توهم صحة حديث “سماع الحي من الميت”
وجه إبطال الشبهة:
-
-
- إن قصة الرجل الذي سمع ميتا يقرأ سورة من القرآن قصة باطلة منكرة، ولا شاهد لها؛ فقد ذكرها الترمذي والأصفهاني، وقالا: حديث غريب، وراوي الحديث يحيى بن عمرو الذي تفرد بروايته ضعيف باتفاق جل علماء الحديث، كما أنه لم يثبت سماع الأحياء من الأموات إلا ما اختص الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
-
التفصيل:
إنه ليس صحيحا ما يدعيه بعض المغالطين من أن الحديث الذي أورده الإمام الترمذي في سننه بشأن سماع رجل من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنسانا ميتا يقرأ – وهو في القبر – سورة “الملك” حتى ختمها – حديث صحيح؛ فالرواية ضعيفة منكرة، ولم تصح نسبتها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد رواها الإمام الترمذي من طريق يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: «ضرب بعض أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة “الملك” حتى ختمها، فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله ضربت خبائي وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر»[1].
ثم قال الترمذي بعد ذكره الحديث: “هذا حديث غريب من هذا الوجه”.
وذكره أبو نعيم من الطريق نفسه في “حلية الأولياء”، وعقب عليه بقوله: “غريب من حديث أبي الجوزاء، لم نكتبه مرفوعا مجودا إلا من حديث يحيى بن عمرو عن أبيه”[2].
وبالنظر في سند الحديث نجده واهيا؛ لضعف يحيى بن عمرو بن مالك النكري البصري؛ فقد ضعفه جمهور العلماء.
“قال عباس الدوري عن يحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو داود، والنسائي، وأبو بشر الدولابي: ضعيف… وروى له أبو أحمد بن عدي هذا الحديث وأحاديث أخر، ثم قال: وهذه الأحاديث التي ذكرتها عن يحيى بن عمرو بن مالك عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس كلها غير محفوظة، تفرد بها يحيى بهذا الإسناد. وأحاديث أخر مما لم أذكرها، وليس تلك بمحفوظة أيضا”[3].
وأورده الدارقطني في كتابه “الضعفاء والمتروكين”[4].
وقال د. بشار عواد معروف – محقق “تهذيب الكمال”: “وضعفه الساجي والعقيلي، وأحمد بن حنبل، والذهبي، وابن حجر، فلا يحتاج بعد إلى مزيد بيان”[5].
وقد ضعف هذا الحديث المحدث الشيخ الألباني عند حكمه على أحاديث سنن الترمذي.
وقال في موضع آخر عن يحيى بن عمرو راوي الحديث: “أبوه عمرو بن مالك صدوق له أوهام، وابنه يحيى ضعيف”[6].
والناظر فيما قلناه سابقا يتبين أن الحديث لم يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو حديث ضعيف جدا.
هذا، ولا يحاولن أحد البحث عن شواهد تعضد تلك الرواية؛ فالشواهد سواء كانت مرفوعة أو موقوفة فإنها تدور حول فضل سورة تبارك “الملك”، وليست لهذه القصة المنكرة الغريبة التي معنا[7]، والتي نشم منها رائحة التوسل بالأموات لا العظة أو التعلم كما توهم بعضهم.
لذا، فعلينا ألا ننساق وراء هذه الأباطيل وخاصة إذا كانت لدينا أحاديث أخرى صحيحة تغنينا عن تلك الأحاديث الواهية التي تضل المؤمنين ولا تنفعهم.
ولقد جاء في فضائل سورة تبارك “الملك” أحاديث صحيحة، منها:
- «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان لا ينام حتى يقرأ: )الم (1) تنزيل( (السجدة)، و تبارك الذي بيده الملك( (الملك:١)» [8].
- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر»[9].
وقد أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، وقال عنه: “وسائر الرجال موثوقون معروفون؛ فالسند حسن، وقد أخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي”[10].
- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي )تبارك الذي بيده الملك(»[11].
وقال الترمذي بعد ذكر الحديث: “حديث حسن”.
فكل ما سبق يؤكد بطلان تلك القصة ونكارتها.
وكلام الأموات في القبور ثابت بالسنة الصحيحة، فحديث الملكين ثابت ومتواتر في كتب السنة، فهو شاهد لذلك؛ فقد رواه البخاري في صحيحه عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «العبد إذا وضع في قبره وتولي، وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك في النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعا، فأما الكافر – أو المنافق – فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس…»[12]الحديث.
أما عن سماع الناس لأصوات أهل القبور فغير صحيح ولا دليل عليه، إلا من خصه الله – سبحانه وتعالى – بذلك، والأدلة ظاهرة في تخصيص النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك دون غيره.
فقد أورد الإمام مسلم في صحيحه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «…إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه…»[13]الحديث.
ومما يدل على اختصاص النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك دون غيره من الناس ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس – رضي الله عنه – قال صلى الله عليه وسلم: «بينما نبي الله – صلى الله عليه وسلم – في نخل لنا لأبي طلحة يتبرز لحاجته، قال: وبلال يمشي وراءه – يكرم نبي الله – صلى الله عليه وسلم – أن يمشي إلى جنبه – فمر نبي الله – صلى الله عليه وسلم – بقبر، فقام حتى لم إليه بلال، فقال: ويحك يا بلال! هل تسمع ما أسمع؟، قال: ما أسمع شيئا، قال: صاحب القبر يعذب، قال: فسئل عنه فوجد يهوديا»[14].
خلاصة القول؛ أن تلك الرواية التي جاءت فيها قصة رجل سمع صوت إنسان ميت يقرأ قرآنا وهو مقبور – رواية ضعيفة السند، لم تصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد تفرد بروايتها يحيى بن عمرو بن مالك النكري، وهو ضعيف باتفاق جل علماء الحديث.
كما أن شواهد تلك الرواية كلها تدور حول فضل سورة تبارك “الملك”، ولا ذكر لتلك القصة المكذوبة فيها؛ مما يؤكد نكارتها وبطلانها.
ومما يدل على بطلان تلك القصة – أيضا – أنه لم يثبت سماع الأحياء أصوات أهل القبور إلا ما اختص به الله – سبحانه وتعالى – نبيه – صلى الله عليه وسلم – ولا دليل مطلقا على سماع أحد شيئا من ذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة:
- الحديث الذي جاء فيه أن صحابيا سمع رجلا ميتا يقرأ سورة “الملك” وهو في القبر – حديث ضعيف مردود لم تصح نسبته إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد حكم عليه علماء الحديث بالضعف؛ لضعف سنده.
- إن يحيى بن عمرو بن مالك النكري – راوي الحديث – ضعيف باتفاق علماء الحديث؛ فقد ضعفه كل من: الدارقطني، وابن حجر، والذهبي، وأحمد بن حنبل، والساجي، والعقيلي، وضعفه المحدث الشيخ الألباني، وغيرهم من العلماء.
- ليس للقصة التي جاءت في هذا الحديث شواهد تقويها وتعضدها؛ بل الشواهد تدور حول فضل سورة تبارك “الملك” فقط، أما هذه القصة فمنكرة غريبة، يشم منها رائحة التوسل بالأموات، وليس مجرد التعليم، كما توهم بعض الناس.
- إن مسألة سماع الحي من الميت لم تصح إلا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فأحاديث سماع النبي – صلى الله عليه وسلم – أصوات المقبورين يعذبون كثيرة في كتب السنة بأسانيد صحيحة، ومن ادعى ذلك لغير النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا دليل معه مطلقا.
- لذا فعلينا أن ننقي أذهاننا من تلك الأباطيل، وأن نتمسك بالسنة الصحيحة التي نقلها لنا سلفنا الصالح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ففيها النفع والفائدة، وأن نبتعد عن هذه القصص الباطلة المنكرة، خاصة تلك الروايات التي تبنى عليها الأحكام في مسائل العقائد.
(*) دفاع عن السنة المطهرة، علي إبراهيم حشيش، دار العقيدة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م.
[1] . ضعيف: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في سورة الملك، (8/ 161)، رقم (3052). وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2890).
[2] . حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصفهاني، دار الفكر، بيروت، د. ت، (3/ 81).
[3] . تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (31/ 478، 479).
[4] . انظر: كتاب الضعفاء والمتروكين، الدارقطني، تحقيق: صبحي البدري السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1406هـ/ 1986م، ص178.
[5] . تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، هامش (31/ 478).
[6] . سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1399هـ/ 1979م، (3/ 132).
[7] . دفاع عن السنة المطهرة، علي إبراهيم حشيش، دار العقيدة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص234 بتصرف يسير.
[8] . صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في سورة الملك، (8/ 162)، رقم (3054). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2710).
[9] . صحيح: أخرجه أبو الشيخ في طبقات الأصبهانيين، برقم (264). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1140).
[10] . سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1399هـ/ 1979م، (3/ 131).
[11]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في سورة الملك، (8/ 161، 162)، رقم (3053). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2891).
[12] . صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال، (3/ 244)، رقم (1338).
[13]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه…، (9/ 3973)، رقم (7080).
[14] . صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك صلى الله عليه وسلم، رقم (12552). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.