توهم بطلان حديث “خلق الله التربة يوم السبت”
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد أكد العلماء على صحة الحديث سندا، فقد رواه مسلم في صحيحه، ورواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي، وابن مردويه، وابن أبي حاتم وغيرهم، وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني والمعلمي اليماني، أما قول البخاري: “وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب الأحبار، وهو أصح ” – فإنه لا يقدح في صحة رواية مسلم، وإنما هو من قبيل الأصح والصحيح، والأصح مقدم على الصحيح.
2) إن التفصيل الذي في الحديث الشريف غير التفصيل الذي في الآيات التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض، لذلك فالواجب هو ضم أحدهما للآخر كما ذكر أهل العلم ذلك، كما أن خلق آدم لا يعد من الأيام الستة؛ لأن الأرض قد خلقت قبل خلقه ودبت عليها الحياة قبله بدليل قوله تعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة( (البقرة:٣٠) كما أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث إلى خلق السماوات، وإن لم ينص على ذكرها وذلك في يومي الأربعاء والخميس؛ لأن النور والحرارة تحتاجهما الدواب ومصدرهما الأجرام السماوية.
3) ليس هناك دليل على أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وما روي في ذلك من أحاديث مرفوعة لا تصح، وعامتها مأخوذة من الإسرائيليات، وكانت هذه التسمية قبل الإسلام تقليدا لأهل الكتاب، وهي تسمية طارئة؛ لأنها كانت في اللغات القديمة غير ذلك.
التفصيل:
أولا. الحديث صحيح سندا ولا مطعن فيه:
إن حديث “خلق الله التربة” حديث صحيح، فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه قال: حدثني سريج بن يونس، وهارون بن عبد الله، قالا: حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيدي فقال: خلق الله – عز وجل – التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم – عليه السلام – بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل»[1].
ثم قال مسلم: “قال إبراهيم: حدثنا البسطامي (وهو الحسين بن عيسى)، وسهل بن عمار، وإبراهيم بن بنت حفص، وغيرهم عن حجاج بهذا الحديث”[2].
ورواه الإمام أحمد في مسنده بالسند نفسه عن حجاج أيضا[3]، ورواه الإمام النسائي[4]، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن جرير، وغيرهم.
فالحديث – بداية – صحيح، أما ما وجه إليه من طعن في السند فهو مردود عليه بحمد الله، ولنبدأ بإسماعيل بن أمية راوي الحديث، فقد عدله المزي صاحب تهذيب الكمال فنقل آراء النقاد فيه، ومنهم أن يحيى بن معين، وأبا زراعة، وأبا حاتم، والنسائي، ومحمد بن سعد قد وثقه جميعهم.
وقال عنه أحمد بن حنبل: إسماعيل أقوى وأثبت في الحديث من أيوب، وقال – أيضا: أيوب ابن عم إسماعيل، وإسماعيل أكبر منه، وأحب إلي[5].
أما أيوب بن خالد والذي روى الحديث عنه إسماعيل بن أمية فقد قال عنه الألباني أثناء تصحيحه الحديث ردا على من أعل الحديث بأيوب بن خالد؛ لأن فيه لينا فقال: “ليس بشيء، فإنه لم يضعفه أحد سوى الأزدي، وهو نفسه لين عند المحدثين، فتبينه”[6].
وقال المعلمي اليماني: وأيوب لا بأس به، وصنيع ابن المديني يدل على قوته عنده”[7].
وعبد الله بن رافع مولى أم سلمة ثقة، فقد وثقه العجلي، وأبو زرعة والنسائي وابن حبان[8].
هذا عن رجال الإسناد، بقي أن نوضح أن قول الإمام البخاري: “وهو أصح” لا يفيد إنكار الحديث أو تضعيفه – كما قالوا – وإنما هو من قبيل الصحيح والأصح؛ فأفعل التفضيل “أصح” لا تفيد التضعيف على الإطلاق، وقد علق الشيخ الألباني على قول الإمام البخاري: “وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح” – بقوله: “فمن هذا البعض؟ وما حاله في الضبط والحفظ حتى يرجح على رواية عبد الله بن رافع؟! وقد وثقه النسائي وابن حبان، واحتج به مسلم، وروى عنه جمع، ويكفي في صحة الحديث أن ابن معين رواه ولم يعله بشيء![9].
وهذا ما أكده د. سعد المرصفي قائلا: “قال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح، أي إنه وهم فيه أيوب على احتمال، ولم يجزم بخطئه، كما زعم شيخ المحدثين – على زعم من ادعى ذلك – قال: وهو أصح، وأفعل التفضيل لم ينف الصحة عن حديث أيوب، فهو من قبيل صحيح وأصح، والأصح مقدم على الصحيح، وهذا هو كلام المحدثين، مع علمهم أن تعليلهم للحديث لم يسلم عند كثيرين من المحدثين غيرهم، وعلى رأسهم مسلم، والنسائي وأحمد[10].
وتأسيسا على أقوال علماء الحديث الثقات في رجال هذا الحديث وبيان حقيقة قول البخاري نستطيع أن نؤكد أن حديث «خلق الله التربة» صحيح سندا، ولا يقدح فيه أي قول، ويتأكد ذلك أكثر بعد بيان صحة ما جاء به متن الحديث، وذلك في الوجهين الآتيين.
ثانيا. لا تعارض بين الحديث والقرآن في شيء:
لقد ظن بعض الناس أن حديث «خلق الله التربة يوم السبت»[11] يتعارض مع قوله عز وجل: )إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام( وقوله تعالى: )هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش( (الحديد:٤)، وهذا ظن خاطئ منهم؛ لأن الآيات تتكلم عن خلق السماوات والأرض إجمالا، أما الحديث فإنه يفصل ما خلق في أيام خلق الأرض الأربعة التي ذكرت في الآيات، لهذا نجد جمعا كبيرا من علماء الأمة جعل ابتداء الخلق يوم السبت، وانتهاءه يوم الخميس، فهذه ستة أيام، وهي التي ذكرها الله في كتابه، وأما خلق آدم فجعلوه غير داخل في الأيام الستة، وبهذا يندفع الإشكال ويذهب التعارض، وقد اختلف في وجه عدم دخول اليوم الذي خلق فيه آدم – عليه السلام – في الأيام الستة على عدة أقوال؛ منها: أن خلق آدم – عليه السلام – مستقل عن خلق الأرض، ليس منها، فلا يكون يومه معدودا في الأيام الستة، حيث قال ابن هبيرة – رحمه الله – “لما كملت هذه الأشياء في ستة أيام كما قال – عز وجل – واستتب أمر الدار، مستدعية بلسان حالها قدوم الساكن حين تهيئة الأسباب، والفراغ من الرزق والمركب والرياش، وتبين ما يكره وما يطلب، كان خلق ساكن الدار – أبي البشر – في يوم الجمعة عند آخر النهار”[12].
ومنهم من ذكر أن أصل الأشياء هي التي خلقت في ستة أيام، وآدم ليس أصلا؛ وإنما هو كالفرع من بعضها، وبناء عليه، فلا يلزم أن يكون يوم خلقه من جملة الستة، وهذا ما ذهب إليه ابن الجوزي – رحمه الله، قال: “فإن قيل: فالقرآن يدل على أن خلق الأشياء في ستة أيام، وهذا الحديث يدل على أنها في سبعة؟! فالجواب: أن السماوات والأرض وما بينهما خلق في ستة أيام، وخلق آدم من الأرض، والأصول خلقت في ستة، وآدم كالفرع من بعضها”[13].
كما ذهب المعلمي إلى القول: بأن خالقية الله – عز وجل – لم تتوقف بعد الأيام الستة؛ لأن الله – تعالى – ما زال ولا يزال خالقا، فخلق آدم كان بعدها، وليس في القرآن ما يدل على أن خلق آدم كان في الأيام الستة حتى يقال: إنها صارت بهذا الحديث سبعة، ويزيد أن “في آيات خلق آدم في سورة البقرة، وبعض الآثار ما يؤخذ منه أنه قد كان في الأرض عمار قبل آدم، عاشوا فيها دهرا، فهذا يؤكد القول: بأن خلق آدم متأخر بمدة عن خلق السماوات والأرض، فتدبر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان، يتضح لك إن شاء الله أن دعوى مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت ولله الحمد”[14].
وقد ذهب المفسرون إلى أن الجن سكنت الأرض قبل بني آدم وأفسدوا فيها لذلك قالت الملائكة: )قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة: ٣٠)، يقول الإمام القرطبي: “وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء؛ وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورءوس الجبال فأخذته العزة[15].
أما ابن كثير – رحمه الله – فقد ذكر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو أنه قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوهم بجزائر البحور فقال الله تعالى للملائكة: )إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة:3٠)[16].
وقد ذكر الألباني أن هذه الأيام المذكورة في الحديث غير الأيام الستة المذكورة في القرآن، واستدل على ذلك بحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النسائي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «يا أبا هريرة، إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الإثنين، والشر يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والدواب يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة، في آخر ساعة من النهار بعد العصر، خلقه من أديم الأرض، بأحمرها وأسودها، وطيبها وخبيثها، من أجل ذلك جعل الله من آدم الطيب والخبيث»[17].
وقال الشيخ – رحمه الله – تعليقا على هذا الحديث: “الأيام السبعة في الحديث هي غير الأيام الستة في القرآن، فالحديث يتحدث عن شيء من التفصيل الذي أجراه الله على الأرض، فهو يزيد على القرآن، ولا يخالفه، وكان هذا الجمع قبل أن أقف على حديث الأخضر – يعني: الحديث المتقدم – فإذا هو صريح فيما كنت ذهبت إليه من الجمع، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات”[18].
كما صرح المستشار سالم علي البهنساوي في كتابه “السنة المفترى عليها” – أن الأيام الستة ليست هي التي فصلها الحديث النبوي فهو لم يذكر خلق السماوات ولا خلق الأرض، حيث ورد ذلك في القرآن الكريم بل ذكر خلق التربة والجبال والشجر والدواب وغير ذلك مما تم بعد خلق الأرض والسماوات، ولا تعارض بين هذا التفصيل وبين ما ورد في القرآن الكريم، ولا يوجد أيضا أي تعارض لو كان خلق هذه الأشياء خلال الأيام الستة التي خلق الله فيها الأرض والسماوات”[19].
ومما يزيد الأمر وضوحا ما ذكره المرصفي قائلا: “وواضح أن الحديث فصل خلق ما احتوته الأرض واشتملت عليه، بينما الآية تذكر خلق السماوات والأرض جملة، وحينئذ لا يكون تعارض.
يقول د. محمد السماحي: الحديث يقول: «خلق الله – عز وجل – التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد» فهذان يومان. «وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء»فإذا فسرنا المكروه بآفات الزروع والثمار، كان تقدير الأقوات وما يتعلق بها في يومين، فهذا تمام أربعة أيام.
بقي قوله: «وخلق آدم – عليه السلام – بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل» لا إشكال فيه بعد قوله تعالى: )هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء( (البقرة: ٢٩)، فظاهره أنه خلق وأعد لبني آدم ما يحتاجون له في الأرض، في تلك الأيام الأربع، ثم استوى إلى السماء، فقضاهن سبع سماوات في يومين، كما يشير إليه قوله تعالى: )فقضاهن سبع سماوات في يومين( (فصلت: 12)، فخلق آدم خارج عن نطاق الأيام الستة، قد يقال إن الآية تقول: )وجعل فيها رواسي من فوقها( (فصلت:١٠) بعد قوله: )خلق الأرض في يومين( (فصلت: ٩)، وهذا ينافي خلقها في اليوم الثاني، كما جاء في الحديث، لكن إذا تأملت قوله )وجعل فيها رواسي( (فصلت: ١٠) علمت أنه لا ينافي خلقها قبل ذلك، فالجبال من الأرض، وخلقها الله في الأرض، معها تضاريس غير مرتبة ولا منسقة، فإرساؤها في مكانها الذي يحفظ توازن الأرض في دورتها، ونقلها من مكان إلى مكان، بعوامل الزلازل والتعرية وغيرها، هو الذي جعلها رواسي، بعد أن لم تكن كذلك.
فالمعنى: صير فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها، على أن قوله: )في أربعة أيام سواء للسائلين (10)( (فصلت). يدل على أن خلق الأرض والجبال، وتصييرها رواسي، ووضع البركة فيها، وتقدير أقواتها، كان في مدة أربعة أيام، من غير فصل، فكأن مبادئها كانت مختلطة في هذه الأدوار، من غير أن ينفصل كل دور عن سابقه تماما، وبذلك لا يتحقق التعارض بين الحديث والقرآن [20].
وأما بالنسبة لمن قال: إن الحديث اقتصر على خلق الأرض ولم يذكر شيئا عن خلق السماء، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد ذكر السماء في الحديث الشريف، وإن كان لم ينص على ذكر السماوات؛ فإنه قد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس: النور، وفي السادس: الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة والنور، ولا شك أن مصدرهما – أي الحرارة والنور – الأجرام السماوية.
وهذا ما قاله المعلمي – رحمه الله – “أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيام لم يذكر ما يدل أن من جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذكر خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدل أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئا، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في التطور بما أودعه الله – تعالى – فيها، والله – سبحانه وتعالى – لا يشغله شأن عن شأن”[21].
وقد رد المرصفي على عدم وجود ذكر لخلق السماء في الحديث قائلا: قال د.محمد السماحي: وقوله صلى الله عليه وسلم: «وخلق النور يوم الأربعاء» وهذا ما يتعلق بالسماء، فالنور إنما هو نور الشمس والقمر والكواكب والنجوم.
وأما قوله: «وبث فيها الدواب يوم الخميس».
فأولا: لم يقل “خلق”، وفرق بين الخلق والبث.
وثانيا: لم تكن الدواب من أقوات الأرض بالأصالة، بل إنما خلقت الأقوات لها، فلو قلنا: إن الحديث إنما دل على تفريقها في الأرض، وهذا لا ينافي خلقها قبل ذلك، ولم يقل الحديث إنه لم يخلق في يوم الإثنين إلا الشجر، وعلى فرض أنه خلقها في يوم الخميس فلا نسلم أنها من الأقوات المرادة في الآية[22].
ثالثا. كانت بداية الخلق يوم السبت وليس يوم الأحد:
أما إن الحديث يخالف الآثار القائلة بأن ابتداء الخلق كان يوم الأحد فهذا كلام غير صحيح يقول الشيخ المعلمي: ما كان منها – أي الأحاديث – مرفوعا فهو أضعف من هذا الحديث بكثير، وأما غير المرفوع فعامته من قول عبد الله بن سلام، وكعب بن وهب ومن يأخذ عن الإسرائيليات، وتسمية الأيام كانت قبل الإسلام تقليدا لأهل الكتاب، فجاء الإسلام وقد اشتهرت وانتشرت، فلم ير ضرورة إلى تغييرها؛ لأن إقرار الأسماء التي قد عرفت واشتهرت وانتشرت لا يعد اعترافا بمناسبتها لما أخذت منه أو بنيت عليه، إذ قد أصبحت لا تدل على ذلك وإنما تدل على مسمياتها فحسب، ولأن القضية ليست مما يجب اعتقاده أو يتعلق به نفسه حكم شرعي، فلم تستحق أن يحتاط لها بتغيير ما اشتهر وانتشر من تسمية الأيام”[23].
ومما يؤكد ذلك أيضا قول الفقيه السهيلي: “وليس في تسمية هذه الأيام الأحد والإثنين إلى الخميس ما يشد قول من قال: إن أول الأسبوع الأحد وسابعها السبت، كما قال أهل الكتاب؛ لأنها تسمية طارئة، وإنما كانت أسماؤها في اللغة القديمة شيار وأول وأهون وجبار ودبار ومؤنس والعروبة، وأسماؤها بالسريانية قبل هذا أبو جاد هوز حطي إلى آخرها، ولو كان الله – عز وجل – ذكرها في القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد، لقلنا: هي تسمية صادقة على المسمى بها، ولكنه لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت، وليسا من المشتقة من العدد، ولم يسمها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالأحد والإثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا لتسميتها، ولعل قومه أن يكونوا أخذوا معاني هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعا لهم، وإلا فقد قدمنا ما ورد في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد…» الحديث[24].
وتأسيسا على ما سقناه من قول الشيخ المعلمي، وقول الفقيه السهيلي وغيرهم، نقول: ليس من الضروري ابتداء الخلق يوم الأحد، كما قال أهل الكتاب؛ لأنها تسمية طارئة، فهي ليست صادقة على المسمى بها، كما أنه من المعلوم أن آخر أيام الخلق هو يوم الجمعة، كما نصت على ذلك الأحاديث الثابتة، وأجمعت الأمة على ذلك، أما أول أيام الخلق فلم يثبت أنه الأحد، وما ورد من روايات في ذلك فهي ضعيفة، أغلبها من أقوال كعب الأحبار، ووهب بن منبه وغيرهما ممن يأخذ عن الإسرائيليات، ومن ثم لا مجال للاحتجاج بها.
الخلاصة:
- إن حديث خلق التربة يوم السبت صحيح سندا، فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، وكذلك الإمام النسائي، وصححه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ودافع عنه، والمعلمي اليماني، وأحمد شاكر وغيرهم من جهابذة الحديث.
- إن قول الإمام البخاري: “وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب وهو الأصح” لا ينفي صحة هذا الحديث؛ لأن الأصح لا ينفي الصحيح، وإن كان أقل منه درجة.
- ذهب العلماء إلى أن الحديث لا يتعارض مع الآيات التي تذكر أن خلق السماوات والأرض كان في ستة أيام؛ وذلك لأن خلق آدم – عليه السلام – في اليوم السابع، لا يدخل في الأيام المعدودة، لأن آدم – عليه السلام – جزء من الأرض وليس منفصلا عنها – ودليل ذلك قوله تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12)( (المؤمنون)، وغيرها من الآيات التي توضح حقيقة خلق الإنسان.
- وذهب بعض العلماء إلى أن خلق آدم – عليه السلام – تأخر عن خلق السماوات والأرض المذكور في الآيات؛ وذلك لأن الأرض قد سكنها – قبل آدم – مخلوقات أخرى كالجن وغيرها ودليل ذلك قوله تعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة: ٣٠)، وهذا يدل على أن الجن سكنت الأرض قبل بني آدم، وهذا ما ذهب إليه المفسرون.
- وذهب فريق ثالث إلى أن الخلق المذكور في الآيات يختلف عن الخلق المذكور في الحديث، فالخلق المذكور في الآيات هو خلق السماوات والأرض جملة، أما الخلق المذكور في الحديث فإنه تفصيل لما خلق الله في الأرض من جبال وتربة وشجر ودواب وغير ذلك، وهذا لا يتعارض مع الآيات، ولكن يضم إليها.
- أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديثه إلى خلق السماوات والأرض، وإن لم يصرح بذلك؛ إذ الدواب تحتاج إلى النور والحرارة، ولا شك أن مصدرهما الأجرام السماوية، وهذا ما أشار إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «وخلق النور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس».
- أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أن بدء الخلق كان يوم السبت، وهذا هو الصحيح، أما من ذهب إلى أن بدء الخلق كان يوم الأحد فكان معتمدا على آثار موقوفة أو ضعيفة قياسا على هذا الحديث، وهي من الإسرائيليات التي أخذت عن كعب ووهب بن منبه وغيرهما من مسلمي أهل الكتاب، وهذا ما ذكره الإمام السهيلي في الروض الأنف، وعاب على من قال: إن أول الأسبوع الأحد لا السبت، ومن ثم فقد ثبتت صحة الحديث سندا ومتنا.
(*) السنة المفترى عليها، سالم علي البهنساوي، دار البحوث العلمية، الكويت، ط4، 1413هـ/ 1992م. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ. الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل و التضليل والمجازفة، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م. أضواء على حديث خلق الله التربة، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م.
[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام، (9/ 3910)، رقم (6920).
[2] . شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 3910).
[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، (16/ 146)، رقم (8323). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[4] . صحيح: أخرجه النسائي في سننه الكبرى، كتاب: التفسير، باب: سورة البقرة، رقم (11010). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1833).
[5]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، المزي، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4، 1415هـ/ 1994م، (3/ 47، 48).
[6]. سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني، الدار السلفية، الكويت، ط2، 1404هـ، (4/ 450).
[7]. الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص187.
[8]. انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4، 1415هـ/ 1994م، (14/ 485).
[9]. سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني، الدار السلفية، الكويت، ط2، 1404هـ، (4/ 449، 450).
[10]. أضواء على حديث خلق الله التربة، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، ص41 بتصرف.
[11]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام، (9/ 3910)، رقم (6920).
[12]. الإفصاح عن معاني الصحاح، ابن هبيرة، (8/ 150، 151). نقلا عن: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ، ص367.
[13]. كشف المشكل من حديث الصحيحين، ابن الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب، دار الوطن، الرياض، 1418هـ/ 1997م، (1/ 1038).
[14]. الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص187، 188.
[15]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م.
[16]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، (1/ 70).
[17]. إسناده جيد: أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، باب سورة السجدة، رقم (11392)، وجود إسناده الألباني في مختصر العلو ص75.
[18]. مختصر العلو، الألباني، ص112، نقلا عن: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ، ص368.
[19]. السنة المفترى عليها، سالم علي البهنساوي، دار البحوث العلمية، الكويت، ط4، 1413هـ/ 1992م، ص352.
[20]. أضواء على حديث خلق الله التربة، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، ص42: 44 بتصرف
[21]. الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص187 .
[22]. أبو هريرة في الميزان، د. محمد السماحي، ص124. نقلا عن: أضواء على حديث خلق الله التربة، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، ص42.
[23]. الأنوار الكاشفة، المعلمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص188.
[24]. الروض الأنف، السهيلي، دار الفكر، بيروت، 1409 هــ/ 1989م، ( 2 / 198).