توهم تناقض القرآن بشأن دعوته للسلم
وجه إبطال الشبهة:
لكل آية من الآيات التي استدل بها هؤلاء على دعواهم معنى مختلف؛ إذ إن:
-
-
- قوله سبحانه وتعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها( (الأنفال: ٦١) أمر بقبول طلب الأعداء المسالمة إن طلبوها، على أن يدخلوا الإسلام، أو يدفعوا الجزية.
- في قوله سبحانه وتعالى: )فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون( (محمد: ٣٥)، نهي من الله – عز وجل – للمسلمين عن أن يضعفوا ويدعوا إلى السلم – السلام – حتى لو هزموا في بعض الوقت، فالله معهم وهم الأعلون بالإيمان.
- في قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم( (البقرة: ٢٠٨) السلم معناه: الإسلام بأوامره ونواهيه، وليس معناه السلام.
-
التفصيل:
يختلف معنى السلم أو السلم في كل آية عن الأخرى، وذلك كالآتي:
- في قوله سبحانه وتعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها( (الأنفال: ٦١) يعني: قبول دعوة الأعداء المسالمة إن طلبوها.
إن طلب الأعداء المسالمة والمصالحة بدفع الجزية، أو بالدخول في الإسلام، فعلى المسلمين أن يقبلوا منهم ذلك، وهذا هو معنى قوله تعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها( (الأنفال: ٦١)، ففي الآية نجد أن الله – عز وجل – يأمر النبي صلى الله عليه وسلم – والمسلمين من بعده – إذا مال الأعداء إلى المسالمة والموادعة أن يقبلوا هذه المسالمة، وهي إما بالدخول في الإسلام، فيكونوا إخوانا للمسلمين، وإما بدفع الجزية فتكون حمايتهم واجبة على المسلمين.
لما طلب المشركون الصلح مع النبي – صلى الله عليه وسلم – عام الحديبية أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالسلم، حيث قال: «إنه سيكون اختلاف أو أمر، فإن استطعت أن يكون السلم، فافعل»[1]. وقيل: إن آية الأنفال نزلت في يهود بني قريظة، وهم أهل كتاب، وأهل الكتاب تقبل منهم الجزية، فإن طلبوا أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، قبل ذلك منهم المسلمون[2].
- في قوله سبحانه وتعالى: )فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون( (محمد: ٣٥) يعني: النهي عن الهوان والصغار.
نهى الله المسلمين عن أن يهنوا ويدعوا إلى السلم، قال تعالى: )فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون( (محمد: ٣٥)، ففيه ينهى الله – عز وجل – المسلمين عن الضعف مع الأعداء والدعوة إلى المهادنة والمسالمة، أو ترك القتال بينهم وبين الكفار في حال كثرة عدد المسلمين وتوافر عدتهم، ولهذا قال: )وأنتم الأعلون(، أي: في حال علوكم على عدوكم. وقيل: أنتم الأعلون في الحجة، وقيل: المعنى أنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال[3].
والقول الأخير هو الراجح؛ لأن الآية نفسها جاءت أيضا في معرض الحديث عن مواساة المؤمنين بعد هزيمة أحد.
أما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأي الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة للمسلمين، فله أن يفعل ذلك، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم[4].
- في قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة( (البقرة: ٢٠٨) يعني: الإسلام بجميع شرائعه.
ففي قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة( (البقرة: ٢٠٨) يأمر الله تعالى عباده المؤمنين به والمصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام[5] وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا ذلك، فالمقصود هنا بالسلم إنما هو الإسلام.
الخلاصة:
- ليس هناك أي تناقض بين قوله سبحانه وتعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها( (الأنفال: ٦١) وبين قوله تعالى: )فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون( (محمد: ٣٥)، فالآية الأولى يأمر الله فيها عباده المؤمنين أن يجيبوا طلب أعدائهم بالمسالمة والمصالحة بأن يدخلوا في الإسلام، أو يدفعوا الجزية، وفي الآية الثانية ينهى الله عباده المؤمنين عن الضعف مع الأعداء، وينهاهم عن دعوة أعدائهم إلى السلم إن كان فيه هوان وإذلال للمؤمنين وهم في حال علوهم وكثرة عدتهم وعددهم، وكذلك في حال هزيمتهم من الأعداء في بعض الوقت؛ لأن المسلمين هم الأعلون بالإيمان دائما ومعية الله ونصرته معهم أبدا. أما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأي الإمام المعاهدة، فله ذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
- أما قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة( (البقرة: ٢٠٨) فهو أمر من الله لعباده المؤمنين أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ونواهيه قدر استطاعتهم ذلك.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة، القاهرة، 2003م.
[1]. أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة، (2/ 544) باب ذكر الرجال (1153).
[2]. موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م، ج2، ص1903.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج16، ص255، 256.
[4]. انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/1980م. تفسير الطبري، الطبري، عند تفسير الآية.
[5]. عُرى الإسلام: قواعده.