توهم اعتراف القرآن الكريم بخبل الرسول – صلى الله عليه وسلم – وجنونه
وجها إبطال الشبهة:
الرسول – صلى الله عليه وسلم – كغيره من الرسل – منزه عن العيب، مبرؤ من النقائص، مخلص من كل ما يسلبه أهليته؛ كالصرع والجنون، وما شابه ذلك. وقد زعم فريق ممن لا يملكون التمكن من فهم اللغة العربية وألفاظها أن القرآن الكريم يقرر جنون الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإصابته بالخبل.
وزعموا أن ذلك ورد دليله في قوله عز وجل: )أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184) أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم( (الأعراف)، ومبعث هذا الوهم الباطل أنهم فهموا أن ما في قوله عز وجل: )ما بصاحبهم من جنة( هي “ما الموصولة”، وهذا مخالف للمعني المراد بها.
ويمكن الرد على هذا الزعم من وجهين:
1) أن تفسير هؤلاء لقوله عز وجل: )أولم يتفكروا( بمعنى: “هل نسوا”، فيه تضليل واقتطاع سيء للسياق؛ إذ إن الآية ختمت بوصف النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنذير، ولا يعقل أن يبعث الله نذيرا لعباده ثم يحكم بخبله أو جنونه؟!
2) أن لفظة “ما” في قوله صلى الله عليه وسلم: )ما بصاحبهم من جنة( نافية بمعنى: ليس، وقيل: استفهامية إنكارية، والمعنى على هذا: ليس بصاحبكم من جنة.
التفصيل:
أولا. إن تفسير هؤلاء لقوله عز وجل: )أولم يتفكروا( بمعنى: “هل نسوا” تفسير خاطئ، واقتطاع سيئ للآيات عن سياقاتها، وأصحاب الفهم السليم يقرءون الآية كلها، ويفهمون معناها، ولو فكر هؤلاء قليلا لاستراحوا كثيرا.
فالآية الأولى بها عبارة: )ما بصاحبهم من جنة(، وبها أيضا: )إن هو إلا نذير مبين(، فكيف يجتمع الضدان؟! ومعلوم في الأمور العقلية المنطقية أن الضدين لا يجتمعان.
فقد أرسل الله – عز وجل – رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالحق؛ ليكون للعالمين بشيرا ونذيرا، فهل يعقل أن يبعث الله رسوله، ثم يحكم بجنونه أو بخبله؟! فالمجنون هو من فقد التوازن الفكري في الاختيار بين البدائل، وحين يأخذ الله منه هذه القدرة على التوازن الفكري يصبح غير أهل للتكليف؛ لأن التكليف فيه اختيار أن تفعل كذا، أو لا تفعل كذا، والمجنون لا يملك القدرة على الترجيح، فكيف يكون ذلك صفة نبي أرسله الله لهداية الناس؟!
والله – عز وجل – لا يكلف الإنسان إلا حين يبلغ ويعقل؛ لأنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة عن أهله، وعن أبيه وأمه؛ لذلك نلاحظ أن الطفل وهو صغير يختار له والداه الملابس والطعام، وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقا، ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده؛ لأنه قد صارت له ذاتية، والذاتية – كما نعلم – توجد في النبات، وفي الحيوان، وفي الإنسان، وذلك بمجرد أن يصير الفرد منها قادرا علي إنجاب مثله، سواء أكان هذا الفرد من النبات، أم الحيوان، أم الإنسان.
أما إذا كان الإنسان قد صارت له ذاتية في الإنجاب والنسل، وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في التفكير، فهنا يسقط عنه التكليف؛ لأنه مكره بفقدان العقل.
وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يبلغ، وعن المجنون، وعن المكره، وهذه عدالة الجزاء من الله تعالى؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل»[1].
وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار به بين البدائل، فكيف يقولون ذلك عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عاش بينهم، ولم يكن قط فاقدا لشيء من أهليته؟! بل كانوا يعتبرونه الصادق الأمين، وكانوا يحفظون عنده كل غال نفيس لهم، حتى وهم كافرون به، وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم[2]. فهل يمكن بعد ذلك أن يقولوا عنه: إنه مجنون؟!
لقد كانوا يقولون عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش ليخدعوا بها الجماهير: إن محمدا به جنة، ومن ثم ينطق بهذا الكلام الغريب، غير المعهود في أساليب البشر العاديين!
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون! وقد تضافرت الروايات علي أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن، والتأثر به أعمق التأثر، وقصـة الأخنـس بـن شريـق، وأبي سفيـان بـن حـرب، وعمرو بن هشام – أبي جهل – في الاستماع لهذا القرآن خلسة ليالي ثلاثا، وما وجدوه في أنفسهم من التأثر والانفعال – معروفة.
وكذلك قصة عتبة بن ربيعة، وسماعه سورة فصلت من النبي – صلى الله عليه وسلم – وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة.. ومثلها قصة تآمرهم قبيل موسم الحج، فيما يقولون للناس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وما معه من القرآن، كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين حقيقة هذا الأمر، إنما كانوا يستكبرون عنه، ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله، وتهدد كل طاغوت بشري علي العموم.
ومن ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود ; كمـا يستغلـون الصـورة التـي كانـت معهــودة – فيهم وفيمن قبلهم – عن الصلة بين التنبؤ والجنون والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون ; ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور! كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير، ويزعمون بأن الذي يقوله محمد, إنما يقوله عن جنة به ; وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول, لأنه مجنون! وإن كانوا يعلمون في سرائرهم بطلان هذه الدعوي.
ثانيا. لفظة “ما” في قوله عز وجل: )ما بصاحبهم من جنة( تعني: ليس بصاحبكم جنة، فهي نافية، و “ما” في اللغة العربية لها معان كثيرة، منها: أنها نافية عاملة عمل ليس، وهذا المعني هو المتحقق في الآية الكريمة: إذ المعنى: أولم يتدبروا أمر صاحبهم؛ لقد لبث فيهم أربعين سنة قبل هذا الوحي، وقبل هذه الرسالة، فكان فيهم الصادق المصدوق، وما حادثة تحكيمه صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر في حجر الكعبة منهم ببعيد.
وقيل: إن “ما” استفهامية، والاستفهام هنا إنكاري، وعلى ذلك يكون المعنى: ألم تتدبروا أو تتأملوا أمر صاحبكم، هل به جنة؟ وذلك تقرير من المولى – عز وجل – للمشركين، من باب المثل المعروف “الحق ما شهدت به الأعداء”.
وعلى هذا فليس لهذا الزعم أساس من الصحة: فما كان لله عز وجل أن يتهم خير البشر الذي امتلأ كتابه الكريم بالثناء عليه، ما كان له أن يصفه بالجنون، وهو القائل عنه: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم)، ولو شاع عن النبي – صلى الله عليه وسلم – الجنون لما آمن به أحد، وما اتبعه أحد؛ ولوجد أصحاب القرن الأول من المتصدين للدعوة في ذلك الأمر السلاح الأعظم لهدم بناء الإسلام من أساسه، وتقويض صرحه قبل أن يتم له الأمر.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
- في قوله عز وجل: )أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184)( (الأعراف) مناسبة بين الفاصلة وما تقدمها؛ حيث استنكر الله – عز وجل – على الكافرين وصفهم للنبي – صلى الله عليه وسلم – بالجنون، وهو – صلى الله عليه وسلم – ليس به جنة، ثم يأتي في الفاصلة، وينفي عنه – صلى الله عليه وسلم – كل شيء إلا كونه نذيرا مبينا، وقال عز وجل: نذير مبين، ولم يقل: بشير أو داع؛ لأن الكلام هنا في الآية مع الكافرين، فجاء الإنذار ولم يأت التبشير.
- أما قوله: )ما بصاحبهم(، فالصاحب هو الذي يلازم غيره، وقد آثرها لما فيها من دلالة واضحة علي علمهم بحاله صلى الله عليه وسلم تمام العلم، فهم أدرى الناس بكمال عقله صلى الله عليه وسلم.
- أما مجيء كلمة “مبين” وصفا للنذير، ففيه تعريض بالذين لم ينصاعوا لنذارته، ولم يأخذوا حذرهم من شر ما حذرهم منه، وذلك يقطع عذرهم[3]، كما أن فيه ردا لدعوى المشركين، فوصفه بالمبين ينفي أن يكون به جنة كما يزعمون.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.
[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24694). وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق (4400)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (297).
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج7، ص4492، 4493.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج5، ج9، ص197.