توهم تناقض القرآن حول شهادة الكفار على أنفسهم بالكفر
وجه إبطال الشبهة:
الكفار لا يدركون أنهم على ضلال، على الرغم من شهادة لسان الحال عليهم في الدنيا، وشهادة لسان المقال عليهم في الآخرة.
التفصيل:
إن المتأمل للآيات التي تخص تلك القضية، ليعلم بنفسه ويدرك بعقله الذي أودعه الله إياه أنه لا تعارض بينهما، بل بقليل من التفكر يمكن التوفيق بين ما ظاهره يوهم بالتناقض، يوضح ذلك د. الحديدي فيقول:
الكفار لا يدركون أنهم على ضلال، على الرغم من شهادة لسان الحال عليهم في الدنيا وشهادة لسان المقال عليهم في الآخرة:
إن الكفار يحسبون أنهم – في الدنيا – على الحق والصواب، ولا يدركون أنهم على ضلال وسوء عمل، كما أفاد ذلك قوله سبحانه وتعالى: )ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37)( (الزخرف).
والمعنى: أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين، يعاقبه الله تعالى بشيطان يقيضه له، ويلازمه قرينا له، يتبعه ويطيعه فيما يوسوس به إليه، فلا يهتدي مجازاة له حين آثر الباطل على الحق المبين.
وإن الشياطين الذين يقيضهم الله لكل من يعشون عن ذكره يحولون بينهم وبين سبيل الحق ويمنعونهم منه، ويوسوسون لهم أنهم على الهدى حتى يظنوا صدق ما يوسوسون به، ويحسب الكفار بسبب هذه الوسوسة أنهم في أنفسهم مهتدون. وكما أفاد ذلك أيضا قوله سبحانه وتعالى: )قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104)( (الكهف).
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار: هل نخبركم بأخسر الناس عند الله الذين بطل عملهم وضاع في هذه الحياة الدنيا؛ لأن الكفر لا تنفع معه طاعة، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم.
لسان حالهم يغني عن مقالهم، فهو يشهد عليهم في الدنيا بالكفر والجحود:
مع إيمان الكفار بأنهم على حق وهدى في الدنيا، إلا أن لسان حالهم في هذه الدنيا يشهد عليهم بالكفر والجحود، وذلك كما وضح في قوله سبحانه وتعالى: )ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون (17)( (التوبة). والمعنى: ما صح للمشركين وما استقام لهم أن يعمروا مساجد الله – إما بالمعنى المجازي أو الحقيقي الذي هو التعبد فيها وملازمتها – حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر بإظهار ما هو كفر من عبادة الأوثان وجعلها آلهة، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر، وإن أبوا ذلك بألسنتهم، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين: عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرب إلى الله بعمارة مساجده؟ أولئك بطلت أعمالهم التي يفتخرون بها، ويظنون أنها من أعمال الخير، وفي النار هم ماكثون أبدا لا يخرجون منها.
ومن ذلك أيضا قوله سبحانه وتعالى: )إن الإنسان لربه لكنود (6) وإنه على ذلك لشهيد (7)( (العاديات)، فقد أقسم الله – عز وجل – بالعاديات على أن الإنسان – والمراد به بعض أفراده وهو الكافر – كنود، أي: جاحد لنعم ربه شديد الكفران، وأنه على جحوده لشهيد يشهد على نفسه به؛ لظهور أثره عليه، وأنه لحب المال قوي مجد في طلبه متهالك في تحصيله، فهذه شهادة من الكافر على نفسه بكفره[1].
لسان مقالهم يشهد عليهم في الآخرة بالكفر والجحود:
وتأييدا للسان حالهم الشاهد عليهم بالكفر وجحود فضل الله في الدنيا يشهد عليهم لسان مقالهم في الآخرة كما في قوله سبحانه وتعالى: )فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (37)( (الأعراف)، والمعنى: لا أحد أظلم ممن تعلم الكذب على الله، أو كذب بآياته المنزلة، أولئك يصيبهم حظهم في الدنيا مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال، حتى إذا جاءتهم ملائكة الموت تفيض أرواحهم قالوا لهم على سبيل التبكيت[2] والتوبيخ[3]: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله؟! ادعوهم ليخلصوكم من العذاب، قال الكفرة: لقد غابوا عنا فلا نرجو نفعهم ولا خيرهم. وأقروا واعترفوا على أنفسهم بالكفر والضلال. وقوله سبحانه وتعالى:)يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130)( (الأنعام).
والمعنى: ينادى يوم القيامة كفار الجن والإنس: ألم يأتكم الرسل يتلون عليكم آيات ربكم ويخوفونكم عذاب هذا اليوم الشديد؟ فلم يجدوا إلا الاعتراف فقالوا: بلى شهدنا على أنفسنا بأن رسلك قد أتتنا، وأنذرتنا لقاء يومنا هذا.
قال ابن عطية: وهذا إقرار منهم بالكفر واعتراف على أنفسهم بالتقصير كقولهم:)قد جاءنا نذير فكذبنا( (الملك: ٩)، وخدعتهم الدنيا بنعيمها وبهرجها[4] الكاذب، واعترفوا على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا كافرين.
وقوله سبحانه وتعالى: )وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71)( (الزمر)، والمراد بكلمة العذاب قوله سبحانه وتعالى: )لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)( (هود)، وقوله تعالى عن الكفار في الآخرة:)فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير (11)( (الملك)، أي: أقر الكفرة في الآخرة بأنهم أجرموا في الدنيا وكذبوا الرسل فبعدا وهلاكا لأهل النار[5].
الخلاصة:
لا تعارض بين الآيات؛ فالكفار في الدنيا يحسبون أنهم على الهدى، إلا أن لسان حالهم في هذه الدنيا يشهد عليهم بالكفر والجحود، ومن قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )إن الإنسان لربه لكنود (6) وإنه على ذلك لشهيد (7)( (العاديات)، وتأييدا للسان حالهم الشاهد عليهم بالكفر وجحود فضل الله في الدنيا يشهد عليهم لسان مقالهم في الآخرة كما في قوله سبحانه وتعالى)فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (37)( (الأعراف).
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص63 وما بعدها.
[2]. التبكيت: التقريع والتوبيخ.
[3]. التوبيخ: اللوم والتأنيب.
[4]. البهرج: الزيف.
[5]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص65: 67.