توهم تعارض القرآن بشأن قدر تفضيل المجاهدين على القاعدين
وجه إبطال الشبهة
فضل الله المجاهدين بالمال والنفس درجة على القاعدين غير أولي الضرر، في حين أنه – سبحانه وتعالى – فضل المجاهدين على بعضهم درجات، فمن نال كل الدرجات فقد نال درجة – أي: منزلة – عظيمة، ومن نال بعضها فقد نال درجة أقل، فلا تعارض بين الآيتين.
التفصيل:
فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر درجة، في حين أنه – سبحانه وتعالى – فضل المجاهدين على بعضهم البعض درجات:
إن الفهم الصحيح لمعنى الآيتين ينفي شبهة التعارض بينهما؛ فالمقصود بالآية الأولى أنه ليس من العدل أن يستوي المجاهدون وغير المجاهدين في الثواب الدنيوي والأخروي، فللذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله – عز وجل – درجة فوق الذين لا يجاهدون بالمال ولا بالنفس، أما أصحاب الأعذار الشرعية التي تمنعهم من الجهاد، فلا يدخلون في هذه المفاضلة؛ لأن أعذارهم كانت بمثابة الرخصة التي ترفع عنهم حرج الجهاد في سبيل الله مثل غيرهم من الأصحاء.
ومما يؤكد هذا الفهم ما ذكره ابن عاشور في تفسير هذه الآية؛ إذ يقول: إن القاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين ولا في ثوابه على ذلك، فتعين التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم، وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله: )غير أولي الضرر( (النساء: ٩٥)؛ كيلا يحسب أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيخرجوا مع المسلمين، فيكلفوهم مؤونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى، أو يظنوا أنهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم زيادة على انكسارها بعجزهم، ولأن في استثنائهم إنصافا لهم وعذرا بأنهم لو كانوا قادرين لما قعدوا.
ومما يؤكد هذا، ما جاء عن زيد بن ثابت أنه قال: «نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه، ثم سري عنه[1] فقال: اكتب، فكتبت – وكان زيد من كتاب الوحي -: )لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم(، وخلف النبي – صلى الله عليه وسلم – ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فنزلت مكانها: )لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم( (النساء:٩٥)»[2]. فابن أم مكتوم فهم المقصود من نفي الاستواء، فظن أن التعريض يشمله وأمثاله، فإنه من القاعدين؛ ولأجل هذا الظن عدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام[3].
ومعنى كلمة “درجة” التي فضل الله – عز وجل – بها المجاهدين على القاعدين هي المنزلة، وليس معناها الإفراد، بل يقصد بها الجنس المعنوي، قال ابن عاشور: والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوي كما في قوله سبحانه وتعالى: )وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (228)( (البقرة)، والعلو المراد هنا علو الفضل ووفرة الأجر، وجئ بــ”درجة” بصيغة الإفراد، وليس إفرادها للوحدة، لأن درجة هنا جنس معنوي لا إفراد له، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها – تأكيدا لها – بصيغة الجمع بقوله: )درجات منه(: لأن الجمع أقوى من المفرد، وتنوين “درجة” للتعظيم، وهو يساوي مفاد الجمع في قوله سبحانه وتعالى: )درجات منه( (النساء: 96) [4].
وكما فضل الله تعالى المجاهدين على القاعدين غير أولي الضرر في المنزلة، فقد فضل الله أيضا بعض المجاهدين على بعض منازل – درجات -، فكل يثاب حسب عمله، ولذلك قال ـ عز وجــل ـ: )درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96)( (النساء)، ويعلق الشيخ الشعراوي على هذه الآية فيقول: فالله – سبحانه وتعالى – قد أعطى لأولي الضرر درجة، وفضل المجاهد في سبيل الله على القاعد من غير أولي الضرر درجات عدة، وساعة نسمع كلمة “درجة” فهي المنزلة، والمنزلة لا تكفي فقط للإيضاح الشامل للمعنى، ولكن هي المنزلة الاتقائية.
ولكن: هل تلك الدرجات لكل المجاهدين؟!
بالطبع لا؛ لأننا لا بد أن نلحظ الفرق بين الخروج من الوطن وترك الأهل للجهاد، وبين عملية الجهاد في ذاتها، فعملية الجهاد في ذاتها تحتاج إلى همة إيمانية، ولذلك جاء الحق بنص في سورة التوبة: )ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (121)( (التوبة).
هنا يوضح الحق أنه لا يصح لأهل المدينة والأعراب الذين حولهم أن يتخلفوا عن الجهاد مع رسول الله، ولا يرضوا لأنفسهم بالدعة والراحة ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الشدة والمشقة، فكما ذهب إلى القتال يجب أن يذهبوا؛ لأن الثواب كبير، فلا يصيبهم تعب إلا ولهم عليه أجر العمل الصالح، ولا يعانون من جوع إلا ولهم عليه أجر العمل الصالح، ولا يسيرون في مكان يغيظ الكفار إلا ولهم أجر العمل الصالح، ولا ينالون من عدو نيلا إلا ويكتبه الله لهم عملا صالحا، فسبحانه يجزي بأحسن ما كانوا يعملون.
وقام العلماء بحصر تلك العطاءات الربانية، بسبع درجات؛ فواحد ينال الدرجات جميعا، وآخر أصابه ظمأ فقط فنال درحة الظمأ، وآخر أصابه نصب[5] فأخذ درحة النصب، وثالث أصابته مخمصة[6]، ورابع جمع ثلاث درجات. وعندما نقوم بحساب هذه الدرجات نجدها:
- الإصابة بالظمأ.
- النصب.
- الجوع.
- لا يطأون موطئا يغيظ الكفار، أي: لا ينزلون في مكان يتمكن فيه المسلمون منهم ويبقون عليهم سلطانهم.
- النيل – التنكيل – بالعدو.
- النفقة الصغيرة والكبيرة.
- قطع أي واد في سبيل الله.
هذه هي الدرجات السبع التي يجزي الله عنها بأحسن مما عمل أصحابها كما فسرها العلماء، فمن نال الدرجات السبع فقد نال منزلة عظيمة، وكل مجاهد على حسب ما بذل[7].
الخلاصة:
- لا تعارض بين الآيتين كما يدعي أصحاب هذه الشبهة، فالآية الأولى تقرر تفضيل الله – سبحانه وتعالى – للمجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير ذوي الأعذار درجة، أي: منزلة عظيمة، في حين أن الآية الثانية تؤكد على تفضيل الله – عز وجل – للمجاهدين على بعضهم درجات، كل على قدر سعيه.
- حصر العلماء العطاءات الربانية الواردة في الآيتين رقم 120، 121 من سورة التوبة بسبع درجات، قد تنال كلها أو ينال بعضها حسبما يقوم المجاهد، وهذه الدرجات السبع بعض عطاء الله للمجاهدين فقد جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن للمجاهدين في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، كل هذا الفضل لعظم ما يقوم به المجاهد في سبيل الله.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، ، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. سري عنه: ذهب ما به من هم.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى:) لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ( (النساء: ٩٥) (2677)، وفي موضع آخر.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، ج3، ص170.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، ص171، 172.
[5]. النصب: التعب.
[6]. مخمصة: الجوع الشديد.
[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، ص171، 172.