19]. المذهب الاقتصادي في الإسلام، د. محمد شوقي الفنجري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط3، 1997م، ص139: 143 بتصرف.
[20]. المذهب الاقتصادي في الإسلام، د. محمد شوقي الفنجري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط3، 1997م، ص145 وما بعدها.
[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا (1425)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (132).
[22]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص114, 115 بتصرف.
[23]. إنما ذكروا هذا القيد في معنى الضريبة احترازا مما كان يحدث في أوربا في العصور الوسطى، عندما كان الفلاحون يدفعون الضرائب إلى صاحب الأرض!
[24]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، حديث عبد الرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه (1674)، والترمذي في سننه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (814).
[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنية” (5036)، واللفظ للبخاري.
[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس” (8)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي: “بني الإسلام على خمس” (122).
[27]. فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت, ط16، 1406هـ/ 1986م، ج2، ص997: 1005.