توهم اضطراب القرآن الكريم في الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى
وجها إبطال الشبهة:
لقد زعم غير المتأمل لقوله تعالى: )حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف( أن في الآية اضطرابا؛ حيث انتقل الكلام فيها من ضمير المخاطبين في “كنتم” إلى ضمير الغائبين في “بهم” و “فرحوا” قبل تمام المعنى؛ مما يخالف في زعمهم أصول البلاغة والبيان، وهذا الزعم مردود من وجهين:
1) أن في العربية ما يسمى “فن الالتفات”، وهو التحول من حال خطاب إلى غيرها؛ كالتحول من الخطاب إلى الغيبة، أو من المخاطب المفرد إلى الجمع، وهكذا، وفي الآية الكريمة التفات، والالتفات فيها يؤدي وظيفة بلاغية لا تتأتى بدونه، وهي إظهار النعمة للمخاطبين، فالخطاب موجه للمسيرين في البحر.. مؤمنين وغير مؤمنين، فلما ذكر الله – عز وجل – حالة آل الأمر في آخرها إلى البغي بغير الحق؛ عدل الخطاب من المخاطب إلى الغائب؛ حتى لا يكون المؤمنون مخاطبين بصدور مثل هذه الحالة – التي آخرها البغي منهم – تكريما لهم، فجميع المخاطبين مشتركون في نعمة التسيير في البر والبحر، ولكن غير المؤمنين وحدهم هم الذين جحدوا النعمة، ونسوا فضل الله عليهم حينما جرت الفلك بهم، وأنجاهم الله عز وجل.
2) أن السـر في إيثــــار الالتفـات مـن الخطـاب إلى الغيبــة – أيضا – هو أن الغيبة تناسب الفعل جرين، فهم كانوا على الشاطئ والفلك ترسو إليه، وأخذ الناس يركبون، حتى إذا تكاملوا على ظهرها، وأبحرت آخذة في الجري غابوا عن الأنظار، فما عادوا حاضرين حتى يخاطبوا، ولكنهم غائبون، فجرى الحديث عنهم مجرى الحديث عن الغائب.
التفصيل:
أولا. استخدام “فن الالتفات” أسلوب أصيل في اللغة العربية، وهو هنا يخدم المعنى المراد إيصاله من الآية الكريمة، وفي ذلك يقول الزمخشري: “ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: المبالغة، كأنه يذكر حالهم لغيرهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح”.
والمعنى: أن هؤلاء الذين تحدث الله عنهم في هذه الآية، أنعم الله عليهم بالسير في البر والبحر، وامتحنهم بالريح العاصفة، بعد أن أقلعت بهم الفلك وهي تمخر عباب الماء؛ فتوجهوا إلى الله يطلبون منه الإبحار معاهدين الله إذا أنجاهم أن يشكروه، ويعرفوا فضله، فلما أنجاهم نسوا ما وعدوا الله به، وعادوا إلى معصيته، كما قال ربنا عز وجل: )فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق( (يونس: ٢٣).
وكانت فائدة الالتفات عن خطابهم المباشر “كنتم في الفلك” إلى حكاية حالتهم العجيبة ثم إلى غيرهم؛ لكي يستثير سخطهم عليهم، فيقبحوا سوء صنيعهم مع الله[1]، وهذا الأسلوب غير مخالف للعربية الفصحى في شيء، قال ابن الأنباري: وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب، قال الله تعالى: )وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21) إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا (22)( (الإنسان)، فأبدل الكاف من الهاء[2].
ثانيا. إن الحديث عنهم بضمير الغيبة يناسب الفعل “جرين”، فهم ليسوا حاضرين حتى يخاطبوا، ولكنهم غائبون؛ حيث أبحرت الفلك بهم في عباب البحر، وغابوا عن الأنظار؛ فجرى الحديث عنهم مجرى الحديث عن الغائب، بينما بدأ الحديث معهم بضمير المخاطب؛ لأنهم كانوا على الشاطئ لم تبحر بهم الفلك بعد.
يقول القرطبي: وقوله: “وجرين بهم” خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير، قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت [3] وطال عليها سالف الأمد[4]
الأسرار البلاغية في الآية:
- قوله تعالى: )هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم( (يونس: ٢٢)، فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، وحكمته: زيادة التقبيح والتشنيع على الكفار لعدم شكرهم النعمة[5]، ومن بديع هذ الأسلوب في الآية، أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء، وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى الغيبة؛ لأن الحديث يخص المشركين دون المؤمنين.
- أما إسناد التسيير في قوله: )هو الذي يسيركم( فهو إسناد مجازي باعتبار سببه؛ لأنه – عز وجل – خالق التفكير وقوى الحركة، والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلال المشركين بواجب الشكر.
- أما قوله: )حتى إذا(، فـ “حتى” هنا ابتدائية أعقبت بحرف المفاجأة وجوابه، فمجيء الريح العاصف هو غاية التسيير الهنيء المنعم به، حينئذ ينقلب التسيير كارثة ومصيبة، وفي هذا أشد التحذير لهؤلاء المشركين من الاغترار بنعمة الله عليهم.
- قوله )أحيط بهم(، فيه استعارة تمثيلية[6] للهلاك؛ لأن الإحاطة تدل على الإحداق والتطويق، وهي بمعنى الهلاك.
- أما الإشارة إلى الحالة التي يدعون الله للنجاة منها بـ “هذه” الدالة على القرب، فتدل على إشرافهم على الغرق، فالمشار إليه مشاهد لهم.
- أما قوله )إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق(، فقد بدأ جواب “فلما أنجاهم” بـ “إذا الفجائية”؛ للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة، وقد جعل البغي في الأرض للدلالة على تمكنهم في النجاة، وقوله: “بغير الحق” هو قيد كاشف لمعنى البغي، إذ البغي لا يكون بحق[7].
وهكذا نلاحظ دقة ألفاظ القرآن، وبلاغة أساليبه، مما ينأى به عن أي توهم لوجود الخطأ فيه.
(*)عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.
.www.ebnmaryam.com .www.quartos.org.lb .www.islameyat.com
[1]. حقائق القرآن وأباطيل خصومه: شبهات وردود، عبد العظيم المطعني، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر، 1423هـ/ 2002م، ص134، 135 بتصرف يسير.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج8، ص324، 325.
[3]. أقوت: صارت قفرا خالية؛ أي: لا أنيس بها، ولا أهل فيها.
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج8، ص325.
[5]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج7، ص57.
[6]. الاستعارة التمثيلية: تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج11، ص135: 139 بتصرف.