الزعم أن معارك المسلمين الأولى ضد أهل مكة كانت مواجهات يائسة
وجوه إبطال الشبهة:
1) معنى اليأس الذي وصف به أصحاب هذه الدعوى معارك المسلمين معنى مبهم لا يعطي دلالة بينة.
2) أقبل المسلمون على الجهاد بنفوس طامحة إلى غايات مشروعة لا يشوبها يأس أو قنوط، وإنما هي النصر أو الشهادة.
3) أسفرت الغزوات الإسلامية عن نتائج تسمو بها بعيدا عن وصف اليأس إلى أن تصبح جهادا موفقا فيما هدف إليه.
4) المقاييس البشرية في النصر من زيادة العدد والرجال ونحو ذلك، لا تحسم – وحدها – المعارك.
التفصيل:
أولا. ” يائسة “.. لفظة مبهمة:
إن صفة “يائسة” التي نعت بها جهاد المسلمين الأول ضد مشركي مكة صفة مبهمة في معناها، وفيما تستند إليه من شواهد، لكن لها – على هذا – توظيفا واضحا، يظهر في أنها تلقي على تلك الغزوات ظلالا قاتمة تزري بها وتضع من شأنها وقيمتها.
وهذه الدعوى تنساح في جهات شتى من المعاني والدلالات، مما يجعل محاولة مناقشتها أمرا عسيرا؛ إذ هو – إذن – خوض في الاحتمالات والظنون، وفيما عساه يكون الأدنى إلى فكر هؤلاء الزاعمين؛ ومن ثم لا يبقى بد من سرد ما تحتمله الكلمة سردا مجملا مع بيان وجيز فيما عساها تحمله من حق.
ثانيا. ” يائسة “.. روح قانطة؟
إن معارك المسلمين الأولى لا يجوز أن تكون يائسة بمعنى أن هزيمة نفسية أصابتهم في عقبها أو قبل اقتحامها، بسبب من ضعفهم أو ضعف التكافؤ بينهم وبين عدوهم؛ فإن كلا الأمرين يرده الوقوف على تاريخ هذه الغزوات وتصور دوافعها ونتائجها تصورا سليما.
لقد افتتح المسلمون جهادهم الكبير وهم يحملون في نفوسهم غايات رفيعة، هي من دوافع النفس بالطبيعة قبل أن تكون أمرا دينيا، فإذا انضما معا فقد استوى لهم جميع ما يستبعد مشاعر القنوط أو اليأس.
ولقد اجتمع يومئذ للمسلمين من عوامل الصبر والثبات ما لا نظنه تهيأ لجماعة تسعى إلى غاياتها قط: من إيمان ثابت يتجملون به ساعة العسرة، وقرآن يتلى بينهم يعدهم بنصر أو شهادة ويقول لهم: )ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13) له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (14) ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال (15) قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (16) أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17)( (الرعد)، ثم قيادة نبوية تهوي إليها الأفئدة ([1])، ومن وراء هذا كله غايات مشروعة، وهل كان سعيهم هذا لغير دفع ظلم أو إرجاع حق، أو تحرير المستضعفين والمستخفين بإسلامهم([2]).
ثالثا. “يائسة “.. خسارة فادحة؟
لعل الذي نعت جهاد المسلمين بأنه يائس أراد أنه لم يحقق نتائجه التي سعى إليها، وأن ما منوا به([3]) من خسارة في أموالهم وأنفسهم لا يقاس إلى ما أحرزوه من مغنم مادي أو منزلة عسكرية في قبائل العرب.
فإن يكن هذا المراد من اليأس، فهو كالذي قبله ظن قائل لا يقوم على تصور تاريخي وثيق لحقيقة ما خسره المسلمون وأعداؤهم، وإذن لتبين أن عدة ما فقده المسلمون في جهادهم أقل كثيرا مما مني به أهل مكة في أنفسهم وأموالهم.
فأما على المدى البعيد فنجاح الدعوة الإسلامية في إنجاز مراميها الكبيرة العالية كالأمر المفروغ منه؛ فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن آفاقها، وصحت العقول العليلة، حتى تركت الأصنام؛ بل كسرت، وأخذ الجو يرتج([4]) بأصوات التوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القراء شمالا وجنوبا، يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام الله.
وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة الله، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون، وظالم ومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد الله، إخوان متحابون، ممتثلون لأحكامه، أذهب الله عنهم عبية الجاهلية([5]) ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب.
وهكذا تحققت – بفضل هذه الدعوة – الوحدة العربية، والوحدة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية، وفي مسائلها الأخروية، فتقلب مجرى الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ، وتبدلت العقلية.
إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية – قبل الدعوة – ويتعفن ضميره، وتأسن روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف، وسرى فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوسا جامدة لا حياة فيها ولا روح.
فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية؛ خلصت روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال، وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان، وقامت ببناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحرية والتجدد، ومن المعرفة واليقين، والثقة والإيمان والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب؛ لتنمية الحياة وترقيتها، وإعطاء كل ذي حق حقه فيها. وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها([6]).
رابعا. “يائسة “.. غير متكافئة؟
ما من شك أن المسلمين خاضوا كثيرا من الحروب التي يبعد فيها احتمال النصر بالمقاييس البشرية التي تعتبر العدد والرجال، لكن هذه المقاييس ليست وحدها حكما فيما يقع به النصر أو الهزيمة؛ فإلى جوارها أسباب كثيرة ترجع إلى الإيمان وامتلاء الضمير بحقائقه، وإلى الغاية التي لأجلها قام الجهاد، أحق هي أم زيف وزور؟، ولقد كان المسلمون واقفين على هذا المعنى؛ ففي القرآن أنه: )كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (249)( (البقرة)، وفيما يتلى بينهم من قصص المرسلين والصالحين عظات وعبر.
على أن المسلمين في عامة ما اقتحموه من معارك و منازعات مع المشركين قد ألجئوا إليه مكرهين، وما كان يوم بدر فأمر لم يقدر المسلمون أن يصير حربا، فقصاراه في تقديرهم يومئذ أنه تعرض لقافلة تجارة ينالون منها بعض ما سلبـوه بمكة من دور ومتاع.
يقول الشيخ محمد الغزالي: “دخل الإسلام المدينة وأحزاب الكفر تطارده من كل ناحية، فأوى المسلمون إلى مهجرهم كما يأوي الجندي إلى قلعته الشامخة، وأخذوا يستعدون حتى لا تقتحم عليهم من أقطارها، وهم تعلموا من السنين الغبر التي مرت عليهم في مكة أن الضعف مدرجة إلى الهوان، مزلقة إلى الفتنة، والمرء لا يقدر العافية حق قدرها إلا بعد الإبلال([7]) من المرض، ولا يعرف قيمة الغنى إلا عند التخلص من تلك الحاجة.
ومن أولى من المهاجرين والأنصار بالإفادة من عبر الماضي؟ وذلك نبيهم تعقبه القتلة ألف ميل ليغتالوه، وذلك سواد المهاجرين، نهب مالهم وسلبت دورهم وشردوا من البلد الحرام، إن “حالة الحرب” قائمة بين طغاة مكة وبين المسلمين في وطنهم الجديد، ومن السفه تحميل المسلمين أوزار هذا الخصام.
على أن العداوة للنبي – صلى الله عليه وسلم – وصحبه تجاوزت قريشا إلى غيرهم من مشركي الجزيرة الضالة، ولن تذهب الفروض بنا بعيدا، فإن عبدة الأصنام من أهل المدينة نفسها شرعوا يجاهرون بخصومتهم للإسلام، وانضم إلى هؤلاء وأولئك اليهود الذين أوجسوا خيفة من انتشار هذا الدين، واندحار الوثنية العربية أمامه. فلا بد – إذا – من التأهب لكل طارئ، والتربص بكل هاجم، وتجهيز القوة التي تؤدب المجرمين يوم يتطاولون”([8])!
الخلاصة:
- إن صفة “يائسة” التي نعت بها الجهاد الإسلامي المبكر إنما يراد ما توحي به من شعور أكثر مما تعطيه من معنى، ولقد أبان نقاش ما تحتمله الكلمة من معان عن ضعفها على كل وجه فسرت به.
- خاض المسلمون معاركهم الأولى هذه، واليأس أبعد شيء عن نفوسهم، وخاطره أبعد شئ عن بالهم، فلهم من البواعث والأسباب ما يجعل جهادهم أمرا يأتونه ولو بغير شرع أو أمر، فكيف والشرع يحضهم عليه ويعدهم الجنة.
- لم يبتل المسلمون بشيء كثير من الخسارة في معاركهم في أموالهم وأنفسهم، قياسا إلى ما فقده أعداؤهم.
- لم يسع المسلمون الأولون إلى افتعال نزاع مع مشركي مكة، وإنما كان المشركون هم الذين يبدءونهم بحرب أو نقض عهد، وما وقع يوم بدر فأمر لم يقدر المسلمون أن يمضي على النحو الذي كان؛ إذ المعروف أنهم خرجوا للتربص بالقافلة وليس بنية الحرب، ولكن المشركين وقائدهم أبا جهل هم من أصروا، في غالبيتهم، على الصدام.
(*) القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث، كارين أرمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر، د. محمد عناني، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1998م.
[1]. في عوامل الصبر والثبات انظر : الرحيق المختوم، المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص118: 124.
[2]. راجع عن غايات الجهاد في الإسلام: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص273 ما بعدها.
[3]. منوا به: ابتلوا به.
[4]. يرتج: ينطق.
[5]. عبية الجاهلية: أي كبرها وفخرها ونخوتها.
[6]. سيد قطب في مقدمة كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1418هـ/ 1997م، ص7، 8 بتصرف.
[7]. الإبلال من المرض: البرء منه.
[8]. فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، 1983م، ص224.