الزعم بخطأ القرآن العلمي لإثباته الزوجية في كل الكائنات
وجها إبطال الشبهة:
1) بالرجوع إلى أقوال أهل اللغة في معنى كلمة “زوج” يتبين أن لها عدة معان منها: الذكر والأنثى، والقرينان كالخف والنعال والجوارب، وكل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادًّا، وأنواع متشابهة وأصناف متعددة، وغير ذلك من المعاني التي ذكرها أهل اللغة، مما يبين أن قصر الزوجين على الذكر والأنثى فقط يدل على قصور فهم من الطاعن.
2) لقد أثبت العلم حديثًا وجود الزوجية في كل شيء في الكون، وهذه الزوجية لا تقتصر على الكائنات الحية فحسب؛ حيث توجد في الإنسان والحيوان والنبات والخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية والأحماض الأمينية والذرة والطاقة… بل تستمر هذه الزوجية في كل أمر من أمور الكون.
التفصيل:
أولاً. الزوجية في اللغة لا تقتصر على الذكر والأنثى:
قبل الحديث عن الحقائق العلمية المتعلقة بالزوجية في الكائنات الحية، وأقوال أهل العلم في ذلك- لا بد من مناقشة ما أثاره المشتبه من زعمه أن قوله تعالى: )ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49)((الذاريات)؛ يعني أن كل المخلوقات الحية وغير الحية تتكون من زوجين: ذكر وأنثى، فهل ما أثاره المشتبه يتفق مع أقوال اللغويين والمفسرين في هذه الآية الكريمة، هذا ما سنفصل فيه القول في السطور الآتية:
- معنى الزوج في القرآن الكريم:
يقول الراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن عند بيانه معنى كلمة الزوج: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى من الحيوانات المتزاوجة زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج؛ كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادًّا زوج، قال تعالى:)فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39)( (القيامة)، وقال: )وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة((البقرة: ٣٥)، وجمع الزوج: أزواج.
وقوله تعالى: )هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون (56)((يس)، و )احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون الله((الصافات / 23:22)؛ أي: أقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم،)ولاتمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم((طه: ١٣١)؛ أي: أشباهًا وأقرانًا، وقوله: )سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36)((يس)، )ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكمتذكرون (49)( (الذاريات)، فتنبيه أن الأشياء كلها مركبة من جوهر وعَرَض، ومادة وصورة، وأن لا شيء يتعدى من تركيب يقتضي كونه مصنوعًا، وأنه لا بد من صانع؛ تنبيهًا إلى أنه تعالى هو الفرد.
وقوله تعالى: )ومن كل شيء خلقنا زوجين((الذاريات:49)، فبيَّن أن كل ما في العالم زوج من حيث أن له ضدًّا، أو مثلاً ما، أو تركيبًا ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب، وإنما ذكر ها هنا “زوجين” تنبيهًا أن الشيء وإن لم يكن له ضد ولا مثل فإنه لا ينفك من تركيب جوهر وعَرَض، وذلك زوجان.
وقوله:)وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجًا من نبات شتى (53)( (طه)؛ أي: أنواعًا متشابهة، وكذلك )وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10)((لقمان)، و )ثمانية أزواج من الضأن اثنينومن المعز اثنين((الأنعام: ١٤٣)؛ أي: أصناف، وقوله تعالى:)وكنتم أزواجًا ثلاثة (7)((الواقعة)؛ أي: قرناء ثلاثة، وهم الذين فسرهم فيما بعد؛ أي: في قوله تعالى: )فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحابالمشأمة ما أصحاب المشأمة (9) والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11)((الواقعة)، وقوله تعالى:)وإذا النفوس زوجت (7)((التكوير)؛ فقد قيل: قَرَنَ كلَّ شيعة بمن شايعهم في الجنة والنار نحو:)احشروا الذينظلموا وأزواجهم( (الصافات: ٢٢)([1]).
ويقول الزبيدي في تاج العروس: “ويوقعون- أي العرب- الزوجين على الجنسين المختلفين، نحو: الأسود والأبيض، والحلو والحامض”، ثم يقول: “والأصل في الزوج: الصنف والنوع من كل شيء، وكل شيئين مقترنين، شكلين كانا أو نقيضين: فهما زوجان، وكل واحد منهما زوج”([2]).
ويقول ابن منظور في لسان العرب: “والزوج: الصنف من كل شيء، وفي التنزيل:)وأنبتت من كل زوج بهيج (5)((الحج)، قيل: من كل لون أو ضرب حسن من النبات”([3]).
وفي معجم اللغة العربية المعاصرة: “زوج:
- خلاف الفرد: مثل زوج من الجوارب.
- رجل المرأة، ويقال له كذلك: بعل، قرين.
- امرأة الرجل.
- شكل له نقيض، كل واحد معه آخر من جنسه مثل (ذكر وأنثى) و(رطب ويابس) و (أسود وأبيض).
- شبيه وقرين، كقوله تعالى:)احشروا الذين ظلموا وأزواجهم( (الصافات: ٢٢).
- صنف: )وأنبتت من كل زوج بهيج (5)((الحج).
- اثنان من النوع نفسه أو متماثلان في الشكل والوظيفة”([4]).
ومما سبق من كلام أهل اللغة حول دلالة كلمة “زوج” نستنتج أن معنى الزوج في القرآن الكريم يشمل المعاني الآتية:
- الذكر والأنثى في الكائنات الحية.
- القرينين كالخف والنعال والجوارب.
- كل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادًّا.
- الأشياء مكونة من جوهر وعَرَض ومادة وصورة.
- كل شيء مخلوق ومصنوع.
- الضد، والمثل، والتركيب.
- أنواعًا متشابهة.
- أصنافًا متعددة.
- قرناء في المكان والزمان([5]).
وهكذا يتبين أن قصر الزوجين على الذكر والأنثى فقط هو قصور في فهم الآية الكريمة؛ فالزوج في اللغة لا يقتصر على الذكر والأنثى كما توهم المشكك.
وإذا كان الأمر كذلك فإن هناك عدة أسئلة تطرح نفسها بعد هذا البيان هي: لماذا أشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى خلق زوجين من كل شيء؟
وماذا تعني الزوجية في كل المخلوقات إذا كانت كلمة زوج في اللغة لا تعني الذكر والأنثى فقط؟
وإذا كنا نعلم كما يعلم السابقون وقت نزول القرآن بزوجية الذكر والأنثى، فما هي الأزواج الأخرى التي لم يكن يعلمها السابقون وعلمناها نحن بفضل التقنيات العلمية الحديثة؟
كل هذه الأسئلة نجيب عنها في ضوء العلم الحديث من خلال الوجه الآتي:
ثانيًا. ثبوت الزوجية في كل شيء في الكون:
1) الحقائق العلمية:
أ- الزوجية عند الإنسان والحيوان:
يبقى التكاثر بالتزاوج الجنسي بين الأعضاء الأنثوية والذكرية القاعدة العامة عند الإنسان، وعند أغلب الحيوانات، وكذلك عند النباتات، هذا التكاثر الجنسي المسمَّى بـ (التلاقح التقاطعي) بين الذكر والأنثى، والذي يمكن أن يكون خارجيًّا أو داخليًّا،له أهمية كبيرة في تكوين كائن جديد بعد تمازج الصبغيات التي تحمل تنوعًا في الخصائص الوراثية لصفات الأبوين.
فـ (التلاقح الخارجي) يُوجد مثلاً عند توتياء البحر أو أخينوس (oursin) الذي يُعرف بصعوبة التمييز بين ذكره وأنثاه، وعند حلول موسم التلاقح تتجمع توتياء البحر، وتقذف الأنثى مادة برتقالية اللون في مياه البحر، ويقذف الذكر مادة بيضاء، وهذه الخلايا الجنسية تُنتج في خمس غدد داخل القشرة الصلبة للحيوان؛ حيث تجذب الحوينات الذكرية من طرف البويضات وتلتف حولها، وكلبويضة تُلقح بحيوان واحد يقوم بوضع مادته الجينية داخل نواة البويضة التي بداخلهاكذلك مادتها الجينية؛ وبذلك تتم عملية (التلقيح الخارجي) التي تؤدي إلى دمج المادتين الجينيتين، وخلق خلية بويضة، التي تنقسم إلى أجزاء متعددة: 2، 4، 8… إلخ،وتكون بعد ذلك جنينًا، ثم يرقانة تتحول بعد ذلك إلى توتياء بحري ذكري أو أنثوي؛ وبهذا تكتمل الدورة التكاثرية الجنسية لهذا الحيوان، وأيضًا يحدث هذا النوع من التزاوج في الضفدعة.
أما (التلاقح الداخلي) فنجده بالطبع عند الإنسان وباقي الحيوانات الثديية؛ حيث إن ولادة كائن جديد يشكِّل حدثًا يكون في الحقيقة آخر مرحلة في سلسلة من الصيرورات الكيميائية والجسدية المعقدة عند الذكر والأنثى، ويمكن اعتبار الاتصال الجنسي بين الذكر والأنثى أولحلقة في هذه السلسلة التوليدية التي يليها الإخصاب، وهو اتحاد حيوان منوي أو مشيج ذكوري بالبويضة أو مشيج أنثوي كما هو الحال عند الإنسان، هذه العملية تتمخض عن مضغة أولى، تصبح فيما بعد جنينًا يتطور تدريجيًّا خلالمدة الحمل إلى أن يكتمل ويخرج إلى الوجود.
وعندما يصل الحوين المنوي إلى الطبقة الخارجية للبويضة يرتبط الغشاء الخارجي لرأس الحوين ببروتين خاص يعرفه، ومع بدء هذا الارتباط يبدأ غشاء الغلاف الحافظ (الأكروزوم) بالذوبان، وفي الوقت نفسه يبدأ غشاء البويضة بإفراز مادة اسمها (نروتيزيلين) لجذب الحوينات إليها، وهذه المادة تزيد من قابلية حركة الحوينات لتأمين تفاعلها مع غشاء البويضة كما تزيد من تأثير (الأكروزوم) الموجود في رأس الحوين.
وبملامسة الحوين غشاء البويضة تدخل مواد أخرى دائرة العمل فتحقق فعاليات جديدة، يقوم بعد ملامسته للبويضة بإفراز مادة اسمها (أنتي- فرتيزيلين)، وهدفها تحييد مادة (الفرتيزيلين) وإزالة أثرها، وبهذا يوقف أول حوين يصل إلى البويضة وصول الحوينات الأخرى إليها، فبعد ثانيتين فقط من دخول الحوين إلى البويضة يقوم الغشاء المحيط بالبويضة بتحييد نفسه، فلا يسمح أبدًا لأي حوين آخر بالدخول، وإضافة إلى الإنزيمات تلعب الشحنة الكهربائية للبويضة وللحوين دورًا في عملية الإخصاب؛ فالبويضة تحمل شحنة سالبة على الدوام، بينما يحمل كل حوين شحنة موجبة، وبما أن الشحنات المتضادة تتجاذب فإن البويضة تجذب إليها جميع الحوينات، ولكن ما إن ينجح أحد الحوينات في الدخول إلى البويضة حتى تتغير الشحنة الكهربائية، فتتحول شحنة البويضة لتصبح شحنة موجبة (أي الشحنة نفسها التي تحملها الحوينات)، وبما أن الشحنات المتشابهة تتنافر فإن الذي يحصل- بعد أنيتم الاتحاد بين البويضة والحوين- أن البويضة تبدأ بدفع وطرد الحوينات الأخرى.
بعد ذلك يتم الدخول في المرحلة النهائية لعملية الإخصاب التي تبدأ عند دخول الحوين إلى البويضة؛ حيث ينفصل عنه ذَنَبُه ويبقى في الخارج، حيث تترك الحوينات أذنابها عند دخولها إلى البويضات([6]) !
صورة توضح الزوجية في الحيوان
ب- الزوجية في الكائنات الحية الدقيقة:
- البكتيريا:
ثبت أن في البكتيريا خلايا موجبة وخلايا سالبة، ويحدث التزاوج الجنسي بين الخليتين بخروج أنبوب تزاوج، خيطي طويل يوصل بين الخليتين، وتقوم الخلية الموجبة بإفراغ محتواها في الخلية السالبة عبر الأنبوب.
- الفطريات:
تنقسم الفطريات إلى أقسام حسب نوع التكاثر الجنسي، فهناك الفطريات البيضية التي تتكاثر تزاوجيًّا بالأؤوجونة (Oogonium) المؤنثة والأنثريدة (Antheridia) المذكَّرة، وقسم الفطريات التزاوجية الذي تتكاثر فطرياته بالتزاوج بين خيط موجب وخيط سالب، وقسم الفطريات الزقية الذي يتكاثر جنسيًّا ليعطي الجراثيم الزقية، وقسم الفطريات البازيدية الذي يتكاثر جنسيًّا ثم يعطي الجراثيم البازيدية، وهناك قسم الفطريات الناقصة الذي لم نكتشف بعد نوع التكاثر فيه، وكل فطر نكتشف تكاثره الجنسي من هذا القسم, ننقله إلى القسم الموافق له في التركيب الخيطي وغيره, فيجب ألا يخدعنا أحد بهذا القسم أنه لا يتكاثر جنسيًّا, إنه يتكاثر جنسيًّا, ولكن لم نتعرف على نوع التكاثر الجنسي فيه، ولا يوجد دليل علمي يثبت أنه لا يتكاثر جنسيًّا, فقط علمنا لم يصل بعد إلى اكتشاف التكاثر الجنسي في هذا القسم وكل يوم تتناقص أعداد أجناس هذا القسم، باكتشافنا للتكاثر الجنسي فيها.
- الطحالب:
أما الطحالب فجميعها تتكاثر بالتكاثر الجنسي، وهذا معلوم لجميع طلاب كليات العلوم والزراعة الدارسين للطحالب؛ فالإسبيروجيرا يتكاثر جنسيًّا، والكلاميدوموناس والباندوراينا والفولفوكس والكلوريللا وكل الطحالب تتكاثر جنسيًّا, ومن يجهل ذلك عليه البحث فيه، والإتيان بخلاف ذلك بالدليل العلمي الموثَّق، وليس بالكتب القديمة التي لم تحدث معلوماتها إلى الآن([7]).
ت- الزوجية في النباتات:
يقرر العلم الحديث أن أزهار النباتات على اختلاف أنواعها تنقسم ثلاثة أقسام: أزهار مذكَّرة، وأزهار مؤنَّثة، وأزهار خُنْثَى تجمع الناحيتين من عضو التذكير وعضو التأنيث معًا، ومن الأمثلة الموضِّحة لذلك النخيل، فمنه نوع مذكر وآخر مؤنث، نبات الذرة يحمل في وقت واحد أزهارًا مذكرة وأخرى مؤنثة([8]).
ولتحقيق التزاوج بين النباتات خلق الله عز وجل أجنة نباتية تنشأ من التزاوج بين أعضاء التذكير والتأنيث؛ حيث ينتج النبات المزهر الحامل لحبوب اللقاح الدقيقة في مخاريط اللقاح الذكرية للأسدية، وهي الجزء المذكر من الزهرة.
صور التلقيح بين النباتات:
تحدث عملية التلقيح عندما تحمل الرياح أو الحشرات كالنحل وغيره حبوب اللقاح من مخاريط اللقاح الذكرية إلى الجزء المؤنث، والمسمَّى (المدقة)، الذي يضم المخاريط البذرية الأنثوية التي تصل المبايض التي تنتج البويضات، وبعد التلقيح تنشأ الأجنة النباتية.
وتلعب الهرمونات النباتية دورًا مهمًّا في عملية التلقيح، بحيث يفرز داخل (المدقة) سائل هرموني مائي لزج يسهل هبوط حبوب اللقاح- بفعل الجاذبية- في المخاريط البذرية الأنثوية، ويحدث النمو وتتكون الثمرات بعد عملية التلقيح.
وعملية التلاقح داخل مدقة زهرة تبدأ بهبوط حبوب اللقاح عبر المخروط لتصل إلى المبيض، وتلقح البويضة التي تتحول إلى جنين نباتي.
والتلقيح يمكن أن يكون ذاتيًّا أو غير ذاتي، فيمكن للبويضة الموجودة في البُذَيْرة أن تتلقح من حبة لقاح قادمة من حبات اللقاح للزهرة ذاتها، أو من زهرة أخرى موجودة على ذات النبتة، وفي كلتا الحالتين تُسمى عملية التلقيح هذه (تلقيحًا ذاتيًّا)، وقد سُمِّيت بهذا الاسم؛ لأن عملية التلقيح تتم ضمن نبتة واحدة.
أما إذا كانت حبة اللقاح قادمة من زهرة مجاورة- أي ليس من النبتة ذاتها- فإن هذه الحالة تُسمى (تلقيحًا غير ذاتي)، وكلتا الطريقتين عادية، ولكن لـ (التلقيح غير الذاتي) نتائج أفضل؛ حيث ينتج محاصيل وبذورًا أكثر، وذات جودة عالية كنبات الذرة، كما له ميزات تساعد في تطور خصائص النبات؛ فعندما تتلقح النبتة التي تحمل مثلاً خصائص (القدرة على محاربة الصقيع) مع نبتة أخرى من ذات النوع عندها خاصية (ضخامة ثمارها)، فسيكون هناك احتمال لبروز ذرية لديها خاصية محاربة الصقيع وخاصية ضخامة الثمار معًا.
وتتميز معظم الأزهار التي تُلقح عن طريق الطيور والحشرات بأن لها أزهارًا ملونة، ورائحة تجذب بها الحيوانات والحشرات، وعند ملامسة تلك الحيوانات للزهرة تلتصق حبوب اللقاح بأجسامها فتحملها بعد ذلك إلى الأزهار الأخرى، وتحمل الرياح اللقاح من زهرة إلى أخرى، ومن مخروط إلى آخر، وتتميز معظم الأزهار التي تُلقح بوساطة الرياح بأنها ليست ذات ألوان زاهية أو رائحة عطرية([9]).
وهنالك صور غريبة ومثيرة للكيفية التي يتم بها اللقاح بين النبات، ومن هذه الصور:
أن هناك كثيرًا من الأزهار تسجن الحشرات داخلها، ومن أمثلتها الزهرة المسماة “جاك في المقصورة”، ولهذا النبات نوعان من المجموعات الزهرية: ذكور وإناث، وهي تتكون داخل مقصورات تضيق عند منتصفها، ويتم التلقيح بواسطة ذبابة دقيقة تدخل إلى المقصورة، ولا تكاد تجتاز المنطقة الضيقة الوسطى حتى تجد نفسها سجينة، ليس بسبب الضيق فحسب، بل بسبب تغطية الجدران الداخلية بمادة شمعية منزلقة يتعذر معها على الحشرة أن تثبث أقدامها، وعندئذ تدور الحشرة بصورة جنونية داخل المكان، فتعلق حبوب اللقاح بجسمها، وبعد قليل تتصلب جوانب المقصورة بعض الشيء، فتستطيع الحشرة الخروج بعد أن يكون جسمها قد تغطَّى بحبوب اللقاح.
فإذا زارت مقصورة مذكرة أخرى تكررت العملية السابقة نفسها، أما إذا دخلت مقصورة أنثى، فإنها تُسجن في داخلها سجنًا دائمًا حتى تموت هي، وعند محاولتها اليائسة للخروج تقوم بتلقيح الأزهار الأنثى.
إن النبات في هذه الحالة لايهتم بخروج الحشرة؛ لأنها تكون قد أدت رسالتها، أما عند زيارتها للمقصورات المذكرة فإنه يُسمح لها بالخروج؛ لأنها لا تكون قد أدت رسالتها.
والزهرة هي عضو النبات المنوط بالتكاثر؛ ففيها أعضاء التذكير أو أعضاء التأنيث، وتُحاط هذه الأعضاء بطبقتين من الأوراق، تمتاز الخارجية منها بأوراقها الخضراء، وتتميز الداخلية بأوراقها التي كثيرًا ما تكون ملونة وذات رائحة جذابة، ورحيق حلو المذاق، وربما احتوت الزهرة الواحدة على كل أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث، وإما أن تكون مذكرة فقط أو مؤنثة فقط، وفي كل من الحالتين لا بد أن تتحد حبة اللقاح بنواة البيضة؛ ليتم تكوين الحبة أو البذرة التي تجمع من صفات كل من الأب والأم، وللتلقيح طرق كثيرة منها ما يقوم به الإنسان، كما في النخيل، ومنها ما تقوم به الحشرات، ومنها ما يقوم به الهواء، ومنها ما يتم بواسطة تيارات الماء.
وتمتاز الأزهار التي تُلقح بالهواء أن أعضاءها التناسلية معرضة للهواء، فتطول خيوط الأسدية وتستدق وتكبر المتك، وتتدلى خارج الزهرة حتى تهزها الرياح، فتتساقط منها حبات اللقاح خفيفة ملساء؛ حتى يسهل حملها بالهواء إلى المياسم التي أعدتها هي الأخرى لهذا اللقاء.
فإذا ما قام الهواء بنصيبه وسقطت حبة اللقاح على الميسم، والتصقت به وبرزت منها أنبوبة تُعرف بأنبوبة اللقاح التي لا تلبث أن تنمو وتخترق أنسجة الميسم والقلم، حتى تصل إلى المبيض؛ حيث توجد البويضات، ويتم تلقيح البويضة([10]).
هذا عن تكاثر النباتات المزهرة، أما النباتات غير المزهرة فتتكاثر بالنوعين: الجنسي وغير الجنسي، وذلك على مرحلتين في دورة واحدة تُعرف باسم “دورة تبادل الأجيال”، في المرحلة الأولى منها ينتج النبات كلاًّ من الخلايا الجنسية الذكرية والأنثوية، وتنفصل الخلايا الذكرية، وتتحرك في الأوساط المائية للوصول إلى خلية أنثوية من نبات آخر من النوع نفسه، والقيام بتلقيحها وإخصابها بالاتحاد معها، وفي المرحلة الثانية ينتج النبات خلايا تناسلية اسمها “الأبواغ” تتناثر عن النبات الحامل لها عند نضجها، وتنمو في الأوساط المناسبة لها نباتًا جديدًا.
ث- الزوجية في الخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية:
أعطى الخالق سبحانه وتعالى لجسم الذكر البالغ القدرة على إنتاج خلايا جنسية ذكرية تُعرف باسم الحيوان المنوي, كما أعطى لجسم الأنثى القدرة على إنتاج خلايا جنسية أنثوية تُعرف باسم البُيَيْضة (تصغير بيضة), وهذان الزوجان من الخلايا التناسلية إذا اتحدا فإنهما يكونان معًا نطفة مختلطة (نطفة أمشاج) إذا انغرست في جدار الرحم فإنها تبدأ في الانقسام المطرد بإذن الله لتخليق مولود جديد، ليس هذا فحسب، بل يوجد في كل حيوان منوي صبغي جنسي واحد، إما (X) ويعني: الأنوثة، أو (Y) ويعني: الذكورة, وتحتوي البييضة على الصبغي الأنثوي (X), بينما الحيوانات المنوية إما أن تحمل الصبغي المذكر أو المؤنث, فإذا كان الحيوان المنوي الذي أخصب البييضة مما يحمل صبغي التذكير جاء الجنين ذكرًا بإذن الله, وإذا كان مما يحمل صبغي التأنيث جاء المولود أنثى بإذن الله.
فالزوجية موجودة حتى في نطف الذكر, وليست بين نطفة الذكر ونطفة الأنثى فقط.
الزوجية تتضح في صبغيات الخلية البشرية للرجل
ج- الزوجية في الصبغيات نفسها:
توجد الصبغيات في نواة الخلية الحية على هيئة خيوط متشابكة من مادة تُسمى باسم المادة المصبوغة أو كروماتين (Chromatin).
تعطي للنواة مظهرًا شبكيًّا أو حبيبيًّا, وتتكون هذه الصبغيات إلى حد كبير من الحمض النووي المعروف باسم الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين، أو الحامض الرايبوزي اللاأكسجيني (DeoxyribonucleicAcidorDA) الذي يحمل الشفرة الوراثية للخلية, بالإضافة إلى كَمّ من البروتينات بنسب متساوية تقريبًا، وكل واحد من هذه الصبغيات (التي يعتبر عددها من العوامل المحددة للنوع) يتكون من شريطين متصلين ببعضهما بجزء دقيق يُعرف باسم اللحمة المركزية (Centromere) له مكان محدد على كل صبغي, يكون أحيانًا قريبًا من وسط الصبغيين, وغالبًا قرب أحد طرفيهما, وهذه صورة من صور الزوجية المبهرة في الخلق.
ح- الزوجية في بناء جزيء الحمض النووي, وفي بناء كل من سلمياته وجداريه:
ينبني كل جزيء من جزيئات الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين (DNA) على هيئة سلم حبلي مفتول(أو ما يُعرف باسم اللولب المزدوج) تتضح فيه الزوجية في جانبيه المصنوعين من جزيئات سكر الريبوز المنقوص الأكسجين, وجزيئات من الفوسفات, كما تتضح الزوجية في درجات هذا السلم الحبلي المفتول والتي تتكون كل درجة من درجاته من زوج من أربع قواعد نيتروجينية هي: الأدينين (Adenine=A), والثيامين (Thyamine=T), والجوانين (Guanine=G), والسيتوسين (Cytosine=c) على أن يرتبط الأولان في زوجية واضحة معًا, وأن يرتبط الأخيران كذلك معًا, ومعًا فقط في زوجية واضحة كذلك, ليشكل كل زوج منهما درجة من سلميات جزيء الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين (DNA) على شكل نويدتين تتكون كل منهما من قاعدة نيتروجينية مستندة إلى زوج من السكر والفوسفات؛ تأكيدًا على أن الزوجية في الخلق من أدق الدقائق إلى أكبر الوحدات.
الزوجية في الخلق تتضح في بناء جزيء الحمض النووي الريبي منزوع الأكسجين الذي تُكتب به
الشفيرة الوراثية بداخل نواة الخلية الحية على هيئة لولب مزدوج الجانب
خ- الزوجية في بناء كل من الأحماض الأمينية والبروتينات:
تُعد الأحماض الأمينية الوحدة البنائية الأساسية لمختلف جزيئات المواد البروتينية التي تنبني منها أجساد الكائنات الحية، والأحماض الأمينية من الأحماض الدهنية, التي تذوب في الماء بسهولة في أغلب الأحيان, ولها في حالتها المتبلورة نشاط ضوئي ملحوظ بسبب احتواء جزيئاتها على ذرة كربون محاطة بأربع مجموعات مختلفة هي: مجموعة الأمين (NH2) ومجموعة الكربوكسيل (COOH) ومجموعة الحمض (R)؛ وذرة إيدروجين (H)؛ ولذلك فالجزيء غير متماثل, وتتحرك هذه المجموعات لتتبادل الأوضاع حول ذرة الكربون؛ فقد توجد مجموعة الأمين (NH2) في مواضع مختلفة بالنسبة لمجموعة الكربوكسيل.
ونظرًا لعدم تماثل جزيء الحمض الأميني، فإن كل واحد من الأحماض الأمينية يمكن أن يوجد في شكلين أحدهما يدير مستوى الضوء المستقطب إلى اليمين، ويُعرف باسم الشكل اليميني (Right-handedisomer)، والشكل الآخر يديره إلى اليسار، ويُعرف باسم الشكل اليساري (Left-handedisomer)، وقد ثبت أن الأحماض الأمينية في أجساد جميع الكائنات الحية (النباتية والحيوانية والإنسية) هي من الأشكال المرتبة ترتيبًا يساريًّا, فإذا ما مات الكائن الحي فإن الأحماض الأمينية اليسارية الترتيب في بقايا جسده تبدأ بإعادة ترتيب الذرات في داخل جزيئاتها من الترتيب اليساري إلى الترتيب اليميني بمعدلات ثابتة حتى يتساوى الشكلان, ويُعـرف هذا الخـليط باسم الخـليط الراسمي (RacemicMixture)، وهو خليط لا يمكنه تحريك مستوى الضوء المستقطب, ولكنه يمثل صورة من صور الزوجية في أضيق صورها.
ويمكن استخدام نسبة الشكلين اليميني واليساري للحمض الأميني الواحد في بقايا أي من النبات أو الحيوان أو الإنسان في تحديد لحظة وفاته بدقة بالغة.
ومعروف من الأحماض الأمينية البانية للبروتينات عشرين نوعًا، كل منها ممثل بزوجية واضحة, وباتحاد هذه الأحماض الأمينية العشرين يمكن بناء أكثر من مليون نوع من أنواع البروتينات, والخلية الحية في جسم الإنسان قد أعطاها الله تعالى القدرة على إنتاج مئتي ألف نوع من أنواع البروتينات, وبالمثل فإن كل جزيء من جزيئات البروتينات العديدة يمكن أن يكون له شكل يميني وآخر يساري, وهي في أجساد جميع الكائنات الحية من الشكل اليساري.
وكذلك النويدات على الصبغيات- وهي أصغر وحدات الحمض النووي الريبي، والريبي المراسل (DNA,RNA)- منها اليميني واليساري, وكلها في أجساد الكائنات الحية من الشكل اليميني.
وفوق ذلك فإن كل واحد من البروتينات له ضده (ProteinsAndAntiproteins), وكل جسم من الأجسام المكونة من البروتينات له ضده (BodiesAndAntibodies)، بالإضافة إلى أن من البروتينات بروتينات بانية وأخرى هادمة (ConstructiveProteinsandDestructiveones).
د- الزوجية في المادة وفي مركباتها:
تتضح الزوجية في مركبات المادة في شقيها الموجب (Cation) والسالب (Anion)، كما تتضح في تركيب الذرة بنواتها التي تحمل شحنة موجبة وإلكتروناتها التي تدور حول النواة حاملة شحنة سالبة مكافئة.
وقد ثبت أن للمادة قرابة الثلاثين نوعًا من أنواع اللبنات الأولية, وكل واحدة منها لها نقيضها, كما أن الجسيمات الأولية للمادة لها لكل جسيم نقيضه, وأن المادة ككل لها نقيض المادة, وإذا التقت النقائض فإن كل واحد منها يفني نظيره؛ لأنهما يتخليان عن طبيعتهما المادية, ويتحولان إلى طاقة تعلن عن فناء المادة, ومن هنا كان الوجود والعدم, وكانت إمكانية الإيجاد من العدم- أي الخلق على غير مثال سابق- وإمكانية الإفناء إلى العدم, ولا يقدر على ذلك أحد غير الإله الخالق عز وجل, وكذلك الطاقة فإن لكل صورة من صورها ما هو ضدها؛ فالكهرباء فيها الموجب والسالب, والمغناطيسية فيها العادي والمقلوب المعكوس, حتى الضوء له زوجية واضحة؛ لأنه يتحرك أحيانًا على هيئة أمواج, وأحيانًا أخرى على هيئة جسيمات.
كذلك ثبت أن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة ولجوهر واحد، كما خُلقت اللبنات الأولية للمادة على هيئة أزواج, وتحويلها إلى طاقة على هيئة زوجية أيضًا, وإمكانية رد الطاقة إلى حالة مادية.
فلكل جسيم في الذرة جسيم نقيض، وهذه الجسيمات ونقائضها تكون المادة والمادة النقيضة, وفي النقائض توجد كل الصفات نقائض معكوسة أيضًا من الشحنات الكهربية إلى المجالات المغناطيسية إلى اتجاهات الدوران, وعلى ذلك فلا يمكن لمثل تلك النقائض أن تجتمع في مكان واحد وإلا أفنى بعضها بعضًا([11]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم:
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم آياته: )ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49)( (الذاريات).
وفي هذه الآية الكريمة تأكيد على أن الزوجية آية من آيات الله في كل الكائنات، وقد سبق أن بينا معنى كلمة “زوج” في اللغة، وأنها لا تقتصر على معنى الذكورة والأنوثة فقط، والآن نقف مع أقوال المفسرين في بيان معنى هذه الآية الكريمة:
- يقول الإمام القرطبي: “قوله تعالى: )ومن كل شيء خلقنا زوجين((الذاريات:49)؛ أي: صنفين ونوعين مختلفين. قال ابن زيد: أي: ذكرًا وأنثى، وحلوًا وحامضًا ونحو ذلك، وقال مجاهد: يعني: الذكر والأنثى، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والنور والظلام، والسهل والجبل، والجن والإنس، والخير والشر، والبكرة والعشي، وكالأشياء المختلفة الألوان من الطعوم والأراييح والأصوات؛ أي: جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا، ومن قدر على هذا فليقدر على الإعادة”([12]).
- وذكر الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: )ومن كل شيء خلقنا زوجين((الذاريات:49)،”أي: جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات؛ ولهذا قال: )لعلكم تذكرون (49)( (الذاريات)؛ أي: لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له”([13]).
- ويقول الإمام البغوي: “)ومن كل شيء خلقنا زوجين( (الذاريات:49)،: صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والجن والإنس، والذكر والأنثى، والنور والظلمة، والإيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والحق والباطل، والحلو والمر”([14]).
- ويقول الشيخ سيد قطب: “وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض- وربما في هذا الكون؛ إذ إن التعبير لا يخصص الأرض- قاعدة الزوجية في الخلق، وهي ظاهرة في الأحياء، ولكن كلمة “شيء” تشمل غير الأحياء أيضًا، والتعبير يقرر أن الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية”([15]).
ومن خلال ما سبق من أقوال المفسرين يتبين أن الزوجية لا يقتصر معناها على الكائنات الحية فحسب، بل هي ثابتة في كل شيء، كما دلت على ذلك الآية الكريمة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا النص الكريم قد نزل منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا في زمن لم تكن فكرة عموم الزوجية حتى في عالم الأحياء معروفة، فضلاً عن عموم الزوجية في كل شيء، تبين لنا مدى المطابقة بين ما جاء به القرآن الكريم، وما توصل إليه العلم حديثًا عن اطراد الزوجية في كل شيء في الكون؛ في الإنسان، والحيوان، والنبات، والخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية، والحمض النووي، والأحماض الأمينية، والبروتينات، والذرة بنواتها التي تحمل شحنة موجبة وإلكتروناتها التي تحمل شحنة سالبة، وكذلك الطاقة وما تحمله من شحنات موجبة وسالبة… إلخ.
بل إن المتأمل في الكون يستطيع أن يستمر إلى ما لا نهاية؛ ليؤكد على حقيقة الزوجية في كل أمر من أمور هذا الكون، فصدق الله العظيم الذي أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الحقائق قبل أن يعلم أحد من البشر عنها شيئًا.
هل التكاثر اللاجنسي ينفي الزوجية؟
أما ما زعمه المشتبه من أن التكاثر اللاجنسي دليل على نفي الزوجية عن بعض الكائنات البسيطة كالأميبا، فنحن نرد عليه زعمه بلغة العلم، ولو كلَّف المشتبه نفسه عناء البحث لمعرفة ما هو التكاثر اللاجنسي، وكيف يحدث لما أثار مزاعمه، ولعلم أنه لا ينفي الزوجية.
فإن كان التكاثر الجنسي كما هو معروف هو: إنتاج الكائن الحي لأفراد جديدة من نوعه عن طريق فردين (ذكر وأنثى) أو فرد واحد (خنثى) يحمل أعضاء التذكير والتأنيث معًا، وذلك باتحاد خلية ذكرية (الحيوان المنوي) مع خلية أنثوية (البويضة)، كل منهما فيه نصف عدد الصبغيات أو الكروموسومات الموجودة في خلية الذكر أو الأنثى، وينتج عن اندامجهما خلية ملقحة تسمى (الزيجوت)، وبها العدد الكامل من الصبغيات للكائن الحي.
هذه البويضة الملقحة (الزيجوت) تعتبر مثل الكائنات وحيدة الخلية، ولكنها تختلف عنها بأنها تقوم بعدة انقسامات ميتوزية لتكوين جميع خلايا الكائن الحي، وليس انقسام واحد كما في الكائن وحيد الخلية، فهذه الخلية الملقحة تبدأ بالانقسام إلى خليتين، ثم إلى أربع، ثم إلى ثمانية… وهكذا إلى أن يتم إنتاج جميع خلايا الكائن الحي.
أماالتكاثر اللاجنسي فهو إنتاج الكائن الحي لفرد جديد عن طريق فرد أبوي واحد فقط، وله عدة أنواع، منها: الانقسام الثنائي كما في الأميبا, والتبرعم كما في فطر الخمير, وفي بعض النباتات يكون التكاثر بالدرنات والترقيد… إلخ، ومردود كل ذلك إلى الانقسام الخلوي الميتوزي أيضًا كما في التكاثر الجنسي.
فالأميبا كمثال تمر بعدة مراحل لإنتاج الفرد الجديد، هي:
الطور التمهيدي: تبدأ الكروموسومات في التكوين، وتكون على شكل خيوط طويلة ورفيعة، ويظهر كل كروموسوم مكون من جزئين، ويُدعى كل جزء كروماتيدة، ويرتبط الكروماتيدان مع بعضهما في نقطة تُسمى بالسنترومير، ويلتفان حول بعضهما البعض.
الطور الاستوائي: يتميز بتموضع واصطفاف الكروموسومات في المستوى الاستوائي للخلية مشكلة الصفيحة الاستوائية.
الطور الانفصالي:ينفصل السنترومير في هذا الدور، ويبتعد الكروماتيدان في كل كروموسوم عن بعضهما، ويتجه كل كروماتيد نحو القطبين؛ وبذلك يصبح عند كل قطب من قطبي الخلية مجموعتان متشابهتان من الكروموتيدات، والتي يمكن تسميتها الآن بالكروموسومات.
الطور النهائي: تفقد صبغيات كل مجموعة فرديتها مشكلة صبغين لنواة جديدة، ويختفي مغزل الانقسام، ويتكون غشاء خلوي (الغشاء الهيكلي) في وسط الخلية الأم؛ حيث يقسمها إلى خليتين بنتين متماثلتين وراثيًّا، ومماثلتين للخلية الأم، ثم يتم تكوين الحيوان وحيد الخلية.
ويُستنتج من كل ذلك ما يلي:
- أن طرق التكاثر في الكائنات الحية تكون زوجية، سواء أكان جنسيًّا أم لاجنسيًّا.
- أن الشكل النهائي للكائن الحي في التكاثر الجنسي يكون زوجينبالاقتران، ذكرًا أو أنثى.
- أن الشكل النهائي للكائن الحي في التكاثر اللاجنسي يكون زوجين بالتماثل والتطابق (أميبًا أمًّا وأميبًا ابنًا).
- أن جميع الكائناتالحية لا بد أن تخلق من خلية بها عدد زوجيمن الكروموسومات، سواء في التكاثر الجنسي أماللاجنسي.
- أن كل كروموسوم لا بد أن يكون زوجين من الكروماتيد متحدين.
- أن الكروماتيد الواحد يحمل في طياته عشرات الآلاف من الجينات، وكل جين بدوره يتألف من سلسلة من النيوكليوتيدات، وتطلق عليها اسم الأليل، هذا الأليل يتحد مع أليل آخر في الكروماتيد المقابل؛ إذًا كل جين يتكون في حقيقة الأمر من أليلين.
- أن مادة الكروماتين تنقسم إلى زوجين: كروماتين حقيقي، وكروماتين مغاير.
- أن الاستنساخ أيضًا فيه الزوجية؛ لأنه إنتاج نسخة من الكائن الحي عن طريق مضاعفة الخلايا اعتمادًا على تقنية الانقسام الميتوزية لخلايا الجنين الأصلية؛ ومن ثم فالكائنات التي تتكاثر لاجنسيًّا مثل الأميبا لا يمكن أن ننفي عنها الزوجية؛ إذ إن الأميبا الأم والأميبا الابن يُعدان زوجين بالتماثل([16]).
3) وجه الإعجاز:
لقد قرر العلم الحديث انتشار الزوجية في الكون كله، ولا تقتصر هذه الزوجية على الكائنات الحية فحسب، بل تمتد إلى كل شيء في الكون، فكما توجد هذه الزوجية في الإنسان والحيوان توجد أيضًا في الحيوانات البسيطة، كالبكتيريا والفطريات والطحالب، كما توجد في النباتات المزهرة وغير المزهرة، كما توجد الزوجية في الخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية، وفي بناء جزيء الحمض النووي (DNA)، وفي الأحماض الأمينية والبروتينات، وفي كل صور المادة ومركباتها… إلخ.
ولو تتبعنا صور الزوجية لوجدناها ثابتة في كل شيء في هذا الكون، وهذا عين ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:)ومن كل شيء خلقنا زوجين( (الذاريات: ٤٩)؛ حيث أقرت الآية الكريمة وجود الزوجية في كل شيء في الكون، ولم تقصره على الكائنات الحية؛ إذ لو قالت: (ومن كل حي خلقنا زوجين) لاختلف المعنى، ولكن نحن نتحدث عن كلام رب العالمين الذي أنزله على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يُوحى (4)( (النجم).
(*) منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com.
[1]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص215، 216.
[2]. تاج العروس، مادة: زوج.
[3]. لسان العرب، مادة: زوج.
[4]. معجم اللغة العربية المعاصرة، مادة: زوج.
[5]. تسعة معان للزوجية في القرآن الكريم وعالم النبات، د. نظمي خليل أبو العطا موسى، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.
[6]. )وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)((الذاريات) د. المصطفى موكينا، بحث منشور بموقع: الفرقان www.hoffaz.org.
[7]. تسعة معان للزوجية في القرآن الكريم وعالم النبات، د. نظمي خليل أبو العطا موسى، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.
[8]. الإعجاز العلمي في الإسلام: القرآن الكريم، محمد كامل عبد الصمد، مرجع سابق، ص139.
[9]. )وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون َ(49)((الذاريات) لمصطفى موكينا، بحث منشور بموقع: الفرقان www.hoffaz.org.
[10]. الإعجاز العلمي في الإسلام: القرآن الكريم، محمد كامل عبد الصمد، مرجع سابق، ص138، 139.
[11]. من آيات الإعجاز العلمي: النبات في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 1429هـ/ 2008م، ص183: 187 بتصرف.
[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج17، ص53.
[13]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص337.
[14]. معالم التنزيل، البغوي، مرجع سابق، ص379.
[15]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3385.
[16]. الرد على الملحدين.. الزوجية في الكائنات، مقال منشور بمنتديات: أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com.