توهم تعارض القرآن بشأن تقييد التذكرة وإطلاقها
وجه إبطال الشبهة:
للعلماء في التوفيق بين الآيتين أقوال:
-
-
- الآية في سورة الغاشية مطلقة، قيدتها آية سورة الأعلى، والمطلق[1] يحمل على المقيد[2].
- وجوب التذكير مطلقا في حالة النفع وعدمه، وفي آية “الأعلى” حذف، والتقدير: إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع.
- تأويل “إن” بـ “ما” المصدرية الحينية، والمعنى: فذكر ما نفعت الذكرى.
- التذكير مراحل، فهو لازم ابتداء، لكن الاستمرار فيه – بعد – منوط بظن الفائدة والنفع به.
- تأويل “إن” بـ “إذ”، والمعنى: وذكر إذ نفعت الذكرى، على التعليل.
- “إن نفعت” صيغة شرط أريد بها ذم الكفار.
-
التفصيل:
أقوال العلماء في التوفيق بين الآيتين:
- التذكير مقيد بمظنة النفع، كما تقيده آية الأعلى، والآيات الآمرة بالتذكير مطلقا – كآية الغاشية – تحمل على المقيدة، وإلى هذا ذهب ابن كثير الذي قال: ذكر حيث تنفع التذكرة، ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يوضع عند غير أهله، كما قال علي رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم[3].
- التذكير واجب نفع أو لم ينفع، وفي الكلام حذف، أي: إن نفعـت الذكـرى، وإن لـم تنفـع كقولـه عز وجل: )سرابيل تقيكم الحر( (النحل: ٨١)[4]، أي: والبرد[5].
هذا قول الفراء والنحاس، ووافقهما الواحدي الذي قال: إن نفعت أو لم تنفع[6]؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث مبلغا للإعذار والإنذار؛ فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع.
وقال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع؛ فالمعنى: إن نفعت الذكرى أو لم تنفع. وقد قواه الشوكاني وذكر أنه أولى.
- “إن” بمعنى “ما”، أي: فذكر ما نفعت الذكرى؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال.
- هناك من يرى أن التذكير مرحلتان:
المرحلة الأولى: تكرير التذكير – وإن لم ينفع – تكريرا يؤدي به المذكر واجبه في التذكير، كما قال سبحانه وتعالى: )إن عليك إلا البلاغ( (الشورى: ٤٨)، وتقوم به حجة[7] الله على خلقه، كما قال سبحانه وتعالى: )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل( (النساء: ١٦٥).
المرحلة الثانية: استمرار التذكير عند ظن الفائدة منه، ورجاء النفع لمن يوجه إليه التذكير، وهو ما تتحدث عنه الآية الكريمة: )فذكر إن نفعت الذكرى (9)( (الأعلى).
أما إذا علم عدم الفائدة من التذكير، فلا داعي للاستمرار فيه؛ لأن الاستمرار فيما لا فائدة فيه عبث.
وهل هناك قرائن يعلم منها عدم إفادة التذكير[8]؟
ويعلم عدم إفادة التذكير بأمور منها:
- إعلام الله تعالى بذلك، كما وقع في شأن أبي لهب، قال – سبحانه وتعالى – فيه: )سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4)( (المسد)، فأبو لهب وامرأته لا تنفع فيهما الذكرى؛ لأن القرآن نزل بأنهما من أهل النار، بعد تكرار التذكير لهما تكرارا تقوم عليهما به الحجة؛ فلا يلزم النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد علمه بذلك أن يذكرهما بشيء، كما قال سبحانه وتعالى: )فذكر إن نفعت الذكرى (9)( (الأعلى).
- قرينة[9] الحال، مثل: رفض الإيمان والإعراض عن اتباع الرسول عنادا ولجاجا[10]بعد العلم بحقيقة الإسلام وصدق رسوله، فهنا لا يجب تكرير الذكرى لمن يصر على الكفر والعناد، بعد أن كررت له تكرارا لزمته به الحجة.
“إن” بمعنى “إذ”، هو مذهب الكوفيين وجعلوا منه قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57)( (المائدة)، وقوله عز وجل: )ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139)( (آل عمران).
- جملة: )فذكر إن نفعت الذكرى (9)( (الأعلى) جملة شرط، أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكيرهم كما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي[11]
الخلاصة:
تعددت تأويلات العلماء لمعنى التذكير في قوله عز وجل: )فذكر إن نفعت الذكرى (9)( (الأعلى) وقوله عز وجل: )فذكر إنما أنت مذكر (21)( (الغاشية) فمنهم من قال: إن معنى التذكير عام، نفع أو لم ينفع، ومنهم من قال: إنه مقيد بالنفع… إلخ، ومن المعلوم أن التبليغ إعذار للناس؛ لإقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه واجب على كل حال – ولو في البداية – فإن بدت قرائن يعلم منها عدم إفادة التذكرة – كإخبار القرآن، أو دلالة الحال، أو رفض الإيمان وتكذيب الرسول – صلى الله عليه وسلم – انتفى وجوب التذكير في حقهم، ومن هؤلاء: أبو لهب، وأبو جهل، والوليد بن المغيرة.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. المطلق: هو ما دل على فرد غير مقيد لفظا بأي قيد؛ مثل: مصري.
[2]. المقيد: هو ما دل على فرد مقيد لفظا بأي قيد؛ مثل: مصري مسلم.
.[3] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، ج4، ص500.
.[4] السرابيل: ما يلبس من ثياب أو دروع.
.[5] فإن قيل: لم ذكر الحر ولم يذكر البرد، فالجواب من وجوه:
الأول: المخاطبون بهذا الكلام هم العرب، وبلادهم حارة، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحر فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد.
الثاني: إن ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر، فإن الإنسان إذا خطر بباله الحر خطر بباله أيضا البرد.
الثالث: ما وقى من الحر وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر.
وعلى هذا الجواب يكون الجواب على قوله تعالى: ) فذكر إن نفعت الذكرى (9) ( (الأعلى).
.[6] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج20، ص20.
[7]. الحجة: البرهان والدليل، وتأتي بمعنى الدعوى.
.[8] البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص50: 53.
[9]. القرينة: أمر يشير إلى المطلوب؛ كقرينة كذب إخوة يوسف في الدم الذي على قميصه.
[10]. اللجاج: الخصومة والنزاع، ولج في الأمر: أبى أن ينصرف عنه.
.[11] دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط2، 1420 هـ/ 2000م، ص263: 266 بتصرف.