الزعم أن نهضة المسلمين في العصر الحديث لم تكن إلا نتيجة لحملة نابليون
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد ابتغت فرنسا من اتجاهها نحو الشرق تحقيق هدفين اثنين هما: محاربة الإسلام، ونهب ثروات الشرق، ولم تكن حاملة رسالة حضارية للشرق كما يدعي هؤلاء.
2) لم يقدم الفرنسيون أي إنجاز حضاري لبلاد الشرق، وما تركوه لم يتم اكتشافه إلا في مدة متأخرة، ولم يفد المسلمون منهم إلا خراب الديار، ونهب الأموال، وسرقة المخطوطات والآثار.
التفصيل:
أولا. المقاصد الحقيقية للحملة الفرنسية:
نحن لا ننكر ما كانت عليه أوربا في تلك الآونة من تقدم حضاري، ولا ننكر أيضا أنها كانت تريد نشر هذه الحضارة في ربوع العالم الإسلامي، ولكن هل كانت أوربا تهدف من وراء نشر هذه الحضارة تمدين العالم الإسلامي؟ أو بتعبير آخر: هل كانت بغية الاستعمار من نشر حضارته هو تمدين البلاد التي استعمرها؟ سنرجئ الإجابة عن هذا السؤال إلى ما بعد الحديث عن الأهداف الحقيقية للحملة الفرنسية، وإن كان الحديث عنها جزءا من الإجابة عنه.
كثيرا ما نقول – حتى لأبنائنا في المدارس -: إن الحملة الفرنسية كانت فتحا عظيما لمصر وللعالم العربي – وإنها هي بداية الانفتاح المصري – ومن ثم العربي والإسلامي – على العالم المتحضر، وبداية الخروج من الظلمات إلى النور، وفي الواقع أنها كانت حملة صليبية على مركز من أهم مراكز العالم الإسلامي.
ويقال في أهداف الحملة: إن نابليون كان يريد أن يتخذ من مصر قاعدة له لقطع “الطريق الإمبراطوري” بين بريطانيا والهند، بسبب التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا، ويقال: إنه حمل معه مطبعة ذات أحرف عربية لطبع الأوامر والمنشورات “الإصلاحية” التي يصدرها نابليون إلى الشعب المصري، وإنه جاء معه ببعثة علمية للتنقيب عن آثار الفراعنة. وببلاهة وغفلة – أو بخبث وسوء نية – تتجاهل الأهداف الحقيقية للحملة، وأهداف المطبعة والبعثة العلمية!
فأما التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا في تلك الفترة فحقيقة تاريخية لا شك فيها، وكذلك رغبة نابليون الأكيدة في أن يتخذ من مصر قاعدة يحارب منها بريطانيا، ويقطع “طريقها الإمبراطوري” إلى الهند، أما أن هذه هي كل أهداف الحملة، فأمر يكذبه واقع التاريخ.
ولنا أن نتساءل: ما العلاقة بين قطع الطريق الإمبراطوري وبين محاولة تنحية الشريعة الإسلامية في مصر، وإحلال القوانين الوضعية محلها؟! وما العلاقة بين قطع الطريق الإمبراطوري وبين البعثة العلمية التي تنقب عن آثار الفراعنة؟!
أما حين نعلم أنها حملة صليبية تحمل معها أهدافا محددة ضد الإسلام، فهناك يتضح كل شيء[1].
ونحن حين نقول إنها حملة صليبية لسنا مغالين في ذلك، فنحن إذا رجعنا إلى أواخر الحروب الصليبية في العصور الوسطى – وهي ليست ببعيدة عن حملة نابليون بمقياس التاريخ – نجد وصية للويس التاسع – وقد وردت ترجمتها في كتاب عن “العلاقات بين الشرق والغرب، من الحروب الصليبية إلى اليوم” – فحواها: أنه يرى أن يؤخر دور السيف، ويقدم دور الخديعة، وأن يجند جيش كثيف من المبشرين لتحويل المسلمين عن إيمانهم، وعلى أوربا أن تنظم هذا الجيش وتحميه، ويرى أن المعالنة بالقضاء على الإسلام خطأ، ويوصي بإخفاء ذلك وإظهار غيره، ويرى ضرورة دراسة الشرق الإسلامي وأحواله ليتيسر وضع اليد الصليبية عليه، وقد ظلت وصيته هذه الأساس الدبلوماسي والعسكري للسياسة الأوربية لقرون طويلة[2].
نعود إلى الحملة الفرنسية، بعد هزيمة المماليك أمام نابليون في معركة إمبابة، جاء واستقر في القاهرة في منزل الألفي بك، وكان – بوصفه مسلما محبا للإسلام والقرآن كما زعم – يرأس مجلس العلماء، ويخلع عليهم أحيانا خلعا سنية، ويحاول استخدامهم في ترويج القوانين الوضعية التي أراد إحلالها محل الشريعة الإسلامية، والتي كان يطبعها في المطبعة العربية التي جاء بها معه ووضعها في بولاق، يا له من إجراء يقطع به الطريق الإمبراطوري بين بريطانيا والهند!
إنها لسذاجة أن نتصور أن نابليون جاء فقط ليقطع الطريق الإمبراطوري بين بريطانيا والهند! نعم، إنه ينافس بريطانيا ويلاحقها ويضيق عليها، ولكنه جاء ومعه مخططه الصليبي لإخراج مصر من دائرة الإسلام، لعلها تكون بعد ذلك نقطة ارتكاز لإفساد بقية العالم الإسلامي.
ولقد كانت محاولة تنحية الشريعة الإسلامية هي أول نقاط المخطط الذي بدأ بتنفيذه بالفعل، حتى كشفه واحد من علماء الأزهر، إذ قال له في وجهه: لو كنت مسلما حقا كما تدعي لطبقت الشريعة الإسلامية في بلدك فرنسا، بدلا من تنحية الشريعة هنا ووضع القوانين الوضعية بدلا منها.
وأما المطبعة – تلك المأثرة العظيمة من مآثر الحملة كما يزعم – فقد جاء بها نابليون لأكثر من سبب، فبها يطبع المنشورات التي يطالب فيها الشعب المصري المسلم بالخضوع لأوامر المغتصب الصليبي، كالمنشور الذي قال فيه: إن الإيمان بالقضاء والقدر يستلزم الاستسلام الكامل للفرنسيين وعدم مقاومتهم؛ لأن تغلبهم على مصر والاستيلاء عليها كان بقدر من الله! كذلك كان يطبع فيها المنشورات الحاوية “لقانون نابليون” التي يصدرها لإبطال الشريعة الإسلامية بالتدريج.
وإذا كانت المطبعة قد استخدمت فيما بعد لهدف مغاير تماما لأهداف نابليون، من نشر للتراث العربي الإسلامي، فهذا أمر لا يحسب لنابليون، ولا يحسب من مآثر الحملة؛ لأنه لم يكن مقصودا عند نابليون، بل كان عكسه تماما هو ما استخدمت فيه على أيامه.
وأما البعثة العلمية التي جاءت تنقب عن آثار الفراعنة، وهي المأثرة الثانية من مآثر الحملة، فأمرها أنكى.
يقول أحد المستشرقين الصرحاء في كتاب “الشرق الأدنى: مجتمعه وثقافته”: “إننا في كل بلد إسلامي دخلناه، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام، ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات”.
هذا هو الهدف المخطط للبعثة العلمية المرافقة للحملة، لم يكن هدفا علميا، إنما كان هدفا صليبيا مغلفا بالعلم، شأنه شأن الرحلات الاستكشافية التي قام بها الصليبيون ابتداء من القرن السادس عشر من الميلاد.
لقد وجد في كل مكان من العالم الإسلامي – كما كانت الآثار الفرعونية في مصر – آثار من بقايا عبدة الأوثان الذين كانوا يسكنون الأرض قبل مجيء الإسلام، سواء في الجزيرة العربية أو بلاد الشام والعراق أو غيرها من البلاد، وظل الأمر كذلك ما يزيد على ألف عام، الناس في إسلامهم، وهذه الأوثان في الأرض، لا تثير فيهم إلا عبرة التاريخ.
ولكن المخطط الخبيث الذي حمله الصليبيون معهم، وهم يجوسون خلال الديار، كان هو نبش الأرض الإسلامية لاستخراج حضارات ما قبل التاريخ، لذبذبة ولاء المسلمين بين الإسلام وبين تلك الحضارات، تمهيدا لاقتلاعهم نهائيا من الولاء للإسلام. وكان من بين ذبذبة الولاء بين الإسلام وبين الحضارات السابقة عليه، إثارة النعرات الشعوبية، ومنها إثارة النعرة الفرعونية في المصريين المسلمين، حتى إذا انتسبوا لم يكن انتسابهم إلى الإسلام، إنما إلى مصر بعيدا عن الإسلام.
هذا هو الهدف من البعثة العلمية التي جاء بها نابليون معه إلى مصر، فمن السذاجة – إذن – أن نقول: إن أهدافها كانت علمية بحتة، وقد شهد شاهد من أهلها أنها لم تكن كذلك.
أضف إلى ذلك “بغايا الحملة” اللواتي تحدث عنهن الجبرتي، أولئك الساقطات اللواتي جاء بهن نابليون، يسرن في شوارع القاهرة حاسرات متخلعات، يثرن الفتنة وينشرن الفاحشة، ويغرين النساء بتقليدهن. وكذلك نداء نابليون الخطير الذي أذاعه غداة احتلاله لمصر ليهود العالم كي يعودوا لوطن آبائهم.
ولنا أن نتساءل: إذا كانت الحملة هدفها الحقيقي هو نشر العلم بين أبناء المجتمع المصري، فلماذا ضرب نابليون الأزهر بالقنابل من القلعة، واتخذه اصطبلا للخيل، مع علمه بأنه أكبر معاقل العلم في العالم الإسلامي في ذلك الوقت.
تلك هي المآثر الحقيقية للحملة الفرنسية التي لا تذكرها كتب التاريخ المكتوبة بأيدي الأوربيين، والتي ينقلها ويتتلمذ عليها الأساتذة الكبار من المؤرخين المسلمين[3].
نعود الآن إلى السؤال الذي طرحناه في صدر حديثنا، وهو هل كان هدف الاستعمار من نشر حضارته هو تمدين البلاد التي استعمرها، كما أعلن؟
في حقيقة الأمر أنه كان يهدف من وراء ذلك إلى “إزالة الحواجز التي تقوم بينه وبين هذه الشعوب، وهي حواجز تهدد مصالحه الاقتصادية، وتجعل مهمة حراستها والمحافظة عليها صعبة غير مأمونة العواقب، كانت هذه الحواجز الناشئة عن الاختلاف في الدين وفي اللغة، وفي التقاليد والعادات، سببا في إحساس الوطنيين بالنفور من الأجنبي المحتل، وفي إحساس المستعمر بالغربة”[4].
هذا هو الهدف الحقيقي من نشر الاستعمار لحضارته، وطالما أن الحملة الفرنسية كانت جزءا من هذا الاستعمار، إذن تنطبق عليها هذه الأهداف والنيات، ففرنسا وما سواها من قوى الاستعمار الغربي لم تأت إلى الشرق إلا لشيئين هما: محاربة الإسلام، ونهب الثروات، ومن العبث الاعتقاد أنها كانت تحمل رسالة حضارية إلى الشرق، وأن من قاموا بها كانوا دعاة إصلاح [5].
ثانيا. لم يقدم الفرنسيون أي إنجاز حضاري لبلاد الشرق:
إن القول بالتأثير الحضاري لفرنسا في بلاد الشرق فرية لا أساس لها من الصحة، فإن ما تركوه لم يتم اكتشافه وفك رموزه إلا في فترة متأخرة، بعد أن خطا المسلمون نحو التقدم والمدنية والحضارة خطوات واسعة.
فالقول بأن علماء الحملة قد دونوا معلوماتهم في كتاب “وصف مصر” صحيح، لكنه لم تترجم منه – حتى حقبة متأخرة – سوى أجزاء متناثرة في سبعينيات القرن الماضي، أي بعد مرور حوالي قرنين على ذهاب الحملة وفشلها، وبعد أن كتب المصريون أنفسهم ما هو أدق منه بكثير.
وكذلك عادت مصر إلى حياة الفوضي حتى مجيء عصر محمد على، فلم توجه الحملة أنظار المصريين نحو المدنية الغربية.
ولم يظهر للديوان الذي شكله نابليون – كأسلوب دعاية – أي أثر، وقد ألغي بعد ثورة القاهرة الأولى وأعيد تشكيله على نمط لا يرعى الصالح العام.
وكان اكتشاف حجر رشيد مصادفة، ولم تفك رموزه إلا بعد ذهاب الحملة بحوالي ثلاثين عاما.
وقد سبق لنا الحديث عن الأهداف الحقيقية من اجتلاب نابليون للمطبعة، وأنها لم تكن إلا وسيلة لترويج القوانين الوضعية التي أراد إحلالها محل الشريعة الإسلامية.
إن الشرق لم يجن من الغرب سوى نهب الأموال، وتخريب الديار، وسرقة الآثار والمخطوطات العلمية والفنية العريقة، هذا ما قدمته الحملة للشرق!
والقول بأن الشرق الإسلامي لم يعرف اليقظة قبل الحملة الفرنسية دعوى باطلة بواقع التاريخ نفسه، وهي دعوى تستهدف القول بأن العالم الإسلامي لم ينهض إلا بفضل الغرب ونفوذه، وأنهم لم يستيقظوا حتى أيقظهم الغرب، وهو خطأ صريح؛ إذ لا سند تاريخي أو علمي له، فإن العالم الإسلامي والأمة العربية قد استيقظت قبل الحملة الفرنسية بأمد، وقد بدأت هذه اليقظة في منتصف القرن الثامن عشر أو حوالي 1740م، وعلى التحديد حين انبثقت صيحة الإمام محمد عبد الوهاب في قلب الجزيرة العربية بدعوة التوحيد، وما كان لها من أصداء واسعة في العالم الإسلامي كله، وهذا قبل الحملة بأكثر من نصف قرن.
ومن قبل وصول الحملة كانت حركة العلماء في الأزهر قد وضعت أول وثيقة لحقوق الإنسان، حينما أخذت العهد المكتوب على الأمراء المماليك بألا يظلموا الرعية، ولا يفرضوا عليها أي ضرائب أو قيود؛ فإذا كان ذلك كذلك، فإن القول بإعلاء شأن الحملة الفرنسية ليس إلا من دعوى المستعربين والمستغربين. وإن المراجع الصحيحة تجمع على أن الحملة الفرنسية لم تكن مصدر نهضة بقدر ما كانت عامل تعويق للنهضة الأصلية. والأمم لا تتجسد من خارجها، وإنما تتجسد من مصادر فكرها ومن أعماق روحها.
ونسطيع أن نقولها بصراحة: إن تأثير الحملة الفرنسية كان سلبيا لدرجة كبيرة، وقد ولدت الحملة الفرنسية في مصر ما ولدت المعاهد التبشيرية في سواحل الشام وبيروت؛ فقد ولدت حذرا من المدنية التي مثلوها للناس متقاربة مع تقاليدهم، وولد الحذر قلقا، وامتد القلق والحذر بتأثير بعض التصرفات السيئة، فأصبح تعصبا وكرها. ومن المستحيل عقلا أن نتصور أن الشرق العربي الإسلامي كان سيظل نائما؛ لأن لهذا الشعب تاريخا في الحضارة وقدما في التمدن وجذورا عريقة في الثقافة، ولقد نهضت الشعوب التي هي أقل عراقة كالصين والهند واليابان.
بل إننا نصل إلى أكثر من هذا فنقول: إنه لولا الحملة الفرنسية لاستطاع الشرق العربي أن ينهض نهضة حضارية حقيقية، والشرق له تقبل ذاتي للحضارة، وليس مفروضا عليه من الخارج، ولم يعرف المسلمون الموت، بل الانحطاط فقط، وقد مرت بهم كما مر بغيرهم أدوار الخمول[6].
الخلاصة:
- إن القول بأن الحملة الفرنسية كانت فتحا عظيما، وأنها بداية الخروج من الظلمات إلى النور هو خدعة تاريخية كبرى؛ ففرنسا وما سواها من قوى الاستعمار الغربي لم تأت إلى الشرق إلا لغرضين هما: محاربة الإسلام، ونهب الثروات، ومن العبث الاعتقاد أن الحملة الفرنسية كانت حاملة رسالة حضارة للشرق، أو أن من قاموا بها كانوا دعاة إصلاح.
- لم تقدم الحملة الفرنسية أي إنجاز حضاري لبلاد الشرق، فالمطبعة التي حملها معه نابليون لم تكن لنشر مشروعاته الإصلاحية، ولكن لترويج القوانين الوضعية التي أراد إحلالها محل الشريعة الإسلامية، والبعثة العلمية التي جاءت لتنقب عن الآثار إنما كان هدفها ذبذبة ولاء المسلمين بين الإسلام وبين الحضارات السابقة عليه؛ فلم يقدم الفرنسيون إلى الشرق إلا من أجل محاربة الإسلام ونهب الأموال، وسرقة الآثار والمخطوطات.
(*) شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي، المكتب الإسلامي، القاهرة، 1978م.
[1]. واقعنا المعاصر، محمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، السعودية، ط3، 1410هـ/ 1989م، ص199 بتصرف يسير.
[2]. ظلام من الغرب، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م، ص143 بتصرف يسير.
[3]. واقعنا المعاصر، محمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، السعودية، ط3، 1410هـ/ 1989م، ص200: 205 بتصرف.
[4]. الإسلام والحضارة الغربية، د. محمد محمد حسين، دار الرسالة، السعودية، ط9، 1413هـ/1993م، ص46.
[5]. للمزيد يرجى مطالعة: الحملة الفرنسية: تنوير أم تزوير، د. ليلى عنان، كتاب الهلال، العدد 567، مارس 1998م.
[6]. الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي، أنور الجندي، دار الاعتصام، القاهرة، ص336، 335 بتصرف.