الطعن في حديث “حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج”
وجها إبطال الشبهة:
1) إن حديث «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» حديث صحيح ثابت في كتب السنة المتعددة؛ فقد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، والإمام الترمذي وأبو داود في سننيهما، وذكره الطحاوي في شرح مشكل الآثار، وصححه الألباني وشعيب الأرنؤوط أيضا. كما أن أبا كبشة من الرواه الثقات كما أجمع العلماء والمحدثون.
2) إن جملة: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»صحيحة ثابتة من ناحية المتن؛ لأنها تدل على إباحة النبي – صلى الله عليه وسلم – الحديث عن بني إسرائيل بعد أن كان قد نهى عن ذلك؛ خشية الفتنة، قبل استقرار الأحكام التشريعية.
التفصيل:
أولا. صحة حديث:«حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» من ناحية السند:
لقد ثبتت صحة حديث: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، فقد رواه الإمام البخاري في صحيحه، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، أخبرنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية عن أبي كبشة عن عبد الله بن عمرو أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال… ثم ذكر الحديث السابق[1].
وقد رواه الإمام الترمذي في سننه عن: محمد بن يحيى، عن محمد بن يوسف عن ابن ثوبان: هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الحديث، وقال: حديث حسن صحيح[2].
وأخرجه الترمذي من طريق آخر عن محمد بن بشار، حدثنا أبو عاصم عن الأوزاعي عن حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الحديث، وقال: حديث صحيح[3].
وقد ذكر الحديث – أيضا – الإمام الطحاوي، فقال: حدثنا يونس، حدثنا بشر بن بكر، وحدثنا الربيع المرادي، حدثنا بشر عن الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، حدثني أبو كبشة السلولي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ثم ذكر الحديث [4].
وأخرجه أبو داود في سننه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثني علي بن مسهر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» وقال: حديث صحيح[5].
وبهذا يتبين لنا أن الحديث المذكور صحيح؛ فقد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، والترمذي، وأبو داود في سننيهما، والطحاوي في شرح مشكل الآثار، والإمام أحمد في مسنده، وكلها عن أبي كبشة.
أما إذا تتبعنا أبا كبشة السلولي الشامي – وقد زعموا أنه واضع جملة “وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج” في الحديث الذي معنا، فإن صاحب التهذيب يقول عنه: “أبو كبشة السلولي، بفتح المهملة وتخفيف اللام، الشامي، ثقة، من الثانية”[6].
أما صاحب تهذيب الكمال فيقول عنه: “أبو كبشة السلولي الشامي، روى عنه: حسان بن عطية، وربيعة بن يزيد، ويونس بن سيف الكلاعي، وأبو سلام الأسود.
وذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام…
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: شامي، تابعي، ثقة… روى له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي…
وأخبرنا أبو إسحاق ابن الدرجي قال: أنبأنا أبو جعفر الصيدلاني في جماعة، قالوا: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله قالت: أخبرنا أبو بكر بن ريذة.
قالا: أخبرنا أبو القاسم الطبراني، قال: حدثنا أبو مسلم الكشي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: فذكر الحديث…
وقال: رواه أحمد بن حنبل، والبخاري عن أبي عاصم فوافقناهما فيه بعلو[7]
إذن فإن أبا كبشة من الرواة الثقات، ولم يجرحه أحد من المحدثين والعلماء.
ثانيا. إباحة النبي – صلى الله عليه وسلم – الحديث عن بني إسرائيل بعد النهي عن ذلك:
إن قوله صلى الله عليه وسلم: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»؛ أي: لا ضيق عليكم في التحديث عنهم؛ لأنه كان تقدم منه – صلى الله عليه وسلم – الزجر عن الأخذ عنهم، والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار، وقيل: معنى قوله «لا حرج»: لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب، فإن ذلك وقع لهم كثيرا، وقيل: لا حرج في ألا تحدثوا عنهم؛ لأن قوله: أولا: «حدثوا» صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدم الوجوب، وأن الأمر فيه للإباحة بقوله: «ولا حرج»: أي في ترك التحديث عنهم.
وقيل: المراد رفع الحرج عن حاكي ذلك؛ لما في أخبارهم من الألفاظ الشنيعة نحو قولهم: )فاذهب أنت وربك فقاتلا( (المائدة: ٢٤(، وقولهم: )اجعل لنا إلها( (الأعراف:١٣٨)، وقيل: المراد ببني إسرائيل أولاد إسرائيل نفسه، وهم أولاد يعقوب، والمراد حدثوا عنهم بقصتهم مع أخيهم يوسف، وهذا أبعد الأوجه. وقال مالك: المراد جواز التحديث عنهم بما كان من أمر حسن، أما ما علم كذبه فلا. وقيل: المعنى: حدثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصحيح. وقيل: المراد جواز التحديث عنهم بأي صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ لتعذر الاتصال في التحديث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية، فإن الأصل في التحدث بها الاتصال، ولا يتعذر ذلك لقرب العهد.
وقال الشافعي: من المعلوم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى: حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم، وهو نظير قوله: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم[8]، ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه»[9].
ويؤكد ذلك صاحب شرح مشكل الآثار فيقول: فتأملنا ما في هذا الحديث من قوله – صلى الله عليه وسلم – لأمته: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»، فكان ذلك عندنا إرادة منه أن يعلموا ما كان فيهم من العجائب التي كانت فيهم، ولأن أمورهم كانت الأنبياء تسوسها… فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي…»[10].
قال أبو جعفر: وكان فيما يتحدثون به في ذلك ما عسى أن يعظهم، ويحذرهم من الخروج عن التمسك بدين الله، كما خرجت عنه بنو إسرائيل، فيعاقبهم بمثل ما عاقبهم به، وكان مع ذلك يحدثهم منها، وعن عمران بن حصين قال: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل، وما يقوم إلا لعظم صلاة»[11].
وقال أبو جعفر: وكان قوله عقيبا لما أمرهم به من الحديث عن بني إسرائيل “ولا حرج”؛ أي: ولا حرج ألا تحدثوا عنهم[12].
أما حديث: «حدثوا عني ولا حرج» فهذا جزء من حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، قال: حدثنا هداب بن خالد الأزدي، حدثنا همام، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي، قال همام: أحسبه قال متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار»[13].
وبهذا يتبين أن متن الحديث صحيح لا غبار عليه؛ فقد أجاز النبي – صلى الله عليه وسلم – التحديث عن بني إسرائيل بعدما نهى عنه أولا، خوفا من الفتنة قبل استقرار الأحكام الإسلامية؛ فإن الحديث عن بني إسرائيل فيه من العبر والعظات ما فيه، وكذلك فيه معرفة أخبارهم وما أصابهم بسبب عصيانهم لله ورسله. وأما حديث«حدثوا عني ولا حرج» فإنه حديث صحيح عند الإمام مسلم، ولكنه يستدل به على نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكتابة في بادئ الأمر؛ خوفا من اختلاط السنة بالقرآن، ولا ينافي إباحة النبي – صلى الله عليه وسلم – التحديث عن بني إسرائيل.
الخلاصة:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» جزء من حديث صحيح يقول: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، وهذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، والترمذي، وأبو داود في السنن، والإمام أحمد في مسنده، وذكره الطحاوي في شرح مشكل الآثار، وصححه الألباني في كتبه.
- إن سند هذا الحديث لا إشكال فيه، وأما أبو كبشة – الذي زعموا أنه واضع قوله: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» – فإنه ثقة تابعي كما قال العجلي ويعقوب بن سفيان، ولم يجرحه أحد قط، فقد روى له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
- إن متن الحديث صحيح؛ لأنه يتحدث عن إباحة النبي – صلى الله عليه وسلم – الحديث عن بني إسرائيل، وكان قد نهى قبل ذلك عن الحديث عنهم، خوفا من الفتنة في بادئ الأمر، ثم أباح لهم بعد ذلك الحديث عنهم للعبرة والعظة مما أصابهم نتيجة عصيانهم لله ورسله.
- إن الحديث الذي جاء فيه: «وحدثوا عني ولا حرج» قد أخرجه الإمام مسلم في معرض حديثه عن نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكتابة في بادئ الأمر؛ خوفا من اختلاط السنة بالقرآن الكريم وهذا الحديث أخرجه مسلم من طريق يختلف عن الحديث الآخر الذي أخرجه البخاري وغيره من أئمة الحديث، وبهذا فاختلاف الحديث في مسلم عن غيره لا يطعن في صحة أحدهما؛ لأنهما حديثان مختلفان.
(*) دور السنة في إعادة بناء الأمة، جواد موسى محمد عفانة، جمعية عمال المطابع التعاونية، الأردن، ط1، 1419هـ/ 1999م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، (6/ 572)، رقم (3461).
[2]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، (7/ 360)، رقم (2806). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2669).
[3]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، (7/ 360)، رقم (2807).
[4]. صحيح: أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار، باب: بيان مشكل ما روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، (1/ 125)، رقم (133). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على مشكل الآثار.
[5]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: العلم، باب: الحديث عن بني إسرائيل،(10/ 69)، رقم (3657). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3662).
[6]. تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني، دار العاصمة، السعودية، ط1، 1416هـ.
[7]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (34/ 216،215).
[8]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث أبي نملة الأنصاري، رقم (17264). وحسنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[9]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (6/ 576،575).
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، (6/ 571)، رقم (3455). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، (7/ 2906)، رقم (4691).
[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند البصريين، حديث عمران بن حصين، رقم (19139). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[12]. شرح مشكل الآثار، الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، (1/ 126، 127) بتصرف.
[13]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، (9/ 4089)، رقم (7375).