الطعن في عدل الله عز وجل؛ لإدخاله من لم تبلغه الدعوة النار
وجها إبطال الشبهة:
1) بلوغ الدعوة في الدنيا هو المعيار الذي يترتب عليه الحساب على الإيمان أو الشرك، وليس موطن الإنسان وبيئته؛ ثم إن من لم تبلغه دعوة نبي، يطلق عليهم “أهل الفترة”[1]، وهؤلاء يمتحنون في عرصات القيامة بأن يؤمروا باقتحام النار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن أبى عذب فيها.
2) منهج الإسلام هو منهج العدل والرحمة بالإنسانية جمعاء؛ فهو لا يحاسب أحدا إلا بعد أن يصل إليه أمر الله وبلاغه عن طريق الأنبياء والرسل.
التفصيل:
أولا. بلوغ الدعوة هو معيار الثواب والعقاب:
إن الادعاء بأن الذين يولدون في غير ديار الإسلام سيدخلون النار ادعاء مغرض ومناف للحقيقة، فلا هو من تعاليم الإسلام، ولا هو موجود في عقيدة المسلمين، وكذلك لم يقل به أحد من علماء المسلمين، ولا أئمتهم، ولا حتى ورد مثل هذا الادعاء في عقيدة أية فرقة من فرق الإسلام، فلا توجد قاعدة، أو حكم يقول: إن جميع هؤلاء سيذهبون إلى جهنم، ولكن القاعدة الأصلية المقررة تتمثل في: أن الذين سمعوا بدعوة رسولنا – صلى الله عليه وسلم – وشاهدوا النور الذي جاء به – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم أبوا وعاندوا وصموا أسماعهم عن هذه الدعوة، مثل هؤلاء سيكون مصيرهم إلى جهنم دون شك، ومن الحماقة التظاهر برحمة تفوق الرحمة الإلهية.
فأما من لم تبلغهم الدعوة في مجتمعات غير المسلمين، سواء كانت شرقية أم غربية، في عصرنا الحالي، أو العصور السابقة، هؤلاء جميعا حكمهم حكم “أهل الفترة” الذين لم تبلغهم دعوة نبي. فهم يمتحنون في عرصات القيامة فيؤمرون بأن يقتحموا النار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن أبى عذب فيها، وكذلك حكم الأطفال الذين ماتوا قبل البلوغ، والمجانين ونحوهم؛ لقوله سبحانه وتعالى: )وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء). وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعـد الرسـل وكان الله عزيـزا حكيمـا (165)( (النساء).
والآيات في ذلك كثيرة، لذلك ليس من الصحيح ادعاء أن الذين يعيشون في بلاد غير بلاد المسلمين ولم يؤمنوا يدخلون النار، وأن ذلك يتنافى مع العدالة الإلهية.
إن ما يجب معرفته، والإشارة إليه، والتنبيه عليه هو: أن من سمع بالقرآن، وعلم بنبوة رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – ولم يبحث عن صحة هذه النبوة، ولم يصرف أي جهد، أو تدقيق في هذا الموضوع، سيذهب إلى جهنم، ولكن من لم تتيسر له مثل هذه الفرصة، ونشأ في الظلام، وبقي في الظلام طوال حياته – مثل هؤلاء لا يلامون ولا يؤاخذون على الصحيح الراجح عند جمهور المسلمين.
فخلاصة الأمر إذن تكمن في بلوغ الدعوة وعدمه، فالدعوة إذا لم تبلغ رجلا فلا يكلف كما نكلف، وقد تطير لتصل إلى رجل في آخر العالم، فهذا هو المكلف.
والناس عند تلقيهم للدعوة التي تبلغهم أنواع؛ فمنهم من يتقبل وينصر ويأوي، فهذا من المسلمين، وإن كان يعيش في بلاد غير بلاد المسلمين، ومنهم من يرفض ويجابه الدعوة ويموت في سبيل ذلك، فهذا لا ينفعه شيء، حتى وإن كان ذا قربى وصلة دم مع نبي هذه الأمة محمد – صلى الله عليه وسلم – وإن عاش معهم في بلادهم.
المهم أن قضية مولد الإنسان ونشأته في بيئة معينة، سواء إسلامية، أم غير إسلامية، لا تتدخل في تحديد المصير. لكن هناك نقطة أخرى مهمة جدا يجب التنويه عليها، وهي أن الواقع يستبعد أن يكون هناك أناس لم تبلغهم دعوة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن انتشار دعوات الديانات في زماننا صار لا يحده أطر الزمان والمكان، بسبب التطور التقني الذي يجعل الداعي يدعو للدين في آخر أنحاء الأرض، وهو في بيته، فمن مجيب ومن ممتنع، ولا يستويان. فلا عذر لمن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يؤمن به، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار»[2] [3].
ثانيا. منهج الإسلام هو منهج العدل والرحمة بالناس جميعا:
من عظيم رحمة الله بعباده أنه لا يحاسب أحدا إلا بعد أن يصل إليه أمره وبلاغه عن طريق المرسلين، ومن لم تبلغه الدعوة، فالله لا يعذبه، قالى سبحانه وتعالى: )وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء).
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي حاكمة بأن الله لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، يهدي إلى الحق، ويردع عن الضلال، ويقيم الحجة، ويمهد الشرائع، ويبلغ دعوته. ولا فرق بين زمنه – صلى الله عليه وسلم – والأزمنة المتتالية من بعده، فمن لم تبلغه الدعوة، ولم يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فحكمه حكم “أهل الفترة”. وقد ورد في الحديث أنهم يمتحنون يوم القيامة، فعن الأسود بن سريع أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإسلام والصبيان يقذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعوه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار. فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما» [4].
يزيد على هذا أن أولاد المشركين إذا ماتوا صغارا فقد ورد النص أنهم «دعاميص الجنة»[5] [6] وقد ذكر ابن حجر أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن أبى عذب. وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في كتاب “الاعتقاد” أنه “المذهب الصحيح” [7].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا، وكما أنه لا يعذبه، فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة. ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب الله بالنار أحدا إلا بعد أن يبعث إليه رسولا، فمن تبلغه دعوة رسول كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة، فهذا يمتحن في الآخرة، كما جاءت بذلك الآثار، فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات، والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال، وهو العدل في حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين ولا يظلم الناس شيئا”[8].
هذا هو منهج الإسلام، فلا ظلم فيه ولا جور، فلا يؤاخذ إنسان بجريرة غيره، بل كل إنسان مرهون بعمله، كما قال الله سبحانه وتعالى: )كل نفس بما كسبت رهينة (38)( (المدثر)، وقال سبحانه وتعالى: )من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء)، وكيف يعذب إنسان بذنب لم يقترفه سوى أن القدر أوجده في بيئة معينة، أو أنه ولد لإنسان جائر أو كافر، وغير هذا مما يدعيه بعض الجهال بالمنهج الإلهي، وينسبونه – ظلما وزورا – إلى الإسلام، والإسلام من افتراءاتهم براء.
وهكذا دلت النصوص وشروح العلماء لها على أن من لم تبلغه دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يقوم بحقه تكليف، وبالتالي لا يقوم بحقه ثواب أو عقاب، حتى يبلغه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا هو منهج الرحمة الربانية الذي قال عنه القرآن: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسه بيده، لا يدخل الجنة إلا رحيم، قلنا: كلنا رحيم يا رسول الله، قال: ليست الرحمة أن يرحم أحدكم خاصته حتى يرحم العامة ويتوجع العامة»[9]. وهذا هو المنهج الذي رفع فيه الحرج واللوم عن المخطئ والناسي والمكره. ومن مجالات الرحمة العظيمة في الإسلام أن القلم[10] رفع فيه عن الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ.
الخلاصة:
- إن البلاغ والإنذار مناط أحكام الدنيا وجزاء الآخرة، وليس موطن الإنسان وبيئته.
- إن من لم تبلغه دعوة نبي يطلق عليهم في الإسلام مصطلح “أهل الفترة”، وهؤلاء يمتحنون في عرصات القيامة بأن يؤمروا بالاقتحام في النار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن أبى عذب فيها.
- منهج الله – عزوجل – هو منهج الرحمة والعدل، فهو لا يظلم الناس شيئا، ولا تزر وازرة وزر أخرى، فمن لا ذنب له لا يعذب حتى يمتحن ويأخذ فرصته في الاستجابة أو عدمها.
(*) أسئلة العصر المحيرة، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1422هـ/2002م.
[1]. أهل الفترة: أهل المدة التي تقع بين نبيين.
[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جميع الناس (403).
[3]. انظر: أسئلة العصر المحيرة، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1422هـ/2002م، ص235 وما بعدها.
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المدنيين، حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه (16344)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن البعث وأحوال الناس في ذلك اليوم (7357)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1434).
[5]. دعاميص الجنة: خدم الجنة من الأطفال الذين يموتون صغارا.
[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه (6870).
[7]. الجنة والنار، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار السلام، مصر، دار النفائس، الأردن، 1426هـ/ 2005م، ص195.
[8]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط1، 1398هـ، ج14، ص477.
[9]. حسن لغيره: أخرجه عبد بن حميد في مسنده، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (1454)، والحاكم في مستدركه، كتاب البر والصلة (7310)، وقال عنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن لغيره (2253).
[10]. القلم: المؤاخذة.