الطعن في ضبط قتيبة بن سعيد وإتقانه(*)
وجها إبطال الشبهة:
1) إن سيرة الإمام قتيبة – رحمه الله – وثناء العلماء عليه وتوثيقهم له لخير شاهد على ضبطه وإتقانه، كما يشهد بذلك – أيضا – كتب الصحاح الزاخرة بالأخذ عنه.
2) لم يرو قتيبة بن سعيد هذا الحديث عن خالد المدائني بل رواه في حضور خالد عن الليث مباشرة، ومما يؤكد ذلك قبول العلماء لهذا الحديث وتصحيحهم له، ولو رواه عن خالد ما قبله العلماء ولا حكموا بصحته لتركهم خالد المدائني.
التفصيل:
أولا. توثيق أئمة الجرح والتعديل لقتيبة وثناؤهم عليه:
إن قتيبة قد روى عنه جم غفير من أهل العلم، منهم البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي في كتبهم فأكثروا وروى ابن ماجه عن محمد بن يحيى الذهلي عنه، وعن ابن أبي شيبة عنه. وروى الترمذي أيضا عن رجل عنه، وروى النسائي عن زكريا الخياط عنه. وروى عنه يعقوب بن شيبة، والحسن بن عرفة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وإبراهيم الحربي، والحسن بن سفيان، وأبو العباس السراج وخلق آخرهم موتا الواعظ أبو عبد الله محمد بن الفضل بن العباس البلخي الزاهد المتوفى سنة سبع عشرة وثلاثمائة، والذي روى عنه أبو بكر بن المقرئ في “معجمه” بالإجازة[1][2].
ومن المعروف بداهة أن البخاري ومسلما لم يرويا إلا عن ثقة ضابط، ولو كان غافلا كما يدعي المدعون ما رويا عنه؛ إذ لن يكون عندهما متقنا، وعليه فإن أخذ هؤلاء الأفاضل عن قتيبة يعد من أكبر الأدلة وأسطع البراهين على ضبطه وإتقانه.
ولم يقف الأمر عند الأخذ عنه – رحمه الله – من قبل هؤلاء الأعلام، بل وصل الأمر إلى “رحلة الإمام النسائي إليه في سنة ثلاثين ومائتين، فأقام عنده سنة كاملة وكتب عنه شيئا كثيرا”[3].
ولعلنا ندرك فساد هذه الشبهة إذا عرفنا أن هؤلاء العلماء الذين أخذوا عن قتيبة ووثقوه وعدلوه، ردوا أحاديث خالد المدائني، فها هو أحمد بن حنبل يقول: “لا أروي عن خالد المدائني شيئا”، وقال البخاري: “تركه علي والناس”، وقال ابن راهويه: “كان كذابا”، وقال يعقوب بن شيبة: “خالد المدائني صاحب حديث غير متقن، متروك الحديث، كل أصحابنا مجمع على تركه…”، وقال الدارقطني: “ضعيف”[4].
وبهذا يتأكد لدينا أن هؤلاء الأئمة لا يأخذون إلا عن الثقة، وأنهم يجرحون المجروح ويذكرون علله كما هي، ولو ثبت أن قتيبة لم يكن ضابطا ما أخذ عنه هؤلاء العلماء الأفذاذ، ولا عدلوه ولا وثقوه.
ومما يدلل على ضبط قتيبة وسعة علمه وينفي عنه الغفلة ما قال أحمد بن جرير اللال عن قتيبة؛ إذ يقول: “قال لي أبي: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في النوم في يده صحيفة، فقلت: يا رسول الله ما هذه الصحيفة؟ قال: فيها أسامي العلماء. قلت: ناولني، أنظر فيها اسم ابني قال: فنظرت فإذا اسم ابني”[5].
وقال عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني: “قتيبة صدوق، وليس أحد من الكبار إلا وقد حمله، حدث عنه أحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وعباس العنبري، والحميدي بمكة”[6].
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: “وكان من المتقنين في الحديث والمتبحرين في السنن وانتحالها، كتب عنه أحمد، ويحيى، وخلف، وابن أبي شيبة، وأبو خيثمة، وأضرابهم من العراقيين [7].
وذكره أبو حاتم الرازي في كتابه “الجرح والتعديل” فقال:
“حدثنا عبد الرحمن، قال: سمعت أبي يقول: حضرت قتيبة بن سعيد ببغداد وقد جاءه أحمد بن حنبل فسأله عن أحاديث فحدثه، ثم جاءه أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير بالكوفة ليلة وحضرت معهما، فلم يزلا ينتخبان[8] عليه، وأنتخب معهما إلى الصبح”[9].
وها هو عمرو بن علي الفلاس يتحسر على أنه لم يحمل عن قتيبة قائلا: “مررت بمنى على قتيبة، وعباس العنبري يكتب عنه فجزته، ولم أحمل عنه، فندمت”[10]، فهل يندم عمرو بن علي على ذلك إلا إذا كان قتيبة ضابطا؟!
ومن خلال هذا العرض السريع ندرك مدى ما كان عليه قتيبة بن سعيد – رحمه الله – من الضبط والإتقان؛ لذلك فقد وثقه علماء الجرح والتعديل، وأثنوا عليه، ورحلوا إليه وأخذوا عنه، واحتجوا به، وهذا كله يؤكد بوضوح فساد ما ذهب إليه هؤلاء؛ إذ لو كان في الإمام قتيبة علة لما سكت العلماءعن ذكرها حسب منهجهم في الجرح والتعديل، والذي لا يحابون فيه أحدا، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم.
ثانيا.روى قتيبة هذا الحديث عن الليث، في حضور خالد المدائني ولم يروه عنه:
روى أبو داود في سننه قال: حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن معاذ بن جبل: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب» [11].
وروى الترمذي في جامعه قال: حدثنا قتيبة، أخبرنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن الطفيل عن معاذ بن جبل[12]…. فذكره.
يقول الإمام الألباني عن هذا الحديث: “أخرجه أبو داود، والترمذي، والدار قطني (151), والبيهقي (3/163)، وأحمد (5/241 -242)،(2/438) كلهم من طريق قتيبة بن سعيد حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن معاذ بن جبل مرفوعا. وقال أبو داود: ” لم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده؛ قلت: وهو ثقة ثبت فلا يضر تفرده لو صح؛ ولذلك قال الترمذي: “حديث حسن غريب تفرد به قتيبة، لا نعرف أحدا رواه عن الليث غيره “، وقال في مكان آخر: “حديث حسن صحيح”. قلت: هو الصواب. فإن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، وقد صححه ابن القيم وغيره، وأعله الحاكم وغيره بما لا يقدح فيه…، ورواه مالك عن أبي الزبير المكي عن أبي الطفيل به بلفظ: ” أنهم خرجوا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عام تبوك، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال: فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا”، ومن طريق مالك أخرجه مسلم (7/60)، وأبو داود (1206)، والنسائي (1/98)، والدارمي (1/356)، والطحاوي (1/95)، والبيهقي (3/162)، وأحمد (5/237)، وفي رواية مسلم (2/152) وغيره من طريق أخرى: «فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته»[13].
ولنا مع قوله: “رواه عن الليث” وقفة؛ إذ بهذه العبارة تهدم الشبهة من أساسها، ويسقط طعنهم في ضبط قتيبة؛ إذ يثبت أنه لم يرو هذا الحديث عن خالد المدائني المتروك – كما يدعي أصحاب هذه الشبهة – بل إنه رواه عن الليث، وليس في هذا موضع استدلال على شبهة، ولا اتهام لقتيبة، وهذه هي الحقيقة.
ولعل الأمر قد التبس على أصحاب هذه الشبهة؛ إذ إن قتيبة قد كتب هذا الحديث عن الليث في حضور خالد المدائني، فظنوا أنه أخذه عن المدائني أوحدث المدائني أن قتيبة قد أخذ عنه هذا الحديث، وهو ما لم يكن، ولن يكون؛ إذ كيف يكون الليث الإمام العظيم حاضرا ثم يأخذ قتيبة عمن دونه – المدائني – لاسيما أنه قد اشتهر بالضعف والتدليس على الشيوخ. لاشك أنه احتمال بعيد، لا يقول به عاقل، فضلا عن أرباب الفكر والعلم.
وقد ذكر المزي في تهذيبه عن محمد بن إسماعيل البخاري يقول: “قلت لقتيبة: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ قال: مع خالد المدائني. قال محمد بن إسماعيل: وكان خالد المدائني هذا يدخل الأحاديث على الشيوخ”[14].
ومن ناحية أخرى، فإن العلماء قد صححوا هذا الحديث كما مر وقبلوه عن قتيبة، ولو ثبت أنه أخذه عن خالد المدائني لما قبلوه؛ إذ إن خالدا هذا عندهم ضعيف ومتروك الحديث.
ولو صح كلام أصحاب هذه الشبهة، وهو أن الإمام قتيبة يكتب عن خالد المدائني “لدخلت العلة على أحاديث كثيرة من أحاديث قتيبة وليس على هذا الحديث فقط”[15]، ولردت أحاديثه تلك، وهذا ما لم يحدث.
فإذا ما تأملنا في إسناد قتيبة مع الإسناد المشهور وجدنا الإسناد المشهور متصلا مرفوعا لا يحتاج إلى تدخل من المدائني لوصله أو رفعه، وهذا هو المدخل عليه فما حكي عنه وهذا يدل على أنه لم يتدخل في إسناد قتيبة، هذا على فرض صحة ما ذكره أصحاب الشبهة[16].
إذا، ثبوت أن خالدا لم يتدخل في إسناد الحديث مع ثبوت صحة الحديث وإمامة قتيبة وفضله وأخذ العلماء عنه، تسقط هذه الشبهة من أساسها ولا يبقى لها أي صدى في أذهان العقلاء.
الخلاصة:
- لم يذكر أحد من علماء الجرح والتعديل أن في الإمام قتيبة غفلة، بل إنهم وثقوه، وأثنوا عليه خيرا، ومعلوم أنهم ما كانوا يحابون أحدا ولا يجاملونه في هذا المضمار، بل أخذوا عنه وارتحلوا إليه، فها هو النسائي – رحمه الله – يرحل إليه ويقيم عنده سنة كاملة، يكتب عنه شيئا كثيرا، هذا فضلا عن أخذ البخاري ومسلم عنه، رحمهم الله جميعا.فلو ثبت على قتيبة الغفلة ما قبله أحد من هؤلاء العلماء الأفذاذ.
- لقد صح هذا الحديث عند علماء السنة، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، وصححه من قبل ابن القيم وغيره، وإن كان أعله الحاكم وغيره، فقد أعلوه بما لا يقدح فيه، كما ثبت أن الإمام قتيبة لم يروه عن خالد المدائني، وإنما رواه عن الليث بن سعد، في حضور خالد، وهذا ما عليه أهل العلم الثقات، قال أبو داود: لا يروي هذا الحديث إلا قتيبة وحده.
- لو كان ما ادعاه هؤلاء صحيحا لردت أحاديث كثيرة من أحاديث قتيبة، وهذا ما لم يحدث، ولعل الأمر قد التبس على أصحاب هذه الشبهة؛ إذ إن قتيبة قد كتب هذا الحديث عن الليث في حضور خالد المدائني، فظنوا أنه قد أخذه عن المدائني، وكيف يكون في مجلس الليث ثم يأخذ عنه بإسناد نازل؛ فضلا عن ضعف خالد؟! لا شك أنه احتمال بعيد لا يقول به عاقل، وإذا عرضنا هذا الحديث على طريقة خالد المدائني؛ إذ كان يدخل على الشيوخ ويوصل الأسانيد، نجد أن إسناد قتيبة يتفق والإسناد المشهور دون تدخل من خالد المدائني.
وبهذا كله تسقط هذه الشبهة من أساسها وتثبت عدالة قتيبة وضبطه – رحمه الله – ويظهر تجني القوم الواضح عليه هداهم الله.
(*) نقد مجازفات الدكتور حمزة المليباري، أحمد بن صالح الزهراني، دار الإمام مالك، أبو ظبي، ط1، 1425هـ/2004م.
[1]. الإجازة: أن يأذن الشيخ لغيره بأن يروي عنه مروياته أو مؤلفاته، وكأنها تتضمن إخباره بما أذن له بروايته عنه، وشرطوا فيها أن يكون المجيز عالما بما يجيزه، معروفا بذلك، ثقة في دينه وروايته.
[2]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (11/15، 16).
[3]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (11/20).
[4]. لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: خليل بن محمد العربي، دار المؤيد، السعودية، ط1، 1416هـ/ 1996م، ( 3/220 ).
[5]. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (12/468،467).
[6]. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (12/468).
[7]. الثقات، ابن حبان، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، ط1، 1393هـ/ 1973م، (9/20).
[8]. الانتخاب: هو أن ينتقي التلميذ من أحاديث شيخه، ويختار منها.
[9]. الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (7/140).
[10]. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (12/468).
[11]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: صلاة السفر، باب: الجمع بين الصلاتين، ( 4/62)، رقم (1217). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (1080).
[12]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: السفر، باب: ما جاء في الجمع بين الصلاتين، (3/98)، رقم (551). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (553).
[13]. سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط4، 1405هـ/1985م، (1/263، 264).
[14]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (23/ 535).
[15]. نقد مجازفات الدكتور حمزة المليباري، أحمد بن صالح الزهراني، دار الإمام مالك، أبو ظبي، ط1، 1425هـ/2004م، ص342 .
[16]. نقد مجازفات الدكتور حمزة المليباري، أحمد بن صالح الزهراني، دار الإمام مالك، أبو ظبي، ط1، 1425هـ/2004م، ص344 بتصرف .