توهم نسخ أحاديث إباحة الشرب من فم السقاء
وجه إبطال الشبهة:
-
-
- لا يصح القول بالنسخ إذا لم يكن بين النصين تعارض ولم تتوفر شروط النسخ بين الأحاديث؛ لذا فقد جمع العلماء بين النصوص جمعا مناسبا تبين من خلاله ألا تعارض.
-
فقالوا إن النهي للتنزيه وليس للتحريم ومن ثم فالإباحة على سبيل التوسعة على الناس في الضرورة أو تعذر وجود إناء يصب فيه ونحو ذلك، وبهذا قال ابن العربي والحافظ العراقي، وابن حجر العسقلاني من بعدهما، وغيرهم. فعلم أن النهي عن الشرب من فم السقاء على الكراهة التنزيهية، ويبقى الجواز فيه من التوسعة في حال الضرورة.
التفصيل:
القول بالنسخ مدفوع ما لم تتحقق فيه شروط النسخ:
لو نظرنا إلى الأحاديث التي نهت عن الشرب من فم السقاء لوجدناها على النحو التالي:
- حديث أبي سعيد الخدري قال: «نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عن اختناث([1]) الأسقية»([2]).
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه«نهى النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يشرب من في السقاء»([3]).
أما ما جاء في إباحةالشرب منها:
حديث كبشة الأنصارية: «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وعندها قربة معلقة، فشرب منها وهو قائم. فقطعت فم القربة تبتغي بركة موضع في رسول الله صلى الله عليه وسلم»([4])، فالذي يظهر لغير المتمرس الذي لا يديم النظر في نصوص الشريعة أن هناك تعارضا بين النصوص الواردة في الشرب من السقاء أو من فم القربة بين النهي والإباحة.
ولو أننا أطلنا النظر في مقاصد الشارع من الأحكام الشرعية وكيف استنبطها الأئمة الأعلام، وكيف ألفوا بين هذه النصوص لوجدنا أن شبهة التعارض بين هذه النصوص مدفوعة ومتهافتة.
قال ابن عبد البر: “كان أبو إسحاق إبراهيم بن يسار يقول: بلغني وأنا حدث أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم- نهى عن اختناث فم القربة والشرب منه، فكنت أقول: إن لهذا الحديث لشأنا، وما في الشرب من فم قربة حتى يجيء فيه هذا النهي؟ فلما قيل لي: إن رجلا شرب من فم قربة، فوكعته حية فمات، وأن الحيات والأفاعي تدخل في أفواه القرب؛ علمت أن كل شيء لا أعلم تأويله من الحديث أن له مذهبا وإن جهلته “([5]).
فدل على أن تشريع النهي عن الشرب من فم القرب له علة حرص الشرع على مصلحة العباد فيها.
“فمنها ما تقدم من أنه لا يؤمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء فيدخل فم الشارب وهو لا يشعر… وما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عائشة بسند قوي «نهى أن يشرب من فم السقاء لأن ذلك ينتنه»([6]) وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب فيتنفس داخل الإناء، أو باشر بضمه بطن السقاء، أما من صب من القربة داخل فمه من غير مماسة فلا، ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق فتبتل ثيابه”، قال ابن العربي: وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جدا([7]).
مما يدلك على أن النهي من فم السقاية لم يشرعه الإسلام إلا لحفظ آدمية المسلم فيما يتعلق بحياته ونظافته ووقايته من المرض والعدوى.
أما عن التأليف بين هذا النهي وبين فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بشربه من فم قربة معلقة فيجاب عن ذلك بأنه لا تعارض بينهما.
وإلى ذلك يشير النووي قائلا: واتفقوا على أن النهي من اختناثها نهي تنزيه لا تحريم([8]).
ويؤيد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك، قال ابن حجر: ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت: «دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فشرب من في قربة معلقة قائما فقمت إلى فيها فقطعته»([9]). وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي وعن أم سلمة في (الشمائل) وفي مسند أحمد والطبراني والمعاني للطحاوي، قال شيخنا (ابن سيد الناس) في شرح الترمذي: لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة، ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرا ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي، قلت: ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة، والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقا، بل على تلك الصورة وحدها.
وحملها على الضرورة جمعا بين كل من الخبرين أولى من حملها على النسخ.
قال ابن العربي: يحتمل أن يكون شربه – صلى الله عليه وسلم- في حال ضرورة، إما عند الحرب، وإما عند عدم الإناء، أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الإناء، ويحتمل أن يكون شرب من إداوة، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام([10]).
قال الشوكاني: وقد عرفت أن كبشة وأم سليم صرحتا بأن ذلك كان في البيت، وهو مظنة وجود الآنية، وعلى فرض عدمها، فأخذ القربة من مكانها وإنزالها والصب منها إلى الكفين أو إحداهما ممكن، فدعوى أن تلك الحالة ضرورية لم يدل عليها دليل، ولا شك أن الشرب من القربة أخص من الشرب مطلقا ولكن لا فرق في تجويز العذر وعدمه بين المعلقة وغيرها، وليست المعلقة مما يصاحبها العذر دون غيرها حتى يستدل بالشرب منها على اختصاصه بحال الضرورة، وعلى كل حال فالدليل أخص من الدعوى، فالأولى الجمع بين الأحاديث بحمل الكراهة على التنزيه، ويكون شربه – صلى الله عليه وسلم – بيانا للجواز([11]).
ومما سبق نخلص أنه لا تعارض حتى يقال إن بعض النصوص منسوخ، فأحاديث النهي عامة في النهي، وأحاديث الإباحة في خصوص القرب المعلقة، والخاص لا ينسخ العام، ويجوز أن تحمل أحاديث الإباحة على الضرورة، ويبقى النهي عند عدم وجود الضرورة، وبهذا قال ابن العربي، ثم الحافظ العراقي من بعده، ثم الحافظ ابن حجر من بعدهما، ومظهر الضرورة عدم وجود إناء، أو تعذر التفريغ مع وجود الإناء.
ويرى بعض الفقهاء أنه لا ضرورة في الأحاديث، وقالوا: إن الشرب منها جائز والنهي عن الشرب من فم السقاء للتنزيه([12]).
الخلاصة:
- يظل القول بنسخ النصوص متهافت ما لم يحصل تعارض بين النصوص ولم تتحقق شروط النسخ معها.
- مسألة الشرب من فم السقاء والنهي فيها ليس فيها تعارض حتى يقال بالنسخ، فأحاديث النهي عامة في النهي وأحاديث الإباحة وردت في القرب المعلقة، والخاص لا ينسخ العام.
- من العلماء من حمل الجواز على الضرورة ويبقى النهي عند عدم وجود الضرورة.
- ومنهم من نفى اعتبار الضرورة، وأن الشرب من فم السقاء جائز والنهي الوارد فيه ليس على التحريم وإنما يحمل على التنزيه.
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م.
[1]. اختناث الأسقية: أي أن تكسر أفواهها إلى خارج ويشرب منها، فإذا كسرتها إلى داخل فهو القبع.
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأشربة، باب: اختناث الأسقية، (10/ 91)، رقم (5625). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامها، (7/ 3116)، رقم (5173).
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأشربة، باب: الشرب من فم السقاء، (10/ 93)، رقم (5628).
[4]. صحيح: رواه ابن ماجه في سننه، كتاب: الأشربة، باب: الشرب قائما، (2/ 1132)، رقم (3423). وصححه الشيخ الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (3423).
[5]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، مصر، 1428هـ / 2007م، (2/ 1192).
[6]. صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: الأشربة، (4/ 156)، رقم (7211). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (400).
[7]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (10/ 94).
[8]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (7/ 3121).
[9]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الأشربة، باب: الرخصة في ذلك، (6/ 13)، رقم (1954). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1892).
[10]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (10/ 94).
[11]. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، الشوكاني، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1421 هـ/ 2001م، (9/ 4086).
[12]. لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م، (2/ 471).