الطعن في إسلام بني أمية وخلافتهم
وجوه إبطال الشبهة:
1) ليس يخفى علينا أن تاريخ الأمويين الذي لم يسجل في عهدهم تعرض لغير قليل من انتقاص العباسيين ومؤرخيهم، وهذا ما ينبغي أن نأخذه في اعتبارنا حين نقرأ تاريخ هذه الحقبة من الخلافة الإسلامية.
2) لعل فيما طرأ على المجتمع المسلم زمن الأمويين من متغيرات ما يفسر لنا بعض ما التبس علينا من مشكلات ولاية العهد وغيرها.
3) إن ما حققه بنو أمية من جهود إدارية وتعريب وتثقيف من جهة، وما توسعوا فيه من فتوحات مترامية الأطراف من جنوبي فرنسا إلى حدود الصين من جهة أخرى؛ ليشهد بأفضلية القوم وحرصهم على تأكيد العروبة ونشر الإسلام.
التفصيل:
أولا. كتابة التاريخ الأموي:
الكلام عن بني أمية وحضارتهم وحقيقة تاريخهم مما تضيق عن تفصيله واستيفائه مصنفات برأسها؛ ذلك أن هذه الدولة التي نشأت وقضت في قرون يعتقد المسلمون خيريتها، وأنها قرون فاضلة قد شهدت ممارسات لبعض الولاة تركت أثرا سيئا في النظر إليها وإلى عموم تاريخها، وتوارت إلى جوارها محاسن ما صنعت في خدمة العلم والدين. والسائغ هنا أن نسوق مجملا عاما يكشف بعض الخطوط العريضة والملامح الكلية لهذه الدولة بقدر ما يرد المطعن ويدرأ الشبهة.
يعسر على الباحث المنصف أن يقبل تاريخ بني أمية على الوجه الذي وصل إلينا عن مؤرخين متأخرين عن العصر الأموي، صنفوا تواريخهم في عهد خصومهم السياسيين الذين شغلهم أن يمحوا آثار الأمويين ويطمسوا مفاخرهم، لا سيما حين نجحت فئة منهم أن يحيوا دولتهم في أرض الأندلس بعد زوالها في المشرق، وهناك استطاعوا أن ينشئوا تاريخا مستقلا عن الخلافة العباسية في السياسة والحضارة على السواء.
يقول د. أحمد شلبي: ” لقد تحالفت ظروف كثيرة على الحط من شأن الأمويين بقصد أو بدون قصد، وتكاد المراجع التي بين أيدينا تخلو خلوا تاما من كلمة مدح أو ثناء على أكثر خلفاء هذه الدولة، أما عبارات القذف والطعن فقد أسهبت فيها كتب كثيرة واقتصدت كتب أخرى، وكان أيسرها ما اكتفى باللوم والتقريع.
فأما رواة الشيعة وكتابهم فقد وقفوا يعلنون سخطهم على بني أمية، ويصفونهم بالقسوة والوحشية، وأما غير هؤلاء من الرواة والكتاب، فربما لم يروا هذا الرأي، ولكنهم خافوا شعور الجماهير فآثروا السلامة وأغفلوا الموضوع كله أو لم يتعمقوا فيه.
ولا نزاع أن الأمر كان سيختلف اختلافا كبيرا لو هب معاوية يتهم رجلا غير علي بأنه آوى قتلة عثمان وكون منهم جيشه، ولو نشط يزيد في وجه ثائر آخر غير الحسين فهزمه، وهكذا دواليك.
فالمسألة في الحقيقة ليست إلا استغلالا لدماء القتلى باعتبارهم من آل البيت، وكان مدعو التشيع في أغلب فترات ذلك العهد يكونون طبقة الغوغاء ويثيرون الفوضى للنيل من الإسلام والمسلمين حتى يثأروا لأديانهم وعقائدهم المهزومة، وكانوا لا خلاق لهم مع علي نفسه ومع أبناء علي، فطالما خدعوهم، بل قل: إنهم هم الذين قتلوهم بسيوفهم، ولما فرغوا من دمائهم أخذوا ينوحون عليهم أو يتظاهرون بذلك ويطلبون الأخذ بثأرهم.
وطبقة كهذه من الغوغاء كانت مخيفة أزعجت الرواة فلم ينقلوا من مفاخر الأمويين كل ما كان يمكن أن ينقل، وأزعجت الكتاب فلم يدونوا ما وصلهم من أقوال الرواة، وضاعت الحقائق التاريخية بين هذا الظلام.
وسقطت الدولة الأموية قبل عهد التدوين، وقامت على أثرها دولة بني العباس، وقد مسحت دولة بني العباس كل ما يمكن أن يكون قد بقى حيا من مفاخر بني أمية، وبدلا من ذلك أضفت على تاريخ الأمويين ألوانا من الظلام وصنوفا من التشويه، ولا نزاع أن المسلمين عانوا من بني العباس أكثر مما عانوه من بني أمية، ولكن ذلك لم يدون تدوينا كافيا؛ لأن بني العباس امتد بهم العمر ودون التاريخ في عهدهم، فتأثر كثير من المؤرخين بسلطانهم ونفوذهم فيما كتبوه عنهم.
لقد اتهم يزيد بن معاوية بالجهل وسوء السيرة، واتهم بذلك يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد، ولا شك أنه وجد بين خلفاء العباسيين والفاطميين من كانوا كذلك، ومع هذا فقد أسدل التاريخ الستار على كثير من مساوئ هؤلاء، واهتم المؤرخون بانتقاص بني أمية باحثين عن أسباب الانتقاص هنا وهناك” ([1]).
ويؤكد فكرة الغبن الذي حاق بالأمويين وتاريخهم – في جرأة – د. حسين مؤنس في قوله: ” مصادرنا القديمة – بصورة عامة – لا تنصف بني أمية، بل إن المؤلفين – في الغالب – لا يرضون عنهم، ويرون أنهم ظلمة وجبابرة، ويذهب البعض إلى اتهامهم بالكفر، حتى أولئك الذين يذكرون فتوحهم وما أضافوا إلى أرض الإسلام، وهو يزيد في مجموعه على ما تم فتحه في العصر الراشدي، حتى هؤلاء يشتدون في الحكم على بني أمية، ولا يخطر ببالهم أن يضعوا الحسنات إلى جانب العيوب، والإيجابيات إلى جانب السلبيات، ثم يكون حكمهم بعد ذلك على هذا الأساس.
ونحن في الحقيقة إذا وضعنا محاسن بني أمية أمام عيوبهم ازداد قدرهم في نظرنا؛ فهم – دون شك – أكبر الأمم الفاتحة في تاريخ الإسلام، ولا نريد بذلك سعة الفتوحات فحسب، بل نضيف إلى ذلك أن فتوح بني أمية في مجموعها هي أبقى الفتوحات – بعد فتوح الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم – وأبعدها أثرا في اتساق نطاق العروبة والإسلام.
فقد فتح الغزنويون في المشرق فتحا ضاع، والغالبية العظمى مما فتح الأتراك العثمانيون في الغرب ضاع، وما انتشر من الإسلام فيما فتحوه أقل بكثير مما كنا نتوقع، ولم يستعرب منه شيء طبعا، أما بنو أمية فكانوا عربا فاتحين وقد نشروا الإسلام والعروبة في كل ما فتحوا، ولولا ظروف طارئة حالت دون استعراب إيران وردتها إلى الفارسية، لكان شرق الدولة الإسلامية كله اليوم عربيا، كما كانت الحال مع غربها… ثم إن العروبة والإسلام لم يخسرا مما فتح بنو أمية إلا الأندلس، وكانت لذلك ظروفه التي لا يسأل عنها بنو أمية، وهم يظلون – رغم ما حدث للأندلس – أعظم الفاتحين العرب والمسلمين على الإطلاق، غير أن الفضل العظيم لا يدخل في الحساب عند قدماء مؤرخينا؛ لأن غالبية هؤلاء المؤرخين مغرضون قبل أن يمسكوا بالقلم، والغرض هنا عاطفي عام” ([2]).
وقد نتحفظ على هذا الحكم القائل بأن غالبية المؤرخين مغرضون؛ فقد فشا في مناهجهم منذ البدء أن إسناد الخبر يغنيهم عن تكلف تمحيصه ونقده، وهم في ذلك متفاوتون، لكنهم هم أنفسهم – على كل حال – لا يقرون بصحة جميع ما يروونه ويثبتونه في تواريخهم الجامعة.
ثانيا. الخلافة الأموية وولاية العهد:
شهدت دولة الأمويين منذ قامت أحداثا شتى صدمت المشاعر الإسلامية أيامها؛ وذلك لخصوصية الزمن الذي وقعت فيه، وخصوصية الرجال الذين شاركوا فيها؛ فقد كانت لهم من المنزلة في الدين، والسابقة في الإسلام ما يوجب لهم أن يخصوا بضرب من المعاملة يناسب محلهم ذلك، وأن هذه الأحداث لو تأخرت في الزمن لفقدت كثيرا من أثرها السيئ الذي تركته في الناس.
وليس من همنا هنا أن نبرئ ساحة بني أمية البراءة الخالصة، ولا أن ندفع عنهم خطأ أثبته التاريخ في حقهم، وإنما قصارى جهدنا أن نثبت خلوص القصد إن لم يخلص الفعل، وأن نوزع قسما من مسئولية هذه الأحداث بينهم وبين مخالفيهم على غير تسوية بين الجانبين.
فأول ما يساق في شأن الطعن في دولة بني أمية ما ثار من نزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وهو طعن في شرعية الدولة من جهة نشأتها، وليس سائغا أن نفصل القضية ونعيد القول فيها ونبديه؛ فذلك ما كفيناه من قبل في القديم والحديث، وإنما نكتفي هنا بمسائل عامة حول هذا الموضوع:
إن معاوية لم يكن ينازع عليا على الخلافة كما يظن، وإنما مبدأ الأمر أنه طلب إليه أن يسلمه قتلة – ابن عمه – عثمان؛ ليأخذهم بحكم الشرع فيما جنوا، وقد جاء عن أبي مسلم الخولاني أنه دخل على معاوية فقال له: “أنت تنازع عليا، أأنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله إني لأعلم أن عليا أفضل وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما؟ وأنا ابن عمه، وأنا أطلب بدمه، فأتوا عليا فقولوا له: فليدفع إلي قتلة عثمان، وأسلم له الأمور، فأتوا عليا فكلموه فأبى عليهم ولم يدفع القتلة”.
فمعاوية إذن لم يقل: إنه خليفة، ولم ينازع عليا الخلافة أبدا، ولذلك لما تنازعا وصار التحكيم وكتب: هذا ما عاهد عليه على أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، قال: لا تكتب أمير المؤمنين، لو بايعتك على أنك أمير المؤمنين ما قاتلتك، ولكن اسمك واسمي فقط، ثم التفت إلى الكاتب وقال: اكتب اسمه قبل اسمي: لفضله وسابقته في الإسلام.
ولم يكن القتال بين علي ومعاوية قتالا بين خليفة وخليفة أبدا، ولكن القتال سببه أن عليا يريد أن يعزل معاوية، ومعاوية رافض للعزل حتى يقتل قتلة ابن عمه أو يسلمون إليه، فلم يكن الموضوع الخلافة كما يشاع ([3]).
ثم إن التغيرات التي طرأت على بنية المجتمع الإسلامي يومئذ مما يجب أن يؤخذ في الاعتبار، وأن ينوه بخطره في تسيير مجرى الأحداث في تلك الفترة، ولسنا نعني فحسب رخاء الحياة واستفاضة المال، بل إلى جوار هذا أن كثيرا من النزعات القبلية القديمة قد عادت مرة أخرى إلى الصدارة، وأصبحت الزعامات العرقية تمثل أهل الشوكة الذين يوكل إليهم أمر الحل والعقد، كان هذان السببان معا – مع الاتفاق على أن إمامة المفضول في وجود الفاضل جائزة – مما دفع معاوية إلى التفكير في استخلاف ولده يزيد؛ لما يعرفه من أن بني أمية وعصبية أهل الشام لا يقبلون بتسلط عشيرة غيرهم عليهم؛ فآثر – رحمه الله – اجتماع الكلمة على تقديم الأحق.
وكان ابن خلدون أشهر من ألح على دور العصبية والتحول الاجتماعي في تفسير كثير من وقائع تلك الفترة، ومن ذلك قوله: “ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه وينزع إليه ملحد، وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحق؛ فاقتتلوا عليه، وإن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائما فيها يقصد الباطل؛ إنما قصد الحق وأخطأ، والكل كانوا في مقصدهم على حق.
ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به. ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها، واستشعره بنو أمية، ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه، ولو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة.
وقد كان عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – يقول إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر: ” لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة”، ولو أراد أن يعهد إليه لفعل؛ ولكنه كان يخشى من بني أمية أهل الحل والعقد لما ذكرناه؛ فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة وهذا كله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية، فالملك إذا حصل وفرضنا أن الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب الحق ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه، ولقد انفرد سليمان وأبوه داود بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك فيهم من الانفراد به، وكانوا على ما علمت من النبوة والحق.
وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه؛ مع أن ظنهم كان به صالحا، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه، وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا الله لمعاوية من ذلك” ([4]).
وأخيرا.. فإن معالجة أحداث تلك الفترة ينبغي أن يتجاور فيها الشرع والتاريخ، فالرجال الذين صنعوها ليسوا فحسب رجال دولة وسياسة، بل هم صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم – ونقلة تعاليم الملة والصدر الأول المقتدى بأعمالهم، والمنظور إليهم، ولا نحيل عليهم الخطأ، بل ننزههم عن تنافس الدنيا، وسوء الطوية والقصد.
” فحقيق على المتدين – كما يقول إمام الحرمين – أن يستصحب لهم ما كانوا عليه في دهر الرسول – صلى الله عليه وسلم – فإن نقلت هناة فليتدبر النقل وطريقه، فإن ضعف رده، وإن ظهر وكان آحادا لم يقدح فيما علم تواترا منه، وشهدت له النصوص، ثم ينبغي ألا يألو جهدا في حمل كل ما ينقل على وجه الخير، ولا يكاد ذو دين يعدم ذلك، فهذا هو الأصل المغني عن التفصيل والتطويل” ([5]).
ثالثا. حول منجزات الأمويين الحضارية:
شهدت الحياة الإسلامية دفعة حضارية غير مسبوقة في العهد الأموي؛ فقد حققت هذه الدولة، “إنجازات كبرى في مجالات الفكر والعلم والأدب، وشهدت قفزات هائلة لم تتكرر في مجال الفتح ونشر الإسلام، وقدمت شخصيات فذة تركت آثارا ضخمة في ميدان السياسة والحرب والإدارة، واستمرت تقود المسلمين آنذاك – على اختلاف أجناسهم وألوانهم وطموحاتهم – أكثر من تسعين عاما في دولة واحدة، امتدت من حدود الصين إلى جنوبي فرنسا” ([6]).
ولقد كان حرص الأمويين على توكيد الهوية العربية للدولة دافعا لهم إلى تعريب الدواوين، وهذه خطوة حضارية وثقافية ضخمة لا يجحدها أشد مناوئي بني أمية وتاريخهم إعراضا عن الحق، وعنها يقول د. عبد العزيز الدوري: “وكان لسياسة التعريب التي اتخذها الأمويون أثرها البالغ في نشر العربية؛ فقد بدأ عبد الملك بن مروان هذه السياسة، وشملت تعريب الدواوين، والقراطيس، وتعريب النقد وإصلاحه، وتناول تعريب النقد إلغاء آثار الصور والكتابات، فهلوية ويونانية، على النقود وإحلال كتابات عربية محلها، ولشكل النقود أثر في تعزيز العربية والإسلام.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أعاد عبد الملك النظر في وزن النقود فجعل الدينار عشرين قيراطا أو 4. 25جم بدلا من 3. 98 جم. ومثل هذا الإصلاح يتطلب أن تكون للدولة قوة اقتصادية كبيرة ليثبت. وقد نجح الإصلاح الجديد، وكان له أثره في استقلال الخلافة اقتصاديا وفي ارتفاع شأن النقد العربي الإسلامي ليصبح عملة دولية في التجارة في الشرق والغرب.
ويهمنا في هذا المجال تعريب الدواوين المالية التي كانت تستعمل الفهلوية في المشرق واليونانية مع القبطية في مصر والمغرب لتحتل العربية محلها، وتعريب الدواوين يعني إغناء العربية بمصطلحات جديدة، كما يعني دفع المثقفين من غير العرب إلى إتقان العربية للعمل في الدواوين، وبالتالي دخولهم في خط التعريب. وهكذا أصبحت العربية لغة الثقافة والإدارة بصورة شاملة للجميع في بلاد الخلافة” ([7]).
“ومن هذه الإنجازات الحضارية ما اتجه إلى ميدان العمارة التي افتتن بها بعض الخلفاء والولاة، فخلفوا لنا عديدا من المساجد الخالدة كالمسجد الأموي، وعديدا من المدن الباقية كالقيروان وتونس وغيرها، وعديدا من القصور التي مازالت بعض آثارها ماثلة في بادية الشام.
وشارك الأمويون مشاركة ناشطة في نهضة العلوم والمعارف في دولتهم، فدفعوا باللغة العربية إلى الأمام خطوات واسعة بالتقعيد لها والتعريب لغيرها، وأثروا الحركة الشعرية في عصرهم إثراء واسعا، كما اهتموا – على نحو مثير – بالترجمة إلى العربية ونقل العلوم التجريبية وتيسير النبوغ فيها أو المعرفة بها للعرب والمسلمين” ([8]).
ولا مراء لدى غالبية الباحثين والمؤرخين القدامى والمحدثين الشرقيين والغربيين أن المسلمين بعامة والأمويين بخاصة بفتحهم الأندلس وإنجازاتهم فيها قد حولوها – من ظلام أوربا في العصور الوسطى – إلى كعبة علم ومنارة حضارة.
يقول د. محمد الرميحي: “ولو استنطقنا التاريخ؛ فإنه سيشهد بأن الأندلس لم تعرف نهضة عمرانية كالتي عرفتها في فترة الخلافة الأموية، فقد كان الناصر مولعا بالبناء وفي عهده بني أروع ما عرفت الأندلس من قصور ومساجد، ووصلت قرطبة إلى أوج جمالها وأناقتها وعمرانها حتى امتلأت بالقصور والحدائق المجملة بالنافورات، ولم يقتصر البناء والتجميل على قرطبة؛ وإنما شمل الأندلس التي عاشت عصرها ” ([9]).
أيحق بعد كل هذا التاريخ الزاهر وتلك الأمجاد والمفاخر أن تختزل هذه الفترة في مقولة سطحية ركيكة متجنية مفادها أن الأمويين قد ورثوا الإسلام ولم يؤمنوا به، فماذا إذن عن عثمان بن عفان ثالث الراشدين؟ ويزيد ومعاوية من قادة الفتح ببلاد الشام وعمر بن عبد العزيز خامس الراشدين وقبله الوليد بن عبد الملك فاتح الدنيا ومن وصلت جيوشه إلى حدود لم تبلغها يد مسلمة فاتحة فيما بعد؟ وإذا كان في الأمويين مثل أبي سفيان الذي تأخر إسلامه وآمن بعد عناد ومطاولة، ففي بني هاشم مثلا من تأخر إسلامه كالعباس ومن ثبت على كفره كأبي لهب وأبي طالب، وإذا كان هذا طابع إسلام بني أمية، فكيف كان إسلام العباسيين والعلويين ممن تحاملوا على الأمويين؟! تلك إذن جولة من جولات تاريخ المسلمين لها ما لها وعليها ما عليها، غير أن موازنة المآخذ والمحامد تثبت أنها جولة لا تقل عن غيرها فضلا وأثرا، إن لم تزد.
الخلاصة:
- لم يكتب التاريخ الأموي بأقلام مؤرخين معاصرين لبني أمية، بل عامة تاريخهم الذي وصل إلينا مدون في العصر العباسي وما بعده، وقد كان انتقاص الأسرة الأموية شغلا لطائفة من الخلفاء العباسيين، وقد جاراهم بعض مؤرخيهم في أهوائهم تلك.
- ظهرت في المجتمع الإسلامي – في نحو منتصف القرن الأول من الهجرة – عناصر تبطن من الأغراض والعقائد غير ما تظهر، وعناصر أخرى لم تستكثر من صحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم تهذبها آدابه وسيرته، وهؤلاء غلبتهم قبليتهم القديمة على الأعراف الدينية المتبعة يومذاك.
- إن المتغيرات التي طرأت على المجتمع الإسلامي زمن الأمويين بدلت كثيرا في مفهوم أهل الحل والعقد وأهل الشوكة، ومراعاة هذه المتغيرات يكفل لنا تفسير مشكلات ذلك العصر من مثل ولاية العهد ليزيد بن معاوية مع الجزم بأن غيره خير منه دينا وسابقة في الإسلام.
- أبدى الأمويون حرصا لافتا على تأكيد عروبة الدولة ممثلا في تعريب الدواوين، وسك العملة، وتعريب نقوشها الفارسية أو الرومية، ولهم من رعاية العلم والدين، والإبداع في مجالات الحكم والإدارة، وبسط اليد على دولة ترامت أطرافها من جنوبي فرنسا إلى حدود الصين، لهم من ذلك كله ما يكفل لهم أثرا خالدا في التاريخ الإسلامي بعامة.
(*) التشكيك في الدين في روايات نجيب محفوظ ونظرائه، إيمان سالم البهنساوي، مكتبة المنار الإسلامية، ط1، 1424هـ/ 2003م. المفترون: خطاب التطرف العلماني في الميزان، فهمي هويدي، دار الشروق، مصر، 1416هـ/ 1996م.
[1]. موسوعة التاريخ الإسلامي، د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط6، 1982م، ج2، ص17: 19.
[2] . تنقية أصول التاريخ الإسلامي، د. حسين مؤنس، دار الرشاد، القاهرة، ط1، 1997م، ص53، 54. ويراجع في أسباب تحريف التاريخ الأموي: الدولة الأموية المفترى عليها، د. حمدي شاهين، دار القاهرة للكتاب، القاهرة، ط2، 2005م، ص27: 41.
[3]. حقبة من التاريخ، عثمان بن محمد الخميس، مكتبة الإمام البخاري، مصر، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص185، 186.
[4]. مقدمة ابن خلدون، تحقيق: د. علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، القاهرة، ط3، 1981، ج2، ص603، 604. وانظر: العواصم من القواصم، ابن العربي، تحقيق د. عمار طالبي، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1417هـ/ 1997م، ص332: 337.
[5]. الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، أبو المعالي الجويني، تحقيق د. محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم عبد الحميد، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1369هـ/ 1950م، ص433.
[6]. الدولة الأموية المفترى عليها، د. حمدي شاهين، دار القاهرة للكتاب، القاهرة، ط2، 2005م، ص5.
[7]. التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي، د.عبد العزيز الدوري، مركز دارسات الوحدة العربية، بيروت، ط3، 1986م، ص56.
[8]. الدولة الأموية المفترى عليها، د. حمدي شاهين، دار القاهرة للكتاب، القاهرة، ط2، 2005م، ص471.
[9]. إسبانيا أصوات وأصداء عربية، د. محمد الرميحي، كتاب العربي، 1999م، ص10.