الطعن في حديث الاستسقاء بالعباس
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن حديث استسقاء عمر بن الخطاب بالعباس – رضي الله عنهما – حديث صحيح رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – ولم يروه أحد من مسلمة أهل الكتاب ليقال: إنه دسيسة إسرائيلية، وليس في الحديث ذكر لكعب الأحبار، أو أنه أغرى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بهذا؛ ليفسد على المسلمين عقيدتهم.
2) ليس في توسل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بالعباس – عم النبي صلى الله عليه وسلم – أي لون من ألوان الشرك أو اتخاذ الأنداد من دون الله؛ لأنه توسل بالأحياء وليس توسلا بالأموات، كما أنه توسل بدعاء الصالحين من آل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – والعباس من خيرة آل البيت، وليس توسلا بذاته أو جاهه؛ والصحابة كانوا يتوسلون بدعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – لهم – قبل موته – لكنه – صلى الله عليه وسلم – بعد ما مات لم يلجئوا إلى قبره سائلين، بل توسلوا بدعاء عمه العباس – رضي الله عنه – وهذا النوع من التوسل مشروع في عقيدتنا، ولا يشبه ما كان عليه العرب في جاهليتها؛ لأن العرب كانت تتقرب بالأموات عن طريق الذبح إليهم والنذر لهم.. إلى غير ذلك، أما الصحابة فقد توسلوا بدعاء العباس وهو حي، ليدعو الله لهم أن يسقيهم، وبالتالي فلا وجه لقولهم: إن عمر – رضي الله عنه – قد فطن لمكيدة كعب، فليس هناك مكيدة أصلا؛ لأن الفعل لم يخرج عن حدود الشرع.
3) إن ما استشهد به المغرضون لتقوية زعمهم مما نقلوه عن صاحب (المغني) من أن عمر خرج يستسقي، فلم يزد على الاستغفار لا يصلح كدليل لتقوية مرادهم من زاويتين:
-
-
- لقد ذكر الشيخ الألباني هذا الأثر في (إرواء الغليل) وحكم عليه بالضعف، وبالتالي فلا يصلح مستندا لهذه القصة التي يحكيها هؤلاء المغرضون، وعلى العكس من ذلك، فإن ضعف هذا الأثر ليدل بوضوح على بطلان ما بني عليه من أقوال تخالف ما ورد في صريح وصحيح السنة النبوية.
- إن هذا الأثر إذا صح عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فإنه لا يقدح في تصرفه وتوسله، كما لا يخالف صريح وصحيح السنة النبوية؛ وذلك لأنه لا يعدو أن يكون نوعا من التوسل المشروع ومثالا من أمثلته، فما المانع من أن يكون عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد توسل مرة بالاستغفار، ومرة أخرى بدعاء العباس – رضي الله عنه – فلا تعارض بين النوعين، كما أنه لا يوجد دليل على أن عمر – رضي الله عنه – رجع عن الاستسقاء بدعاء العباس لأجل الاستسقاء بالاستغفار، فكلاهما محمود في الشرع ولم يرد ما يذمه أو يحرمه.
-
التفصيل:
أولا. حديث استسقاء عمر – رضي الله عنه – بالعباس عم النبي – صلى الله عليه وسلم – ثابت وصحيح، ولا ذكر لمسلمة أهل الكتاب به:
إن فريقا ممن ينتمون إلى الإسلام قد ضاقوا بالسنة ذرعا، والسنة ورجالها لم تضق بهم، بل هي في منعة بنفسها وبتفسير رجالها؛ لتصحيح ما غلط من تأويل أولئك المتحمسين للإسلام تحمسا مزيفا؛ لأنهم أرادوا توهين صرح السنة؛ لإشاعتهم الأكاذيب حولها، ظنا منهم أنها تشيع الأباطيل، وقد كذبوا فيما وصلت إليهم عقولهم من تجريد الإسلام من مصدره الثاني وهو السنة النبوية، وما فعلوا ذلك إلا لسوء فهمهم.
وقد وجه القوم سمومهم نحو حديث من الأحاديث الصحيحة التي تقبلتها الأمة بالتصديق والعمل، وهو حديث سيدنا أنس بن مالك – رضي الله عنه – الذي رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني أبي عبد الله بن المثنى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس «أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه – فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون» [1].
وهذا الحديث صحيح سندا.
والناظر في هذا الحديث يراه مرويا بطريق واحد، وهو عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – وبذلك يبطل الزعم الذي يلفونه حول هذا الحديث بأن كعب الأحبار قد انتهز تلك الفرصة – أي فرصة الجدب الذي حل في المدينة ورغبة الصحابة في الاستسقاء – وأغرى إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بأن يستسقي بالعباس؛ ليوهن عقيدة التوحيد والتوكل عندهم، مع أنه ليس هناك ذكر لكعب الأحبار في تلك الحادثة من قريب أو بعيد، لا صحة ولا ضعفا، ليحمل كلامهم على أي وجه من وجوه الاحتمال المفترض تأويلها، لكن كل هذا لم يكن، وما كعب الأحبار بالذي يحاول أن يوهن من عقيدة المسلمين – الصحابة – في ذلك العهد المتقدم وهو قد أسلم – على الأصح – في خلافة عمر – رضي الله عنه – وسكن المدينة، وروي عنه، وشارك في غزو الروم في خلافة عمر – رضي الله عنه – وعمر كان عبقريا ملهما، فلا يعقل أن يساكن كعبا في المدينة، ويصاحبه ويكتبه في جيش المسلمين لغزو الروم، وهو مخدوع فيه وفي إسلامه.
وقد روى له الإمام مسلم في صحيحه، وكذا أخرج أبو داود والترمذي والنسائي له، وهذا دليل على أن كعبا كان ثقة غير متهم عند هؤلاء جميعا؛ وتلك شهادة كافية لرد أي شبهة تلتصق بهذا الحبر الجليل [2].
فلا يعقل أن يكون كعب الأحبار قد استغل تلك الفرصة ليلبس على الصحابة عقيدتهم، ولو حدث ذلك من كعب الأحبار لما انطوى ذلك على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكل هذا لم يكن؛ لأن الحديث الذي معنا انفرد بروايته أنس بن مالك، وليس فيه أي ذكر لكعب، وهذا ينفي عن الحديث إطلاقا أن يكون دسيسة إسرائيلية؛ لأنه لم يروه أحد من مسلمة أهل الكتاب…
ومما سبق يتبين أن الحديث صحيح رواه الإمام البخاري، والحجة قائمة على العمل بهذا الحديث، وعلى جواز التوسل بدعاء الصالحين.
ثانيا. استسقاء عمر بالعباس – رضي الله عنهما – من باب التوسل الجائز بدعاء الصالحين، وليس فيه أي شيء من الشرك:
أما قولهم: إن ذلك التوسل هو من الشرك الذي كانت عليه الناس في الجاهلية، فهذا زعم باطل فاسد، وإن دل على شيء فإنما يدل على جهلهم بمعنى الشرك؛ لذلك كان لزاما علينا أن نصحح مفهوم الشرك لدى هؤلاء حسب ما يقرره الإسلام.
فالشرك لغة: “الشركة والشركة سواء: مخالطة الشريكين. يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا… وشاركت فلانا: صرت شريكه[3]، وشرك فلانا في الأمر: كان لكل منهما نصيب منه، فكل منهما شريك للآخر”[4].
أما الشرك اصطلاحا: فهو اتخاذ الند مع الله تعالى، سواء أكان هذا الند في الربوبية أم في الألوهية أم في الأسماء والصفات، أي: جعل شريك مع الله في التوحيد، ولذا يكون الشرك ضد التوحيد، كما أن الكفر ضد الإيمان، قال عز وجل: )فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)( (البقرة)[5].
وهذا هو معنى الشرك في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فهل الحالة التي ذكرناها في توسل عمر – رضي الله عنه – بالعباس – رضي الله عنه – شيء من هذه الأمور الشركية؟ كلا، فهذا باب وذاك باب آخر.
ولنثبت أنه ليس في توسل عمر بالعباس – رضي الله عنهما – أي لون من ألوان الشرك، فسنذكر حقيقة توسل الجاهليين بالأصنام؛ لندرك أنه لا مقارنة بين فعل عمر – رضي الله عنه – وما كان عليه أولئك القوم من الشرك.
قال تعالى: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (3)( (الزمر).
قال الحافظ ابن كثير: “قال قتادة في قوله تبارك وتعالى: )ألا لله الدين الخالص(، شهادة أن لا إله إلا الله، ثم أخبر – سبحانه وتعالى – عن عباد الأصنام من المشركين أنهم يقولون: )ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى( أي: إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة؛ ليشفعوا لهم عند الله – سبحانه وتعالى – في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمور الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به، قال قتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد: )إلا ليقربونا إلى الله زلفى( أي: ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: “لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك”، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردها والنهي عنها والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه”[6].
قال الطاهر ابن عاشور: )والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (3)( (الزمر). عطف على جملة )ألا لله الدين الخالص( لزيادة تحقيق معنى الإخلاص لله في العبادة وأنه خلوص كامل لا يشوبه شيء من الإشراك، ولا إشراك الذين زعموا أنهم اتخذوا أولياء وعبدوهم حرصا على القرب من الله يزعمونه عذرا لهم؛ فقولهم من فساد الوضع وقلب حقيقة العبادة بأن جعلوا عبادة غير الله وسيلة إلى القرب من الله، فنقضوا بهذه الوسيلة مقصدها وتطلبوا القربة بما أبعدها، والوسيلة إذا أفضت إلى إبطال المقصد كان التوسل بها ضربا من العبث”[7].
إذن هؤلاء الجاهليون كانوا يعمدون إلى تلك الأصنام التي صنعوها لعباد صالحين، كاللات والعزى ومناة وود وسواع ويغوث، أو يتخذون أصناما على صور الملائكة في ظنهم، ثم يقصدونها ببعض العبادات كالنذر والذبح والقرابين، كل ذلك من أجل أن تقربهم تلك الأصنام إلى الله، وذلك التوسل ممنوع غير مشروع وهو شرك في العبودية ينفي الإيمان عن صاحبه.
- فهل كان توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما على تلك الكيفية السابقة؟
لم يكن توسل عمر – رضي الله عنه – على هذه الكيفية أبدا، بل هو توسل مشروع ومندوب إليه بشهادة القرآن والسنة وإجماع السلف، وجدير بالذكر هنا أن نبين معنى الاستسقاء في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة.
قال ابن منظور: “واستقى الرجل واستسقاه: طلب منه السقي، وفي الحديث خرج يستسقي فقلب رداءه، وتكرر ذكر الاستسقاء في الحديث، وهو استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد. يقال استسقى، وسقى الله عباده الغيث، وأسقاهم، والاسم السقيا، بالضم. واستسقيت فلانا إذا طلبت منه أن يسقيك[8].
وعلى هذا فإن المفهوم من الأثر: أن الصحابة كانوا على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يذهبون إليه ويطلبون منه أن يدعو لهم الله أن يسقيهم، فلما مات توجهوا إلى العباس – رضي الله عنه – أن يتوجه إلى الله سائلا إياه أن يسقي المؤمنين، وهذا مقتضى اللفظة التي خرجت من فم أنس بن مالك رضي الله عنه «إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان إذا قحطوا استسقى بالعباس». أي: طلب منه أن يستسقي لهم.
قال ابن حجر: “الاستسقاء لغة: طلب سقي الماء من الغير للنفس أو الغير، وشرعا: طلبه من الله عند حصول الجدب على وجه مخصوص”[9].
وليس هذا ببعيد عن قول الحق – سبحانه وتعالى – في كتابه عن موسى عليه السلام: )وإذ استسقى موسى لقومه( (البقرة: ٦٠)، فالاستسقاء هنا طلب السقيا من موسى لقومه، ولا تكون سقيا إلا من جفاف، وامتناع القطر من السماء.
إذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لما توجه إليه الناس في عام الرمادة وهو العام الثامن عشر من الهجرة يشكون إليه ما أصابهم من القحط، ويسألونه بوصفه أميرا للمؤمنين أن يجمع الناس على صلاة الاستسقاء، فجمعهم عمر – رضي الله عنه – ليدعو الله بهم في جماعة حتى ينزل الله الغيث، كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يفعل، ثم دعا عمرـ رضي الله عنه – بما يشاء، وبعد الدعاء أمر العباس – رضي الله عنه – أن يستسقي، والألف والسين والتاء في أول كل فعل للطلب، ومعنى (يستسقي): يطلب من الله – عز وجل – أن ينزل المطر ويسقي الناس والأرض والحيوانات، والعباس قد فهم ذلك ووعاه، والناس قد فهموا حديث عمر – رضي الله عنه – على هذا النحو وأدركوه[10].
لم يكن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما ليستسقي لهم توسلا بالجاه أو بالذات، بل كان بطلب الدعاء، ولم يكن في غيابه بل في حضوره.
وتظهر حقيقة التوسل التي قام بها عمر – رضي الله عنه – في عهده على أنها فعل معروف مارسه الصحابة من قبل، ولم يكن فعل عمر شيئا جديدا على الصحابة بل كانوا يفعلونه في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد كانوا يطلبون السقيا والدعاء من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ظروف كثيرة منها:
- عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – يذكر «أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائم يخطب، فاستقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائما، فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت…» فذكره[11].
وهذه حالة من حالات التوسل إلى الله – سبحانه وتعالى – أن يتوجه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ويطلب منه الدعاء.
- وروي أن رجلا ضريرا أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «يا نبي الله ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت أخرت ذلك، فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت لك، قال: لا بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ وأن يصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – نبي الرحمة، يا محمد: إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى وتشفعني فيه وتشفعه في. قال: فكان يقول هذا مرارا، ثم قال بعد أحسب أن فيها أن تشفعني فيه، قال: ففعل الرجل فبرأ»[12].
وهذا الحديث صريح في جواز التوسل إلى الله بدعاء الصالحين، ومن القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضا. ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه.
وبناء على ذلك فحديث توسل عمر – رضي الله عنه – السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها، ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر: «كنا نتوسل إليك بنبينا. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا» – شيئا محذوفا لابد له من تقدير، وهذا التقدير إما أن يكون: كنا نتوسل إليك بـ (جاه) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (جاه) عم نبينا، أو على تقدير: كنا نتوسل إليك بـ (دعاء) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (دعاء) عم نبينا. ولابد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء، ولكي نعرف أي التقديرين صواب لابد من اللجوء إلى السنة لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ترى هل كانوا إذا أجدبوا وقحطوا قبع كل منهم في داره، أو في مكان آخر أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم دعوا ربهم قائلين: اللهم بنبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – وحرمته عندك ومكانته لديك اسقنا الغيث، مثلا، أم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم (ذاته) فعلا ويطلبون منه أن (يدعو) الله تعالى لهم فيحقق – صلى الله عليه وسلم – طلبتهم ويدعو ربه – سبحانه وتعالى – ويتضرع إليه حتى يسقوا؟
أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقا في السنة النبوية الشريفة وفي عمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولا يستطيع أحد أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي – صلى الله عليه وسلم – ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون. بل الأمر الذي نجده بكثرة في كتب السنة هو الأمر الثاني؛ إذ تبين أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي – صلى الله عليه وسلم – إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه – صلى الله عليه وسلم – ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى (بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم) ليس غير.
ويرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: )ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64)( (النساء).
وقد ذكرنا أمثلة على ذلك سابقا كمجيء الأعرابي إلى المسجد والنبي – صلى الله عليه وسلم – يخطب، وأيضا حديث الضرير.
وهذه الأحاديث وأمثالها مما وقع في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وزمن أصحابه الكرام رضوان الله عليهم تبين بما لا يقبل الجدال أو المماراة أن التوسل بالنبي – صلى الله عليه وسلم – أو بالصالحين – الذي كان عليه السلف الصالح هو مجيء المتوسل إلى المتوسل به ليطلب منه أن يدعو له الله سبحانه ليحقق طلبه، فيستجيب هذا له، ويستجيب من ثم الله سبحانه وتعالى.
وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس وفي استعمالهم، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس أو موظف مثلا فإنه يبحث عمن يعرفه، ثم يذهب إليه ويكلمه ويعرض عليه حاجته، فيفعل وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسئول فيقضيها له غالبا.
فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم، وما يزال، فإذا قال أحدهم: إني توسلت إلى فلان، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته ليحدث بها الأول، ويطلب منه قضاءها، وقال له: بحق فلان (الوسيط) عندك ومنزلته لديك، اقض لي حاجتي.
وهكذا فالتوسل إلى الله – عز وجل – بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به – سبحانه وتعالى – وهذا هو بالتالي معنى قول عمر رضي الله عنه: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا» أي: كنا إذا قل المطر نذهب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ونطلب منه أن يدعو لنا الله جل شأنه.
ومما يؤكد هذا ويوضحه تماما قول عمر رضي الله عنه: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) أي: أننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي – صلى الله عليه وسلم – وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا – سبحانه وتعالى – ليغيثنا، وقد عدل عمر – رضي الله عنه – عن التوسل بالنبي – صلى الله عليه وسلم – إلى التوسل بعمه العباس – رضي الله عنه – مع أن العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر أمام شأن النبي – صلى الله عليه وسلم – ومقامه؛ وذلك لأن التوسل بالنبي – صلى الله عليه وسلم – غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه – صلى الله عليه وسلم – ويشرحوا له حالهم ويطلبوا منه أن يدعو لهم ويؤمنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى فأنى لهم أن يحظوا بدعائه – صلى الله عليه وسلم – وشفاعته فيهم وبينهم وبينه كما قال الله عز وجل: )ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100)( (المؤمنون).
لذلك لجأ عمر – رضي الله عنه – الذي صحب النبي – صلى الله عليه وسلم – ولازمه في أكثر أحواله وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواضع عدة لجأ إلى توسل ممكن، فاختار العباس – رضي الله عنه – لقرابته من النبي – صلى الله عليه وسلم – من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية أخرى، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا[13].
ومما يؤكد أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما كان توسلا مشروعا قول الإمام الألوسي تعقيبا على حديث أنس رضي الله عنه: “إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام، بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح؛ فمعناه في لغة الصحابة: أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه: أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه، وهذا هو محل النزاع وقد علمت الكلام فيه.
وجعل من الإقسام غير المشروع قول القائل اللهم أسألك بجاه فلان؛ فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك[14].
وقال الدكتور محمد جميل زينو: “هذا الحديث دليل على أن المسلمين كانوا يتوسلون بالرسول – صلى الله عليه وسلم – في حال حياته يطلبون الدعاء منه – صلى الله عليه وسلم – لنزول المطر، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى لم يطلبوا منه الدعاء، بل طلبوا من العباس – رضي الله عنه – عم النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو حي فقام العباس – رضي الله عنه – يدعو الله لهم[15].
وقال الشيخ أبو بكر الجزائري: “إن توسلهم – رضوان الله عليهم – يقصد الصحابة – بنبيهم – صلى الله عليه وسلم – كان بطلبهم منه أن يدعو الله لهم بالغيث، فيدعو فيستجيب الله دعوته ويسقيهم، كما قد حصل مرارا، لا أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بذات النبي – صلى الله عليه وسلم – أو بجاهه – صلى الله عليه وسلم – فيقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبيك، أو بجاه نبيك، والنبي – صلى الله عليه وسلم – غائب عنهم، ولم يدع الله تعالى لهم، إذ لو كان الأمر هكذا لما توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، وإنما كان يقول: اللهم إنا نتوسل إليك بنبيك أو بجاه نبيك فاسقنا، لم يقل عمر – رضي الله عنه – هذا؛ لأنه يعلم أن التوسل بالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان بدعائه – صلى الله عليه وسلم – لهم، ولما توفي – صلى الله عليه وسلم – ولم يبق ليدعو لهم، توسلوا بالعباس – رضي الله عنه – ليدعو الله تعالى لهم، فكان – رضي الله عنه – يدعو، ويستجيب الله له فيسقون ومن هنا كان من الجائز المشروع أن يقدم المسلمون مؤمنا صالحا يدعو لهم عند الحاجات”[16].
وبذلك يتبين لنا حقيقة التوسل الذي قام به عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بطلب الدعاء من العباس – رضي الله عنه – عم النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنه كان في حياته وفي حضوره، وأن يدعو لهم، ولم يتوسلوا بجاهه أو بذاته، وفي ذلك اقتداء بما كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الاستشفاع إليه والتوسل به في حوائجهم ليدعو الله لهم، ولم ينكره عليهم.
وقد وقع ذلك في حوادث ووقائع كثيرة مما يؤيد جواز التوسل بدعاء الصالحين في حضورهم أثناء حياتهم، وهذا يرد على الذين يجيزون التوسل بالأموات الصالحين؛ لأنه لو كان جائزا لما ترك عمر – رضي الله عنه – التوسل بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وهو ميت، وتوسل بعمه العباس – رضي الله عنه – وعمر – رضي الله عنه – وما أدراك ما عمر في الاتباع والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
وذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم كانت إذا نزلت بهم الشدائد أو أرادوا دعاء الله لكشف الضر أو لطلب الرحمة؛ لا يقصدون شيئا من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غير الأنبياء، ولم يتوجهوا بالدعاء أبدا عند قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى أنه لما مات – صلى الله عليه وسلم – وأصابهم الجدب عام الرمادة في خلافة عمر – رضي الله عنه – وكانت شدة عظيمة أخذوا العباس – رضي الله عنه – فتوسلوا به بدلا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يأتوا إلى قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعون عنده ولا استسقوا به ولا توسلوا به، وكذلك في الشام لم يذهبوا إلى ما فيها من القبور، بل استسقوا بمن فيهم من الصالحين، ومعلوم أنه لو كان الدعاء عند القبور والتوسل بالأموات مما يستحب لهم، لكان التوسل بالنبي – صلى الله عليه وسلم – أفضل من التوسل بالعباس وغيره[17].
وعلى هذا فلا يجوز التوسل بمن مات لا صالحا ولا طالحا، ولا نبيا ولا وليا.
ومما سبق يتأكد أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما هو من قبيل التوسل المشروع في الإسلام، ولا تشوبه أية شائبة شرك؛ فلو كان توسل عمر – رضي الله عنه – كتوسل الجاهليين وشركهم، لكان على عمر أن يلجأ إلى قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – ويطلب منه السقيا، لكن الذي حدث خلاف ذلك، فقد قاس – رضي الله عنه – توسله بالعباس – رضي الله عنه – على استسقائهم – أي الصحابة – بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في حياته، وطلب الدعاء منه: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» فيسقون.
وعرفنا سابقا أن التوسل في الحديث كان بطلب الدعاء من العباس رضي الله عنه – وهو حاضر – أن يدعو الله لهم بطلب السقيا، فهو من التوسل الجائز بدعاء الصالحين لا غير.
ومما سبق ذكره يتبين أن توسل عمر – رضي الله عنه – بالعباس – رضي الله عنه – كان بطلب الدعاء لهم أن ينزل الله عليهم الغيث في ذلك العام المجدب، وكان في حضوره وليس في غيابه، وفي حياته لا بعد موته وبدعائه لا بجاهه، وكان قياسا من عمر – رضي الله عنه – على توسل الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي – صلى الله عليه وسلم – بالدعاء والسقيا، وليس في ذلك الفعل أي لون من ألوان الشرك الذي كان يمارسه الجاهليون في عبادتهم لله من حيث التقرب إلى أصنام – قد صنعوها بأيديهم للملائكة، أو لأناس صالحين – بالنذر والقرابين من أجل أن تتوسط إلى الله بإجابة طلبهم الذي يريدونه.
ثالثا. إن ما استشهد به المغرضون لتقوية زعمهم مما نقلوه عن صاحب المغني لا يصلح دليلا لتقوية مرادهم:
وقبل عرض أدلة بطلان الاستدلال بهذا القول، نود أن نعرض هذا القول كما قاله ابن قدامة نفسه.
يقول ابن قدامة في المغني بعد ما عرض لما يستحب في دعاء الاستسقاء مما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم:
“ويستحب أن يستفتح الخطبة بالتكبير، كخطبة العيد، ويكثر من الاستغفار والصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – ويقرأ كثيرا: )فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السماء عليكم مدرارا (11)( (نوح) وسائر الآيات التي فيها الأمر به، فإن الله تعالى وعدهم بإرسال الغيث إذا استغفروه.
وعن عمر بن عبد العزيز، أنه كتب إلى ميمون بن مهران يقول: “قد كتبت إلى البلدان أن يخرجوا إلى الاستسقاء إلى موضع كذا وكذا، وأمرتهم بالصدقة والصلاة، قال عز وجل: )قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15)( (الأعلى)، وأمرتهم أن يقولوا كما قال أبوهم آدم: )ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23)( (الأعراف)، ويقولوا كما قال نوح: )وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47)( (هود)”[18]… إلخ.
ومن خلال هذا العرض السابق نستنتج النتائج التالية:
- أن الاستغفار قد يكون استفتاحا من المسلمين قبل دعاء الاستسقاء، وقد يكون هو عماد الاستسقاء كما فعل عمر – رضي الله عنه – امتثالا لقوله تعالى: )استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السماء عليكم مدرارا (11)(.
- أن الصحابة والتابعين قد فهموا الاستسقاء حق الفهم كما علمهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولم يبتدعوا فيه، ولم يتوسلوا بذوات الصالحين، ولم يقفوا عند قبور الأولياء والصالحين ليتوسلوا بهم، بل توسلوا إلى الله تعالى بالدعاء والاستغفار والأعمال الصالحة، وتوسلوا أيضا بدعاء الصالحين واستغفارهم، فهم – رضي الله عنهم – كما يقول الإمام ابن تيمية: “إنما توسلوا بدعاء العباس كما كانوا يتوسلون بدعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – وهذا فعله عمر بين المهاجرين والأنصار عام الرمادة، ولم ينكره أحد، ولم يقل له: بل التوسل بذات النبي – صلى الله عليه وسلم – والإقسام به مشروع، فلم يعدل عن التوسل بالرسول إلى العباس؟ فلما أقروا عمر على ذلك ولم ينكره أحد علم أن ما فعله عمر وأصحابه معه هو المشروع دون ما يخالفه”[19].
ورغم اتفاق ما نقله ابن قدامه – من أن عمر خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار – مع فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته، ورغم صحة فعل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فإنه لا يصلح دليلا لتدعيم مراد هؤلاء المغرضين من زاويتين:
- لقد ذكر الشيخ الألباني هذا الأثر في (إرواء الغليل) وحكم عليه بالضعف، وبالتالي فلا يصلح مستندا لهذه القصة التي يحكيها هؤلاء المغرضون، وعلى العكس من ذلك، فإن ضعف هذا الأثر ليدل بوضوح على بطلان ما بني عليه من أقوال تخالف ما ورد في صريح وصحيح السنة النبوية[20].
- إن هذا الأثر إذا صح عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فإنه لا يقدح في تصرفه وتوسله، كما لا يخالف صريح وصحيح السنة النبوية، وذلك لأنه لا يعد أن يكون نوعا من التوسل المشروع ومثالا من أمثلته، فما المانع من أن يكون عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد توسل مرة بالاستغفار، ومرة أخرى بدعاء العباس – رضي الله عنه – فلا تعارض بين النوعين، كما أنه لا يوجد دليل على أن عمر – رضي الله عنه – رجع عن الاستسقاء بدعاء العباس – رضي الله عنه – لأجل الاستسقاء بالاستغفار، فكلاهما محمود في الشرع ولم يرد ما يذمه أو يحرمه.
الخلاصة:
- إن حديث استسقاء عمر بالعباس – رضي الله عنهما – حديث صحيح رواه الإمام البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – وليس من وضع كعب الأحبار، ليفسد على الصحابة عقيدتهم كما يزعمون؛ لأنه ليس له ذكر في الحديث من قريب أو من بعيد، وليس ذلك مقتضى خلقه وعدالته.
- إن الاستسقاء المقصود في الحديث معناه: طلب السقيا، ومضمونه: التوجه إلى العباس – رضي الله عنه – ليدعو الله لهم متوسلا إلى الله؛ ليرفع عنهم الجدب وينزل عليهم المطر.
- لقد توسل الصحابة – رضي الله عنهم – بدعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – في حياته، مثل مجيء الأعرابي له في المسجد وهو يخطب، وطلب السقيا منه – صلى الله عليه وسلم – وأيضا مجيء الأعمى إليه طالبا الدعاء منه بالشفاء وغيرهما، وهذا يفيد جواز التوسل بهذا الشكل على هذا الأساس.
- إن توسل عمر بالعباس – رضي الله عنهما – كان توسلا بدعائه، ولم يكن بجاهه أو بذاته، ولم يلجئوا إلى قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – داعين الله عنده بنبيه أن يغيثهم، لكن بدعاء العباس، وهم يؤمنون خلفه، ولو لم يكن ذلك جائزا لما فعله عمر، ولا أقره عليه الصحابة.
- ليس في توسل عمر بالعباس – رضي الله عنهما – أدنى شبهة ترمي إلى الشرك الذي كان مطبوعا عليه أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتخذون أصناما من الأحجار لصالحين ويتقربون إليهم بالنذور والقرابين؛ ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله، وتقضي حاجاتهم، وفعل عمر – رضي الله عنه – عن هذا بعيد كل البعد، فهو من التوسل الجائز بدعاء الصالحين، وفعله اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
- إن ما استشهد به المغرضون من الأثر المروي عن عمر – رضي الله عنه – وفيه أنه خرج ليستسقي فلم يزد على الاستغفار – لا يصلح لهم دليلا على ضعف الأثر باستسقائه بالعباس – رضي الله عنه – وهذا الأثر قد ضعفه الألباني، وعلى فرض صحته فإنه لا يقدح في فعل عمر – رضي الله عنه – لأن توسل عمر بالاستغفار لا يتعارض مع التوسل بدعاء العباس، فكلاهما محمود؛ وكلاهما فعله عمر – رضي الله عنه – ولم يرجع عمر – رضي الله عنه – عن التوسل بدعاء العباس – رضي الله عنه – إلى التوسل بالاستغفار – كما يزعمون – بل توسل بالاستغفار، وتوسل أيضا بدعاء العباس، ولم يقع بذلك في الشرك؛ لأنه توسل بدعاء العباس، لا بذات العباس رضي الله عنه.
(*) ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط1، 1417هـ/ 1996م. دفاع عن السنة، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1428هـ/ 2007م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاستسقاء، باب: سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، (2/ 574)، رقم (1010).
[2]. الإسرائيليات في التفسير والحديث، محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص75، 76 بتصرف.
[3]. لسان العرب، ابن منظور، مادة (شرك).
[4]. معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، مادة (شرك)، (2/ 1193).
[5]. الإيمان حقيقته. خوارمه. نواقضه عند أهل السنة والجماعة، عبد الله عبد الحميد الأثري، مدار الوطن للنشر، الرياض، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص236.
[6]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، (4/ 45).
[7]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار ابن سحنون، تونس، د. ت، (23/ 321).
[8]. لسان العرب، ابن منظور، مادة (سقي).
[9]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (2/ 571).
[10]. ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط1، 1417هـ/ 1996م، ص109 بتصرف.
[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاستسقاء، باب: الاستسقاء في المسجد الجامع، (2/ 581)، رقم (1013).
[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث عثمان بن حنيف، رقم (17280). وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
[13]. التوسل أنواعه وأحكامه، محمد ناصر الدين الألباني، تحقيق: محمد عيد العباسي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، ص52: 57.
[14]. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (6/ 127).
[15]. توجيهات إسلامية لإصلاح الفرد والمجتمع، محمد جميل زينو، وزارة الشئون والأوقاف والدعوة والإرشاد، السعودية، ط1، 1418هـ، ص52.
[16]. عقيدة المؤمن، أبو بكر جابر الجزائري، دار الكتب السلفية، القاهرة، 1405هـ/ 1985م، ص117، 118.
[17]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (27/ 154) بتصرف.
[18]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، مكتبة هجر، القاهرة، ط2، 1412هـ/ 1992م، (3/ 343)
[19]. قاعدة في الوسيلة، ابن تيمية، تحقيق: علي بن عبد العزيز بن علي الشبل، دار العاصمة، الرياض، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص66، 67.
[20]. انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، (3/ 141)، رقم (673).