توهم تناقض القرآن بشأن حرية العقيدة والإكراه عليها
وجوه إبطال الشبهة:
1) الموضع الأول نزل في الأنصار خاصة، ولكن حكمه شامل، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2) الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه للعديد من الأسباب النبيلة.
3) شرع الإسلام الحرب والقتال لأهداف محددة ومشروعة، ولم تشرع لمجرد العدوان على الآخرين بدون وجه حق كما يدعي المبطلون.
التفصيل:
أولا. الموضع الأول نزل في الأنصار خاصة، ولكن حكمه شامل، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
ورد عن سعيد بن جبير وغيره في تفسير قول الله سبحانه وتعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، أنه قال: نزلت في الأنصار خاصة؛ حيث كانت المرأة منهم إذا كانت مقلاتا[1] وولدت ولدا تنذر لتجعلنه في اليهود ملتمسة بذلك طول بقائه، فجاء الإسلام وفيهم من هؤلاء النسوة، فلما أجليت النضير، قالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم!! فسكت عنهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنزلت: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “خيروا أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم، فأجلوهم معهم”[2]. ولكن حكمها عام شامل الخلق كافة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معروف في الأصول[3].
ثانيا. الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه لكثير من الأسباب:
الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه، وذلك يظهر جليا في العديد من الآيات الكريمة، كقوله سبحانه وتعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، وقوله سبحانه وتعالى: )أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس)، وقوله سبحانه وتعالى: )فذكر إنما أنت مذكر (21)( (الغاشية).
وهناك العديد من الأسباب التي جعلت الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه، منها أن الإكراه:
- يقهر النفس الإنسانية ويذلها.
- يولد النفاق وينتج أفرادا يتربصون بالأمة ويسارعون إلى خيناتها وتحطيمها من الداخل.
- يحطم الشخصية الإنسانية ويقتلها.
- يورث في القلوب الأحقاد، ويزرع في النفوس الضغائن.
- ينزع إلى النفور، ويرسخ في النفس ردود الفعل والانفجار حين تسنح الظروف.
- يسيئ إلى سمعة الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج.
- يجعل عمل المرء المكره غير مقبول عند الله؛ لأنه سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا له، والمكره على الإيمان خوفا، لن يتوجه به إلى الله خالصا، وما كان كذلك من الإيمان فهو غير مقبول.
لهذا كله دعا الإسلام الناس إلى الدخول فيه عن إيمان وقناعة واختيار، وأعلن على مسامع الدنيا شعاره الثابت[4]:)لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦).
ثالثا. الإسلام شرع الحرب والقتال لأهداف محددة منها:
يشرح د. البوطي هذه الأسباب ذاكر منها:
- الظلم والعدوان عن أرض الإسلام لقوله سبحانه وتعالى: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة).
- المحافظة على العهود والمواثيق، فإذا كان بين دولة الإسلام وإحدى الدول الأجنبية عهود أو مواثيق، وأخلت تلك الدولة بتلك العهود، كان ذلك مسوغا لقتالها لقوله سبحانه وتعالى: )وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (12)( (التوبة)، ويفهم من هذه الآية أن المشركين إذا نقضوا عهدهم جاز قتالهم.
- إزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة الإسلامية، فمن المعلوم أن دعوة الإسلام دعوة عالمية، وأن بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – للناس كافة، ومعنى هذا أنه يجب أن تصل إلى كل أمة وأن تدخل كل بلد، فكل من يقف في طريق الدعوة ويصد عن تبليغها من طواغيت متجبرين وحكام متألهين، يجب أن يزاحوا عن الطريق؛ حتى تصل الدعوة إلى الشعوب نقية صافية واضحة، والشعوب هي التي تقرر مصيرها: إن شاءت أن تدخل في الإسلام عن طواعية واختيار، وإن شاءت أن تبقى على دينها وتدفع الجزية إلى الدولة الإسلامية مقابل حمايتها من العدوان.
ومما يؤكد أن الهدف من القتال هو إزاحة الطواغيت والحكام المتألهين، موقف ربعي بن عامر” مع رستم قائد جيش الفرس حين تحداه، وقال: “إنما بعثنا من أجل أن نخرج العباد من عبادة العباد، إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”، ولو كان الإسلام يفرض وجوده واعتناقه بقوة السيف والإكراه لما قبل الرسول – صلى الله عليه وسلم – الجزية من صاحب “أيلة” وهي بلدة بفلسطين تعرف الآن بإيلات، ومن أهل “جرباء”، ومن أهل “أذرح” بعد أن انسحبت أمامه جحافل[5] الروم يوم خرج لقتالهم يوم تبوك، فإن طبيعة النصر تدفع المرء إلى الظفر بأكبر قسط منه، ولكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبى أن يحارب أهل هذه البلاد لما وجد جنوحهم إلى السلم؛ امتثالا لقوله سبحانه وتعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال) [6].
وتحت عنوان “شبهة آية السيف” كتب د. عبد الصبور مرزوق – مفندا هذه المقولات الظالمة في حق الإسلام، ومزيلا شبهة التناقض وحالة الالتباس المثارة في هذا الشأن – فقال: ” كثيرون من المبشرين والمستشرقين الظالمين للإسلام يقولون: إن الإسلام شرع القتال – الجهاد – لحمل الناس على الدخول فيه بالقوة، وإنه انتشر بحد السيف. ويستدلون بأن في القرآن آية تعارف المفسرون المسلمون على أن يسموها “آية السيف”، وأنها نسخت مائة وعشرين آية من القرآن تسمح أو تدعو إلى الرفق والمسالمة. وهنا تكون لنا وقفة:
فقد أشرنا من قبل إلى أن الواقع في بلاد الإسلام يؤكد أنه دخل وانتشر في بلاد لم تدخلها أي جيوش مسلمة ولا حدثت فيها أي معارك قتال. ومنطقة شرق وجنوب شرق آسيا كلها خير شاهد على ذلك وكذلك مناطق وسط أفريقيا وجنوبها الشرقي والغربي، فهذه شهادة الواقع على بطلان هذه المقولة.
ونعود إلى الآية التي سموها “آية السيف”، فقد قال بعضهم: إنها قوله سبحانه وتعالى: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)( (التوبة)، وواضح من منطوقها أنها تدعو المسلمين إلى التعامل مع أعدائهم بالمثل: كما يقاتلونكم فقاتلوهم كذلك. قالوا آخرون: إن هذه الآية هي قوله سبحانه وتعالى: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم (5)( (التوبة)، يقول د. يوسف القرضاوي: وهذه الآية نزلت في مشركي العرب الذين نكثوا العهد وأخرجوا المسلمين من ديارهم وبادروهم بالقتال. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: )ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (13)( (التوبة).
ويضيف د. القرضاوي: وقبل هذه الآية نقرأ قوله سبحانه وتعالى: )إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4)( (التوبة)، ويأتي بعدها قوله سبحانه وتعالى: )وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)( (التوبة)، فالسياق لا يتحدث عن أي عدوان ولا عن أي قتال، إلا مع الذين نقضوا العهد أو أعانوا الأعداء على قتال المسلمين، ولا أظن أحدا – مسلما أو غير مسلم – ينكر هذا الحق في مواجهة من ينقض العهد أو يساعد العدو، فشأنه في هذه الحالة شأن عدو تجب مواجهته.
ونعود إلى آية السيف – وما زلنا مع بحث د. القرضاوي – فقد قال آخرون: إن آية السيف هي قوله سبحانه وتعالى: )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)( (التوبة)، وهذه الآية نزلت بعد غزوة تبوك، التي كانت في قتال مع دولة الروم البيزنطية، وواضح من قوله سبحانه وتعالى: )حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون( أن المراد: حتى لا يعودوا إلى قتالكم مرة أخرى، ويخضعوا للدولة الإسلامية ويدفعوا لها ضريبة حمايتهم.
على أن مما يوضح أن مقولة “آية السيف”، واعتبارها دليل إدانة للإسلام، هي في حقيقتها مقولة ظالمة وتهمة ساقطة، قوله سبحانه وتعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال)، وبعدها قوله سبحانه وتعالى: )وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62)( (الأنفال).
وخلاصة القول هي سقوط شبهة ومقولة: إن الإسلام دين السيف، أو إنه انتشر بحد السيف.
ومما تجدر الإشارة إليه أن في القرآن الكريم آيتين في سورة “الممتحنة” تشكلان إطارا عاما متوازنا يحدد علاقة المسلمين بغير المسلمين في رؤية أخلاقية منصفة لطرفي التعامل – مسلمين وغير مسلمين – جوهرها: نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا. والآيتان هما قوله سبحانه وتعالى: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة)، وأعتقد أنكم ترون – كما أرى – أن هذا الضابط الأخلاقي والإنساني العادل والمتوازن الذي حددته الآيتان السابقتان أعظم شاهد على إنصاف الإسلام لنفسه وللآخرين، لا يرفضه إلا من يكون العدوان بعض طباعهم فيعتدون ويعتدون، فإذا قام المعتدى عليهم برد هذا العدوان صرخوا: هذا إرهابي يمارس الإرهاب، ومن حقنا أن نسحقه ونسقي الأرض من دمه؟!
ألا ترون معي أن الإسلام في تعامله مع الآخرين عادل ومنصف وعظيم، وأنه يحفظ ويرعى حقوق الآخرين، ولا يفرط كذلك في حقه وحق أتباعه، ومعياره في كل ذلك هو رعاية الحق والعدل[7].
الخلاصة:
ليس هناك أي وجه للتناقض بين الآيات التي استدل بها هؤلاء على زعمهم، معنا وذلك للآتي:
- المقصود بالموضع الأول أنه خصوصية للأنصار؛ لأنه كان من أبنائهم وإخوانهم من يعيش بين اليهود؛ ملتمسين بذلك طول بقائه، فلما اعتنقوا الإسلام، أرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فأبى النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك، ونزلت الآية: )لا إكراه في الدين( ورغم ذلك، فإن الآية تنطبق على كافة الخلق؛ لأن حكمها عام وشامل؛ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- الإسلام لم يكره أحدا على الدخول فيه لأسباب عديدة، منها أن الإكراه:
o يقهر النفس الإنسانية ويذلها.
o يحطم الشخصية الإنسانية ويقتلها.
o يورث في القلوب الأحقاد.
o يجعل إيمان المرء المكره غير مقبول عند الله.
o يزرع النفاق في المجتمع وينتج أفرادا متربصين خونة.
o يسيئ إلى سمعة الدعوة الإسلامية.
o يرسخ في النفس ردود الفعل والانفجارحين تسنح الظروف.
- الإسلام شرع الحرب والقتال لأهداف محددة منها:
o رد الظلم والعدوان عن أرض الإسلام.
o المحافظة على العهود والمواثيق.
o إزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة الإسلامية.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة، القاهرة، 2003م.
[1]. المقلات: هي المرأة التي لا يعيش لها ولد.
[2]. أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 409)، تفسير سورة البقرة، آية (256)، برقم (5818)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (6339).
[3]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، مج2، ج2، ص27، 28 بتصرف.
[4]. حرية الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، مصر ، ط4، 1424هـ/ 2004م، ص31: 33.
[5]. الجحافل: جمع الجحفل، وهو الجيش الكبير.
[6]. حرية الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، مصر، ط4، 1424هـ/ 2004م، ص43: 49 بتصرف.
[7]. رسائل إلى عقل الغرب وضميره، د. عبد الصبور مرزوق، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 2006م، ص253: 256.