الطعن في حديث “ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا”
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن حديث «ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا» حديث صحيح سندا ومتنا، وليس في إعراض النبي – صلى الله عليه وسلم – عن كتابة الكتاب الذي هم به خيانة للوحي؛ لأنه لم يكن وحيا، إنما هو اجتهاد منه – صلى الله عليه وسلم – لمصلحة ارتآها، ثم صرفه الله عن ذلك؛ لأمر قضاه، ووقوع الاجتهاد من النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما لم ينزل فيه نص أمر ثابت ومتكرر.
2) لم يكن امتناع بعض الصحابة عن امتثال ما أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – إعراضا منهم عن أمره، إنما أرادوا أن يرفعوا المشقة عنه إشفاقا عليه وحبا له، ولما رأوا من حال مرضه وتوجعه، فقد كان يشغلهم أمره أكثر مما يشغلهم أمرهم، ولا يوجد في التاريخ من بدايته إلى نهايته طاعة مثل طاعة أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – له.
3) إن الله – سبحانه وتعالى – اصطفى لمحمد – صلى الله عليه وسلم – أصحابه من بين الخلق، والقول بضلالهم يقدح في اصطفاء الله – سبحانه وتعالى – لهم، كما أن لفظ الحديث لا يدل على وقوع أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – في الضلال إذا لم يكتب النبي – صلى الله عليه وسلم – الكتاب.
4) «أهجر» استفهام استنكاري قالته الطائفة المؤيدة للكتابة؛ ردا على من قال: حسبنا كتاب الله، وقيل: أهجر من الهجر، وهو الفراق، أي: هجر الحياة، وليس في هذا ولا ذاك قدح في النبي صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا. صحة حديث «ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا» سندا ومتنا؛ لأن هذا الكتاب لم يكن وحيا – كما يزعمون – وإنما كان اجتهادا منه صلى الله عليه وسلم:
إنه مما لا شك فيه أن حديث: «ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا» حديث صحيح لا مجال للطعن فيه؛ لأن الحديث صحيح سندا ومتنا، فالمتن صحيح لا شذوذ فيه، والسند صحيح أيضا، كما أن هذا الحديث متفق على صحته؛ حيث أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما بسنديهما عن سعيد بن جبير قال: «قال ابن عباس: يوم الخميس! وما يوم الخميس! اشتد برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجعه، فقال: ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا؟ فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يردون عليه، فقال: دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه…»[1].
وقد ورد هذا الحديث في دواوين السنة المختلفة، فهو حديث مشهور ثابت، أخرجه البخاري في أربعة مواضع من صحيحه، حيث أخرجه في كتاب العلم، وفي كتاب المغازي، وفي كتاب الجهاد والسير، وفي كتاب الخمس بطرق متعددة تدور على عبيد الله عن عبد الله بن عباس، وسعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، كما أخرجه مسلم في كتاب الوصية في صحيحه، وساق له عدة أسانيد بألفاظ متقاربة، وقد أخرجه من رواية سعيد بن منصور عن سفيان، ثم ساق للحديث ثلاث متابعات تامة لسعيد بن منصور؛ حيث ذكر أنه تابعه قتيبة بن سعيد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد عن سفيان به، وهذا يعني أن الحديث في أعلى درجات الصحة، وهذا يكفي كدليل للرد على من أراد التشكيك في سند الحديث خاصة، أو في صحة الحديث عامة، ومما سبق يتأكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الحديث ثابت وصحيح، ولا مجال فيما تعلق به المشككون من أعداء السنة من ادعاءات تقدح في صحة الحديث، يقول النووي: “اعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه”[2].
لقد بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – رسالته، وفتح به الله أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، نشهد أنه – صلى الله عليه وسلم – بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
ولقد شهد الله – سبحانه وتعالى – لنبيه ببلاغ الوحي وانتهاء الرسالة، قال في كتابه الكريم – قبيل موت النبي – صلى الله عليه وسلم – بثلاثة أشهر: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: ٣).
لم يكتم النبي – صلى الله عليه وسلم – شيئا من الوحي، بل بلغ رسالة السماء لأهل الأرض، وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل؛ من تسفيه له، ورمي بالجنون والكهانة والسحر والكذب، وهو الصادق الأمين، وقاطعه قومه، وحوصر هو وأصحابه في شعب أبي طالب لا يجدون طعاما ولا شرابا، وألب عليه قومه العرب ليقاتلوه من جهات شتى، وحاولوا قتله أكثر من مرة، وخرج من وطنه مهاجرا إلى ربه، وجاهد وكان في مقدمة الصفوف، وتحمل في سبيل رسالة ربه ما لا يتحمله أحد من البشر ولا أحد من الأنبياء، وهو سيد ولد آدم وخيرهم، فكيف يكون الفاضل الصادق الخير خائنا؟! ولم تحمل ما تحمل إن كانت النهاية هي الخيانة؟!
وكيف يختار الله رجلا خائنا ليجعله خاتما للأنبياء والمرسلين؟! وكيف يقصر في تبليغ الشرع والدين، ويصف الله الدين بالكمال؟! وكيف يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – معصوما والعصمة تمنع الخيانة والتقصير في تبليغ الوحي، ثم يرمى بالتقصير بعد ذلك؟!
وقد يسأل سائل فيقول: ولماذا يطعن الطاعنون في تبليغ النبي – صلى الله عليه وسلم – للرسالة؟ والجواب: إنهم لا يطعنون في تبليغ النبي – صلى الله عليه وسلم – ـ في هذه الشبهة – ولكنهم يتخذون ذلك تكأة لرد حديث: «ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا» بحجة أن الكتاب لم يكتب، وطالما أنه لم يكتب، فالرسول خائن، كاتم للحق، مقصر في أداء الرسالة؛ لأنه كتم وحيا واجب البلاغ، وكان عليه ألا يكتمه، فما الحل للخروج من هذا المضيق الصعب؟
إنهم يرون أن الحل هو رد الحديث وإن كان في الصحيحين، وهذا ما يحاولون إقناع الناس به، وإنما وقع ذلك منهم لجهلهم، أو لقولهم بغير الحق من أجل إضلال الناس وإسقاط راية الإسلام )يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8)( (الصف).
بئس القول ما قال هؤلاء، حيث يضعون الإقرار بعصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – في كفة والحديث الثابت في كفة، فخذ أو دع، فإن أخذت أحدهما أسقطت الآخر، وإن تركت قتلتك الشكوك والوساوس )كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)( (الكهف)، ولذا فلا يجب أن نأخذ الدواء من أيدي صانعي السموم؛ لأن اليد التي تصنع الموت لا تصنع حياة، واليد التي تصنع السموم لا تقدم لنا الأمصال المضادة لهذه السموم، إنما يجب علينا إذا ألم بنا داء أن نذهب إلى الطبيب، وقد أرشدنا الله – سبحانه وتعالى – إلى ذلك بقوله: )فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43)( (النحل).
من أجل ذلك يجب أن نعلم أن الشروع في كتابة هذا الكتاب الذي أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتابته لم يكن وحيا أراد الله منه أن يبلغه إلى خلقه، إنما كان ذلك اجتهادا منه – صلى الله عليه وسلم – لما علم من حال أمته، وما سيحدث لهذه الأمة من التنازع والاختلاف، فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يضع كتابا يوصي به أمته باتباع أسس معينة؛ ليرفع عنهم هذا الخلاف، وكان هذا الحدث محاولة اجتهادية منه لنصيحة أمته، مع الإقرار بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلم تمام العلم أن الخلاف سنة كونية، وأنه لا بد واقع، وتتمثل أهمية هذا الكتاب عند النبي – صلى الله عليه وسلم – حين تعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد أن ينص في هذا الكتاب على العهد لأبي بكر الصديق – رضي الله عنه – بالخلافة، وأن يضع الضوابط التي تمنع من التنازع على هذا الأمر؛ درءا للفتن وحقنا لدماء المسلمين. أما لماذا ترك كتابة الكتاب؟ فالظاهر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – طلب من ربه أن يكتب كتابا يرفع به الخلاف والتنازع عن الأمة فأذن الله له، والنبي – صلى الله عليه وسلم – كان قد سأل الله – عز وجل – قبل ذلك ألا يجعل بأس المسلمين بينهم شديد ضمن ثلاث دعوات، فاستجاب له في اثنتين منها ومنعه الثالثة، وذلك فيما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة؛ سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها»[3]، أي أن الله قدر أن يكون بأس المسلمين بينهم شديدا؛ لحكم لا نعلمها.
وقد أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يرفع هذا التنازع والخلاف – الذي سينتج عنه بأس شديد – عن الأمة؛ حتى لا تتمزق وتتناحر، وقد استأذن ربه – عز وجل – وقد أذن له، إذ لا يتصور أن يقدم النبي – صلى الله عليه وسلم – على هذه الخطوة – حتى وإن لم تكن وحيا – دون إذن من الله عز وجل، ولما أذن الله – عز وجل – له أمر الصحابة بأن يأتوه بكتف ليكتب لهم كتابا لا يضلون بعده؛ فاختلفوا وتنازعوا، بين امتثال لأمره وإشفاق عليه، فلما أراه الله تنازعهم في الأمر الذي أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يرفع به التنازع عنهم، علم النبي – صلى الله عليه وسلم – أن قدر الله نافذ، وأن الخلاف لا سبيل إلى رفعه، فترك كتابة ما أراد أن يوصي به، وترك العباد لربهم، والدين لصاحبه، وترك كتابة الكتاب الذي أراد أن يرفع به الخلاف، ويضع الأمور في نصابها، ويسد أبواب الفتن على الأمة، بدءا باستخلاف أبي بكر وما يلي ذلك من أمور، وقد بدا للنبي – صلى الله عليه وسلم – ألا يكتب الكتاب اعتمادا على ما علم من تقدير الله عز وجل.
يقول الإمام البيهقي: “وإنما أراد – أي النبي صلى الله عليه وسلم – ما حكى سفيان بن عيينة – رحمه الله – عن أهل العلم قبله، أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، ثم ترك كتابته اعتمادا على ما علم من تقدير الله تعالى، وذلك كما هم به في ابتداء مرضه، حين قال: وارأساه، ثم بدا له أن لا يكتب، وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، ثم نبه أمته على خلافته، باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها، وإن كان المراد به رفع الخلاف في الدين”[4].
مما سبق يتبين لنا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن خائنا للوحي؛ لأن ما ترك كتابته لم يكن وحيا، ولو كان وحيا لما ترك تبليغه؛ لأن تبليغ الوحي واجب لقول الله – عز وجل – لنبيه – صلى الله عليه وسلم -:)يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك( (لمائدة: 67)، وعليه فلا وجه لاتهام النبي – صلى الله عليه وسلم – بالتقصير في تبليغ الوحي، ورميه – صلى الله عليه وسلم – بالخيانة؛ لأن في ذلك سوء أدب وسوء اعتقاد بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وبسنته الشريفة المحفوظة بوعد الله بالحفظ على أيدي الجهابذة من علماء الحديث الذين يذبون عن سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وكان لرأفته بالأمة يحب أن يرفع الخلاف بينهم، ويدعو الله بذلك، ولكن قدر الله قد مضى بأنه لا بد من الخلاف، كما في الصحيح عنه أنه قال: «سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة؛ سألته ألا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته ألا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها»، ولهذا قال ابن عباس: “إن الرزية كل الرزية ما حال بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين الكتاب، فإن ذلك رزية في حق من شك في خلافة الصديق وقدح فيها، إذ لو كان الكتاب الذي هم به أمضاه لكانت شبهة هذا المرتاب تزول بذلك، ويقول خلافته ثبتت بالنص الصريح الجلي، فلما لم يوجد هذا كان رزية في حقه من غير تفريط من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل قد بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – البلاغ المبين، وبين الأدلة الكثيرة الدالة على أن الصديق أحق بالخلافة من غيره، وأنه المقدم، وليست هذه رزية في حق أهل التقوى الذين يهتدون بالقرآن، وإنما كانت رزية في حق من في قلبه مرض، كما كان نسخ ما نسخه الله، وإنزال القرآن، وانهزام المسلمين يوم أحد وغير ذلك من مصائب الدنيا، رزية في حق من في قلبه مرض، قال تعالى: )فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله( (آل عمران: ٧)، إن كانت هذه الأمور في حق من هداه الله مما يزيدهم الله به علما وإيمانا”[5].
ويقول الإمام ابن حزم: “وكان في تلك المرضة قال لعائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها: “لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك، فأكتب كتابا، وأعهد عهدا؛ لئلا يتمنى متمن أو يقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر” فلم يكن – والله أعلم – الكتاب الذي أراد – صلى الله عليه وسلم – أن يكتبه، فلا يضل بعده، إلا في استخلاف أبي بكر. وقد ظهرت مغبة ذلك، وكاد الناس يهلكون في الاختلاف فيمن يلي أمر المسلمين بعد، وفي الذي يلي من بعد من قام بعده، وإلى زمن علي، والأمر كذلك فيمن بعد علي. وبالجملة فالكتاب كان رافعا لهذا النزاع”[6].
وبناء على ما سبق يمكننا أن نقرر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يرفع الخلاف عن الأمة من بعده، فقرر أن يكتب كتابا يرفع به هذا الخلاف، ويكون فيه استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى لا يختلف المسلمون على الخليفة، ويتنازعون على الخلافة بعده صلى الله عليه وسلم.
ثم صرف النبي – صلى الله عليه وسلم – نظره عن هذا الأمر لـما رأى المصلحة في ذلك، ولا شك أنه لو كان من واجبات الدين ولوازم الشريعة لم يثنه عنه كلام عمر ولا غيره[7].
ويؤكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فيقول: “ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت؛ إذ لو كان كذلك لما ترك – صلى الله عليه وسلم – ما أمره الله به، لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر، ورأى أن الاختلاف لا بد أن يقع، وقد سأل ربه قبل ذلك هذه المسألة فمنعه إياها”[8].
لقد دل ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – للكتاب على أنه لم يكن وحيا، وإنما هو اجتهاد مبني على مصلحة المسلمين في إقراره وفي رفضه، والانصراف عنه، لذا لا مجال للقدح في عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – طالما أن الحديث صحيح.
ثانيا. لم يرد الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا مشفقين عليه لما يرون من توجعه ومرضه:
قال المازري: “إن قيل: كيف جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع قوله صلى الله عليه وسلم: “ائتوني بكتف أكتب”، وكيف عصوه في أمره؟ فالجواب: أنه لا خلاف أن الأوامر تقارنها قرائن تنقلها من الندب إلى الوجوب عند من قال: أصلها للندب، ومن الوجوب إلى الندب عند من قال: أصلها للوجوب، وتنقل القرائن أيضا صيغة “أفعل” إلى الإباحة، وإلى التخيير، وإلى غير ذلك من ضروب المعاني، فلعله ظهر منه – صلى الله عليه وسلم – من القرائن ما دل على أنه لم يوجب عليهم، بل جعله إلى اختيارهم، فاختلف اختيارهم بحسب اجتهادهم”[9].
قال ابن حجر: “قال القرطبي وغيره: «ائتوني» أمر، وكان حق المأمور أن يبادر بالامتثال، لكن ظهر لعمر – رضي الله عنه – مع طائفة أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم لقوله تعالى: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: ٣٨)، وقوله تعالى: )تبيانا لكل شيء( (النحل: ٨٩)، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: حسبنا كتاب الله. وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره، وما يتضمنه من زيادة الإيضاح، ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش – صلى الله عليه وسلم – أياما ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم؛ لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف”[10].
إذن لم يقصد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه وغيره من الصحابة الاعتراض على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قصدوا التخفيف على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين رأوه قد غلب عليه الوجع، ولو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يريد أن يكتب لهم شيئا مفروضا لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم؛ لقول الله – عز وجل – للنبي صلى الله عليه وسلم: )بلغ ما أنزل إليك من ربك( (المائدة: ٦٧)، كما أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن ليترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه[11].
يقول القاضي عياض – رحمه الله: “وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، وكيف اختلفوا بعد أمره – صلى الله عليه وسلم – أن يأتوه بالكتاب، فقال بعضهم: أوامر النبي – صلى الله عليه وسلم – يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن، فلعل قد ظهر من قرائن قوله – صلى الله عليه وسلم – لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة، بل أمر رده إلى اختيارهم، وبعضهم لم يفهم ذلك، فقال: استفهموه، فلما اختلفوا كف عنه؛ إذ لم يكن عزمة، ثم هؤلاء قالوا: ويكون امتناع عمر إما إشفاقا على النبي – صلى الله عليه وسلم – من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب، وأن تدخل عليه مشقة من ذلك، كما قال: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – اشتد به الوجع”[12].
إن الصحابة رضي الله عنهم – وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه – لم يرفضوا أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يخفى على أي مسلم وجوب طاعته، وامتثال أمره، فكيف وهو من كبار الصحابة المقربين رضي الله عنهم، وهم السابقون السابقون الذين أثنى الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، ووصى الرسول – صلى الله عليه وسلم – الأمة بوجوب احترامهم، وبين مكانتهم، وأمر باجتناب الإساءة إليهم، ووجوب ذكرهم بكل خير؟!
ويستدل ابن حجر العسقلاني – رحمه الله – أن أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان على الاختيار، لأنه عاش بعد ذلك أياما – أربعة أيام – ولم يعاود أمرهم بذلك، فلو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم؛ لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا[13].
وبهذا يتبين لنا أن مخالفة بعض الصحابة لأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت إشفاقا عليه صلى الله عليه وسلم، وليس اعتراضا عليه، وكيف يعترضون عليه، وهم خير أتباع لخير نبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: )رضي الله عنهم ورضوا عنه( (المائدة: ١١٩).
ثالثا. عدم كتابة النبي – صلى الله عليه وسلم – للكتاب لا يستلزم وقوع الصحابة في الضلال إذا لم يكتبه:
لقد مدح الله – عز وجل – أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – في كتابه، ومدحهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يوصف الصحابة بالضلال، والله تعالى يقول فيهم: )لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (18)( (الفتح)، وقال: )رضي الله عنهم ورضوا عنه(، فهل رضي الله – سبحانه وتعالى – عن ضلالهم إذن؟ أم أنه كان لا يعلم – عز وجل – أنهم سيفعلون؟ وإن كان وقوع الصحابة في الضلال أمرا سائغا، كوقوع غيرهم من البشر فيه، فلم رضي الله عنهم؟! وإذا كان الصحابة كسائر البشر من الكفار ضلالا، فلم خلق الله الجنة والنار، والنعيم والعذاب؟ ولم نصب الموازين والحساب؟ إن مجرد التسليم بوقوع الصحابة في الضلال أمر يهدم جنبات الدين كله؛ لأنه إذا كان هذا هو حال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – الذين رباهم على القرآن والسنة، فكيف يكون حال الذين من بعدهم؟ وبم يوصفون إذا كان الضلال هو أقسى لفظ يوصف به المسلم؟
إن الله – عز وجل – قال عن هذه الأمة: )كنتم خير أمة أخرجت للناس( (آل عمران: ١١٠) ومعلوم أن الصحابة هم خير الأمة وأفضلها بشهادة النبي – صلى الله عليه وسلم – نفسه حين قال: «خيركم قرني»[14]، فهل نرد على الله قوله وحكمه فيهم، ونرد على النبي – صلى الله عليه وسلم – شهادته؟
يقول د. عماد الشربيني: وما هذه المنة من ربهم – عز وجل – إلا بيان لعباده، مؤمنهم وكافرهم إلى قيام الساعة، بعظم مكانة من اختارهم لصحبة سيد أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم، وأن التجريح والقدح في تلك المكانة والعدالة إنما هو تجريح وقدح فيمن بوأهم تلك المكانة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس[15].
لذلك يقول الآمدي: “واختيار الله تعالى لا يكون لمن ليس بعدل”[16].
ويقول الشيخ الزرقاني: “والواقع أن العقل المجرد من الهوى والتعصب يحيل على الله في حكمته ورحمته أن يختار لحمل شريعته الختامية أمة مغموزة، أو طائفة ملموزة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ومن هنا كان توثيق هذه الطبقة الكريمة – طبقة الصحابة – يعتبر دفاعا عن الكتاب والسنة وأصول الإسلام من ناحية، ويعتبر إنصافا أدبيا لمن يستحقونه من ناحية ثانية، ويعتبر تقديرا لحكمة الله الباقية في اختيارهم لهذه المهمة العظمى من ناحية ثالثة، كما أن توهينهم والنيل منهم يعد غمزا في هذا الاختيار الحكيم، ولمزا في ذلك الاصطفاء والتكريم، فوق ما فيه من هدم الكتاب والسنة والدين”[17].
ولهذا لا يجوز وصف الصحابة بالضلال؛ لأن مطلق لفظ الضلال يعني الكفر، أي عدم معرفة الطريق الموصل إلى الرب، والصحابة مستحيل أن يجري في ذلك عليهم؛ لأن ذلك يقع للكفار، وأصحاب الكتب المحرفة، والطرق المنحرفة، أما الصحابة فقد تركهم النبي – صلى الله عليه وسلم – على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك، والقول بأن الصحابة ضلوا الطريق قول بأن الأمة بعدهم ضلت الطريق، وهذا محال؛ لأن هذا الدين خاتم الشرائع، والقول بذلك يجعل للكفار حجة أمام الله يوم القيامة، ولا يصح أن تقام لكافر على الله حجة؛ لأن قيام الحجة لأي أحد على الله معناه أنه أخذ ظلما، والله منزه عن أن يظلم أحدا من خلقه، سواء كان مؤمنا أو كافرا، قال تعالى: )ولا يظلم ربك أحدا (49)( (الكهف)، وقال تعالى: )وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (118)( (النحل).
إن الصحابة – رضي الله عنهم – يجوز عليهم الخطأ والسهو والنسيان؛ لأنهم بشر إلا أنهم لا يجوز أن يوصفوا بالضلال، ليس ذلك لأنهم معصومون، بل لأنهم معتصمون بالكتاب والسنة، لذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله وسنتي»[18]، إذن هما المصابيح التي تضيء لنا الطريق في الليلة الظلماء، وعليه فإن الضلال هنا ليس لقصور المنهج، فالمنهج متكامل كتابا وسنة، فلا يصح أن يكون الضلال نتاجا لقصور في المنهج الإسلامي الخاتم، وإنما ينشأ الضلال عن عدم الالتزام بالمنهج، والصحابة أبعد الناس عن ترك الالتزام بالمنهج، فما كانوا ضالين ولا مضلين، بل كانوا هداة مهديين، ولم يحكم أحد عليهم بالضلال حتى يومنا هذا.
فإن قال الطاعنون: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا»، وهذا حكم بالضلال عليهم من قبل النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا لم يفعلوا ما أمرهم به قلنا لهم: أخطأتم وكذبتم، فلم يصف النبي – صلى الله عليه وسلم – الصحابة بالضلال خلال هذا الحديث، ولا يعني لفظ الحديث هذا، ولا يصح أن يفهم أن الكتاب الذي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – سيكتبه كتابا سحريا سيسحر الصحابة بعد كتابته، وسينتشر سحره إلى درجة أنه سيمنعهم من الوقوع في الضلال إن أرادوا، إن هذا الفهم لم يقل به أحد، ولا يصح أن يقول به أحد؛ لأن المقصود أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان سيكتب كتابا إن تمسك به الصحابة وقاهم من الضلال، فالمعول عليه هو التمسك بالكتاب من عدمه، أما ولم يكتب الكتاب فلا مجال لرميهم بالضلال؛ لأن الضلال إنما يكون إذا كتب الكتاب ولم يتمسكوا به، وهذا ما لم يحدث، وعليه فلا يجوز وصفهم بالضلال، أضف إلى ذلك أن الكتاب ليس الواقي الوحيد لهم، والذي بعدم وجوده يقعون في الضلال، لأن بينهم وبين الضلال سدا؛ هو تمسكهم بالكتاب والسنة، وقد تمسكوا بهما، فمن أين ينفذ الضلال إليهم؟
رابعا. أهجر؟ استفهام استنكاري قالته الطائفة المؤيدة للكتابة ردا على من قال: حسبنا كتاب الله، وليس في ذلك قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن يقع اللفظ وصفا له:
قال القاضي عياض – رحمه الله: «أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» هكذا في صحيح مسلم وغيره على الاستفهام، وهو أصح من رواية من روى هجر بغير همز؛ لأنه لا يصح؛ لأن معنى هجر: هذي، وإنما جاء هذا من قائله استفهاما للإنكار على من قال: لا تكتبوا، أي: لا تتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه؛ لأنه لا يهجر، وإن صحت الرواية الأخرى كانت خطأ من قائلها؛ لأنه قالها بغير تثبت لما أصابه من الحيرة والدهشة؛ لعظيم ما شاهده من النبي – صلى الله عليه وسلم – من هذه الحالة الدالة على وفاته” [19].
فإن لم يسلم المخالف بأن لفظ يهجر أصله أيهجر – على الاستفهام – وأن سقوط الهمزة جاء من قائل الحديث بغير تثبيت لعظم ما شاهده من النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الحالة الدالة على الوفاة، قلنا له: إن لم تسلم بذلك من هذه الوجهة، وجب عليك أن تسلم به من وجهة أخرى، وهي أن يهجر أصلها أيهجرـ على الاستفهام – حذفت همزة الاستفهام اطرادا، وهذا أمر منقول عن العرب، وله شواهد كثيرة.
يقول ابن هشام: والألف أصل أدوات الاستفهام، ولهذا خصت بأحكام؛ أحدها: جواز حذفها، سواء تقدمت على أم، كقول عمر بن أبي ربيعة:
بدا لي منها معصم حين جمرت
وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإن كنت داريا
بسبع رميت الجمر أم بثمان؟
أراد: أبسبع؟
أم لم تتقدمها، كقول الكميت:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني، وذو الشيب يلعب
أراد: أو ذو الشيب يلعب؟
وقال المتنبي:
أحيا، وأيسر ما قاسيت ما قتلا
والبين جار على ضعفي وما عدلا؟
أحيا: فعل مضارع والأصل أأحيا؟ فحذفت همزة الاستفهام، والواو للحال، والمعنى التعجب من حياته. يقول: كيف أحيا وأقل شيء قاسيته قد قتل غيري؟
والأخفش يقيس ذلك في الاختيار عند أمن اللبس، وحمل عليه قوله تعالى: )وتلك نعمة تمنها علي( (الشعراء: ٢٢)، وقوله تعالى: )هذا ربي( (الأنعام: ٧٦) في المواضع الثلاثة، وقرأ ابن محيصن: «سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم»، وقال – صلى الله عليه وسلم – لجبريل عليه السلام:«وإن زنى وإن سرق؟ فقال: وإن زنى وإن سرق»[20] [21].
وقد أجاب ابن حجر عن هذا المعنى، فقال: “قال القرطبي: إن قوله: «هجر» الراجح فيه إثبات همزة الاستفهام وبفتحات، على أنه فعل ماض، قال: ولبعضهم أهجرا، بضم الهاء وسكون الجيم والتنوين، على أنه مفعول بفعل مضمر؛ أي: قال هجرا، والهجر، بالضم ثم السكون: الهذيان، والمراد به هنا: ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم، ولا يعتد به لعدم فائدته، ووقوع ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مستحيل؛ )وما ينطق عن الهوى (3)( (النجم)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي أن أقول عند الرضا والغضب إلا حقا»[22]، وإذا عرف ذلك، فإنما قاله من قاله منكرا على من توقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة، فكأنه قال: كيف تتوقف، أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ امتثل أمره وأحضر ما طلب؛ فإنه لا يقول إلا حقا، قال: هذا أحسن الأجوبة، قال: ويحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه مع كونهم من كبار الصحابة، ولو أنكروه عليه لنقل، ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة، كما أصاب ذلك بعضهم عند موته، وقال غيرهم: ويحتمل أن يكون ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم؛ لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدة وجعه، وقيل: قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه، ويفضي في العادة إلى ما ذكر، ويحتمل أن يكون قوله: أهجر فعلا ماضيا من الهجر بفتح الهاء وسكون الجيم، والمفعول محذوف أي الحياة، وذكر بلفظ الماضي مبالغة لما رأى من علامات الموت، وقلت – أي ابن حجر: يظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي، ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله الإسلام، وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله لجواز وقوع ذلك، لهذا وقع في الرواية الثانية، فقال بعضهم: إنه قد غلبه الوجع”[23].
وعلى هذا يسقط القول الذي يرمي الصحابة بأنهم وصفوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالهذيان، والحق الذي لا مرية فيه أنهم أخذوا من الاستفهام الإنكاري دليلا على وجوب نفاذ أمره – صلى الله عليه وسلم – ردا على من قال بعدم الكتابة شفقة عليه.
الخلاصة:
- الحديث في أعلى درجات الصحة؛ فقد أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما، وقد أخرجه البخاري في أربعة مواضع من صحيحه بأسانيد مختلفة، كما أورد الإمام مسلم له في صحيحه ثلاث متابعات تامة.
- لم يكتم النبي – صلى الله عليه وسلم – شيئا من الوحي، بل بلغ كلام السماء لأهل الأرض، وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل.
- لم يكن أمر الكتاب الذي أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يكتبه وحيا، بل كان اجتهادا منه – صلى الله عليه وسلم – خشية وقوع التنازع والخلاف بين أمته من بعده، ثم أعرض عن كتابته، لـما رأى أن المصلحة تقتضي ترك الكتابة.
- الكتاب كان المراد منه رفع الخلاف والتنازع خاصة بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – مباشرة؛ ويرجح كثير من العلماء أنه – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يكتب فيه استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
- للأمر قرائن تحمله على الندب وأحيانا الوجوب، وقد حمل مجموعة من الصحابة الأمر على الندب، فلعله ظهر منه – صلى الله عليه وسلم – من القرائن ما يدل على أنه لم يوجب عليهم الأمر، بل جعله إلى اختيارهم.
- لم يترك الصحابة أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتراضا منهم على أمره، بل إشفاقا عليه لما رأوا أنه قد غلب عليه الوجع.
- لم يصف النبي – صلى الله عليه وسلم – الصحابة بالضلال في هذا الحديث، ولا يفهم من لفظه هذا.
- لم يقل النبي – صلى الله عليه وسلم – للصحابة إنه سيكتب لهم كتابا سحريا يمنعهم من الوقوع في الضلال، وإن أرادوا.
- إنما يسوغ لنا وصف الصحابة بالضلال إذا كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – الكتاب ولم يتمسكوا به، ولكن ذلك لم يحدث، وعليه فلا يجوز وصفهم بالضلال لهذا السبب من ناحية؛ ولأنهم متمسكون بالكتاب والسنة، فلا يمكن أن يقعوا في الضلال ما تمسكوا بها من ناحية أخرى.
- أهجر؟ استفهام استنكاري قاله المؤيدون للكتابة؛ ردا على المنكرين لها.
- لا يصح حمل روايات لفظ هجر ويهجر دون همز إلا على الاستفهام، وهذا أمر مطرد ثابت في كلام العرب وأشعارهم.
- قد يحمل الحديث على أن «هجر» بمعنى فارق؛ أي: هجر الحياة وفارقها بالموت.
(*) تحرير العقل من النقل، سامر إسلامبولي،مكتبة الأوائل، سوريا،2001م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته، (7/ 738)، رقم (4431). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الوصية، باب: ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، (6/ 2540)، رقم (4154).
[2]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (6/ 2542).
[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، (9/ 3992)، رقم (7127).
[4]. دلائل النبوة، البيهقي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (7/ 184، 185).
[5]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، (8/ 302، 303).
[6]. جوامع السيرة وخمس رسائل أخرى، ابن حزم، تحقيق: إحسان عباس، دار المعارف، مصر، ط1، 1900م، (1/ 264).
[7]. جوامع السيرة وخمس رسائل أخرى، ابن حزم، تحقيق: إحسان عباس، دار المعارف، مصر، ط1، 1900م، (1/ 264).
[8]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، (6/ 171).
[9]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (6/ 2544).
[10]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 252).
[11]. دلائل النبوة، البيهقي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (7/ 184).
[12]. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي أبو الفضل عياض، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (2/ 194).
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 252).
[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادة، باب: لا يشهد على شهادة جور، (5/ 306)، (2651). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة رضي الله عنه، (9/ 3660)، رقم (6357).
[15]. انظر: عدالة الصحابة، د. عماد الشربيني، دار الإيمان، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص17: 19.
[16]. الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفي الباز، مكة، ط1، 1420هـ/2000م، (2/ 315)
[17]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ/ 1996م، (1/ 275).
[18]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: العلم، (1/ 171)، رقم (318). وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (40).
[19]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (6/ 2544).
[20]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: في الجنائز، (3/ 132)، رقم (1237). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئا، (2/ 487)، رقم (266).
[21]. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام، تحقيق: د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر، بيروت، ط6، 1985م، (1/ 20) بتصرف.
[22]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: معرفة الصحابة، باب: ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص، (3/ 606)، رقم (6246). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح.
[23]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (7/ 739، 740).