الزعم أن وجود المعلق في الصحيحين يشكك في صحتهما
وجها إبطال الشبهة:
1) إن وجود المعلقات في صحيح البخاري لا يطعن فيه، فقد ذكرها البخاري في تراجم الأبواب لا الأصول، فضلا عن أن ما جاء معلقا في صحيحه في موضع جاء موصولا في موضع آخر في الصحيح، وما لم يأت موصولا في الصحيح جاء موصولا في كتب أخرى.
2) إن ما جاء في صحيح مسلم من المعلقات جاء في الشواهد والمتابعات، وليس في الأصول، فضلا عن قلة هذه الأحاديث المعلقة والتي حصرها العلماء في اثني عشر حديثا، وقد وصلها الإمام مسلم في صحيحه، إلا حديثا واحدا وصله البخاري في صحيحه، وأبو داود والنسائي في سننيهما.
التفصيل:
أولا. معلقات البخاري ليست في أصول الكتاب، كما أنها موصولة إما في الصحيح، وإما في غيره:
لا ريب أن من نافلة القول التنويه بمكانة صحيحي البخاري ومسلم؛ فليس خافيا على ذي عينين مالهما من مكانة بين الكتب الحديثية، مع تلقي الأمة لهما بالقبول، ولم لا وأحاديثهما في أعلى درجات الصحة؟! قال الشوكاني: “واعلم أن ما كان من أحاديث هذا الكتاب في أحد الصحيحين، فقد أسفر فيه صبح الصحة لكل ذي عينين؛ لأنه قد قطع عرق النزاع ما صح من الإجماع على تلقي جميع الطوائف الإسلامية لما فيهما بالقبول، وهذه رتبة فوق رتبة التصحيح عند جميع أهل المعقول والمنقول على أنهما قد جمعا في كتابيهما من أعلى أنواع الصحيح ما اقتدى به وبرجاله من تصدى بعدهما للتصحيح”[1].
وقد اجتمعت كلمة جمهور الناطقين بعلم الحديث على أن أول من صنف الصحيح المجرد، هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، فقد ألف كتابه في الصحيح المجرد؛ أي الأحاديث المتصلة فيه دون التعليق والتراجم، ثم الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، وقد سبق الإمامين البخاري ومسلما الإمام مالك في إخراج الصحيح في كتابه “الموطأ”، ولكن الإمام مالكا لم يفرد الصحيح في كتابه، بل أدخل فيه المرسل، والمنقطع، والبلاغات، أما قول الإمام الشافعي: “ما أعلم في الأرض كتابا أكثر صوابا من كتاب مالك”، وقوله: “ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك”، فذلك قبل وجود الصحيحين[2].
وإذا كان قد تقرر عند علماء الحديث – كما مر بنا – أن البخاري ومسلما لم يدخلا في صحيحيهما إلا ما صح، وأن الأمة قد تلقت كتابيهما بالقبول، فما هي الأحاديث المحكوم بصحتها، والتي تلقتها الأمة بالقبول وما هي الأحاديث المشكوك في صحتها فيهما؟
والجواب: أن ما روياه بالإسناد المتصل فهو المحكوم بصحته، وأما ما حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثرـ وهو “المعلق”، وهو في البخاري كثير جدا، وفي مسلم موضع واحد في التيمم – فما كان منه بصيغة الجزم، كقال، وفعل، وأمر، وروى، وذكر فلان، فهو حكم بصحته عن المضاف إليه، وما ليس فيه جزم، كيروى، ويذكر، ويحكى، ويقال، وروي، وذكر، وحكي عن فلان كذا، فليس فيه حكم بصحته عن المضاف إليه، وليس بواه لإدخاله في الكتاب الموسوم بالصحيح[3].
والمتأمل في الاسم الذي وضعه الإمام البخاري لجامعه يقف على ذلك، فجامعه كما سماه مؤلفه “الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسننه وأيامه”[4].
ويظهر جليا من هذا الاسم هدف البخاري رحمه الله وطريقته في تصنيف هذا الكتاب المبارك.
وقوله رحمه الله في التسمية “المسند” يشير إلى أن الأحاديث التي هي أصول الكتاب، والتي هي على شرطه، أحاديث مسندة؛ أي: المتصلة السند بينه وبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا يعترض عليه بوجود المعلقات، والموقوفات، والمقطوعات؛ لأنه إنما استأنس بها في تراجمه[5].
ولما كان الأمر على ما ذكرنا من أن البخاري لم يخرج في أصل الكتاب إلا ما اتصل سنده على شروطه التي شملت المعاصرة واللقاء – واتفق على أن هذا هو المحكوم بصحته، وأنه المقصود بقول البخاري: ما أدخلت في كتابي “الجامع إلا ما صح” – لم يكن لمدع وجه فيما ادعاه من أن الصحيحين بهما أحاديث ضعيفة لوجود المعلق؛ لأن المعلقات في الصحيحين لها حكم خاص – كما سنوضحه – فأما عن وجودها في صحيح البخاري، فهي ليست من أصل الكتاب، وإنما هي في تراجمه، ولها ما يسوغها وسنوضح غرضها فيما يأتي، وأما مسلم فمعلقاته – كما سنوضح إن شاء الله – قد وصلها في موضع آخر من كتابه إلا موضعا واحدا، وهو – بفضل الله ومنه – موصول عند غيره.
إذا، فالأحاديث الواردة في صحيح البخاري المسندة كلها صحيحة، بل في أعلى درجات الصحة، وهي التي في أصول الكتاب.
على أن هناك جزءا من الأحاديث الواردة في الكتاب لم يذكر لها البخاري سندا، وهي المعروفة بالأحاديث المعلقة، فما هو حكم المعلقات في صحيح البخاري؟
لقد أفاض الحديث عن هذه المسألة شيخ الإسلام الحافظ بن حجر العسقلاني، فقال:
والمراد بالتعليق: ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد، وتارة يجزم به كـ ” قال”، وتارة لا يجزم به كـ ” يذكر”، فأما المعلق من المرفوعات فعلى قسمين، أحدهما: ما يوجد في موضع آخر من كتابه هذا موصولا، وثانيهما: ما لا يوجد فيه إلا معلقا، فالأول قد بينا السبب فيه… أنه يورده معلقا؛ حيث يضيق مخرج الحديث إذ من قاعدته أنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج، واشتمل المتن على أحكام، فاحتاج إلى تكريره، فإنه يتصرف في الإسناد بالاختصار خشية التطويل، والثاني – ما لا يوجد فيه إلا معلقا – فإنه على صورتين، إما أن يورده بصيغة الجزم وإما أن يورده بصيغة التمريض، فالصيغة الأولى يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن يبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه مالا يلتحق، أما ما يلتحق فالسبب في كونه لم يوصل إسناده، إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه، فاستغنى عن إيراد هذا مستوفي السياق، ولم يهمله، بل أورده بصيغة التعليق طلبا للاختصار، وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعا، أو سمعه وشك في سماعه له من شيخه، أو سمعه من شيخه مذاكرة، فما رأى أنه يسوقه مساق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه، فمن ذلك أنه قال في كتاب الوكالة: قال عثمان بن الهيثم: حدثنا عوف، حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «وكلني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بزكاة رمضان» الحديث بطوله، وأورده في مواضع أخرى، منها في فضائل القرآن، وفي ذكر إبليس، ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان؛ فالظاهر أنه لم يسمعه منه، وقد استعمل المصنف هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدة أحاديث، فيوردها عنهم بصيغة قال فلان، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم، وسيأتي لذلك أمثلة كثيرة في مواضعها، فقال في التاريخ: قال إبراهيم بن موسى: حدثنا هشام بن يوسف فذكر حديثا، ثم قال: حدثوني بهذا عن إبراهيم، ولكن ليس ذلك مطردا في كل ما أورده بهذه الصيغة، لكن مع هذا الاحتمال لا يحمل جميع ما أورده بهذه الصيغة على أنه سمع ذلك من شيوخه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مدلسا عنهم؛ فقد صرح الخطيب وغيره بأن لفظ “قال” لا يحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه لا يطلق ذلك إلا فيما سمع فاقتضى ذلك أن من لم يعرف ذلك من عادته كان الأمر فيه على الاحتمال… وأما ما لا يلتحق بشرطه، فقد يكون صحيحا على شرط غيره، وقد يكون حسنا صالحا للحجة، وقد يكون ضعيفا لا من جهة قدح في رجاله، بل من جهة انقطاع يسير في إسناده، قال الإسماعيلي: قد يصنع البخاري ذلك؛ إما لأنه سمعه من ذلك الشيخ بواسطة من يثق به عنه، وهو معروف مشهور عن ذلك الشيخ، أو لأنه سمعه ممن ليس من شرط الكتاب، فنبه على ذلك الحديث بتسمية من حدث به، لا على جهة التحديث به عنه، قلت: والسبب فيه أنه أراد أن لا يسوقه مساق الأصل. فمثال ما هو صحيح على شرط غيره قوله في الطهارة: وقالت عائشة: «كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يذكر الله على كل أحيانه» وهو حديث صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه في صحيحه كما سيأتي بيانه، ومثال ما هو حسن صالح للحجة قوله فيه: وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: “الله أحق أن يستحيا منه من الناس”، وهو حديث حسن مشهور عن بهز، أخرجه أصحاب السنن كما سيأتي، ومثال ما هو ضعيف بسبب الانقطاع، لكنه منجبر بأمر آخر، قوله في كتاب الزكاة: وقال طاوس: «قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم، وخير لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم» فإسناده إلى طاوس صحيح، إلا أن طاوسا لم يسمع من معاذ، فأما ما اعترض به بعض المتأخرين بنقضه هذا الحكم في صيغة الجزم، وأنها لا تفيد الصحة إلى من علق عنه بأن المصنف أخرج حديثا قال فيه: قال عبد الرحمن بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تفاضلوا بين الأنبياء…» الحديث، فإن أبا مسعود الدمشقي جزم بأن هذا ليس بصحيح؛ لأن عبد الله بن الفضل إنما رواه عن الأعرج عن أبي هريرة، لا عن أبي سلمة، ثم قوى ذلك بأن المصنف أخرجه في موضع آخر موصولا، فقال عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن أبي هريرة انتهى، فهذا اعتراض مردود، والقاعدة صحيحة لا تنتقض بهذا الإيراد الواهي، وقد روى الحديث المذكور أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة، كما علقه البخاري سواء، فبطل ما ادعاه أبو مسعود من أن عبد الله بن الفضل لم يروه إلا عن الأعرج، وثبت أن لعبد الله بن الفضل فيه شيخين، والصيغة الثانية وهي صيغة التمريض، لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن فيه ما هو صحيح وفيه ما ليس بصحيح على ما سنبينه، فأما ما هو صحيح، فلم نجد فيه ما هو على شرطه إلا مواضع يسيرة جدا، ووجدناه لا يستعمل ذلك إلا حيث يورد ذلك الحديث المعلق بالمعنى، كقوله في الطب: ويذكر عن ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الرقي بفاتحة الكتاب، فإنه أسنده في موضع آخر من طريق عبيد الله بن الأخنس عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نفرا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – مروا بحي فيهم لديغ، فذكر الحديث في رقيتهم للرجل بفاتحة الكتاب، وفيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أخبروه بذلك:«أن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله»، فهذا كما ترى لما أورده بالمعنى لم يجزم به؛ إذ ليس في الموصول أنه – صلى الله عليه وسلم – ذكر الرقية بفاتحة الكتاب، إنما فيه أنه لم ينههم عن فعلهم، فاستفيد ذلك من تقريره، وأما ما لم يورده في موضع آخر مما أورده بهذه الصيغة، فمنه ما هو صحيح إلا أنه ليس على شرطه، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو ضعيف فرد، إلا أن العمل على موافقته، ومنه ما هو ضعيف فرد لا جابر له، فمثال الأول أنه قال في الصلاة: ويذكر عن عبد الله بن السائب قال: قرأ النبي – صلى الله عليه وسلم – المؤمنون في صلاة الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع، وهو حديث صحيح على شرط مسلم، أخرجه في صحيحه إلا أن البخاري لم يخرج لبعض رواته، وقال في الصيام: ويذكر عن أبي خالد عن الأعمش عن الحكم، ومسلم البطين، وسلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد عن ابن عباس قال: «قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين…» الحديث ورجال هذا الإسناد رجال الصحيح إلا أن فيه اختلافا كثيرا في إسناده، وقد تفرد أبو خالد سليمان بن حيان الأحمر بهذا السياق، وخالف فيه الحفاظ من أصحاب الأعمش، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ومثال الثاني وهو الحسن قوله في البيوع: ويذكر عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له: «إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل»، وهذا الحديث قد رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن المغيرة – وهو صدوق عن منقذ مولى عثمان، وقد وثق عن عثمان به وتابعه عليه سعيد بن المسيب، ومن طريقه أخرجه أحمد في المسند إلا أن في إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان وفيه انقطاع؛ فالحديث حسن لما عضده من ذلك، ومثال الثالث: وهو الضعيف الذي لا عاضد له، إلا أنه على وفق العمل قوله في الوصايا: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قضى بالدين قبل الوصية»، وقد رواه الترمذي موصولا من حديث أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور عن علي، والحارث ضعيف، وقد استغربه الترمذي، ثم حكى إجماع أهل العلم على القول به، ومثال الرابع: وهو الضعيف الذي لا عاضد له، وهو في الكتاب قليل جدا، وحيث يقع ذلك فيه يتعقبه المصنف بالتضعيف، بخلاف ما قبله، فمن أمثلته قوله في كتاب الصلاة: ويذكر عن أبي هريرة رفعه “لا يتطوع الإمام في مكانه” ولم يصح، وهو حديث أخرجه أبو داود من طريق ليث بن أبي سليم عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة، وليث بن أبي سليم ضعيف، وشيخ شيخه لا يعرف، وقد اختلف عليه فيه، فهذا حكم جميع ما في الكتاب من التعاليق المرفوعة بصيغتي الجزم والتمريض، وهاتان الصيغتان قد نقل النووي اتفاق محققي المحدثين وغيرهم على اعتبارهما، وأنه لا ينبغي الجزم بشيء ضعيف؛ لأنها صيغة تقتضي صحته عن المضاف إليه فلا ينبغي أن تطلق إلا فيما صح، قال: وقد أهمل ذلك كثير من المصنفين من الفقهاء وغيرهم واشتد إنكار البيهقي على من خالف ذلك وهو تساهل قبيح جدا من فاعله، إذ يقول في الصحيح: “يذكر ويروى” وفي الضعيف: “قال وروى”، وهذا قلب للمعاني وحيد عن الصواب، قال: وقد اعتنى البخاري – رحمه الله – باعتبار هاتين الصيغتين، وإعطائهما حكمهما في صحيحه، فيقول في الترجمة الواحدة بعض كلامه بتمريض، وبعضه بجزم مراعيا ما ذكرنا، وهذا مشعر بتحريه وورعه، وعلى هذا فيحمل قوله ما أدخلت في الجامع إلا ما صح؛ أي: مما سقت إسناده… وقد تبين مما فصلنا به أقسام تعاليقه أنه لا يفتقر إلى هذا الحمل، وأن جميع ما فيه صحيح، باعتبار أنه كله مقبول ليس فيه ما يرد مطلقا إلا النادر، فهذا حكم المرفوعات، وأما الموقوفات فإنه يجزم منها بما صح عنده ولو لم يكن على شرطه، ولا يجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع إلا حيث يكون منجبرا إما بمجيئه من وجه آخر، وإما بشهرته عمن قاله، وإنما يورد ما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين، ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة، فحينئذ ينبغي أن يقال جميع: ما يورد فيه إما أن يكون مما ترجم به، أو مما ترجم له، فالمقصود من هذا التصنيف بالذات هو الأحاديث الصحيحة المسندة، وهي التي ترجم لها، والمذكور بالعرض والتبع الآثار الموقوفة، والأحاديث المعلقة نعم، والآيات المكرمة، فجميع ذلك مترجم به، إلا أنها إذا اعتبرت بعضها مع بعض واعتبرت أيضا بالنسبة إلى الحديث يكون بعضها مع بعض منها مفسر، ومنها مفسر فيكون بعضها كالمترجم له باعتبار ولكن المقصود بالذات هو الأصل، فافهم هذا، فإنه مخلص حسن يندفع به اعتراض كثير عما أورده المؤلف من هذا القبيل والله الموفق”[6].ثم يقول بعد ذلك: “وقد بسطت ذلك جميعه في تصنيف كبير سميته تغليق التعليق، ذكرت فيه جميع أحاديثه المرفوعة، وآثاره الموقوفة، وذكرت من وصلها بأسانيدي إلى المكان المعلق؛ فجاء كتابا حافلا وجامعا، لم يفرده أحد بالتصنيف”[7].
لقد اتضح من خلال هذا العرض لكلام الحافظ ابن حجر، والذي لا مزيد عليه حقا، أن ما ورد في البخاري من تعليق ليس موصولا في مواضع أخرى من الكتاب مائة وستون حديثا، وأن ما ورد فيها بصيغة التمريض منها ما هو على شرطه إلا أنه رواه بالمعنى معلقا، ووصله في موضع آخر من كتابه كحديث الرقية بالفاتحة، وأما ما لم يورده في موضع آخر مما هو على هذه الصيغة، منه ما هو صحيح إلا أنه ليس على شرطه، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو ضعيف إلا أن العمل به، كحديث: “أن النبي قضى بالدين قبل الوصية”، ومنه ما هو ضعيف لا جابر له، وهو قليل جدا وهذا يوضحه رحمه الله ويبين أنه لا يصح، كما فعل بعد أن ذكر حديث: “لا يتطوع الإمام في مكانه”، فقال بعده: لا يصح، وهذا يدل على تحري الإمام الحافظ البخاري رحمه الله وشدة ورعه.
قال ابن الصلاح: “ثم إن ما يتقاعد من ذلك على شرط الصحيح قليل يوجد في كتاب البخاري في مواضع من تراجم الأبواب، دون مقاصد الكتاب وموضوعه الذي يشعر به اسمه الذي سماه به، وهو “الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسننه وأيامه”، وإلى الخصوص الذي بيناه يرجع مطلق قوله: “ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح”، وكذلك مطلق قول الحافظ أبي نصر الوايلي السجزي: “أجمع أهل العلم – الفقهاء وغيرهم – على أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد صح عنه، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قاله لا شك فيه – أنه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته”، وكذلك ما ذكره أبو عبد الله الحميدي في كتابه الجمع بين الصحيحين من قوله: “ولم نجد من الأئمة الماضين – رضي الله عنهم – من أفصح لنا في جميع ما جمعه بالصحة إلا هذين الإمامين” – يقصد البخاري ومسلما – فإنما المراد بكل ذلك مقاصد الكتاب، وموضوعه، ومتون الأبواب دون التراجم ونحوها”[8].
ومن ثم، فهذا رد قاطع وبرهان ساطع على من ادعى أن في البخاري ضعيفا لوجود المعلقات؛ وذلك لأن هذه المعلقات ليست في أصل الكتاب ومضمونه، ومتون الأبواب، وإنما هي في التراجم. كما أن المعلقات نفسها ليس بها حديث واه، فما رواه البخاري في الصحيح مما عبر عنه بصيغة التمريض، والذي قلنا لا يحكم بصحته ليس بواه؛ أي: ساقط جدا؛ وذلك لإدخاله في الكتاب الموسوم بالصحيح؛ ولذا قال الإمام ابن الصلاح: “ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه”[9].
وقد ذكرنا أن ما جاء بصيغة التمريض مما هو ضعيف، نوعان: ضعيف جاء العمل على موافقته، كحديث “قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم – بالدين قبل الوصية”، وضعيف لا ينجبر، وهذا يوضحه البخاري ويظهر ضعفه عقب روايته له، وهذا في البخاري قليل جدا.
وجدير بالذكر أن جميع ما في صحيح البخاري من المعلقات موصولة جميعها في كتب السنة الأخرى، وقد وصلها جميعا الحافظ ابن حجر العسقلاني في مؤلف أسماه تغليق التعليق، وبوصله يسقط ادعاء مثيري الشبهة، ولا يكون هناك وجه للاعتراض على القول بصحة معلقات البخاري.
ثانيا. قلة المعلقات في صحيح مسلم، وهي في غير الأصول بل في الشواهد والمتابعات:
إن المعلقات في صحيح مسلم لم يذكرها الإمام مسلم في كتابه إلا نادرا، فهي قليلة فيه، وقد ذكر الحافظ أبو علي الجياني أن المعلق في صحيح مسلم وقع في أربعة عشر موضعا، وقد أخذ هذا عنه أبو عبد الله المازري صاحب “الـمعلم بشرح صحيح مسلم”.
ولكن الذي حققه الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، ونقله عنه النووي أن عدتها اثنا عشر موضعا[10].
قال ابن الصلاح كما نقله عنه النووي: “وذكر الحافظ أبو علي الغساني الجياني أن الانقطاع وقع فيما رواه مسلم في كتابه في أربعة عشر موضعا”، ثم ذكر هذه المواضع، وقال بعد أن أخرج منها موضعين بالتدقيق: “فهي إذن اثنا عشر لا أربعة عشر”[11].
وليس لأحد وجه في أن يأخذ على مسلم هذا؛ لأن مسلما لم يذكر هذه المعلقات إلا في المتابعات، فهو يتابع على الحديث الموصول الذي يورده في المتن، قال ابن الصلاح رادا على من أخذ على مسلم هذه المعلقات: “وليس شيء من هذا – والحمد لله – مخرجا لما وجد فيه من حيز الصحيح، بل هي موصولة من جهات صحيحة، لا سيما ما كان منها مذكورا على وجه المتابعة، ففي نفس الكتاب وصلها، فاكتفى بكون ذلك معروفا عند أهل الحديث”[12].
وهذا معلوم ثابت عندهم، التفريق بين الأصول، والمتابعات، والشواهد، فما كان في معرض المتابعة فالأمر فيه على المسامحة، ويغتفر في بابها مالا يغتفر في الأصول[13].
فالمعلق إذا في “صحيح مسلم” قليل نادر، وهو في مواضع محدودة، قد اهتم العلماء ببحثها وتحقيقها، فظهر لهم صحتها، واتصالها من جهات صحيحة.
ثم إن العلماء قد حددوا أماكنها، وغرض الإمام مسلم من ذلك، كبيان اختلاف السند، أو ذكر من تابع رواية الذي أسند من طريقه عليه، فهو يسوقه مساق الاستشهاد والمتابعة، بعد أن يورده موصولا[14].
وليس في الاثني عشر حديثا موضع لم يوصله في كتابه إلا حديثا واحدا، وهو الحديث الذي رواه في باب التيمم، حيث قال: «وروى الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار مولى ميمونة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهم: أقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليه؛ حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه، ثم رد عليه السلام»[15].
لكن هذا الحديث موصول عند غيره، وهو صحيح؛ فهو موصول عند البخاري من طريق يحي بن بكير عن الليث بن سعد[16]، وموصول أيضا عند الإمام أبي داود من طريق عبد الملك بن شعيب عن أبيه عن جده[17]، وموصول أيضا عند الإمام النسائي من طريق الربيع بن سليمان عن شعيب عن أبيه[18].
وبهذا يتبين لنا أن ما في الصحيحين من معلقات غير ملحق بالانقطاع القادح؛ لما عرف من عادتهما وشرطهما، وذكرهما ذلك في كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصة، فلن يستجيزا فيه الجزم المذكور من غير ثبت وثبوت، بخلاف الانقطاع أو الإرسال الصادر من غيرهما، هذا كله من المعلق بلفظ الجزم، أما إذا لم يكن ذلك منهما بلفظ جازم مثبت له عمن ذكراه عنه على الصفة التي تقدم ذكرها، مثل أن يقولا: روي عن فلان، أو ذكر عن فلان، أو في الباب عن فلان ونحو ذلك، فليس ذلك في حكم التعليق الذي ذكرناه، ولكن يستأنس بإيرادهما له[19].
ومن ثم، فلا مطعن في معلقات مسلم ألبتة، ولا وجه – إذن – لمن ادعى أن فيه ضعيفا، وعليه تثبت صحة ما أجمعت عليه الأمة من أنه ليس في البخاري ومسلم حديث واه.
الخلاصة:
- إن المقصود بقول البخاري: “ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صح” الأحاديث التي أخرجها في أصول الكتاب ومتنه، وهذا ظاهر من تسمية صحيحه بـ”الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسننه وأيامه”، فما رواه بالإسناد المتصل فهو المحكوم بصحته، وهي التي في أصل الكتاب وموضوعه ومتنه، وليس فيها بحمد الله حديث منقطع.
- المعلقات الواردة في صحيح البخاري لم ترد إلا في تراجم الأبواب، ولذا فليس لأحد أن يطعن في صحيح البخاري(أصل الكتاب ومتنه).
- جميع الأحاديث التي رواها البخاري بصيغة الجزم، كقال وذكر – أحاديث صحيحة؛ لأنها تفيد الاتصال.
- ما رواه البخاري بصيغة التمريض، منه ما هو صحيح وليس على شرطه، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو ضعيف، إلا أن العمل على موافقته: كحديث «قضاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالدين قبل الوصية»، ومنه ما هو ضعيف لا ينجبر، وهو قليل جدا، وهذا يوضح البخاري ضعفه كأن يقول ولا يصح، وهذا يدل على تحريه وشدة ورعه.
- ليس فيما رواه البخاري من المعلقات حديث واه؛ أي: ساقط جدا؛ وذلك لإدخال البخاري إياها في كتابه الموسوم بالصحيح، وإيراده لها مشعر بصحة أصلها إشعارا يؤنس به ويركن إليه.
- لقد وصل الحافظ ابن حجر جميع معلقات البخاري، وأوضح أنها موصولة في كتب السنة الأخرى، وذلك في كتاب أسماه “تغليق التعليق”، ثم اختصره في كتاب أسماه ” التشويق إلى وصول المبهم من التعليق”.
- ما ذكره الإمام مسلم في صحيحه من المعلق هو اثنا عشر حديثا، وهي موصولة في الكتاب نفسه إلا موضعا واحدا، وهو موصول عند البخاري وأبي داود والنسائي بأسانيد صحيحة، كما أن هذه المواضع في المتابعات، وليست في أصل الكتاب.
(*) أسباب رد الحديث وما ينتج عنها من أنواع، د. محمد محمود بكار، دار طيبة، الرياض، ط2، 1418هـ/ 1997م.
[1]. تحفة الذاكرين، الشوكاني، دار القلم، بيروت، ط1، 1984م، ص3.
[2]. في السنة النبوية ومصطلح الحديث، د. حسين سمرة، دار الهاني، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص190 بتصرف.
[3]. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي، تحقيق: عزت علي عطية وموسى محمد علي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1980م، (1/ 117، 120، 121).
[4]. في بعض النسخ من “صحيح البخاري” يقال: “الجامع الصحيح المسند المختصر من أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسننه وأيامه”.
[5]. الإمام البخاري وصحيحه الجامع، د. أحمد فريد، دار العقيدة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص75، 76 بتصرف.
[6]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 19: 22.
[7]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 22.
[8]. علوم الحديث، ابن الصلاح، تحقيق: نور الدين عتر، المكتبة العلمية، بيروت، 1401هـ/ 1981م، ص22، 23.
[9]. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي، تحقيق: عزت علي عطية وموسى محمد علي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1980م، ص121.
[10]. الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط 1، 1427 هـ/ 2006م، ص 264، 265 بتصرف.
[11]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 121، 120).
[12]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 121).
[13]. التأصيل الشرعي لقواعد المحدثين، د. عبدالله شعبان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص513.
[14]. التأصيل الشرعي لقواعد المحدثين، د. عبدالله شعبان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص521، 522 بتصرف.
[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: التيمم، (3/ 924)، رقم (800).
[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التيمم، باب: التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوات الصلاة، (1/ 525، 526)، رقم (337).
[17]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم في الحضر، (1/ 358)، رقم (325). وصححع الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (329).
[18]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الطهارة، باب: التيمم في الحضر، (1/ 48)، رقم (313). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (311).
[19]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 122) بتصرف.